الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114213 / تحميل: 6642
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

فقال أبوجعفرعليه‌السلام : رحم الله لوطا لو علم من معه في الحجرة لعلم أنّه منصور حيث يقول:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أيّ ركن أشدّ من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عزّوجلّ لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و:( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) من ظالمي أمّتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ألحّ في وطى الرجال لم يمت حتّى يدعو الرجال الى نفسه.

أقول: والرواية لا تخلو من تشويش مّا في اللفظ، وقد ذكر فيها الملائكة المرسلون ثلاثة، وفي بعض الروايات - كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبى يزيد الحمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام - أنّهم كانوا أربعة بزيادة كرّوبيل، وفي بعض الروايات من طرق أهل السنّة أنّهم كانوا ثلاثة وهم جبرئيل وميكائيل ورفائيل، والظاهر من الرواية أنّها تأخذ قول لوط:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) الخ خطابا منه للملائكة لا للقوم، وقد تقدّمت الإشارة إليه في بيان الآيات.

وقولهعليه‌السلام : رحم الله لوطا لو علم الخ في معنى قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على ما روى عنه - رحم الله لوطا إن كان ليأوى إلى ركن شديد.

وقولهعليه‌السلام : فقال عزّوجلّ لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخ إشارة إلى ما تقدّم من احتمال كون الآية، مسوقا لتهديد قريش.

وفي تفسير القمّىّ بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله:( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ) قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحلّ عمل قوم لوط إلّا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيّته فيه ولكنّ الخلق لا يرونه.

أقول: وروى في الكافي بإسناده عن ميمون البان عنهعليه‌السلام مثله. وفيه من بات مصرّا على اللواط لم يمت حتّى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيّته ولا يراه أحد، وفي الحديثين إشعار بكون قوله:( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) غير خاصّ بقريش، وإشعار بكون العذاب المذكور روحانيّا غير مادّىّ.

وفى الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول لوط:

٣٦١

( هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) قال: عرض عليهم التزويج.

وفي التهذيب عن الرضاعليه‌السلام : عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال: أحلّتها آية من كتاب الله عزّوجلّ: قول لوط:( هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) قد علم أنّهم لا يريدون الفرج.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبوالشيخ عن علىّ رضى الله عنه أنّه خطب فقال: عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنّه إن كفّ يده عنهم كفّ يدا واحدة، وكفوّا عنه أيدى كثيرة مع مودّتهم وحفاظتهم ونصرتهم حتّى لربّما غضب الرجل للرجل وما يعرفه إلّا بحسبه وسأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى فتلا هذه الآية:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) .

قال علىّ رضى الله عنه: والركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة فو الّذى لا إله غيره ما بعث الله نبيّا بعد لوط إلّا في ثروة من قومه.

أقول: وآخر الرواية مروىّ من طرق أهل السنّة والشيعة.

وفي الكافي - في حديث أبى يزيد الحمّار عن أبى جعفرعليه‌السلام المنقول في البحث الروائيّ السابق - قال: فأتوا يعنى الملائكة لوطا وهو في زراعة قرب القرية فسلّموا عليه وهم معتمّون فلمّا رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قال لهم: المنزل فقالوا: نعم فتقدّمهم ومشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أيّ شئ صنعت؟ آتى بهم قومي وأنا أعرفهم؟ فقال: إنّكم لتأتون شراراً من خلق الله. قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتّى يشهد عليهم ثلاث مرّات. فقال جبرئيل: هذه واحدة فمشى ساعة ثمّ التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شراراً من خلق الله فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثمّ مشى فلمّا بلغ باب المدنيّة التفت إليهم ثمّ قال: إنّكم لتأتون شراراً من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثمّ دخل ودخلوا معه حتّى دخل منزله.

فلمّا رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفّقت فلم يسمعوا فدخّنت فلمّا رأوا الدخان أقبلو إلى الباب يهرعون حتّى جاؤا على الباب فنزلت

٣٦٢

إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قطّ قوماً أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب ليدخلوا.

فلمّا رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتّقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ ثمّ قال: هؤلاء بناتى هنّ أطهر لكم فدعاهم كلّهم إلى الحلال فقالوا: ما لنا في بناتك من حقّ وإنّك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أيّ قوّة له.

