الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114276 / تحميل: 6649
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بكل شيء ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول :( وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) .

إذن فلا حاجة حتى للشهود ، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود ، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود ، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة ، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

* * *

١٦١

الآيتان

( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) )

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمرا :

تواصل الآيات هنا بحث المعاد ، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم ، إذ تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) .

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم ، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (٢١) من سورة (ق) ، إذ تقول :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

١٦٢

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس ، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على أسير).

ثم تضيف( حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (١) .

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة ، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أولئك الكفرة ، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم ، وهذا الحدث المفاجئ يوجد رعبا ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين ، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ ، الذين يقولون استهجانا وتوبيخا لهم : لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية ، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار ، ومعهم معجزات من خالقكم ، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله(٢) ؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّا إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال ، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات ، قائلين :( قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا( كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض ، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم ، كما ورد في الآية (٣٩) من سورة البقرة( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(١) «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء ، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

(٢) «يتلون» و «ينذرون» : كليهما فعل مضارع ودليل على الاستمرارية.

١٦٣

وحينما قال الشيطان : لأغوينهم جميع إلّا عبادك المخلصين ، فأجابه البارئعزوجل ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وأنكروا آيات الله ، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس)( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحيانا ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة ، وفي هذه الحالة يصبح مستحقا تماما للعذاب.

وعلى أيّة حال ، فإن مصدر كلّ هذه الأمور هو عمل الإنسان ذاته ، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان ، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها ، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(٢) .

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم ، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الانصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

__________________

(١) الم السجدة ، ١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة (٢٧).

١٦٤

للكفر والانحراف وارتكاب الذنب.

نعم ، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة ، ولهذا نقرأ في رواية عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(١) .

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثّاني ، باب الكبر الحديث. ٦.

١٦٥

الآيات

( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) )

التّفسير

المتقون يدخلون الجنّة أفواجا!!

هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد ، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة ، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم ، لتتوضح الأمور أكثر من خلال هذه المقارنة.

في البداية تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) .

استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل ، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين ، لأنّ هذا

١٦٦

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه ، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم ، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟

قال البعض : إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.

والبعض الآخر قال : إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء البارئعزوجل يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.

فيما قال البعض : إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.

مع أنّ هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينهما ، إلّا أنّ هناك نقطة اخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة ، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة ، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أولئك عليهم ، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف ، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.

والملاحظة أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة ، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.

ثم تضيف الآية( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم : إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب ، ويقول بشأن أهل الجنّة ، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم

__________________

(١) ما هو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها)؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة ، أنسبها الذي يقول : إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف ، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها ، والبعض قال : (فتمت) هي الجواب و (الواو) زائدة.

١٦٧

من قبل ، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة ، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم ، ويقف عند الباب بانتظارهم.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين ، عند ما يقولون لهم : قد هيئت لكم أسباب الهداية ، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟

أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل ، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخول الجنّة.

عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة ، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية ، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوما إنشائيا ، وتعني : لتكونوا طاهرين مطهرين ونتمنى لكم السعادة والسرور.

وبعبارة اخرى : طابت لكم هذه النعم الطاهرة ، يا أصحاب القلوب الطاهرة.

ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنى خبريا عند تفسيرها ، وقالوا : إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث ، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم ، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي ، ونقل البعض رواية تقول : إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة ، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان ، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم ، ويغتسلون بماء العين الأخرى فيتطهر ظاهرهم ، و، هنا يقول خزنة الجنّة لهم :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار ، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية ، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.

__________________

(١) تفسير القرطبي المجلد (٨) الصفحة. ٥٧٣.

١٦٨

الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم ، حيث تقول :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) .

وتضيف في العبارة التالية( وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) .

المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا ، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه ، إذ ـ كما هو معروف ـ فإنّ الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.

أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم ، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره ، وإن عمل عملا صالحا استحق به الجنّة ، فيمنح مكانا في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.

أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الإرث ، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حرا في استخدامه.

هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (٦٣) من سورة مريم( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) .

العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة ، إذ تقول :( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) .

يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (٧٢) من سورة التوبة عبارة( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) وأهل الجنّة وفقا لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها ، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.

أمّا العبارة الأخيرة فتقول :( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعا) ليكون صاحبه لائقا ومستحقا لنيل مثل هذه النعم.

١٦٩

وهنا يطرح هذه السؤال وهو : هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة ، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟

المفسّرون وافقوا الرأيين ، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول : إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأخرى في الآية.

وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله ، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية ، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي ، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة ، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.

ولهذا تقول العبارة التالية( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ ) .

وباعتبار هذه الأمور هي دلائل على ربوبية البارئعزوجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء ، فإنّ الجملة الأخيرة تقول :( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة ، أم عن أهل الجنّة المتقين ، أم أنّه صادر عن الاثنين؟

المعنى الأخير أنسب من غيره ، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب ، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين ، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.

نهاية سورة الزّمر

* * *

١٧٠
١٧١

سورة

المؤمن

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثمانون آية

١٧٢

«سورة المؤمن»

نظرة مختصرة في محتوى السورة :

سورة المؤمن هي طليعة الحواميم ، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضا ، نزلت جميعا في مكّة ، وهي تبدأ بـ «حم».

هذه السورة كسائر السور المكّية ، تثير في محتواها قضايا العقيدة و، تتحدث عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.

ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف ، ويجمع في نسيجه بين الإنذار والبشارة السورة ـ إذا ـ مواجهة منطقية حادّة مع الطواغيت والمستكبرين ، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.

