الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109295
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109295 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على أساس الاسترباح، وإنّما كان الواحد منهم يقتنى شيئاً من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدّل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه ولا يملكه ثمّ أخذت نفس التجارة وتبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال ويقتنى بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعاً من نوع واحد أو أنواع شتّى وعرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، وأضاف إلى رأس ماله فيه شيئاً من الربح بإزاء عمله في الجمع والعرض ورضى بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوّم معيشته ويحوّل إليه ثروة يقتنيها ويقيم بها صلب حياته.

فالمراد أنّ الربح الّذى هو بقيّه إلهيّة هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الّذى تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين فإنّ المؤمن إنّما ينتفع من المال بالمشروع الّذى ساقه الله إليه من طريق حلّه، وأمّا غير ذلك ممّا لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.

وقيل: إنّ الاشتراط بالإيمان في قوله:( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله والمعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحّة قولى: إنّ بقيّة الله خير لكم.

وقيل معنى الآية ثواب طاعة الله - بكون البقيّة بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين. وقيل غير ذلك.

وقوله:( وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) أي وما يرجع إلى قدرتي شئ ممّا عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق ونعمة فإنّما أنا رسول ليس عليه إلّا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شرّ منكم فهو كقوله تعالى:( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) الأنعام: ١٠٤.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إلى آخر

٣٨١

الآية، ردّ منهم لحجّة شعيب عليه، وهو من ألطف التركيب، ومغزى مرادهم أنّا في حرّيّة فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرّف به في أموالنا من وجوه التصرّف ولست تملكنا حتّى تأمرنا بكلّ ما أحببت أو تنهانا عن كلّ ما كرهت فإن ساءك شئ ممّا تشاهد منّا بما تصلّى وتتقرّب إلى ربّك وأردت أن تأمر وتنهى فلا تتعدّ نفسك لأنّك لا تملك إلّا إيّاها.

وقد أدّوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكّم واللّوم معا ومسبوكة في قالب الاستفهام الانكارىّ وهو أنّ الّذى تريده منّا من ترك عباده الأصنام، وترك ما شئنا من التصرّف في أموالنا هو الّذى بعثتك إليه صلاتك وشوّهته في عينك فأمرتك به لما أنّها ملكتك لكنك أردت منّاما أرادته منك صلاتك ولست تملكنا أنت ولا صلاتك لأنّنا أحرار في شعورنا وإرادتنا لنا أن نختار أيّ دين شئنا ونتصرّف في أموالنا أيّ تصرّف أردنا من غير حجر ولا منع ولم ننتحل إلّا ديننا الّذى هو دين آبائنا ولم نتصرّف إلّا في أموالنا ولا حجر على ذى مال في ماله.

فما معنى أن تأمرك إيّاك صلاتك بشئ ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ وبعبارة اُخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلّا سفها من الرأى؟ وإنّك لأنت الحليم الرشيد والحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا وانتقام من يراه مجرما حتّى ينجلى له وجه الصواب، والرشيد لا يقدم على أمر فيه غىّ وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهىّ الّذى لا صورة له إلّا الجهالة والغىّ؟

وقد ظهر بهذا البيان أوّلا: أنّهم إنّما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان، وهذا هو السرّ في تعبيرهم عن ذلك بقولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ ) الخ، دون أن يقولوا: أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أنّ التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك ولذلك عبّر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) ولم يقل

٣٨٢

إلى ما آمركم بتركه. والمراد - على أيّ حال - منعه إيّاهم عن عبادة الأصنام والتطفيف فافهم ذلك فإنّه من لطائف هذه الآية الّتى ملئت لطافة وحسنا.

وثانياً: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجّة في ذلك وهى أنّ هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهى سنّة قوميّة لنا، ولا ضير في الجرى على سنّة قوميّة ورثها الخلف من السلف، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنّا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا وهو دين آبائنا ونحفظ رسما ملّيّاً عن الضيعة.

وثالثا: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ) فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجّة فإنّ الشئ إذا صار مالاً لأحد لم يشكّ ذو ريب في أنّ له أن يتصرّف فيه وليس لغيره ممّن يعترف بماليّته له أن يعارضه في ذلك، وللمرء أن يسير في مسير الحياة ويتدبّر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق والاحتيال، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.