فتكاثروه حتّى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال: يا لوط دعهم يدخلون فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عزّوجلّ:( فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) ثمّ ناداه جبرئيل فقال له: إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل، وقال له جبرئيل: إنّا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجّل فقال: إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.

فأمره يتحمّل ومن معه إلّا امرأته ثمّ اقتلعها يعنى المدينة جبرئيل بجناحه من سبع أرضين ثمّ رفعها حتّى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب وصراخ الديوك ثمّ قلبها وأمطر عليها وعلى من حول المدينة بحجارة من سجّيل.

أقول: وما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثمّ رفعها إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نياح كلابهم وصراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، وهو وإن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنّه ممّا لا يكفى في ثبوته أمثال هذه الرواية وهى من الآحاد.

على أنّ السنّة الإلهيّة جارية على أن تقتفى في الكرامات والمعجزات الحكمة وأىّ حكمة في رفعهم إلى هذا الحدّ ولا أثر له في عذابهم ولا في تشديده؟

وقول بعض أهل الكلام: من الجائز أن يكون هذا الفعال العجيب الخارق للعادة لطفا من الله ليكون الإخبار بذلك من طريق المعصومين مقرّبا للمؤمنين إلى الطاعة مبعّداً لهم من المعصية كلام مدخول فإنّ خلق الاُمور العظيمة المعجبة والحوادث الخارقة للعادة ليتأكّد بها إيمان المؤمنين ويعتبر بها المعتبرون وإن كان لا يخلو من لطف إلّا أنّه إنّما يكون لطفاً فيما كان بلوغه لهم من طريق الحسّ أو أيّ

٣٦٣

طريق علميّ آخر، وأمّا رواية واحدة أو ضعيفة وهى خالية عن الحجّيّة لا يعبا بها فلا معنى لإيجاد الاُمور الخارقة والحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة من طريقها، ولا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلّا في سنّة الجهّال من طغاة البشر وجبابرتهم.

قال صاحب المنار في تفسيره: وفي خرافات المفسّرين المرويّة عن الإسرائيليّات أنّ جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتّى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها ثمّ قلبها قلباً مستوياً فجعل عاليها سافلها.

وهذا تصوّر مبنىّ على اعتقاد متصوّره أنّ الأجرام السماويّة المأهولة بالسكّان ممّا يمكن أن يقرب منهم سكّان الأرض وما فيها من الحيوان ويبقون أحياء. وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلىّ في هذه الأيّام الّتى يكتب هذا فيها أنّ الطيّارات والمناطيد الّتى تخلق في الجوّ تصل إلى حيث يخفّ ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس فيها، وهم يصنعون أنواعاً منها يصنعون فيها من اُكسيجين الهواء ما يكفى استنشاقه وتنفّسه للحياة في طبقات الجوّ العليا ويصعدون فيها.

وقد اُشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جوّ السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفّس بقوله تعالى:( فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَام وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) .

فإن قيل: إنّ هذا الفعل المروىّ عن جبرئيل من الممكنات العقليّة وكان وقوعه من خوارق العادات فلا يصحّ أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات.

قلت: نعم ولكنّ الشرط الأوّل لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن والنواميس الّتى أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب أن تكون الرواية عن وحى إلهىّ نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متّصل الاسناد لا شذوذ فيه ولا علّة على الأقلّ، ولم يذكر في كتاب الله تعالى، ولم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تظهر حكمة الله فيه، وإنّما روى عن بعض التابعين دون الصحابة. ولا

٣٦٤

شكّ أنّه من الإسرائيليّات.

وممّا قالوه فيها: أنّ عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف وبلاد فلسطين كلّها لا تسع هذا العدد، فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى.

والّذى ذكره أنّ الحديث إنّما روى عن التابعين دون الصحابة فإنّه أنّ هذا المعنى مروىّ عن ابن عبّاس وعن الحذيفة بن اليمان، ففى رواية ابن عبّاس - كما في الدرّ المنثورعن إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر ومقاتل عن الضحّاك عنه - ( فلمّا كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها ونسائها وثمارها وطيرها فحواها وطواها ثمّ قلعها من تخوم الثرى ثمّ احتملها تحت جناحه ثمّ رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكّان سماء الدنيا أصوات الكلاب والطير والنساء والرجال من تحت جناح جبرئيل ثمّ أرسلها منكوسة ثمّ أتبعها بالحجارة، وكانت الحجارة للرعاة والتجّار ومن كان خارجاً عن مدائنهم ) الحديث.