وتمتاز هذه السورة أيضا بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأخرى ، إذ تتحدّث عن «مؤمن آل فرعون» وهو مقطع من قصة موسىعليه‌السلام ، وقصد مؤمن آل فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة «المؤمن».

إنّ قصة «مؤمن آل فرعون» هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون ، ومحسوب ـ ظاهرا ـ من حاشيته ـ لقد كان هذا الرجل مؤمنا بما جاء به موسىعليه‌السلام ، وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون ـ موقعا حساسا مميزا في الدفاع عن موسىعليه‌السلام وعن دينه ، حتى أنّه ـ في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسىعليه‌السلام

١٧٣

للخطر ـ تحرّك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلّص موسى من الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.

إنّ اختصاص السورة باسم «المؤمن» يعود إلى قصة هذا الرجل الذي تحدّثت عشرون آية منها عن جهاده ، أي ما يقارب ربع السورة.

يكشف الأفق العام أنّ حديث السورة عن «مؤمن آل فرعون» ينطوي على أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكّة ، فقد كان بعض المسلمين ممّن آمن بالإسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين ، وفي نفس الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس عليهما غبار.

لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيّام الخطر لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها ، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنّ أبا طالبعليه‌السلام عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من جملة هؤلاء ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية :

القسم الأوّل : وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من أسماء الله الحسنى ، خصوصا تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في القلوب ، مثل قوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ ) و( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

القسم الثّاني : تهديد الكفّار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال أقواما اخرى في ماضي التأريخ ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة ، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

القسم الثّالث : بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون ، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

__________________

(١) الغدير ، المجلد الثامن ، ص ٣٨٨.

١٧٤

اصطلح عليه بـ «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسىعليه‌السلام من كيدها.

القسم الرّابع : تعود السورة مرّة اخرى للحديث عن مشاهد القيامة ، لتبعث في القلوب الغافلة الروح واليقظة.

القسم الخامس : تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك ، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته ، وفي ذلك تتناول جانبا من دلائل التوحيد ، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

القسم السّادس : تنتهي السورة ـ في محتويات القسم الأخير هذا ـ بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحمل والصبر ، ثمّ تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة ممّا تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد ، وكسب العبرة من هلاك الأقوام الماضية ، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا ، ليكون ذلك تهديدا للمشركين. ثمّ تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ تسمية السورة بـ «المؤمن» يعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون». أما تسميتها بـ «غافر» فيعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثّالثة من آيات السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة :

في سلسلة الرّوايات الإسلامية المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، نرى كلاما واسعا من فضل تلاوة سور «الحواميم» وبالأخص سورة «غافر» منها.

ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الحواميم تاج

١٧٥

القرآن»(١) .

وعن ابن عباس ممّا يحتمل نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «الحواميم ريحان القرآن ، فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها ، وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر ، وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم أو قريب له ، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون»(٣) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحواميم سبع ، وأبواب جهنّم سبع ، تجيء كلّ «حاميم» منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : الّلهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني»(٤) .

وفي قسم من حديث مروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ «حاميم المؤمن» لم يبق روح نبيّ ولا صديق ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له»(٥) .

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم ، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به ، والالتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك ، فإنّه سيكون مستحقا للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

وإذا كانت الرّوايات تتحدث عن فضل التلاوة ، فإنّ التلاوة المعنية هي التي

__________________

(١) هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.

(٢) المصدر السابق

(٣) مجمع البيان أثناء تفسير السورة

(٤) البيهقي طبقا لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ٣٦.

(٥) مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.

١٧٦

تكون مقدمة للاعتقاد الصحيح ، فيما يكون الإعتقاد الصحيح مقدمة للعمل الصحيح. إذا التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل ، وقد رأينا في واحد من الأحاديث ـ الآنفة الذكر – المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبير «من كان يؤمن بي ويقرأني».

* * *

١٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) )

التّفسير

صفات تبعث الأمل في النفوس :

تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة ، حيث افتتحت السورة بـ «جاء» و «ميم».

وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها ، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة «البقرة» ، وسورة «آل عمران» و «الأعراف» وسور اخرى.

الشيء الذي تضيفه هنا ، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها ، تشير ـ كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين ـ إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة ، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك

١٧٨

عن الامام الصادقعليه‌السلام (١) .

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان» ، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أن حرف «الحاء» يشير إلى الحاكمية ، فيما يشير حرف «الميم» إلى المالكية الإلهية.

عن ابن عباس ، نقل القرطبي «في تفسيره» أن «حم» من أسماء الله العظمى(٢) .

ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر ، بل هي تعمد جميعا إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

في الآية الثّانية ـ كما جرى على ذلك الأسلوب القرآني ـ حديث عن عظمة القرآن ، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ ، إنّما يتشكّل في مادته الخام من حروف الألف باء وهنا يمكن معنى الإعجاز.

يقول تعالى :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأخرى عن الوقوف إزاءه ، فقدرته ماضية في كل شيء ، وعزته مبسوطة ، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال ، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

والآية التي بعدها تعدّد خمسا من صفاته تعالى ، يبعث بعضها الأمل والرجاء ، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.

ويقول تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) .

( قابِلِ التَّوْبِ ) (٣) .

__________________

(١) يلاحظ «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق ، صفحة ٢٢ ، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.

(٢) تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.

(٣) «توب» يمكن أن تكون جمع «توبة» وأن تكون مصدرا (يلاحظ مجمع البيان).

١٧٩

( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

( ذِي الطَّوْلِ ) (١) .

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

* * *

ملاحظات

تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات ، نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

أولا : في الآيات أعلاه (آية ٢ و ٣) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية ، بعضها من «صفات الذات» والبعض الآخر منها من «صفات الفعل» التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب ، ثمّ ذكرت «عزيز» و «عليم» وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.

