الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114229 / تحميل: 6642
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماويّة خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأنّ الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقّبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعيّ إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفّار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.

و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال - هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحقّ و تميط الباطل - لأنزلهم بالحقّ الفاصل المميّز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصّل ما ذكره بعضهم.

و قيل: المراد بالحقّ في الآية الموت و المعنى ما نزّل الملائكة على الناس إلّا مصاحبا للحقّ الّذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنّه مأخوذ من قوله تعالى:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) الآية.

و قيل: المراد بالحقّ الرسالة أي ما نزّل الملائكة إلّا بالوحي و الرسالة و كأنّه مأخوذ من نحو قوله:( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحقّ ) النساء: ١٧٠( و قولهفَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جاءَهُمْ ) الأنعام: ٥.

فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعاً لا تخلو من شي‏ء و هو أنّ شيئاً منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ ) فنزول الملائكة لا يختصّ بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختصّ بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحقّ يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقرّرة آنفاً.

و يمكن أن يقرّر معنى الآية باستمداد من التدبّر في آيات اُخر أنّ ظرف الحياة المادّيّة أعني هذه النشأة الدنيويّة ظرف يختلط فيه الحقّ و الباطل من غير أن يتمحّض الحقّ في الظهور بجميع خواصّه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَ الْباطِلَ ) الرعد: ١٧، و قد تقدّم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شي‏ء من الحقّ إلّا و هو يحتمل شيئاً من اللبس و الشكّ كما يصدّقه

١٠١

استقراء الموارد الّتي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلّا مع إمكان التباس الحقّ بالباطل و اختلاط الخير و الشرّ بنحو حتّى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدلّ على الخير و الشرّ بآثارهما و أماراتهما ثمّ يختار ما يستحقّه من السعادة و الشقاوة.

و أمّا عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنّما هو عالم الحقّ غير مشوب بشي‏ء من الباطل كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦ و قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

فمقتضى الآيات و ما في معناها أنّهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانيّة منزّهة عن النّقص و الشين لا تحتمل الشرّ و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادّيّ المبنيّ على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعاً، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.

و سيأتي أيضاً أنّ الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحقّ ما دام متوغّلاً في هذا العالم المادّيّ متورّطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلّا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحقّ و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و هذا هو العالم الّذي يسمّى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.

فتبيّن أنّ ظهور عالم الملائكة للناس المتوغّلين في عالم المادّة متوقّف على تبدّل الظرف و الانتقال من الدّنيا إلى الآخرة و هو الموت اللّهمّ إلّا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهّرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهليّة مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياءعليهم‌السلام .

و لعلّ ما قدّمناه هو المراد بقوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا

١٠٢

إِذاً مُنْظَرِينَ ) ، فإنّهم إنّما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصليّة حتّى يصدّقوا و هذا الحال لا تتمهّد لهم إلّا بالموت كما قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ إلى أن قال يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: ٢٣.

و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدّقة للنبوّة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلّدنا الملك النبوّة و الرّسالة كان لازمه أن نصوّره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفاً يحتمل اللبس فإنّ الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهيّ و لا امتحان إلّا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصّل إلى الرسالة بما يضطرّ العقول إلى الإيمان و يلجئ النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كلّه.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردّهم القرآن بأنّه من أهذار الجنون و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته و أنّ القرآن كتاب سماويّ حقّ.

و المعنى - على هذا و الله أعلم - أنّ هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتّى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدّة بطشهم و تتكلّف لحفظه ثمّ لا تقدر، و ليس نازلاً من عند الملائكة حتّى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إيّاه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالاً تدريجيّاً و إنّا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.

فهو ذكر حيّ خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكراً لله مبيّناً لحقائق معارفه.

١٠٣

فالآية تدلّ على كون كتاب الله محفوظاً من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكراً لله سبحانه فهو ذكر حيّ خالد.

و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظاً بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرّف بأيّ وجه كان من جهة كونه ذكراً له سبحانه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ اللّام في الذكر للعهد الذكريّ و أنّ المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربّما يورد على الآية أنّها لو دلّت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذكر لدلّت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضاً لأنّ كلّا منهما ذكر مع أنّ كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.

و ذلك أنّ الآية بقرينة السياق إنّما تدلّ على حفظ الذكر الّذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علّيّة الذكر للحفظ الإلهيّ و دوران الحكم مداره.

و سنستوفي البحث عمّا يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن رفاعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنّة إلّا مسلم فيومئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثمّ قال:( ذرهم يأكلوا و يتمتّعوا و يلههم الأمل) أي شغلهم( فسوف يعلمون) .

أقول: و روى العيّاشيّ، عن عبدالله بن عطاء المكّيّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : في تفسير الآية مثله.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن

١٠٤

جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ناسا من اُمّتي يعذّبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثمّ يعيّرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحّد إلّا أخرجه الله تعالى من النار. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن أبي موسى الأشعريّ و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنّة عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أصحاب الكبائر من موحّدي الاُمم كلّها الّذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنّم لا تزرق أعينهم، و لا تسودّ وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلّون بالسلاسل، و لا يجرّعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرّم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود.

فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهراً ثمّ يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثمّ يخرج منها، و أطولهم فيها مكثاً بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.

فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضباً لم يغضبه لشي‏ء فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنّة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثمّ يدخلون الجنّة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنّميّون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنّة ما شاء الله أن يمكثوا.

ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكاً فيمحوه ثمّ

١٠٥

يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمّرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنّة بنعيمهم و لذّاتهم، و ذلك قوله:( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.

و فيه، أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرس عوداً بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإنّ هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك.

أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المجمع، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، و طول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، و طول الأمل ينسي الآخرة.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.

( كلام في أنّ القرآن مصون عن التحريف في فصول)

( الفصل ١- الاستدال علي نفي التحريف بالقرآن)

من ضروريّات التاريخ أنّ النبيّ العربيّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً - تقريباً - و ادّعى النبوّة و انتهض للدّعوة و آمن به اُمّة من العرب و غيرهم، و أنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن و ينسبه إلى ربّه متضمّن لجمل المعارف و كلّيّات الشريعة الّتي كان يدعو إليها، و كان يتحدّى به و يعدّه آية لنبوّته، و أنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الّذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في

١٠٦

الجملة بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يفقد كلّه ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه اُمور لا يرتاب في شي‏ء منها إلّا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.

و إنّما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شي‏ء يسير كالجملة أو الآية(١) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أمّا جلّ الكتاب الإلهيّ فهو على ما هو في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يضع و لم يفقد.

ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفّتين واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغيّر في شي‏ء منها أو يفوته و يفقد.

فنجده يتحدّى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شي‏ء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المرويّ عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود و القلوب.

و نجده يتحدّى بقوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلّا و يرفعه آية اُخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهّم بادئ الرأي من شطر إلّا و هناك ما يدفعه و يفسّره.

و نجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة كما في قوله:

__________________________________________________

(١) كقول بعض من غير المنتحلين بالإسلام أن قوله تعالى: ( إنّك ميّت و إنّهم ميّتون ) من وضع أبي بكر وضعه حين سمع عمر و هو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إنّ النبيّ مات فقرأها على عمر فصرفه.

١٠٧

( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) إسراء: ٨٨ و قوله:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق: ١٤ ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الّذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقيّة و كلّيّات الشرائع الفطريّة و تفاصيل الفضائل الخلقيّة من غير أن نعثر فيها على شي‏ء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شي‏ء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة و الأصل الّذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كلّ منها بالتركيب.

و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و اُممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوّة و خلوصها للعبوديّة و الطاعة و كلّما طبّقنا قصّة من القصص القرآنيّة على ما يماثلها ممّا ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.

و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدّقة.

و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنّه نور و أنّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملّة الّتي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.

و من أجمع الأوصاف الّتي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذكر لله فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة و بما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنّته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكلّ إليه سبحانه، و تفاصيل ما يؤل إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنّة و النار.

١٠٨

ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الّذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر.

و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات الّتي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى‏ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢ فذكر تعالى أنّ القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالاً و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريّته عنه.

و كقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكريّة و يبطل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه.

و من سخيف القول إرجاع ضمير( لَهُ ) إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه مدفوع بالسياق و إنّما كان المشركون يستهزؤن بالنبيّ لأجل القرآن الّذي كان يدّعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) و قد مرّ تفسير الآية.

فقد تبيّن ممّا فصّلناه أنّ القرآن الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وصفه بأنّه ذكر محفوظ على ما اُنزل مصون بصيانة إلهيّة عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيّه فيه.

و خلاصة الحجّة أنّ القرآن أنزله الله على نبيّه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصّة لو كان تغيّر في شي‏ء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثّر فقد آثار تلك الصفة قطعاً لكنّا نجد القرآن الّذي بأيدينا واجداً

١٠٩

لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئاً من صفاته فالّذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه فلو فرض سقوط شي‏ء منه أو تغيّر في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شي‏ء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النوريّة و الذكريّة و الهيمنة على سائر الكتب السماويّة إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكرّرة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.

( الفصل ٢- الاستدلال عليه بالحديث)

و يدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حلّ عقد المشكلات.

و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين:( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) الحديث فلا معنى للأمر بالتمسّك بكتاب محرّف و نفي الضلال أبداً ممّن تمسّك به.

و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في الأخبار الفقهيّة و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأنّ أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصّص.

على أنّ لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أنّ الأمر بالعرض إنّما هو لتمييز الصدق من الكذب و الحقّ من الباطل و من المعلوم أنّ الدسّ و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدسّ و الوضع في المعارف الاعتقاديّة و قصص الأنبياء و الاُمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيّد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليّات و ما يحذو حذوها ممّا أمر الجعل فيها أوضح و أبين.