ورابعاً: أنّ قولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ - إلى قوله -إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) مبنىّ على التهكّم والاستهزاء إلّا أنّ التهكّم في تعليقهم أمر الصلاة شعيباً على تركهم ما يعبد آباؤهم، وكذا في نسبه الأمر إلى الصلاة لا غير، وأمّا نسبة الحلم والرشد إليه فليس فيها تهكّم واستهزاء، ولذلك أكّد قوله:( إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) بإنّ واللّام وإتيان الخبر جملة اسميّة ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه، وأنّ الّذى لا شكّ في حلمه ورشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهىّ، وينتهض على سلب حرّيّة الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة.

وظهر بذلك أنّ ما ذكره كثير منهم أنّهم وصفوه بالحلم والرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنّه موصوف بضدّهما وهو الجهالة والغىّ. ليس بصواب.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ) إلى آخر الآية، المراد بكونه على بيّنة من ربّه كونه على آية بيّنة وهى

٣٨٣

آية النبوّة والمعجزة الدالّة على صدق النبيّ في دعوى النبوّة، والمراد بكونه رزق من الله رزقاً حسناً أنّ الله آتاه من لدنه وحى النبوّة المشتمل على اُصول المعارف والشرائع، وقد مرّ توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدّم.

والمعنى: أخبروني إن كنت رسولاً من الله إليكم وخصّنى بوحى المعارف والشرائع وأيّدني بآية بيّنة يدلّ على صدق دعواى فهل أنا سفيه في رأيى؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهيّة؟ وهل في ذلك تحكّم منّى عليكم أو سلب منّى لحرّيّتكم؟ فإنّما هو الله المالك لكلّ شئّ ولستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، وله الحكم وإليه ترجعون.

وقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدّى بها كالميل ونحوه؟ والتقدير: اُخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.

والجملة جواب عن ما اتّهموه به أنّه يريد أن يسلب عنهم الحرّيّة في أعمالهم ويستعبدهم ويتحكّم عليهم، ومحصّله أنّه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه، وهو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتّهموه به و إنّما يريد الإصلاح ما استطاع.

توضيحه: أنّ الصنع الإلهىّ وإن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرّا في عمله له أن يميل في مظانّ العمل إلى كلّ من جانبى الفعل والترك فله بحسب هذه النشأة حرّيّة تامّة بالقياس إلى بنى نوعه الّذين هم أمثاله وأشباهه في الخلقة لهم ما له وعليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكّم على آخر عن هوى من نفسه.

إلّا أنّه أفطره على الاجتماع فلا تتمّ له الحياة إلّا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثمّ يختصّ كلّ منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعيّة، ومن البديهىّ أنّ الاجتماع لا يقوم على ساق إلّا بسنن وقوانين تجرى فيها، وحكومة يتولّاها بعضهم تحفظ النظم وتجرى القوانين كلّ ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.

فلا مناص من أن يفدى المجتمعون بعض حرّيّتهم قبال القانون والسنّة

٣٨٤

الجارية بالحرمان من الانطلاق والاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم وإحياء البعض الباقي من حرّيّتهم.

فالإنسان الاجتماعيّ لا حرّيّة له قبال المسائل الحيويّة الّتى تدعو إليه مصالح المجتمع ومنافعه، والّذى يتحكّمه الحكومة في ذلك من الأمر والنهى ليس من الاستعباد والاستكبار في شئ إذ إنّها إنّما يتحكّم فيما لاحرّيّة للإنسان الاجتماعيّ فيه، وكذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رآى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضرّ بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسيّة فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتّباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به ونهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكّما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بنى نوعه فإنّه لا حرّيّة لهم قبال المصالح العالية والأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر والنهى في هذا الباب أمراً أو نهياً له في الحقيقة بل كان أمراً ونهياً ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيّته الوسيعة، وإنّما الواحد الّذى يلقى إليهم الأمر والنهى بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.

وأمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به وينتهى هو نفسه عمّا ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله ونظره عمله، إذ الإنسان مطبوع على التحفّظ على منافعه ورعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير وهو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه، ولم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، ولذلك قالعليه‌السلام فيما ألقاه إليهم من الجواب:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) وقال أيضاً كما حكاه الله تتميماً للفائدة ودفعا لأىّ تهمة تتوجّه إليه:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الشعراء: ١٨٠.