أمّا صفات «غافر الذنب» و «قابل التوب» و «شديد العقاب» و «ذي الطول» فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحدة الأحد.

ثانيا : ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة «غافر الذنب» أوّلا و «ذي الطول» أخيرا ، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة «شديد العقاب» وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ

__________________

(١) «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة والفضل ، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة وما يشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول : إنّ «ذي الطول» هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين ، ولذلك فإن معناها أخص من معنى «المنعم» كما يقول صاحب مجمع البيان.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

على أساس الاسترباح، وإنّما كان الواحد منهم يقتنى شيئاً من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدّل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه ولا يملكه ثمّ أخذت نفس التجارة وتبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال ويقتنى بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعاً من نوع واحد أو أنواع شتّى وعرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، وأضاف إلى رأس ماله فيه شيئاً من الربح بإزاء عمله في الجمع والعرض ورضى بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوّم معيشته ويحوّل إليه ثروة يقتنيها ويقيم بها صلب حياته.

فالمراد أنّ الربح الّذى هو بقيّه إلهيّة هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الّذى تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين فإنّ المؤمن إنّما ينتفع من المال بالمشروع الّذى ساقه الله إليه من طريق حلّه، وأمّا غير ذلك ممّا لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.

وقيل: إنّ الاشتراط بالإيمان في قوله:( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله والمعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحّة قولى: إنّ بقيّة الله خير لكم.

وقيل معنى الآية ثواب طاعة الله - بكون البقيّة بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين. وقيل غير ذلك.

وقوله:( وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) أي وما يرجع إلى قدرتي شئ ممّا عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق ونعمة فإنّما أنا رسول ليس عليه إلّا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شرّ منكم فهو كقوله تعالى:( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) الأنعام: ١٠٤.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إلى آخر

٣٨١

الآية، ردّ منهم لحجّة شعيب عليه، وهو من ألطف التركيب، ومغزى مرادهم أنّا في حرّيّة فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرّف به في أموالنا من وجوه التصرّف ولست تملكنا حتّى تأمرنا بكلّ ما أحببت أو تنهانا عن كلّ ما كرهت فإن ساءك شئ ممّا تشاهد منّا بما تصلّى وتتقرّب إلى ربّك وأردت أن تأمر وتنهى فلا تتعدّ نفسك لأنّك لا تملك إلّا إيّاها.

وقد أدّوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكّم واللّوم معا ومسبوكة في قالب الاستفهام الانكارىّ وهو أنّ الّذى تريده منّا من ترك عباده الأصنام، وترك ما شئنا من التصرّف في أموالنا هو الّذى بعثتك إليه صلاتك وشوّهته في عينك فأمرتك به لما أنّها ملكتك لكنك أردت منّاما أرادته منك صلاتك ولست تملكنا أنت ولا صلاتك لأنّنا أحرار في شعورنا وإرادتنا لنا أن نختار أيّ دين شئنا ونتصرّف في أموالنا أيّ تصرّف أردنا من غير حجر ولا منع ولم ننتحل إلّا ديننا الّذى هو دين آبائنا ولم نتصرّف إلّا في أموالنا ولا حجر على ذى مال في ماله.

فما معنى أن تأمرك إيّاك صلاتك بشئ ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ وبعبارة اُخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلّا سفها من الرأى؟ وإنّك لأنت الحليم الرشيد والحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا وانتقام من يراه مجرما حتّى ينجلى له وجه الصواب، والرشيد لا يقدم على أمر فيه غىّ وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهىّ الّذى لا صورة له إلّا الجهالة والغىّ؟

وقد ظهر بهذا البيان أوّلا: أنّهم إنّما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان، وهذا هو السرّ في تعبيرهم عن ذلك بقولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ ) الخ، دون أن يقولوا: أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أنّ التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك ولذلك عبّر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) ولم يقل

٣٨٢

إلى ما آمركم بتركه. والمراد - على أيّ حال - منعه إيّاهم عن عبادة الأصنام والتطفيف فافهم ذلك فإنّه من لطائف هذه الآية الّتى ملئت لطافة وحسنا.

وثانياً: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجّة في ذلك وهى أنّ هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهى سنّة قوميّة لنا، ولا ضير في الجرى على سنّة قوميّة ورثها الخلف من السلف، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنّا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا وهو دين آبائنا ونحفظ رسما ملّيّاً عن الضيعة.

وثالثا: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ) فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجّة فإنّ الشئ إذا صار مالاً لأحد لم يشكّ ذو ريب في أنّ له أن يتصرّف فيه وليس لغيره ممّن يعترف بماليّته له أن يعارضه في ذلك، وللمرء أن يسير في مسير الحياة ويتدبّر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق والاحتيال، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.

ورابعاً: أنّ قولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ - إلى قوله -إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) مبنىّ على التهكّم والاستهزاء إلّا أنّ التهكّم في تعليقهم أمر الصلاة شعيباً على تركهم ما يعبد آباؤهم، وكذا في نسبه الأمر إلى الصلاة لا غير، وأمّا نسبة الحلم والرشد إليه فليس فيها تهكّم واستهزاء، ولذلك أكّد قوله:( إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) بإنّ واللّام وإتيان الخبر جملة اسميّة ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه، وأنّ الّذى لا شكّ في حلمه ورشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهىّ، وينتهض على سلب حرّيّة الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة.

وظهر بذلك أنّ ما ذكره كثير منهم أنّهم وصفوه بالحلم والرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنّه موصوف بضدّهما وهو الجهالة والغىّ. ليس بصواب.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ) إلى آخر الآية، المراد بكونه على بيّنة من ربّه كونه على آية بيّنة وهى

٣٨٣

آية النبوّة والمعجزة الدالّة على صدق النبيّ في دعوى النبوّة، والمراد بكونه رزق من الله رزقاً حسناً أنّ الله آتاه من لدنه وحى النبوّة المشتمل على اُصول المعارف والشرائع، وقد مرّ توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدّم.