١١٠

و كذا الأخبار الّتي تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمختلف الآيات القرآنيّة في كلّ باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتّى في الموارد الّتي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهمعليهم‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.

و كذا الروايات الواردة عن أميرالمؤمنين و سائر الأئمّة من ذرّيّتهعليهم‌السلام في أنّ ما بأيدي الناس قرآن نازل من عندالله سبحانه و إن كان غير ما ألّفه عليّعليه‌السلام من المصحف و لم يشركوهعليه‌السلام في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب‏ قولهمعليهم‌السلام لشيعتهم:( اقرؤا كما قرأ النّاس) .

و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألّفه عليّعليه‌السلام في شي‏ء فإنّما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات الّتي لا يؤثّر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئاً و لا في الأوصاف الّتي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختلّ به آثارها.

فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الّذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يفقد شيئاً من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.

( الفصل ٣- كلام مثبتي التحريف و جوابه)

ذهب جماعة من محدّثي الشيعة و الحشويّة و جماعة من محدّثي أهل السنّة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.

و احتجّوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.

١١١

أحدها: الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة الدالّة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأوّل الّذي اُلّف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الّذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنّة في صحاحهم كصحيحي البخاريّ و مسلم و سنن أبي داود و النسائيّ و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسيّ في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء.

و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبدالله بن مسعود المصحف المعروف ممّا ينيف على ستّين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف اُبيّ بن كعب المصحف العثمانيّ و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانيّة الّتي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكّة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الّذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفاً، و قيل: بضع و خمسين حرفاً.(١)

و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانيّة و الجمع الأوّل في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأوّل في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجي‏ء روايته.

و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبدالله بن مسعود و اُبيّ ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانيّة و غير الاختلافات القرائيّة الشاذّة الّتي رويت عن الصحابة و التابعين فربّما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.

الوجه الثاني: أنّ العقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً متشتّتاً منتشراً عند الناس و تصدّى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.

الوجه الثالث: ما روته العامّة و الخاصّة: أنّ عليّاعليه‌السلام اعتزل الناس بعد رحلة

__________________________________________________

(١) ذكره ابن طاووس في سعد السعود.

١١٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يرتد إلّا للصّلاة حتّى جمع القرآن ثمّ حمله إلى الناس و أعلمهم أنّه القرآن‏ الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد جمعه فردّوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحملة إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كانعليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتّفق عليه: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ.

الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنّه يقع في هذه الاُمّة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة، بالقذّة و قد حرّفت بنو إسرائيل كتاب نبيّهم على ما يصرّح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بدّ أن يقع نظيره في هذه الاُمّة فيحرّفوا كتاب ربّهم و هو القرآن الكريم.

ففي صحيح البخاريّ، عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا و اُمّهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟

و الرواية مستفيضة مرويّة في جوامع الحديث عن عدّة من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ - كما مرّ - و أبي هريرة و عبدالله بن عمر، و ابن عبّاس و حذيفة و عبدالله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شدّاد بن أوس و المستورد بن شدّاد في ألفاظ متقاربة.

و هي مرويّة مستفيضة من طرق الشيعة عن عدّة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في تفسير القمّيّ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتركبنّ سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة لا تخطؤن طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أوّل ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.

و الجواب عن استدلالهم بإجماع الاُمّة على نفي تحريف القرآن بالزيادة

١١٣

بأنّها حجّة مدخولة لكونها دوريّة.

بيان ذلك: أنّ الإجماع ليس في نفسه حجّة عقليّة يقينيّة بل هو عند القائلين باعتباره حجّة شرعيّة لو أفاد شيئاً من الاعتقاد فإنّما يفيد الظنّ سواء في ذلك محصّله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أنّ الإجماع المحصّل مفيد للقطع و ذلك أنّ الّذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات الّتي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلّا الظنّ بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الّذي يوافقه إليه إنّما يفيد قوّة الظنّ دون القطع لأنّ القطع اعتقاد خاصّ بسيط مغاير للظنّ و ليس بالمركّب من عدّة ظنون.

و هكذا كلّما انضمّ قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظنّ قوّة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدّم، هذا في المحصّل من الإجماع و هو الّذي نحصّله بتتبّع جميع الأقوال و الحصول على كلّ قول قول، و أمّا المنقول منه الّذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلّا الظنّ إن أفاد شيئاً من الاعتقاد.

فالإجماع حجّة ظنّيّة شرعيّة دليل اعتبارها عند أهل السنّة مثلاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تجتمع اُمّتي على خطإ أو ضلال) و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.

فحجية الإجماع بالجملة متوقّفة على صحّة النبوّة و ذلك ظاهر، و صحّة النبوّة اليوم متوقّفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصّة الإعجاز فإنّه لا دليل حيّاً خالداً على خصوص نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر لا وثوق بشي‏ء من آياته و محتوياته أنّه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجّة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجّيّة يسقط الإجماع عن الحجّيّة.