فهوعليه‌السلام يشير بقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ ) الخ، إلى أنّ الّذى ينهاهم عنه من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم الّذى هو أحد أفراده، ويجب على الجميع مراعاتها وملازمتها، وليس اقتراحاً استعباديّاً عن هوى من نفسه، ولذلك عقّبه

٣٨٥

بقوله:( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

وملخّص المقام أنّهم لمّا سمعوا من شعيبعليه‌السلام الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف ردّوه بأنّ ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرّيّة الإنسانيّة الّتى تسوّغ لهم أن يعبدوا من شاؤا ويفعلوا في اموالهم ما شاؤا.

فردّ عليهم شعيبعليه‌السلام بأنّ الّذى يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتّى ينافى مسألتهم ذلك حرّيّتهم ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة بل هو رسول من ربّهم إليهم وله على ذلك آية بيّنة، والّذى أتاهم به من عند الله الّذى يملكهم ويملك كلّ شئ وهم عباده لا حرّيّة لهم قباله، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم.

على أنّ الّذى ألقاه إليهم من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم وسعاده أنفسهم في الدنيا والآخرة، وأمارة ذلك أنّه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، وإنّما يريد الإصلاح ما استطاع، ولا يريد منهم على ذلك أجراً إن أجره إلّا على ربّ العالمين.

وقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنّهعليه‌السلام لما ذكر لهم أنّه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة وفي ضوئها أثبت لنفسه استطاعة وقدرة وليست للعبد باستقلاله وحيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتمّ ما في كلامه من النقص والقصور بقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) أي إنّ الّذى يترشّح من إرادتى باستطاعة منّى من تدبير اُمور مجتمعكم وتوفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنّما هو بالله سبحانه لا غنى عنه ولا مخرج من إحاطته ولا استقلال في أمر دونه فهو الّذى أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، وهو الّذى يوفّق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتى منه وتوفيقي به.

بيّنعليه‌السلام هذه الحقيقة، واعترف بأنّ توفيقه بالله، وذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكلّ نفس والحافظ عليها والقائم على كلّ نفس بما كسبت كما قال:( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الفاطر: ١، وقال:( وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ

٣٨٦

شَيْءٍ حَفِيظٌ ) السبأ: ٢١، وقال:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد: ٣٣، وقال:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ) الفاطر: ٤١ ومحصّله أنّه تعالى هو الّذى أبدع الأشياء وأعمالها والروابط الّتى بينها وأظهرها بالوجود، وهو الّذى قبض على كلّ شئ فأمسكه وأمسك آثاره والروابط الّتى بينها أن تزول وتغيب وراء ستر البطلان.

ولازم ذلك أنّه تعالى وكيل كلّ شئ في تدبير اُموره فهى منسوبة إليه تعالى في تحقّقها وتحقّق الروابط الّتى بينها لما أنّه محيط بها قاهر عليها، ولها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشئ بإذنه تعالى.

ومن الواجب للعبد العالم بمقام ربّه العارف بهذه الحقيقة أن يمثّلها بإنشاء التوكّل على ربّه والإنابة والرجوع إليه، ولذلك لمّا ذكر شعيبعليه‌السلام أنّ توفيقه بالله عقّبه بإنشاء التوكّل والإنابة فقال:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

( كلام في معنى حرّيّة الإنسان في عمله)

الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور وإرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل وبعبارة اُخرى له في كلّ فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك فكلّ فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقى فيها طريقان: الفعل والترك فهو مضطرّ في التلبّس والاتّصاف بأصل الاختيار لكنّه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره أي إنّه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل والترك بحسب الفطرة غير مقيّد بشئ من الجانبين ولا مغلول، وهو المراد بحرّيّة الإنسان تكوينا.

ولازم هذه الحرّيّة التكوينيّة حرّيّة اُخرى تشريعيّة يتقلّد بها في حياته الاجتماعيّة وهو أنّ له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل، وليس لأحد من بنى نوعه أن يستعلى عليه فيستعبده ويتملّك إرادته وعمله

٣٨٧

فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإنّ أفراد النوع أمثال لكلّ منهم ما لغيره من الطبيعة الحرّة، قال تعالى:( وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤ وقال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ - إلى أن قال -ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٧٩.