والمعنى: أخبروني إن كنت رسولاً من الله إليكم وخصّنى بوحى المعارف والشرائع وأيّدني بآية بيّنة يدلّ على صدق دعواى فهل أنا سفيه في رأيى؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهيّة؟ وهل في ذلك تحكّم منّى عليكم أو سلب منّى لحرّيّتكم؟ فإنّما هو الله المالك لكلّ شئّ ولستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، وله الحكم وإليه ترجعون.

وقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدّى بها كالميل ونحوه؟ والتقدير: اُخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.

والجملة جواب عن ما اتّهموه به أنّه يريد أن يسلب عنهم الحرّيّة في أعمالهم ويستعبدهم ويتحكّم عليهم، ومحصّله أنّه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه، وهو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتّهموه به و إنّما يريد الإصلاح ما استطاع.

توضيحه: أنّ الصنع الإلهىّ وإن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرّا في عمله له أن يميل في مظانّ العمل إلى كلّ من جانبى الفعل والترك فله بحسب هذه النشأة حرّيّة تامّة بالقياس إلى بنى نوعه الّذين هم أمثاله وأشباهه في الخلقة لهم ما له وعليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكّم على آخر عن هوى من نفسه.

إلّا أنّه أفطره على الاجتماع فلا تتمّ له الحياة إلّا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثمّ يختصّ كلّ منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعيّة، ومن البديهىّ أنّ الاجتماع لا يقوم على ساق إلّا بسنن وقوانين تجرى فيها، وحكومة يتولّاها بعضهم تحفظ النظم وتجرى القوانين كلّ ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.

فلا مناص من أن يفدى المجتمعون بعض حرّيّتهم قبال القانون والسنّة

٣٨٤

الجارية بالحرمان من الانطلاق والاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم وإحياء البعض الباقي من حرّيّتهم.

فالإنسان الاجتماعيّ لا حرّيّة له قبال المسائل الحيويّة الّتى تدعو إليه مصالح المجتمع ومنافعه، والّذى يتحكّمه الحكومة في ذلك من الأمر والنهى ليس من الاستعباد والاستكبار في شئ إذ إنّها إنّما يتحكّم فيما لاحرّيّة للإنسان الاجتماعيّ فيه، وكذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رآى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضرّ بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسيّة فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتّباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به ونهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكّما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بنى نوعه فإنّه لا حرّيّة لهم قبال المصالح العالية والأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر والنهى في هذا الباب أمراً أو نهياً له في الحقيقة بل كان أمراً ونهياً ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيّته الوسيعة، وإنّما الواحد الّذى يلقى إليهم الأمر والنهى بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.

وأمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به وينتهى هو نفسه عمّا ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله ونظره عمله، إذ الإنسان مطبوع على التحفّظ على منافعه ورعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير وهو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه، ولم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، ولذلك قالعليه‌السلام فيما ألقاه إليهم من الجواب:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) وقال أيضاً كما حكاه الله تتميماً للفائدة ودفعا لأىّ تهمة تتوجّه إليه:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الشعراء: ١٨٠.

فهوعليه‌السلام يشير بقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ ) الخ، إلى أنّ الّذى ينهاهم عنه من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم الّذى هو أحد أفراده، ويجب على الجميع مراعاتها وملازمتها، وليس اقتراحاً استعباديّاً عن هوى من نفسه، ولذلك عقّبه

٣٨٥

بقوله:( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

وملخّص المقام أنّهم لمّا سمعوا من شعيبعليه‌السلام الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف ردّوه بأنّ ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرّيّة الإنسانيّة الّتى تسوّغ لهم أن يعبدوا من شاؤا ويفعلوا في اموالهم ما شاؤا.

فردّ عليهم شعيبعليه‌السلام بأنّ الّذى يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتّى ينافى مسألتهم ذلك حرّيّتهم ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة بل هو رسول من ربّهم إليهم وله على ذلك آية بيّنة، والّذى أتاهم به من عند الله الّذى يملكهم ويملك كلّ شئ وهم عباده لا حرّيّة لهم قباله، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم.

على أنّ الّذى ألقاه إليهم من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم وسعاده أنفسهم في الدنيا والآخرة، وأمارة ذلك أنّه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، وإنّما يريد الإصلاح ما استطاع، ولا يريد منهم على ذلك أجراً إن أجره إلّا على ربّ العالمين.

وقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنّهعليه‌السلام لما ذكر لهم أنّه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة وفي ضوئها أثبت لنفسه استطاعة وقدرة وليست للعبد باستقلاله وحيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتمّ ما في كلامه من النقص والقصور بقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) أي إنّ الّذى يترشّح من إرادتى باستطاعة منّى من تدبير اُمور مجتمعكم وتوفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنّما هو بالله سبحانه لا غنى عنه ولا مخرج من إحاطته ولا استقلال في أمر دونه فهو الّذى أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، وهو الّذى يوفّق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتى منه وتوفيقي به.

بيّنعليه‌السلام هذه الحقيقة، واعترف بأنّ توفيقه بالله، وذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكلّ نفس والحافظ عليها والقائم على كلّ نفس بما كسبت كما قال:( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الفاطر: ١، وقال:( وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ

٣٨٦

شَيْءٍ حَفِيظٌ ) السبأ: ٢١، وقال:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد: ٣٣، وقال:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ) الفاطر: ٤١ ومحصّله أنّه تعالى هو الّذى أبدع الأشياء وأعمالها والروابط الّتى بينها وأظهرها بالوجود، وهو الّذى قبض على كلّ شئ فأمسكه وأمسك آثاره والروابط الّتى بينها أن تزول وتغيب وراء ستر البطلان.