١١٤

و لا ينفع في المقام ما قدّمناه في أوّل الكلام أنّ وجود القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريّات التاريخ.

و ذلك لأنّ مجرّد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعيّ لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر في كلّ آية أو جملة اُريد التمسّك بها لإثبات مطلوب.

و الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اُقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الّذي تمسّك فيه بالأخبار:

أما أوّلاً فبأنّ التمسّك بالأخبار بما أنّها حجّة شرعيّة يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسّك بالإجماع بنظير البيان الّذي تقدّم آنفاً.

فلا يبقى للمستدلّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسناد و مصادر تاريخيّة و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعيّة تضطرّ العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرّقة متشتّتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تامّ في دلالته.

و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدسّ فإنّ انسراب الإسرائيليّات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجّيّة في خبر لا يؤمن فيه الدسّ و الوضع.

و مع الغضّ عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآنيّ بوجه، و مع الغضّ عن جميع ذلك فإنّها مخالفة للكتاب مردودة:

أمّا ما ذكرنا أنّ أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.

و أمّا ما ذكرنا أنّ منها ما هو قاصر في دلالتها فإنّ كثيراً ممّا وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرّفة و ذلك كما في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأوّل: في قول الله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ - فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب -وَ قُلْ لَهُمْ

١١٥

فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً ) .

و ما في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قال:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا - عمّا اُمرتم به -فإنّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.

و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات الّتي تذكر هذه الآية هكذا:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ - في عليّ -) و الآية نازلة في حقّهعليه‌السلام ، و ما روي: أنّ وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا:( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ - بنو تميم -أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فظنّ أنّ في الآية سقطا.

و يلحق بهذا الباب أيضاً ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا - آل محمّد حقّهم -) و ما ورد من قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ - في ولاية عليّ و الأئمّة من بعده -فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) و هي كثيرة جدّاً.

و يلحق بها أيضاً ما اُتبع فيه القراءة بشي‏ء من الذكر و الدعاء فتوهّم أنّه من سقط القرآن كما في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن التوحيد فقال: كلّ من قرأ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال:( قلت‏ ظ) كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربّي كذلك الله ربّي.

و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرّفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالّتي وردت في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) ففي بعضها أنّ الآية هكذا:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء) و في بعضها:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل) .

و هذا الاختلاف ربّما كان قرينة على أنّ المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيّده ما ورد في بعضها من قولهعليه‌السلام : لا يجوز وصفهم بأنّهم

١١٦

أذلّة و فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ربّما لم يكن إلّا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على‏ ما ورد في روايات الخاصّة و العامّة و هي في بعضها: إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة. و في بعضها: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذّة» و في بعضها آخرها:( نكالا من الله و الله عليم حكيم) و في بعضها:( نَكالًا مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

و كآية الكرسيّ على التنزيل الّتي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:( اللهُ لا إِلهَ إلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحداً( مَنْ ذَا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ - إلى قوله -وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) و الحمد لله ربّ العالمين.

و في بعضها - إلى قوله -( هُمْ فِيها خالِدُونَ ) و الحمد لله ربّ العالمين، و في بعضها هكذا:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ - و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم -) إلخ. و في بعضها:( عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام ربّ العرش العظيم) و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم.

و ما ذكره بعض المحدّثين أنّ اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتّفاقها في أصل التحريف. مردود بأنّ ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.

و أمّا ما ذكرنا من شيوع الدسّ و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الاُمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهمّ أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الّذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الّذي يأوي إليه و يتحصّن به المعارف

١١٧

الدينيّة و السند الحيّ الخالد لمنشور النبوّة و موادّ الدعوة لعلمهم بأنّه لو بطلت حجّة القرآن لفسد بذلك أمر النبوّة و اختلّ نظام الدين و لم يستقرّ من بنيته حجر على حجر.

و العجب من هؤلاء المحتجّين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيّته، و ببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى و المعارف الدينيّة لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إنّ رجلا في تاريخ كذا ادّعى النبوّة و أتى بالقرآن معجزة أمّا هو فقد مات و أمّا قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا ممّا يؤيّد أمره إلّا أنّ المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أنّ القرآن الّذي جاء به كان معجزاً دالّاً على نبوّته، و الإجماع حجّة لأنّ النبيّ المذكور اعتبر حجيّته أو لأنّه يكشف مثلاً عن قول أئمّة أهل بيته؟.

و بالجملة احتمال الدسّ - و هو قريب جدّاً مؤيّد بالشواهد و القرائن - يدفع حجّيّة هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجّيّة شرعيّة و لا حجّيّة عقلائيّة حتّى ما كان منها صحيح الأسناد فإنّ صحّة السند و عدالّة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في اُصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.