هذا ما للإنسان بالقياس إلى امثاله من بنى نوعه، وأمّا بالقياس إلى العلل والأسباب الكونيّة الّتى أوجدت الطبيعة الإنسانيّة فلا حرّيّة له قبالها فإنّها تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلّبه ظهرا لبطن، وهى الّتى بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان والخواصّ من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبّه ويردّ ما يكرهه بل كان كما اُريد لا كما أراد حتّى أنّ أعمال الإنسان الاختياريّة وهى ميدان الحرّيّة الإنسانيّة إنّما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل والأسباب فليس كلّ ما أحبّه الإنسان وأراده بواقع ولا هو في كلّ ما اختاره لنفسه بموفّق له، وهو ظاهر.

وهذه العلل والأسباب هي الّتى جهّزت الإنسان بجهازات تذكّره حوائجه ونواقص وجوده، وتبعثه إلى أعمال فيها سعادته وارتفاع نواقصه وحوائجه كالغاذية مثلاً الّتى تذكّره الجوع والعطش وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشبع والرىّ وهكذا سائر الجهازات الّتى في وجوده.

ثمّ إنّ هذه العلل والأسباب أوجبت إيجاباً تشريعيّاً على الإنسان الفرد أموراً ذات مصالح واقعيّة لا يسعه إنكارها ولا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل والشرب والإيواء والاتّقاء من الحرّ والبرد والدفاع تجاه كلّ ما يضادّ منافع وجوده.

ثم أفطرته بالحياة الاجتماعيّة فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلىّ والمدنىّ والسير في مسير التعاون والتعامل، ويضطرّه ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرّيّة من جهتين:

إحداهما: أنّ الاجتماع لا يتمّ من الفرد إلّا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا

٣٨٨

متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، ويحرم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بل هو حرّ فيما لا يزاحم حرّيّة الآخرين، وهذا حرمان عن بعض الحرّيّة للحصول على بعضها.

وثانيتهما: أنّ المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجرى فيه سنن وقوانين يتسلّمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن والقوانين منافعهم العامّة بحسب ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطّة الرديّة، ويستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعيّة.

ومن المعلوم أنّ احترام السنن والقوانين يسلب الحرّيّة عن المجتمعين في مواردها فالذي يستنّ سنّة أو يقنّن قانونا سواء كان هو عامّة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله ورسوله - على حسب اختلاف السنن والقوانين - يحرم الناس بعض حرّيّتهم ليحفظ به البعض الآخر منها، قال الله تعالى:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) القصص: ٦٨، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) الأحزاب: ٣٦.

فتلخّص أنّ الإنسان إنّما هو حرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، وأمّا بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة وخاصّة المصالح الاجتماعيّة العامّة على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب فلا حرّيّة له البتّة، ولا أنّ الدعوة إلى سنّة أو أيّ عمل يوافق المصالح الإنسانيّة من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرّع الّذى يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسّكا بحجّة بيّنة، من التحكّم الباطل وسلب الحرّيّة المشروعة في شئ.

ثمّ إنّ العلل و الأسباب المذكورة وما تهدى إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه - على ما يهدى إليه ويبيّنه تعليم التوحيد في الإسلام - فهو سبحانه

٣٨٩

المالك على الإطلاق، وليس لغيره إلّا المملوكيّة من كلّ جهة، ولا للإنسان إلّا العبوديّة محضاً فمالكيّته المطلقة تسلب أيّ حرّيّة متوهّمة للإنسان بالنسبة إلى ربّه كما أنّها هي تعطيه الحرّيّة بالقياس إلى سائر بنى نوعه كما قال تعالى:( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤.

فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق والمطاع من غير قيد وشرط كما قال:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) وقد أعطى حقّ الأمر والنهى والطاعة لرسله ولاُولى الأمر وللمؤمنين من الاُمّة الإسلاميّة فلا حرّيّة لأحد قبال كلمة الحقّ الّتى يأتون به ويدعون إليه، قال تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: ٥٩، وقال تعالى:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) التوبة: ٧١.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ) الجرم بالفتح فالسكون - على ما ذكره الراغب - قطع الثمرة عن الشجر وقد استعير لكلّ اكتساب مكروه، والشقاق المخالفة والمعاداة. والمعنى: احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي ومعاداتى بسبب ما أدعوكم إليه إصابة مصيبة مثل مصيبة قوم نوح وهى الغرق أو قوم هود وهى الريح العقيم أو قوم صالح وهى الصيحة والرجفة.