ولازم ذلك أنّه تعالى وكيل كلّ شئ في تدبير اُموره فهى منسوبة إليه تعالى في تحقّقها وتحقّق الروابط الّتى بينها لما أنّه محيط بها قاهر عليها، ولها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشئ بإذنه تعالى.

ومن الواجب للعبد العالم بمقام ربّه العارف بهذه الحقيقة أن يمثّلها بإنشاء التوكّل على ربّه والإنابة والرجوع إليه، ولذلك لمّا ذكر شعيبعليه‌السلام أنّ توفيقه بالله عقّبه بإنشاء التوكّل والإنابة فقال:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

( كلام في معنى حرّيّة الإنسان في عمله)

الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور وإرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل وبعبارة اُخرى له في كلّ فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك فكلّ فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقى فيها طريقان: الفعل والترك فهو مضطرّ في التلبّس والاتّصاف بأصل الاختيار لكنّه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره أي إنّه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل والترك بحسب الفطرة غير مقيّد بشئ من الجانبين ولا مغلول، وهو المراد بحرّيّة الإنسان تكوينا.

ولازم هذه الحرّيّة التكوينيّة حرّيّة اُخرى تشريعيّة يتقلّد بها في حياته الاجتماعيّة وهو أنّ له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل، وليس لأحد من بنى نوعه أن يستعلى عليه فيستعبده ويتملّك إرادته وعمله

٣٨٧

فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإنّ أفراد النوع أمثال لكلّ منهم ما لغيره من الطبيعة الحرّة، قال تعالى:( وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤ وقال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ - إلى أن قال -ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٧٩.

هذا ما للإنسان بالقياس إلى امثاله من بنى نوعه، وأمّا بالقياس إلى العلل والأسباب الكونيّة الّتى أوجدت الطبيعة الإنسانيّة فلا حرّيّة له قبالها فإنّها تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلّبه ظهرا لبطن، وهى الّتى بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان والخواصّ من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبّه ويردّ ما يكرهه بل كان كما اُريد لا كما أراد حتّى أنّ أعمال الإنسان الاختياريّة وهى ميدان الحرّيّة الإنسانيّة إنّما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل والأسباب فليس كلّ ما أحبّه الإنسان وأراده بواقع ولا هو في كلّ ما اختاره لنفسه بموفّق له، وهو ظاهر.

وهذه العلل والأسباب هي الّتى جهّزت الإنسان بجهازات تذكّره حوائجه ونواقص وجوده، وتبعثه إلى أعمال فيها سعادته وارتفاع نواقصه وحوائجه كالغاذية مثلاً الّتى تذكّره الجوع والعطش وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشبع والرىّ وهكذا سائر الجهازات الّتى في وجوده.

ثمّ إنّ هذه العلل والأسباب أوجبت إيجاباً تشريعيّاً على الإنسان الفرد أموراً ذات مصالح واقعيّة لا يسعه إنكارها ولا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل والشرب والإيواء والاتّقاء من الحرّ والبرد والدفاع تجاه كلّ ما يضادّ منافع وجوده.

ثم أفطرته بالحياة الاجتماعيّة فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلىّ والمدنىّ والسير في مسير التعاون والتعامل، ويضطرّه ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرّيّة من جهتين:

إحداهما: أنّ الاجتماع لا يتمّ من الفرد إلّا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا

٣٨٨

متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، ويحرم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بل هو حرّ فيما لا يزاحم حرّيّة الآخرين، وهذا حرمان عن بعض الحرّيّة للحصول على بعضها.

وثانيتهما: أنّ المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجرى فيه سنن وقوانين يتسلّمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن والقوانين منافعهم العامّة بحسب ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطّة الرديّة، ويستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعيّة.

ومن المعلوم أنّ احترام السنن والقوانين يسلب الحرّيّة عن المجتمعين في مواردها فالذي يستنّ سنّة أو يقنّن قانونا سواء كان هو عامّة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله ورسوله - على حسب اختلاف السنن والقوانين - يحرم الناس بعض حرّيّتهم ليحفظ به البعض الآخر منها، قال الله تعالى:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) القصص: ٦٨، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) الأحزاب: ٣٦.

فتلخّص أنّ الإنسان إنّما هو حرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، وأمّا بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة وخاصّة المصالح الاجتماعيّة العامّة على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب فلا حرّيّة له البتّة، ولا أنّ الدعوة إلى سنّة أو أيّ عمل يوافق المصالح الإنسانيّة من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرّع الّذى يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسّكا بحجّة بيّنة، من التحكّم الباطل وسلب الحرّيّة المشروعة في شئ.

ثمّ إنّ العلل و الأسباب المذكورة وما تهدى إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه - على ما يهدى إليه ويبيّنه تعليم التوحيد في الإسلام - فهو سبحانه

٣٨٩

المالك على الإطلاق، وليس لغيره إلّا المملوكيّة من كلّ جهة، ولا للإنسان إلّا العبوديّة محضاً فمالكيّته المطلقة تسلب أيّ حرّيّة متوهّمة للإنسان بالنسبة إلى ربّه كما أنّها هي تعطيه الحرّيّة بالقياس إلى سائر بنى نوعه كما قال تعالى:( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤.

فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق والمطاع من غير قيد وشرط كما قال:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) وقد أعطى حقّ الأمر والنهى والطاعة لرسله ولاُولى الأمر وللمؤمنين من الاُمّة الإسلاميّة فلا حرّيّة لأحد قبال كلمة الحقّ الّتى يأتون به ويدعون إليه، قال تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: ٥٩، وقال تعالى:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) التوبة: ٧١.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ) الجرم بالفتح فالسكون - على ما ذكره الراغب - قطع الثمرة عن الشجر وقد استعير لكلّ اكتساب مكروه، والشقاق المخالفة والمعاداة. والمعنى: احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي ومعاداتى بسبب ما أدعوكم إليه إصابة مصيبة مثل مصيبة قوم نوح وهى الغرق أو قوم هود وهى الريح العقيم أو قوم صالح وهى الصيحة والرجفة.

وقوله:( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ) أي لا فصل كثيراً بين زمانهم وزمانكم وقد كانت الفاصلة الزمانيّة بين القومين أقلّ من ثلاثة قرون، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيمعليهما‌السلام وشعيب معاصراً لموسىعليهما‌السلام .

وقيل: المراد به نفى البعد المكانىّ، والإشارة إلى أنّ بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم وهو بالأرض المقدّسة، فالمعنى: وما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة. والسياق لا يساعد عليه

٣٩٠

والتقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلّا بدليل.

قوله تعالى: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) قد تقدّم الكلام في معنى قوله:( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي استغفروا الله من ذنوبكم وارجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله إنّ الله ذو رحمة ومودّة يرحم المستغفرين التائبين ويحبّهم.

وقد قال أوّلا:( َاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) فأضاف الربّ إليهم ثمّ قال في مقام تعليله:( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ولعلّ الوجه فيه أنّه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيّته لأنّها الصفة الّتى ترتبط بها العبادة ومنها الاستغفار والتوبة، وأضاف ربوبيّته إليهم بقوله:( رَبَّكُمْ ) لتأكيد الارتباط و للإشعار بأنّه هو ربّهم لا ما يتّخذونها من الأرباب من دون الله.

وكان من حقّ الكلام أن يقول في تعليله: إنّ ربّكم رحيم ودود لكنّه لمّا كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، وقد أثبت سابقا أنّه ربّ القوم أضافه ثانياً إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى إنّ ربّكم وربّى رحيم ودود.

على أنّ في هذه الإضافة معنى المعرفة والخبرة فتفيد تأييداً لصحّة القول فإنّه في معنى أنّه تعالى رحيم ودود وكيف؟ لا وهو ربّى أعرفه بهذين الوصفين.

والودود من أسماء الله تعالى، وهو فعول من الود بمعنى الحبّ إلّا أنّ المستفاد من موارد استعماله أنّه نوع خاصّ من المحبّة وهو الحبّ الّذى له آثار وتبعات ظاهرة كالإلفة والمراودة والإحسان، قال تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ) الروم: ٢١.

والله سبحانه يحبّ عباده ويظهر آثار حبّه بإفاضة نعمه عليهم( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) إبراهيم: ٣٤ فهو تعالى ودود لهم.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) إلى آخر الآية، الفقه أبلغ من الفهم وأقوى، ورهط الرجل عشيرته وقومه، وقيل: إنّه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة وعلى هذا ففى قولهم: رهطك، إشارة إلى قلّتهم

٣٩١

وهوان أمرهم، والرجم هو الرمى بالحجارة.

لمّا حاجّهم شعيبعليه‌السلام وأعياهم بحجّته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجّة فذكروا له:

أوّلا: أنّ كثيراً ممّا يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغى لا أثر له، وهذا كناية عن أنّه يتكلّم بما لا فائدة فيه.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) أي لا نفهم ما تقول ولست قويّاً فينا حتّى تضطرّنا قوّتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه، والسمع والقبول له فإنّا لا نراك فينا إلّا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله.

ثمّ هدّدوه بقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي ولو لا هذا النفر القليل الّذين هم عشيرتك لرجمناك لكنّا نراعى جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنّهم لو أرادوا قتله يوماً قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنّما كفّهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) تأكيداً لقولهم:( َلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي لست بقوىّ منيع جانباً علينا حتّى يمنعنا ذلك من قتلك بشرّ القتل، وإنّما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصّل قولهم إهانة شعيب و أنّهم لا يعبؤن به ولا بما قال، وإنّما يراعون في ترك التعرّض له جانب رهطه.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) الظهرىّ نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة وإنّما غيّر بالنسب وهو الشئ الّذى وراء الظهر فيترك نسيا منسيّا يقال: اتّخذه وراءه ظهريّا أي نسيه ولم يذكره ولم يعتن به.

وهذا نقض من شعيب لقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي كيف تعزّزون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعزّزون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإنّى أنا الّذى أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعزّ عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا

٣٩٢

منسيّا وليس لكم ذلك وما كان لكم أن تفعلوه إنّ ربّى بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكلّ شئ وجوداً وعلماً وقدرة. وفي الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: المكانة الحال الّتى يتمكّن بها صاحبها من عمل. انتهى وهو في الأصل - كما قيل - من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوى على العمل كلّ القوّة ويقال: تمكّن من كذا أي أحاط به قوّة.

وهذا تهديد من شعيب لهم أشدّ التهديد فإنّه يشعر بأنّه على وثوق ممّا يقول لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمرّدهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوّة والتمكّن فلهم عملهم وله عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الّذى يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا - إلى قوله -جَاثِمِينَ ) تقدّم ما يتّضح به معنى الآية.

قوله تعالى: ( كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) غنى في المكان إذا أقام فيه. وقوله:( أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ ) الخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود، وقد تقدّم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ: قال: قال بعث الله شعيبا إلى مدين وهى قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) قال: كان سعرهم رخيصا.

وفيه عن محمّد بن الفضيل عن الرضاعليه‌السلام قال: سألته عن انتظار الفرج فقال:

٣٩٣

أو ليس تعلم أنّ انتظار الفرج من الفرج؟ ثمّ قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) .

أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لاتعلم وهى لغة مولّدة.