و أمّا ما ذكرناه أنّ روايات التحريف تذكر آيات و سوراً لا يشبه نظمها النظم القرآنيّ بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنّه يعثر فيها بشي‏ء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللّتين رويتا بعدّة من طرق أهل السنّة فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك و سورة الحفد هي:( بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إيّاك نعبد و لك نصلّي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق) .

و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلّد النظم القرآنيّ فخرج الكلام عن الاُسلوب العربيّ المألوف و لم يبلغ النظم الإلهيّ المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها

١١٨

حتّى تشاهد صدق ما ادّعيناه و تقضي أنّ أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنّما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنّها ليست بكلام إلهيّ نظرة.

و أمّا ما ذكرنا أنّ روايات التحريف على تقدير صحّة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرّد مخالفتها لظاهر قوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قوله:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) الآيتان حتّى تكون مخالفة ظنّيّة لكون ظهور الألفاظ من الأدلّة الظنّيّة بل المراد مخالفتها للدلالة القطعيّة من مجموع القرآن الّذي بأيدينا حسب ما قرّرناه في الحجّة الاُولى الّتي أقمناها لنفي التحريف.

كيف لا؟ و القرآن الّذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقيّة و علومه الإلهيّة الكلّيّة و الجزئيّة المرتبطة بعضها ببعض المترتّبة فروعها على اُصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواصّ النظم القرآنيّ الّذي وصفه الله بها.

و الجواب عن الوجه الثاني أنّ دعوى الامتناع العاديّ مجازفة بيّنة نعم يجوّز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلّا أن تقوم قرائن تدلّ على ذلك و هي قائمة كما قدّمنا، و أمّا أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العاديّ فلا.

و الجواب عن الوجه الثالث أنّ جمعهعليه‌السلام القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شي‏ء من الحقّائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعيّة إلّا أن يكون في شي‏ء من ترتيب السور أو الآيات من السور الّتي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرّد إعراضهم عمّا جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنهعليه‌السلام في موارد شتّى و لم ينقل عنهعليه‌السلام فيما

١١٩

روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، و جبّههم على إسقاطها أو تحريفها.

و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرّزاً عن شقّ العصا فإنّما كان يتصوّر ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.

و ليت شعري هل يسعنا أن ندّعي أنّ ذاك الجمّ الغفير من الآيات الّتي يرون سقوطها و ربّما ادّعوا أنّها تبلغ الاُلوف كانت جميعاً في الولاية أو كانت خفيّة مستورة عن عامّة المسلمين لا يعرفها إلّا النزر القليل منهم مع توفّر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلّما نزل و تعلّمه و بلوغ اجتهاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نصّ على ذلك القرآن قال تعالى:( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ و قال:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤ فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنّه سقط في آية من أوّل سورة النساء بين قوله:( وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) و قوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنّة أنّ سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أنّ الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.

أو أنّ هذه الآيات - و قد دلّت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسّرين من أهل السنّة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أنّ من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.

فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدّة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسّمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتّى أبطلها الله بإمحاء

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

على أساس الاسترباح، وإنّما كان الواحد منهم يقتنى شيئاً من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدّل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه ولا يملكه ثمّ أخذت نفس التجارة وتبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال ويقتنى بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعاً من نوع واحد أو أنواع شتّى وعرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، وأضاف إلى رأس ماله فيه شيئاً من الربح بإزاء عمله في الجمع والعرض ورضى بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوّم معيشته ويحوّل إليه ثروة يقتنيها ويقيم بها صلب حياته.

فالمراد أنّ الربح الّذى هو بقيّه إلهيّة هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الّذى تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين فإنّ المؤمن إنّما ينتفع من المال بالمشروع الّذى ساقه الله إليه من طريق حلّه، وأمّا غير ذلك ممّا لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.

وقيل: إنّ الاشتراط بالإيمان في قوله:( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله والمعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحّة قولى: إنّ بقيّة الله خير لكم.

وقيل معنى الآية ثواب طاعة الله - بكون البقيّة بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين. وقيل غير ذلك.

وقوله:( وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) أي وما يرجع إلى قدرتي شئ ممّا عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق ونعمة فإنّما أنا رسول ليس عليه إلّا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شرّ منكم فهو كقوله تعالى:( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) الأنعام: ١٠٤.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إلى آخر

٣٨١

الآية، ردّ منهم لحجّة شعيب عليه، وهو من ألطف التركيب، ومغزى مرادهم أنّا في حرّيّة فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرّف به في أموالنا من وجوه التصرّف ولست تملكنا حتّى تأمرنا بكلّ ما أحببت أو تنهانا عن كلّ ما كرهت فإن ساءك شئ ممّا تشاهد منّا بما تصلّى وتتقرّب إلى ربّك وأردت أن تأمر وتنهى فلا تتعدّ نفسك لأنّك لا تملك إلّا إيّاها.