وقوله:( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ) أي لا فصل كثيراً بين زمانهم وزمانكم وقد كانت الفاصلة الزمانيّة بين القومين أقلّ من ثلاثة قرون، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيمعليهما‌السلام وشعيب معاصراً لموسىعليهما‌السلام .

وقيل: المراد به نفى البعد المكانىّ، والإشارة إلى أنّ بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم وهو بالأرض المقدّسة، فالمعنى: وما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة. والسياق لا يساعد عليه

٣٩٠

والتقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلّا بدليل.

قوله تعالى: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) قد تقدّم الكلام في معنى قوله:( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي استغفروا الله من ذنوبكم وارجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله إنّ الله ذو رحمة ومودّة يرحم المستغفرين التائبين ويحبّهم.

وقد قال أوّلا:( َاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) فأضاف الربّ إليهم ثمّ قال في مقام تعليله:( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ولعلّ الوجه فيه أنّه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيّته لأنّها الصفة الّتى ترتبط بها العبادة ومنها الاستغفار والتوبة، وأضاف ربوبيّته إليهم بقوله:( رَبَّكُمْ ) لتأكيد الارتباط و للإشعار بأنّه هو ربّهم لا ما يتّخذونها من الأرباب من دون الله.

وكان من حقّ الكلام أن يقول في تعليله: إنّ ربّكم رحيم ودود لكنّه لمّا كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، وقد أثبت سابقا أنّه ربّ القوم أضافه ثانياً إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى إنّ ربّكم وربّى رحيم ودود.

على أنّ في هذه الإضافة معنى المعرفة والخبرة فتفيد تأييداً لصحّة القول فإنّه في معنى أنّه تعالى رحيم ودود وكيف؟ لا وهو ربّى أعرفه بهذين الوصفين.

والودود من أسماء الله تعالى، وهو فعول من الود بمعنى الحبّ إلّا أنّ المستفاد من موارد استعماله أنّه نوع خاصّ من المحبّة وهو الحبّ الّذى له آثار وتبعات ظاهرة كالإلفة والمراودة والإحسان، قال تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ) الروم: ٢١.

والله سبحانه يحبّ عباده ويظهر آثار حبّه بإفاضة نعمه عليهم( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) إبراهيم: ٣٤ فهو تعالى ودود لهم.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) إلى آخر الآية، الفقه أبلغ من الفهم وأقوى، ورهط الرجل عشيرته وقومه، وقيل: إنّه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة وعلى هذا ففى قولهم: رهطك، إشارة إلى قلّتهم

٣٩١

وهوان أمرهم، والرجم هو الرمى بالحجارة.

لمّا حاجّهم شعيبعليه‌السلام وأعياهم بحجّته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجّة فذكروا له:

أوّلا: أنّ كثيراً ممّا يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغى لا أثر له، وهذا كناية عن أنّه يتكلّم بما لا فائدة فيه.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) أي لا نفهم ما تقول ولست قويّاً فينا حتّى تضطرّنا قوّتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه، والسمع والقبول له فإنّا لا نراك فينا إلّا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله.

ثمّ هدّدوه بقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي ولو لا هذا النفر القليل الّذين هم عشيرتك لرجمناك لكنّا نراعى جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنّهم لو أرادوا قتله يوماً قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنّما كفّهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) تأكيداً لقولهم:( َلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي لست بقوىّ منيع جانباً علينا حتّى يمنعنا ذلك من قتلك بشرّ القتل، وإنّما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصّل قولهم إهانة شعيب و أنّهم لا يعبؤن به ولا بما قال، وإنّما يراعون في ترك التعرّض له جانب رهطه.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) الظهرىّ نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة وإنّما غيّر بالنسب وهو الشئ الّذى وراء الظهر فيترك نسيا منسيّا يقال: اتّخذه وراءه ظهريّا أي نسيه ولم يذكره ولم يعتن به.