وفي المعاني بإسناده عن عبدالله بن الفضل الهاشميّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قلت: فقوله عزّوجلّ:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) وقوله عزّوجلّ:( إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ) ؟ فقال: إذا فعل العبد ما أمر الله عزّوجلّ به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عزّوجلّ وسمّى العبد موفّقا، وإذا أراد العبد أن يدخل في شئ من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ومتى خلّى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتّى يتركها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفّقه.

أقول: محصّل بيانهعليه‌السلام أنّ توفيقه تعالى وخذلانه من صفاته الفعليّة فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدّى العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب الّتى يستعان بها على المعصية. والخذلان خلاف ذلك. وعلى ذلك فمتعلّق التوفيق الأسباب لأنّه إيجاد التوافق بينها وهى المتّصفة بها، وأمّا توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلّق.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن علىّ قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: قل: ربّى الله ثمّ استقم. قلت: ربّى الله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت واليه اُنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا ونهلته نهلا.

أقول: وقد تقدّمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.

وفيه أخرج الواحدى وابن عساكر عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بكى شعيبعليه‌السلام من حبّ الله حتّى عمى فردّ الله عليه بصره، وأوحى الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أشوقا إلى الجنّة أم خوفا من النار؟ فقال: لا ولكن اعتقدت حبّك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما اُبالى ما الّذى تصنع بى؟ فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقّا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمى.

٣٩٤

أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبىّ دون النظر الحسّىّ المستلزم للجسميّة، تعالى عن ذلك، وقد تقدّم توضيحه في تفسير قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ) الأعراف: ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب.

وفيه أخرج أبوالشيخ عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام ، أنّه خطب فتلا هذه الآية في شعيب:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف.( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) قال علىّ: فو الله الّذى لا إله غيره ما هابوا جلال ربّهم ما هابوا إلّا العشيرة.

( كلام في قصة شعيب وقومه في القرآن في فصول)

١ - قصّته عليه‌السلام : هوعليه‌السلام ثالث الرسل من العرب الّذين ذكرت أسماؤهم في القرآن وهم هود وصالح وشعيب ومحمّدعليهم‌السلام ذكر الله تعالى طرفاً من قصصه في سور الأعراف وهود والشعراء والقصص والعنكبوت.

كانعليه‌السلام من أهل مدين - مدينة في طريق الشام من الجزيرة - وكان معاصراً لموسىعليه‌السلام ، وقد زوّجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثمانى حجج وإن أتمّ عشراً فمن عنده ( القصص: ٢٧ ) فخدمه موسى عشر سنين ثمّ ودّعه وسار بأهله إلى مصر.

وكان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام وكانوا قوماً منعمين بالأمن والرفاهية والخصب ورخص الأسعار فشاع الفساد بينهم والتطفيف بنقص المكيال والميزان ( هود: ٨٤ وغيره ) فأرسل الله إليهم شعيبا وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان فدعاهم إلى ما اُمر به ووعظهم بالإنذار والتبشير وذكّرهم ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

وبالغعليه‌السلام في الاحتجاج عليهم وعظتهم فلم يزدهم إلّا طغياناً وكفراً وفسوقاً ( الأعراف وهود وغيرهما من السور ) ولم يؤمنوا به إلّا عدّة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم والسخريّة بهم وتهديدهم عن اتّباع شعيبعليه‌السلام ، وكانوا يقعدون بكلّ صراط يوعدون ويصدّون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا ( الأعراف: ٨٦ ).

٣٩٥

وأخذوا يرمونهعليه‌السلام بأنّه مسحور وأنّه كاذب ( الشعراء: ١٨٥، ١٨٦ ) وأخافوه بالرجم، وهدّدوه والّذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودنّ في ملّتهم ( الأعراف: ٨٨ ) ولم يزالوا به حتّى أيأسوه من إيمانهم فتركهم وأنفسهم ( هود: ٩٣ ) ودعا الله بالفتح قال: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلّة ( الشعراء: ١٨٩ ) وقد كانوا يستهزؤن به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين وأخذتهم الصيحة ( هود: ٩٤ ) والرجفة ( الأعراف: ٩١ - العنكبوت: ٣٧ ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ونجّى شعيبا ومن معه من المؤمنين ( هود: ٩٤ ) فتولّى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّى و نصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ( الأعراف: ٩٣ ).

٢ - شخصيّته المعنويّة : كانعليه‌السلام من زمرة الرسل المكرمين وقد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، وقد حكى عنه فيما كلّم به قومه وخاصّة في سور الأعراف وهود والشعراء شيئاً كثيراً من حقائق المعارف والعلوم الإلهيّة والأدب البارع مع ربّه ومع الناس.

وقد سمّى نفسه الرسول الأمين ( الشعراء: ١٧٨ ) ومصلحا ( هود: ٨٨ ) وأنّه من الصالحين ( الشعراء: ٢٧ ) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، وقد خدمه الكليم موسى بن عمرانعليه‌السلام زهاء عشر سنين سلام الله عليه.

٣ - ذكره في التوراة : لم تقصّ التوراة قصّته مع قومه وإنّما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصّة قتل موسى القبطىّ وفراره من مصر إلى مديان ( القصّة ) فسمّته( رعوئيل كاهن مديان) (١) .

____________________

(١) الاصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة.