وقد أدّوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكّم واللّوم معا ومسبوكة في قالب الاستفهام الانكارىّ وهو أنّ الّذى تريده منّا من ترك عباده الأصنام، وترك ما شئنا من التصرّف في أموالنا هو الّذى بعثتك إليه صلاتك وشوّهته في عينك فأمرتك به لما أنّها ملكتك لكنك أردت منّاما أرادته منك صلاتك ولست تملكنا أنت ولا صلاتك لأنّنا أحرار في شعورنا وإرادتنا لنا أن نختار أيّ دين شئنا ونتصرّف في أموالنا أيّ تصرّف أردنا من غير حجر ولا منع ولم ننتحل إلّا ديننا الّذى هو دين آبائنا ولم نتصرّف إلّا في أموالنا ولا حجر على ذى مال في ماله.

فما معنى أن تأمرك إيّاك صلاتك بشئ ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ وبعبارة اُخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلّا سفها من الرأى؟ وإنّك لأنت الحليم الرشيد والحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا وانتقام من يراه مجرما حتّى ينجلى له وجه الصواب، والرشيد لا يقدم على أمر فيه غىّ وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهىّ الّذى لا صورة له إلّا الجهالة والغىّ؟

وقد ظهر بهذا البيان أوّلا: أنّهم إنّما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان، وهذا هو السرّ في تعبيرهم عن ذلك بقولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ ) الخ، دون أن يقولوا: أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أنّ التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك ولذلك عبّر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) ولم يقل

٣٨٢

إلى ما آمركم بتركه. والمراد - على أيّ حال - منعه إيّاهم عن عبادة الأصنام والتطفيف فافهم ذلك فإنّه من لطائف هذه الآية الّتى ملئت لطافة وحسنا.

وثانياً: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجّة في ذلك وهى أنّ هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهى سنّة قوميّة لنا، ولا ضير في الجرى على سنّة قوميّة ورثها الخلف من السلف، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنّا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا وهو دين آبائنا ونحفظ رسما ملّيّاً عن الضيعة.

وثالثا: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ) فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجّة فإنّ الشئ إذا صار مالاً لأحد لم يشكّ ذو ريب في أنّ له أن يتصرّف فيه وليس لغيره ممّن يعترف بماليّته له أن يعارضه في ذلك، وللمرء أن يسير في مسير الحياة ويتدبّر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق والاحتيال، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.

ورابعاً: أنّ قولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ - إلى قوله -إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) مبنىّ على التهكّم والاستهزاء إلّا أنّ التهكّم في تعليقهم أمر الصلاة شعيباً على تركهم ما يعبد آباؤهم، وكذا في نسبه الأمر إلى الصلاة لا غير، وأمّا نسبة الحلم والرشد إليه فليس فيها تهكّم واستهزاء، ولذلك أكّد قوله:( إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) بإنّ واللّام وإتيان الخبر جملة اسميّة ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه، وأنّ الّذى لا شكّ في حلمه ورشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهىّ، وينتهض على سلب حرّيّة الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة.

وظهر بذلك أنّ ما ذكره كثير منهم أنّهم وصفوه بالحلم والرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنّه موصوف بضدّهما وهو الجهالة والغىّ. ليس بصواب.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ) إلى آخر الآية، المراد بكونه على بيّنة من ربّه كونه على آية بيّنة وهى

٣٨٣

آية النبوّة والمعجزة الدالّة على صدق النبيّ في دعوى النبوّة، والمراد بكونه رزق من الله رزقاً حسناً أنّ الله آتاه من لدنه وحى النبوّة المشتمل على اُصول المعارف والشرائع، وقد مرّ توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدّم.

والمعنى: أخبروني إن كنت رسولاً من الله إليكم وخصّنى بوحى المعارف والشرائع وأيّدني بآية بيّنة يدلّ على صدق دعواى فهل أنا سفيه في رأيى؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهيّة؟ وهل في ذلك تحكّم منّى عليكم أو سلب منّى لحرّيّتكم؟ فإنّما هو الله المالك لكلّ شئّ ولستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، وله الحكم وإليه ترجعون.

وقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدّى بها كالميل ونحوه؟ والتقدير: اُخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.

والجملة جواب عن ما اتّهموه به أنّه يريد أن يسلب عنهم الحرّيّة في أعمالهم ويستعبدهم ويتحكّم عليهم، ومحصّله أنّه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه، وهو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتّهموه به و إنّما يريد الإصلاح ما استطاع.

توضيحه: أنّ الصنع الإلهىّ وإن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرّا في عمله له أن يميل في مظانّ العمل إلى كلّ من جانبى الفعل والترك فله بحسب هذه النشأة حرّيّة تامّة بالقياس إلى بنى نوعه الّذين هم أمثاله وأشباهه في الخلقة لهم ما له وعليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكّم على آخر عن هوى من نفسه.

إلّا أنّه أفطره على الاجتماع فلا تتمّ له الحياة إلّا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثمّ يختصّ كلّ منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعيّة، ومن البديهىّ أنّ الاجتماع لا يقوم على ساق إلّا بسنن وقوانين تجرى فيها، وحكومة يتولّاها بعضهم تحفظ النظم وتجرى القوانين كلّ ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.