وهذا نقض من شعيب لقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي كيف تعزّزون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعزّزون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإنّى أنا الّذى أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعزّ عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا

٣٩٢

منسيّا وليس لكم ذلك وما كان لكم أن تفعلوه إنّ ربّى بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكلّ شئ وجوداً وعلماً وقدرة. وفي الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: المكانة الحال الّتى يتمكّن بها صاحبها من عمل. انتهى وهو في الأصل - كما قيل - من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوى على العمل كلّ القوّة ويقال: تمكّن من كذا أي أحاط به قوّة.

وهذا تهديد من شعيب لهم أشدّ التهديد فإنّه يشعر بأنّه على وثوق ممّا يقول لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمرّدهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوّة والتمكّن فلهم عملهم وله عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الّذى يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا - إلى قوله -جَاثِمِينَ ) تقدّم ما يتّضح به معنى الآية.

قوله تعالى: ( كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) غنى في المكان إذا أقام فيه. وقوله:( أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ ) الخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود، وقد تقدّم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ: قال: قال بعث الله شعيبا إلى مدين وهى قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) قال: كان سعرهم رخيصا.

وفيه عن محمّد بن الفضيل عن الرضاعليه‌السلام قال: سألته عن انتظار الفرج فقال:

٣٩٣

أو ليس تعلم أنّ انتظار الفرج من الفرج؟ ثمّ قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) .

أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لاتعلم وهى لغة مولّدة.

وفي المعاني بإسناده عن عبدالله بن الفضل الهاشميّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قلت: فقوله عزّوجلّ:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) وقوله عزّوجلّ:( إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ) ؟ فقال: إذا فعل العبد ما أمر الله عزّوجلّ به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عزّوجلّ وسمّى العبد موفّقا، وإذا أراد العبد أن يدخل في شئ من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ومتى خلّى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتّى يتركها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفّقه.

أقول: محصّل بيانهعليه‌السلام أنّ توفيقه تعالى وخذلانه من صفاته الفعليّة فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدّى العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب الّتى يستعان بها على المعصية. والخذلان خلاف ذلك. وعلى ذلك فمتعلّق التوفيق الأسباب لأنّه إيجاد التوافق بينها وهى المتّصفة بها، وأمّا توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلّق.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن علىّ قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: قل: ربّى الله ثمّ استقم. قلت: ربّى الله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت واليه اُنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا ونهلته نهلا.

أقول: وقد تقدّمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.

وفيه أخرج الواحدى وابن عساكر عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بكى شعيبعليه‌السلام من حبّ الله حتّى عمى فردّ الله عليه بصره، وأوحى الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أشوقا إلى الجنّة أم خوفا من النار؟ فقال: لا ولكن اعتقدت حبّك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما اُبالى ما الّذى تصنع بى؟ فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقّا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمى.

٣٩٤

أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبىّ دون النظر الحسّىّ المستلزم للجسميّة، تعالى عن ذلك، وقد تقدّم توضيحه في تفسير قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ) الأعراف: ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب.

وفيه أخرج أبوالشيخ عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام ، أنّه خطب فتلا هذه الآية في شعيب:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف.( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) قال علىّ: فو الله الّذى لا إله غيره ما هابوا جلال ربّهم ما هابوا إلّا العشيرة.

( كلام في قصة شعيب وقومه في القرآن في فصول)

١ - قصّته عليه‌السلام : هوعليه‌السلام ثالث الرسل من العرب الّذين ذكرت أسماؤهم في القرآن وهم هود وصالح وشعيب ومحمّدعليهم‌السلام ذكر الله تعالى طرفاً من قصصه في سور الأعراف وهود والشعراء والقصص والعنكبوت.

كانعليه‌السلام من أهل مدين - مدينة في طريق الشام من الجزيرة - وكان معاصراً لموسىعليه‌السلام ، وقد زوّجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثمانى حجج وإن أتمّ عشراً فمن عنده ( القصص: ٢٧ ) فخدمه موسى عشر سنين ثمّ ودّعه وسار بأهله إلى مصر.