وفي رواية حذيفة بن اليمان - على ما في الدرّ المنثورعن عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عنه - ( فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فاُذن له فاحتمل الأرض الّتى كانوا عليها، وأهوى بها حتّى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم وأوقد تحتهم نارا ثمّ قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة وهى معهم فالتفتت فأصابها العذاب، وتبعت سفارهم الحجارة ) الحديث.

وأمّا من التابعين فقد روى هذا المعنى عن سعيد بن جبير ومجاهد وأبى صالح ومحمّد بن كعب القرظىّ وعن السدّىّ ما هو أغلظ من ذلك قال: ( لمّا أصبحوا نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتّى بلغ السماء الدنيا ثمّ أهوى بها جبرئيل إلى الأرض ) الحديث.

وأمّا ما ذكره من أنّه ( يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متّصل الاسناد لا شذوذ فيه ولا علّة ) فمسألة اُصوليّة، والّذى استقرّ عليه النظر اليوم في المسألة أنّ الخبر إن كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة

٣٦٥

قطعيّة فلا ريب في حجّيّتها، وأمّا غير ذلك فلا حجّيّة فيه إلّا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظنّ النوعىّ فإنّ لها حجّيّة.

وذلك أنّ الحجّيّة الشرعيّة من الاعتبارات العقلائيّه فتتبع وجود أثر شرعىّ في المورد يقبل الجعل والاعتبار الشرعيّ والقضايا التاريخيّة والاُمور الاعتقاديّة لا معنى لجعل الحجّيّة فيها لعدم أثر شرعىّ ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما وتعبيد الناس بذلك، والموضوعات الخارجيّة وإن أمكن أن يتحقّق فيها أثر شرعىّ إلّا أنّ آثارها جزئيّة والجعل الشرعيّ لا ينال إلّا الكلّيّات وليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الاُصول.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن اُبىّ بن كعب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله لوطا إن كان ليأوى إلى ركن شديد.

أقول: مقتضى المقام الّذى كان يجارى فيه لوط قومه ويأمرهم بتقوى الله والاجتناب عن الفجور، وظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه وبين قومه أنّ لوطا إنّما كان يتمنّى أنصاراً اُولى رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله:( أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) يريد به أنصاراً من غير القوم من عشيرة أو أخلّاء وأصدقاء في الله ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا والركن الشديد معه في داره وهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ولذلك لبّوه من غير فصل وقالوا: يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك.

ولم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربّه وأنّ كلّ النصر من عنده حتّى ينساه ويتمنّى ناصراً غيره، وحاشا مقام هذا النبيّ الكريم عن مثل هذا الجهل المذموم وقد قال الله تعالى في حقّه:( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا - إلى أن قال -وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء: ٧٥.

فقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن كان ليأوى إلى ركن شديد) معناه أنّ معه جبرئيل

٣٦٦

وسائر الملائكة وهو لا يعلم بذلك، وليس معناه أنّ معه الله سبحانه وهو جاهل بمقام ربّه.

فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإشعار بأنّ مراده بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنّما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث كما عن أبى هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله لوطا كان يأوى إلى ركن شديد يعنى الله تعالى. الحديث.

وكما عنه من طريق آخر قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:( يغفر الله للوط إن كان ليأوى إلى ركن شديد) ولعلّ فيه نقلا بالمعنى وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: رحم الله لوطا فغيّره الراوى إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدبا من آداب العبوديّة أو أذنب ذنبا بجهله مقام ربّه ونسيانه ما لم يكن له أن ينساه.

( كلام في قصّة لوط وقومه في فصول)

١ - قصّته وقصّة قومه في القرآن : كان لوطعليه‌السلام من كلدان في أرض بابل ومن السابقين الأوّلين ممّن آمن بإبراهيمعليه‌السلام آمن به وقال: إنّى مهاجر إلى ربّى ( العنكبوت: ٢٦ ) فنجّاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدّسة أرض فلسطين ( الأنبياء: ٧١ ) فنزل في بعض بلادها ( وهى مدينة سدوم على ما في التواريخ والتوراة وبعض الروايات ).