فلا مناص من أن يفدى المجتمعون بعض حرّيّتهم قبال القانون والسنّة

٣٨٤

الجارية بالحرمان من الانطلاق والاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم وإحياء البعض الباقي من حرّيّتهم.

فالإنسان الاجتماعيّ لا حرّيّة له قبال المسائل الحيويّة الّتى تدعو إليه مصالح المجتمع ومنافعه، والّذى يتحكّمه الحكومة في ذلك من الأمر والنهى ليس من الاستعباد والاستكبار في شئ إذ إنّها إنّما يتحكّم فيما لاحرّيّة للإنسان الاجتماعيّ فيه، وكذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رآى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضرّ بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسيّة فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتّباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به ونهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكّما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بنى نوعه فإنّه لا حرّيّة لهم قبال المصالح العالية والأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر والنهى في هذا الباب أمراً أو نهياً له في الحقيقة بل كان أمراً ونهياً ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيّته الوسيعة، وإنّما الواحد الّذى يلقى إليهم الأمر والنهى بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.

وأمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به وينتهى هو نفسه عمّا ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله ونظره عمله، إذ الإنسان مطبوع على التحفّظ على منافعه ورعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير وهو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه، ولم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، ولذلك قالعليه‌السلام فيما ألقاه إليهم من الجواب:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) وقال أيضاً كما حكاه الله تتميماً للفائدة ودفعا لأىّ تهمة تتوجّه إليه:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الشعراء: ١٨٠.

فهوعليه‌السلام يشير بقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ ) الخ، إلى أنّ الّذى ينهاهم عنه من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم الّذى هو أحد أفراده، ويجب على الجميع مراعاتها وملازمتها، وليس اقتراحاً استعباديّاً عن هوى من نفسه، ولذلك عقّبه

٣٨٥

بقوله:( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

وملخّص المقام أنّهم لمّا سمعوا من شعيبعليه‌السلام الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف ردّوه بأنّ ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرّيّة الإنسانيّة الّتى تسوّغ لهم أن يعبدوا من شاؤا ويفعلوا في اموالهم ما شاؤا.

فردّ عليهم شعيبعليه‌السلام بأنّ الّذى يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتّى ينافى مسألتهم ذلك حرّيّتهم ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة بل هو رسول من ربّهم إليهم وله على ذلك آية بيّنة، والّذى أتاهم به من عند الله الّذى يملكهم ويملك كلّ شئ وهم عباده لا حرّيّة لهم قباله، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم.

على أنّ الّذى ألقاه إليهم من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم وسعاده أنفسهم في الدنيا والآخرة، وأمارة ذلك أنّه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، وإنّما يريد الإصلاح ما استطاع، ولا يريد منهم على ذلك أجراً إن أجره إلّا على ربّ العالمين.

وقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنّهعليه‌السلام لما ذكر لهم أنّه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة وفي ضوئها أثبت لنفسه استطاعة وقدرة وليست للعبد باستقلاله وحيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتمّ ما في كلامه من النقص والقصور بقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) أي إنّ الّذى يترشّح من إرادتى باستطاعة منّى من تدبير اُمور مجتمعكم وتوفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنّما هو بالله سبحانه لا غنى عنه ولا مخرج من إحاطته ولا استقلال في أمر دونه فهو الّذى أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، وهو الّذى يوفّق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتى منه وتوفيقي به.

بيّنعليه‌السلام هذه الحقيقة، واعترف بأنّ توفيقه بالله، وذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكلّ نفس والحافظ عليها والقائم على كلّ نفس بما كسبت كما قال:( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الفاطر: ١، وقال:( وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ

٣٨٦

شَيْءٍ حَفِيظٌ ) السبأ: ٢١، وقال:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد: ٣٣، وقال:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ) الفاطر: ٤١ ومحصّله أنّه تعالى هو الّذى أبدع الأشياء وأعمالها والروابط الّتى بينها وأظهرها بالوجود، وهو الّذى قبض على كلّ شئ فأمسكه وأمسك آثاره والروابط الّتى بينها أن تزول وتغيب وراء ستر البطلان.

ولازم ذلك أنّه تعالى وكيل كلّ شئ في تدبير اُموره فهى منسوبة إليه تعالى في تحقّقها وتحقّق الروابط الّتى بينها لما أنّه محيط بها قاهر عليها، ولها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشئ بإذنه تعالى.

ومن الواجب للعبد العالم بمقام ربّه العارف بهذه الحقيقة أن يمثّلها بإنشاء التوكّل على ربّه والإنابة والرجوع إليه، ولذلك لمّا ذكر شعيبعليه‌السلام أنّ توفيقه بالله عقّبه بإنشاء التوكّل والإنابة فقال:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

( كلام في معنى حرّيّة الإنسان في عمله)

الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور وإرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل وبعبارة اُخرى له في كلّ فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك فكلّ فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقى فيها طريقان: الفعل والترك فهو مضطرّ في التلبّس والاتّصاف بأصل الاختيار لكنّه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره أي إنّه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل والترك بحسب الفطرة غير مقيّد بشئ من الجانبين ولا مغلول، وهو المراد بحرّيّة الإنسان تكوينا.