وكان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام وكانوا قوماً منعمين بالأمن والرفاهية والخصب ورخص الأسعار فشاع الفساد بينهم والتطفيف بنقص المكيال والميزان ( هود: ٨٤ وغيره ) فأرسل الله إليهم شعيبا وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان فدعاهم إلى ما اُمر به ووعظهم بالإنذار والتبشير وذكّرهم ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

وبالغعليه‌السلام في الاحتجاج عليهم وعظتهم فلم يزدهم إلّا طغياناً وكفراً وفسوقاً ( الأعراف وهود وغيرهما من السور ) ولم يؤمنوا به إلّا عدّة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم والسخريّة بهم وتهديدهم عن اتّباع شعيبعليه‌السلام ، وكانوا يقعدون بكلّ صراط يوعدون ويصدّون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا ( الأعراف: ٨٦ ).

٣٩٥

وأخذوا يرمونهعليه‌السلام بأنّه مسحور وأنّه كاذب ( الشعراء: ١٨٥، ١٨٦ ) وأخافوه بالرجم، وهدّدوه والّذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودنّ في ملّتهم ( الأعراف: ٨٨ ) ولم يزالوا به حتّى أيأسوه من إيمانهم فتركهم وأنفسهم ( هود: ٩٣ ) ودعا الله بالفتح قال: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلّة ( الشعراء: ١٨٩ ) وقد كانوا يستهزؤن به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين وأخذتهم الصيحة ( هود: ٩٤ ) والرجفة ( الأعراف: ٩١ - العنكبوت: ٣٧ ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ونجّى شعيبا ومن معه من المؤمنين ( هود: ٩٤ ) فتولّى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّى و نصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ( الأعراف: ٩٣ ).

٢ - شخصيّته المعنويّة : كانعليه‌السلام من زمرة الرسل المكرمين وقد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، وقد حكى عنه فيما كلّم به قومه وخاصّة في سور الأعراف وهود والشعراء شيئاً كثيراً من حقائق المعارف والعلوم الإلهيّة والأدب البارع مع ربّه ومع الناس.

وقد سمّى نفسه الرسول الأمين ( الشعراء: ١٧٨ ) ومصلحا ( هود: ٨٨ ) وأنّه من الصالحين ( الشعراء: ٢٧ ) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، وقد خدمه الكليم موسى بن عمرانعليه‌السلام زهاء عشر سنين سلام الله عليه.

٣ - ذكره في التوراة : لم تقصّ التوراة قصّته مع قومه وإنّما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصّة قتل موسى القبطىّ وفراره من مصر إلى مديان ( القصّة ) فسمّته( رعوئيل كاهن مديان) (١) .

____________________

(١) الاصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة.

٣٩٦

( سورة هود آية ٩٦ - ٩٩)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ( ٩٦) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ( ٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ( ٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ( ٩٩)

( بيان)

إشارة إلى قصّة موسى - الكليم -عليه‌السلام ، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن ذكر بإسمه في مائة ونيّف وثلاثين موضعاً منه في بضع وثلاثين سورة وقد اعتنى بتفصيل قصّته أكثر من غيره غير أنّه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجماليّة إليها.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) الباء في قوله بآياتنا للمصاحبة أي ولقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا وذلك أنّ الّذين بعثهم الله من الأنبياء والرسل وأيّدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من اُوتى الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالحعليه‌السلام المؤيّد بآية الناقة، وطائفة اُيّدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى وعيسى ومحمّدعليهم‌السلام ، كما قال تعالى خطابا لموسىعليه‌السلام :( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ) طه: ٤٢، وقال في عيسىعليه‌السلام :( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) الخ، آل عمران: ٤٩، وقال في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ ) الصفّ: ٩، والهدى القرآن بدليل قوله:( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) البقرة ٢، وقال تعالى:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ) الأعراف: ١٥٧.

٣٩٧

فموسىعليه‌السلام مرسل مع آيات وسلطان مبين، وظاهر أنّ المراد بهذه الآيات الاُمور الخارقة الّتى كانت تجرى على يده، ويدلّ على ذلك سياق قصصهعليه‌السلام في القرآن الكريم.

وأمّا السلطان وهو البرهان والحجّة القاطعة الّتى يتسلّط على العقول والأفهام فيعمّ الآية المعجزة والحجّة العقليّة، وعلى تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العامّ على الخاصّ.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أنّ الله سبحانه سلّطه على الأوضاع الجارية بينه وبين آل فرعون ذاك الجبّار الطاغى الّذى ما ابتلى بمثله أحد من الرسل غير موسىعليه‌السلام لكنّ الله تعالى أظهر موسى عليه حتّى أغرقه و جنوده ونجّى بنى اسرائيل بيده، ويشعر بهذا المعنى قوله:( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) طه: ٤٦، وقوله لموسىعليه‌السلام :( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ) طه: ٦٨.