٣٩٦

( سورة هود آية ٩٦ - ٩٩)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ( ٩٦) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ( ٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ( ٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ( ٩٩)

( بيان)

إشارة إلى قصّة موسى - الكليم -عليه‌السلام ، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن ذكر بإسمه في مائة ونيّف وثلاثين موضعاً منه في بضع وثلاثين سورة وقد اعتنى بتفصيل قصّته أكثر من غيره غير أنّه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجماليّة إليها.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) الباء في قوله بآياتنا للمصاحبة أي ولقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا وذلك أنّ الّذين بعثهم الله من الأنبياء والرسل وأيّدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من اُوتى الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالحعليه‌السلام المؤيّد بآية الناقة، وطائفة اُيّدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى وعيسى ومحمّدعليهم‌السلام ، كما قال تعالى خطابا لموسىعليه‌السلام :( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ) طه: ٤٢، وقال في عيسىعليه‌السلام :( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) الخ، آل عمران: ٤٩، وقال في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ ) الصفّ: ٩، والهدى القرآن بدليل قوله:( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) البقرة ٢، وقال تعالى:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ) الأعراف: ١٥٧.

٣٩٧

فموسىعليه‌السلام مرسل مع آيات وسلطان مبين، وظاهر أنّ المراد بهذه الآيات الاُمور الخارقة الّتى كانت تجرى على يده، ويدلّ على ذلك سياق قصصهعليه‌السلام في القرآن الكريم.

وأمّا السلطان وهو البرهان والحجّة القاطعة الّتى يتسلّط على العقول والأفهام فيعمّ الآية المعجزة والحجّة العقليّة، وعلى تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العامّ على الخاصّ.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أنّ الله سبحانه سلّطه على الأوضاع الجارية بينه وبين آل فرعون ذاك الجبّار الطاغى الّذى ما ابتلى بمثله أحد من الرسل غير موسىعليه‌السلام لكنّ الله تعالى أظهر موسى عليه حتّى أغرقه و جنوده ونجّى بنى اسرائيل بيده، ويشعر بهذا المعنى قوله:( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) طه: ٤٦، وقوله لموسىعليه‌السلام :( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ) طه: ٦٨.

وفي هذه الآية ونظائرها دلالة واضحة على أنّ رسالة موسىعليه‌السلام ما كانت تختصّ بقومه من بنى اسرائيل بل كانت تعمّهم وغيرهم.

قوله تعالى: ( إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) نسبة رسالته إلى فرعون وملإه - والملأهم أشراف القوم وعظماؤهم الّذين يملؤن القلوب هيبة - دون جميع قومه لعلّها للإشارة إلى أنّ عامّتهم لم يكونوا إلّا أتباعاً لا رأى لهم إلّا ما رآه لهم عظماؤهم.

وقوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) الخ، الظاهر أنّ المراد بالأمر ما هو الأعمّ من القول والفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله:( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) المؤمن: ٢٩، فينطبق على السنّة والطريقة الّتى كان يتّخذها ويأمر بها. وكأنّ الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذّبه الله تعالى بقوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) .

والرشيد فعيل من الرشد خلاف الغىّ أي وما أمر فرعون بذى رشد حتّى

٣٩٨

يهدى إلى الحقّ بل كان ذا غىّ وجهالة، وقيل: الرشيد بمعنى المرشد.

وفي الجملة أعنى قوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) وضع الظاهر موضع المضمر والأصل( أمره ) ولعلّ الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد الأمر ولا يستفاد ذلك من الضمير البتّة.

قوله تعالى: ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) أي يقدم فرعون قومه فإنّهم اتّبعوا أمره فكان إماماً لهم من أئمّة الضلال، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) القصص: ٤١.

وقوله:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار، والتعبير بلفظ الماضي لتحقّق الوقوع، وربّما قيل: تفريع على قوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) أي اتّبعوه فأوردهم الاتّباع النار وقد استدلّ لتأييد هذا المعنى بقوله:( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) المؤمن: ٤٦ حيث تدلّ الآيات على تعذيبهم من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، ولا يخفى أنّ الآيات ظاهرة في خلاف ما استدلّ بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوّاً وعشيّاً، وفي يوم القيامة بالدخول في أشدّ العذاب الّذى سجّل فيها أنّه النار.

وقوله:( وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) الورد هو الماء الّذى يرده العطاش من الحيوان والإنسان للشرب، قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد والماء مورود. وقد أوردت الإبل الماء قال:( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) والورد الماء المرشّح للورود.انتهى.

وعلى هذا ففى الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية الّتى يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الّذى يقصده العطشان فعذب السعادة الّتى يقصدها الإنسان بأعماله ورد يرده، وسعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله والجنّة لكنّهم لما غووا باتّباع أمر فرعون وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقيّة تبدّلت غايتهم إلى النار فكانت النار هو الورد الّذى يردونه، وبئس الورد المورود، لأنّ الورد هو الّذى

٣٩٩

يخمد لهيب الصدر ويروى الحشا العطشان وهو عذب الماء ونعم المنهل السائغ وأمّا إذا تبدّل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود.

قوله تعالى: ( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) أي هم اتّبعوا إمر فرعون فاتّبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا وإبعاد من رحمته وطرد من ساحة قربه، ومصداق اللعن الّذى اُتبعوه هو الغرق، أو أنّه الحكم منه تعالى بإبعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الّذى من آثاره الغرق وعذاب الآخرة.

وقوله:( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) الرفد هو العطيّة والأصل في معناه العون، وسمّيت العطيّة رفداً ومرفوداً لأنّه عون للآخذ على حوائجه، والمعنى وبئس الرفد رفدهم يوم القيامة وهو النار الّتى يسجرون فيها، والآية نظيرة قوله في موضع آخر:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) القصص: ٤٢.

وربّما اُخذ:( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فى الآية ظرفاً متعلّقاً بقوله:( َأُتْبِعُوا ) أو بقوله:( لَعْنَةً ) نظير قوله:( فِي هَذِهِ ) ، والمعنى: وأتبعهم الله في الدنيا والآخرة لعنة أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا والآخرة ثمّ استونف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن الّذى اُتبعوه أو الإتباع باللعن.

تمّ والحمد الله

٤٠٠

401

402

403

404

405

406