وكان أهل المدينة وما والاها من المدائن وقد سمّاها الله في كلامه بالمؤتفكات ( التوبة: ٧٠ ) يعبدون الأصنام، ويأتون بالفاحشة: اللواط، وهم أوّل قوم شاع فيهم ذلك ( الأعراف: ٨٠ ) حتّى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار ( العنكبوت: ٢٩ ) ولم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتّى عادت سنّة قوميّة ابتلت به عامّتهم وتركوا النساء وقطعوا السبيل ( العنكبوت: ٢٩ ).

فأرسل الله لوطا إليهم ( الشعراء: ١٦٢ ) فدعاهم إلى تقوى الله وترك الفحشاء

٣٦٧

والرجوع إلى طريق الفطرة وأنذرهم وخوّفهم فلم يزدهم إلّا عتوّا ولم يكن جوابهم إلّا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، وهدّدوه بالإخراج من بلدتهم وقالوا له: لئن لم تنته لتكوننّ من المخرجين ( الشعراء: ١٦٧ ) وقالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم اُناس يتطهّرون ( النمل: ٥٦ ).

٢ - عاقبة أمرهم : لم يزل لوطعليه‌السلام يدعوهم إلى سبيل الله وملازمة سنّة الفطرة وترك الفحشاء وهم يصرّون على عمل الخبائث حتّى استقرّ بهم الطغيان وحقّت عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلاً من الملائكة المكرّمين لإهلاكهم فنزلوا أوّلا على إبراهيمعليه‌السلام وأخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيمعليه‌السلام لعلّه يردّ بذلك عنهم العذاب، وذكّرهم بأنّ فيهم لوطا فردّوا عليه بأنّهم أعلم بموقع لوط وأهله، وأنّه قد جاء أمر الله وأنّ القوم آتيهم عذاب غير مردود ( العنكبوت: ٣٢ - هود: ٧٦ ).

فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد ودخلوا عليه ضيفا فشقّ ذلك على لوط وضاق بهم ذرعا لما كان يعلم من قومه أنّهم سيتعرّضون لهم وأنّهم غير تاركيهم البتّة فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك وأقبلوا يهرعون إليه وهم يستبشرون وهجموا على داره فخرج إليهم وبالغ في وعظهم واستثارة فتوّتهم ورشدهم حتّى عرض عليهم بناته وقال: يا قوم إنّ هؤلاء بناتى هنّ أطهر لكم فاتّقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ثمّ استغاث وقال: أليس منكم رجل رشيد فردّوا عليه أنّه ليس لهم في بناته إربة وأنّهم غير تاركى أضيافه البتّة حتّى أيس لوط وقال: لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى إلى ركن شديد ( هود: ٨٠ ).

قالت الملائكة عند ذلك يا لوط: إنّا رسل ربّك طب نفسا إنّ القوم لن يصلوا إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عميانا يتخبّطون وتفرّقوا ( القمر: ٣٧ ).

ثمّ أمروا لوطاعليه‌السلام أن يسرى بأهله من ليلته بقطع من الليل ويتّبع أدبارهم ولا يلتفت منهم أحد إلّا امرأته فإنّه مصيبها ما أصابهم، وأخبروه أنّهم سيهلكون القوم مصبحين ( هود: ٨١ - الحجر: ٦٦ ).

٣٦٨

فأخذت الصيحة القوم مشرقين، وأرسل الله عليهم حجارة من طين مسوّمة عند ربّك للمسرفين، وقلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها وأخرج من كان فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين وهو بيت لوط وترك فيها آية للّذين يخافون العذاب الأليم ( الذاريات: ٣٧ - وغيرها ).

وفي اختصاص الإيمان والإسلام بيت لوطعليه‌السلام ، وشمول العذاب لمدائنهم دلالة - أوّلا - على أنّ القوم كانوا كفّاراً غير مؤمنين و - ثانياً - على أنّ الفحشاء ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الأمر على ذلك والنساء بريئات منها وكان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة وسنّة الخلقة الّتى هي مواصلة الرجال والنساء لاتّبعته عدّة من النساء واجتمعن حوله وآمنّ به طبعا، ولم يذكر من ذلك شئ في كلامه سبحانه.