وفي هذه الآية ونظائرها دلالة واضحة على أنّ رسالة موسىعليه‌السلام ما كانت تختصّ بقومه من بنى اسرائيل بل كانت تعمّهم وغيرهم.

قوله تعالى: ( إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) نسبة رسالته إلى فرعون وملإه - والملأهم أشراف القوم وعظماؤهم الّذين يملؤن القلوب هيبة - دون جميع قومه لعلّها للإشارة إلى أنّ عامّتهم لم يكونوا إلّا أتباعاً لا رأى لهم إلّا ما رآه لهم عظماؤهم.

وقوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) الخ، الظاهر أنّ المراد بالأمر ما هو الأعمّ من القول والفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله:( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) المؤمن: ٢٩، فينطبق على السنّة والطريقة الّتى كان يتّخذها ويأمر بها. وكأنّ الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذّبه الله تعالى بقوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) .

والرشيد فعيل من الرشد خلاف الغىّ أي وما أمر فرعون بذى رشد حتّى

٣٩٨

يهدى إلى الحقّ بل كان ذا غىّ وجهالة، وقيل: الرشيد بمعنى المرشد.

وفي الجملة أعنى قوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) وضع الظاهر موضع المضمر والأصل( أمره ) ولعلّ الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد الأمر ولا يستفاد ذلك من الضمير البتّة.

قوله تعالى: ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) أي يقدم فرعون قومه فإنّهم اتّبعوا أمره فكان إماماً لهم من أئمّة الضلال، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) القصص: ٤١.

وقوله:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار، والتعبير بلفظ الماضي لتحقّق الوقوع، وربّما قيل: تفريع على قوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) أي اتّبعوه فأوردهم الاتّباع النار وقد استدلّ لتأييد هذا المعنى بقوله:( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) المؤمن: ٤٦ حيث تدلّ الآيات على تعذيبهم من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، ولا يخفى أنّ الآيات ظاهرة في خلاف ما استدلّ بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوّاً وعشيّاً، وفي يوم القيامة بالدخول في أشدّ العذاب الّذى سجّل فيها أنّه النار.

وقوله:( وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) الورد هو الماء الّذى يرده العطاش من الحيوان والإنسان للشرب، قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد والماء مورود. وقد أوردت الإبل الماء قال:( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) والورد الماء المرشّح للورود.انتهى.

وعلى هذا ففى الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية الّتى يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الّذى يقصده العطشان فعذب السعادة الّتى يقصدها الإنسان بأعماله ورد يرده، وسعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله والجنّة لكنّهم لما غووا باتّباع أمر فرعون وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقيّة تبدّلت غايتهم إلى النار فكانت النار هو الورد الّذى يردونه، وبئس الورد المورود، لأنّ الورد هو الّذى

٣٩٩

يخمد لهيب الصدر ويروى الحشا العطشان وهو عذب الماء ونعم المنهل السائغ وأمّا إذا تبدّل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود.

قوله تعالى: ( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) أي هم اتّبعوا إمر فرعون فاتّبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا وإبعاد من رحمته وطرد من ساحة قربه، ومصداق اللعن الّذى اُتبعوه هو الغرق، أو أنّه الحكم منه تعالى بإبعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الّذى من آثاره الغرق وعذاب الآخرة.

وقوله:( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) الرفد هو العطيّة والأصل في معناه العون، وسمّيت العطيّة رفداً ومرفوداً لأنّه عون للآخذ على حوائجه، والمعنى وبئس الرفد رفدهم يوم القيامة وهو النار الّتى يسجرون فيها، والآية نظيرة قوله في موضع آخر:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) القصص: ٤٢.

وربّما اُخذ:( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فى الآية ظرفاً متعلّقاً بقوله:( َأُتْبِعُوا ) أو بقوله:( لَعْنَةً ) نظير قوله:( فِي هَذِهِ ) ، والمعنى: وأتبعهم الله في الدنيا والآخرة لعنة أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا والآخرة ثمّ استونف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن الّذى اُتبعوه أو الإتباع باللعن.

تمّ والحمد الله

٤٠٠