وفي ذلك تصديق ما تقدّم في الأخبار المأثورة أنّ الفحشاء شاعت بينهم، واكتفى الرجال بالرجال باللواط، والنساء بالنساء بالسحق.

٣ - شخصيّة لوط المعنويّة : كانعليه‌السلام رسولاً من الله إلى أهل المؤتفكات وهى مدينة سدوم وما والاها من المدائن - ويقال: كانت أربع مداين: سدوم وعمورة وصوغر وصبوييم وقد أشركه في جميع المقامات الروحيّة الّتى وصف بها أنبياءه الكرام.

وممّا وصفه به خاصّة ما في قوله:( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء: ٧٥.

٤ - لوط وقومه في التوراة : ذكرت(١) التوراة أنّ لوطا كان ابن أخى أبرام - إبراهيم - هاران بن تارخ وكان هو وأبرام في بيت تارخ في اُور الكلدانيّين ثمّ هاجر تارخ اُورا قاصداً أرض الكنعانيّين فأقام بلدة حاران ومعه أبرام ولوط ومات هناك.

____________________

(١) الاصحاح الحادى عشر والثانى عشر من سفر التكوين.

٣٦٩

ثمّ إنّ أبرام بأمر من الربّ خرج من حاران ومعه لوط ولهما مال كثير وغلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى أرض كنعان، وكان يرتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب، ثمّ أتى مصر، ثمّ صعد من هناك جنوباً نحو بيت إيل فأقام هناك.

ولوط السائر مع أبرام أيضاً كان له غنم وبقر وخيام ولم يحتملهما الأرض أن يسكنا ووقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرّقا فأحذرا من وقوع النزاع والتشاجر فاختار لوط دائرة الاُردن وسكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم، وكان أهل سدوم أشراراً وخطاة لدى الربّ جدّاً، ونقل أبرام خيامه وأقام عند بلوطات ممرا الّتى في حبرون.

ثمّ وقعت حرب بين ملوك سدوم وعمورة وإدمة وصبوييم، وصوغر من جانب وأربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم ومن معه من الملوك، وأخذ العدوّ جميع أملاك سدوم وعمورة وجميع أطعمتهم، واُسر لوط فيمن اُسر وسبى جميع أمواله، وانتهى الخبر إلى أبرام فخرج فيمن معه من الغلمان، وكانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم وهزمهم، وأنجى لوطا وجميع أمواله من الأسر والسبي، وردّه إلى مكانه الّذى كان مقيما فيه ( ملخّص ما في التوراة من صدر قصّة لوط ).

قالت التوراة(١) : وظهر له - لأبرام - الربّ عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حرّ النهار. فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلمّا نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض. وقال: يا سيّد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتّكؤا تحت هذه الشجرة. فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثمّ تجتازون لأنّكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلّمت.

____________________

(١) الاصحاح الثامن عشر من سفر التكوين.

٣٧٠

فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقاً سميداً اعجنى واصنعي خبز ملّة، ثمّ ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وجيّداً وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثمّ أخذ زبداً ولبناً والعجل الّذى عمله ووضعها قدّامهم. وإذ كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا.

وقالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إنّى أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لساره امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدّمين في الأيّام. وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائى يكون لى تنعّم وسيّدي قد شاخ؟ فقال الربّ لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الربّ شئ؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنّها خافت. فقال: لا بل ضحكت.

ثم قام الرجال من هناك وتطلّعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشياً معهم ليشيعهم. فقال الربّ: هل اُخفى عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ وإبراهيم يكون أمّة كبيرة وقويّة ويتبارك به جميع اُمم الأرض. لأنّى عرفته لكى يوصى بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الربّ ليعملوا برّا وعدلا لكى يأتي الربّ لإبراهيم بما تكلّم به.

فقال الربّ: إنّ صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيئتهم قد عظمت جدّاً. أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الّتى إلىّ وإلّا فأعلم. وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم. وأمّا إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الربّ.

فتقدّم إبراهيم وقال: أفتهلك البارّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارّا في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارّا الّذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البارّ مع الأثيم فيكون البارّ كالأثيم،

٣٧١

حاشاك. أديّان كلّ الأرض لا يصنع عدلا؟ فقال الربّ: إن وجدت في سدوم خمسين بارّا في المدينة فإنّى أصفح عن المكان كلّه من أجلهم.

فأجاب إبراهيم وقال: إنّى قد شرعت اُكلّم المولى وأنا تراب ورماد ربّما نقص الخمسون بارّا خمسة أتهلك كلّ المدينة بالخمسة؟ فقال الربّ: لا اُهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين. فعاد يكلّمه أيضاً وقال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال: لا أفعل من أجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلّم عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: إنّى قد شرعت اُكلّم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا اُهلك من أجل العشرين.

فقال: لا يسخط المولى فأتكلّم هذه المرّة فقطّ عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا اُهلك من أجل العشرة. وذهب الربّ عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم ورجع ابرهيم إلى مكانه.

فجاء(١) الملاكان إلى سدوم مساء وكان لوط جالسا في باب سدوم فلمّا رآهما لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض. وقال: يا سيّديّ ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما ثمّ تبكّران وتذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في الساحة نبيت، فألحّ عليهما جدّاً، فمالا إليه ودخلا بيته، فصنع لهما ضيافة وخبز فطيرا فأكلا.

وقبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كلّ الشعب من أقصاها فنادوا لوطا وقالوا له: أين الرجلان اللّذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما. فخرج إليهم لوط إلى الباب وأغلق الباب وراءه. وقال: لا تفعلوا شرّا يا إخوتى. هو ذا لى ابنتان لم يعرفا رجلا اُخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. وأمّا هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئاً لأنّهما قد دخلا تحت ظلّ سقفي.

____________________

(١) الاصحاح التاسع عشر من سفر التكوين.

٣٧٢

فقالوا: ابعد إلى هناك. ثمّ قالوا: جاء هذا الإنسان ليتغرّب وهو يحكم حكما. الان نفعل بك شرّا أكثر منهما. فألحوا على الرجل لوط جدّاً وتقدّموا ليكسروا الباب فمدّ الرجلان أيديهما وأدخلا لوطا إليهما إلى البيت وأغلقا الباب وأمّا الرجال الّذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يجدوا الباب.

وقال الرجال للوط: من لك أيضاً ههنا أصهارك وبنيك وبناتك وكلّ من لك في المدينة أخرج من المكان لأنّنا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الربّ فأرسلنا الربّ لنهلكهم. فخرج لوط وكلّم أصهاره الآخذين بناته وقال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأنّ الربّ مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره.

ولمّا طلع الفجر كان الملاكان يعجّلان لوطا قائلين: قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلّا تهلك بإثم المدينة. ولمّا توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الربّ عليه وأخرجاه وضعاه خارج المدينة.

وكان لمّا أخرجاهم إلى خارج أنّه قال: اهرب لحياتك. لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كلّ الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلّا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيّد هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الّذى صنعت إلىّ باستبقاء نفسي. وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعلّ الشرّ يدركنى فأموت. هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها. وهى صغيرة أهرب إلى هناك أليست هي صغيره فتحيا نفسي. فقال له: إنّى قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضاً أن لا أقلب المدينة الّتى تكلّمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك لأنّى لا أستطيع أن أفعل شيئاً حتّى تجيئ إلى هناك - لذلك دعى اسم المدينة صوغر.

وإذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الربّ على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الربّ من السماء. وقلب تلك المدن و

٣٧٣

كلّ الدائرة وجميع سكّان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.

وبكّر إبراهيم في الغد إلى المكأنّ الّذى وقف فيه أمام الربّ وتطلّع نحو سدوم وعمورة ونحو كلّ أرض الدائرة. ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الاُتون. وحدث لمّا أخرب الله مدن الدائرة أنّ الله ذكر إبراهيم. وأرسل لوطا من وسط الانقلاب حين قلب المدن الّتى سكن فيها لوط.

وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه لأنّه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلّ الأرض هلم نسقى أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيى من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة إنّى قد اضطجعت البارحة مع أبى. نسقيه خمرا الليلة أيضاً فادخلي اضطجعي معه فنحيى من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضاً. و قامت الصغيرة واضطجعت معه. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما.

فولدت البكر إبنا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيّين إلى اليوم والصغيرة أيضاً ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّى وهو أبو بنى عمّون إلى اليوم. انتهى.

هذا ما قصّته التوراة في لوط وقومه نقلناه على طوله ليتّضح به ما تخالف القرآن الكريم من وجه القصّة ومن وجوه غيرها.

ففيها كون الملك المرسل للبشرى والعذاب ملكين اثنين. وقد عبّر القرآن بالرسل - بلفظ الجمع وأقلّه ثلاثة -.

وفيها أنّ أضياف إبراهيم أكلوا ممّا صنعه وقدّمه إليهم، والقرآن ينفى ذلك ويقصّ أنّ إبراهيم خاف إذ رآى أنّ أيديهم لا تصل إليه.

٣٧٤

وفيها: إثبات بنتين للوط، والقرآن يعبّر بلفظ البنات. وفيها كيفيّة إخراج الملائكة لوطا وكيفيّة تعذيب القوم وصيرورة المرأة عمودا من ملح وغير ذلك.

وفيها نسبة التجسّم صريحة إلى الله سبحانه، وما ذكرته من قصّة لوط مع بنتيه أخيرا، والقرآن ينزّه ساحة الحقّ سبحانه عن التجسّم ويبرّئ أنبياءه ورسله عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم.

٣٧٥

( سورة هود آية ٨٤ - ٩٥)

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ( ٨٤) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ( ٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ( ٨٦) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( ٨٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( ٨٨) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ( ٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ( ٩٠) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ( ٩١) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( ٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ

٣٧٦

رَقِيبٌ( ٩٣) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٩٤) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ( ٩٥)

( بيان)

تذكر الآيات قصّة شعيبعليه‌السلام وقومه وهم أهل مدين، وكانوا يعبدون الأصنام، وكان قد شاع التطفيف في الكيل والوزن عندهم واشتدّ الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيباعليه‌السلام إليهم فدعاهم إلى التوحيد وتوفية الميزان والمكيال بالقسط وترك الفساد في الأرض، وبشّرهم وأذرهم وبالغ في عظتهم وقد روى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء.

فلم يجبه القوم إلّا بالردّ والعصيان، هدّدوه بالرجم والطرد من بينهم وبالغوا في إيذائه وإيذاء شرذمة من الناس آمنوا به وصدّهم عن سبيل الله وداموا على ذلك حتّى سأل الله أن يقضى بينه وبينهم فأهلكهم الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) إلى آخر الآية عطف على ما تقدّمه من قصص الأنبياء واُممهم، ومدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففى نسبة إرسال شعيب إلى مدين وكان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا: جرى الميزاب، وفي عدّ شعيبعليه‌السلام أخاً لهم دلالة على أنّه كان ينتسب إليهم.

وقوله:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) تقدّم تفسيره في نظائره.

وقوله:( وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) المكيال والميزان اسما آلة بمعنى ما يكال به وما يوزن به، ولا يوصفان بالنقص وإنّما يوصف بالنقص كالزيادة والمساواة المكيل والموزون فنسبة النقص إلى المكيال والميزان من المجاز العقليّ.

٣٧٧

وفي تخصيص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم وإقبالهم عليه وإفراطهم فيه بحيث ظهر فساده وبان سيّئ أثره فأوجب ذلك شدّة اهتمام به من داعى الحقّ فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.

وقوله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) أي اُشاهدكم في خير، وهو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال وسعة الرزق والرخص والخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال والميزان، واختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع وظلما وعتوّا، وعلى هذا فقوله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) تعليل لقوله:( وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) .

ويمكن تعميم الخير بأن يراد به أنّكم مشمولون لعناية الله معنيّون بنعمه آتاكم عقلا ورشدا ورزقكم رزقا فلا مسوّغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه وتشركوا به غيره، وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان، وعلى هذا يكون تعليلا لما تقدّمه من الجملتين أعنى قوله:( اعبدوا الله ) الخ، وقوله:( وَلَا تَنقُصُوا ) الخ، كما أنّ قوله:( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) كذلك.

فمحصّل قوله:( إِنِّي أَرَاكُم ) إلى آخر الآية أنّ هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنّكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلّها. وثانيهما: أنّ وراء مخالفة أمر الله يوماً محيطاً يخاف عذابه.

وليس من البعيد أن يراد بقوله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) أنّى أراكم برؤية خير أي أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الّذى لا يصاحب نظره إلّا الخير ولا يريد بكم غير السعادة، وعلى هذا يكون قوله:( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) كعطف التفسير بالنسبة إليه.

وقوله:( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) يشير به إلى يوم القيامة أو يوم نزول عذاب الاستئصال ومعنى كون اليوم - وهو يوم القضاء بالعذاب - محيطاً أنّه لا مخرج منه ولا مفرّ ولا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر ولا معين، ولا ينفع

٣٧٨

فيه توبة ولا شفاعة، ويؤل معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيّاً لا مناص منه، ومعنى الآية أنّ للكفر والفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) الخ، الإيفاء إعطاء الحقّ بتمامه والبخس النقص كرّر القول في المكيال والميزان بالأخذ بالتفصيل بعد الإجمال مبالغة في الاهتمام بأمر لا غنى لمجتمعهم عنه، وذلك أنّه دعاهم أوّلا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال والميزان، وعاد ثانياً فأمر بايفاء المكيال والميزان ونهى عن بخس الناس أشياءهم إشارة إلى أنّ مجرّد التحرّز عن نقص المكيال والميزان لا يكفى في إعطاء هذا الأمر حقّه - وإنّما نهى عنه أوّلا لتكون معرفة إجماليّة هي كالمقدّمة لمعرفة التكليف تفصيلا - بل يجب أن يوفى الكائل والوازن مكياله وميزانه ويعطياهما حقّهما ولا يبخسا ولا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة حتّى يعلما أنّهما أدّيا إلى الناس أشياءهم وردّا إليهم مالهم على ما هو عليه.

وقوله:( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) قال الراغب: العيث والعثىّ يتقاربان نحو جذب وجبذ إلّا أنّ العيث أكثر ما يقال في الفساد الّذى يدرك حسّاً والعثىّ فيما يدرك حكماً يقال: عثى يعثى عثيّا، وعلى هذا( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) وعثا يعثو عثوّا. انتهى.

وعلى هذا فقوله:( مُفْسِدِينَ ) حال من ضمير( َلَا تَعْثَوْا ) لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا.

والجملة أعني قوله:( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) نهى مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أيّ ظلم مالىّ أو جاهىّ أو عرضىّ لكن لا يبعد أن يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريّا للنهى السابق فيكون نهيا تأكيديّا عن التطفيف ونقص المكيال والميزان لأنّه من الفساد في الأرض.

بيان ذلك: أنّ الاجتماع المدنىّ الدائر بين افراد النوع الإنسانيّ مبنىّ على المبادلة حقيقة فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من أفراد النوع إلّا وفيه إعطاء و

٣٧٩

أخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شؤون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يمثّله أو يزيد عليه، ويدفع إليه نفعاً ليجذب منه إلى نفسه نفعاً وهو المعاملة والمبادلة.

ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات الماليّة وخاصّة في الأمتعة الّتى لها حجم أو وزن ممّا يكتال أو يوزن فإنّ ذلك من أقدم ما تنبّه الإنسان لوجوب إجراء سنّة المبادلة فيه.

فالمعاملات الماليّة وخاصّة البيع والشرى من أركان حياة الإنسان الاجتماعيّة يقدّر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضروريّة بالكيل أو الوزن، وما يجب عليه أن يبذله في حذائه من الثمن ثمّ يسير في حياته بانياً لها على هذا التقدير والتدبير.

فإذا خانه معامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره وأبطل تقديره، واختلّ بذلك نظام معيشته من الجهتين معاً من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الّذى يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر وحسن التدبير في حياته ويتخبّط في مسيرها خبط العشواء وهو الفساد.

وإذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم ولم يلبثوا دون أن يسلبوا الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض ويرتحل ذلك الأمن العامّ من بينهم وهو النكبة الشاملة الّتى تحيط بالصالح والطالح والمطفّف والّذى يوفى المكيال والميزان على حدّ سواء، وعاد بذلك اجتماعهم اجتماعاً على المكر وإفساد الحياة لا اجتماعا على التعاون لسعادتها، قال تعالى:( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) أسرى: ٣٥.

قوله تعالى: ( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) البقيّة بمعنى الباقي والمراد به الربح الحاصل للبائع وهو الّذى يبقى له بعد تمام المعاملة فيضعه في سبيل حوائجه، وذلك أنّ المبادلة وإن لم يوضع بالقصد الأوّل

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406