ولازم هذه الحرّيّة التكوينيّة حرّيّة اُخرى تشريعيّة يتقلّد بها في حياته الاجتماعيّة وهو أنّ له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل، وليس لأحد من بنى نوعه أن يستعلى عليه فيستعبده ويتملّك إرادته وعمله

٣٨٧

فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإنّ أفراد النوع أمثال لكلّ منهم ما لغيره من الطبيعة الحرّة، قال تعالى:( وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤ وقال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ - إلى أن قال -ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٧٩.

هذا ما للإنسان بالقياس إلى امثاله من بنى نوعه، وأمّا بالقياس إلى العلل والأسباب الكونيّة الّتى أوجدت الطبيعة الإنسانيّة فلا حرّيّة له قبالها فإنّها تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلّبه ظهرا لبطن، وهى الّتى بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان والخواصّ من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبّه ويردّ ما يكرهه بل كان كما اُريد لا كما أراد حتّى أنّ أعمال الإنسان الاختياريّة وهى ميدان الحرّيّة الإنسانيّة إنّما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل والأسباب فليس كلّ ما أحبّه الإنسان وأراده بواقع ولا هو في كلّ ما اختاره لنفسه بموفّق له، وهو ظاهر.

وهذه العلل والأسباب هي الّتى جهّزت الإنسان بجهازات تذكّره حوائجه ونواقص وجوده، وتبعثه إلى أعمال فيها سعادته وارتفاع نواقصه وحوائجه كالغاذية مثلاً الّتى تذكّره الجوع والعطش وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشبع والرىّ وهكذا سائر الجهازات الّتى في وجوده.

ثمّ إنّ هذه العلل والأسباب أوجبت إيجاباً تشريعيّاً على الإنسان الفرد أموراً ذات مصالح واقعيّة لا يسعه إنكارها ولا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل والشرب والإيواء والاتّقاء من الحرّ والبرد والدفاع تجاه كلّ ما يضادّ منافع وجوده.

ثم أفطرته بالحياة الاجتماعيّة فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلىّ والمدنىّ والسير في مسير التعاون والتعامل، ويضطرّه ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرّيّة من جهتين:

إحداهما: أنّ الاجتماع لا يتمّ من الفرد إلّا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا

٣٨٨

متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، ويحرم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بل هو حرّ فيما لا يزاحم حرّيّة الآخرين، وهذا حرمان عن بعض الحرّيّة للحصول على بعضها.

وثانيتهما: أنّ المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجرى فيه سنن وقوانين يتسلّمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن والقوانين منافعهم العامّة بحسب ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطّة الرديّة، ويستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعيّة.

ومن المعلوم أنّ احترام السنن والقوانين يسلب الحرّيّة عن المجتمعين في مواردها فالذي يستنّ سنّة أو يقنّن قانونا سواء كان هو عامّة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله ورسوله - على حسب اختلاف السنن والقوانين - يحرم الناس بعض حرّيّتهم ليحفظ به البعض الآخر منها، قال الله تعالى:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) القصص: ٦٨، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) الأحزاب: ٣٦.

فتلخّص أنّ الإنسان إنّما هو حرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، وأمّا بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة وخاصّة المصالح الاجتماعيّة العامّة على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب فلا حرّيّة له البتّة، ولا أنّ الدعوة إلى سنّة أو أيّ عمل يوافق المصالح الإنسانيّة من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرّع الّذى يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسّكا بحجّة بيّنة، من التحكّم الباطل وسلب الحرّيّة المشروعة في شئ.

ثمّ إنّ العلل و الأسباب المذكورة وما تهدى إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه - على ما يهدى إليه ويبيّنه تعليم التوحيد في الإسلام - فهو سبحانه

٣٨٩

المالك على الإطلاق، وليس لغيره إلّا المملوكيّة من كلّ جهة، ولا للإنسان إلّا العبوديّة محضاً فمالكيّته المطلقة تسلب أيّ حرّيّة متوهّمة للإنسان بالنسبة إلى ربّه كما أنّها هي تعطيه الحرّيّة بالقياس إلى سائر بنى نوعه كما قال تعالى:( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤.

فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق والمطاع من غير قيد وشرط كما قال:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) وقد أعطى حقّ الأمر والنهى والطاعة لرسله ولاُولى الأمر وللمؤمنين من الاُمّة الإسلاميّة فلا حرّيّة لأحد قبال كلمة الحقّ الّتى يأتون به ويدعون إليه، قال تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: ٥٩، وقال تعالى:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) التوبة: ٧١.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ) الجرم بالفتح فالسكون - على ما ذكره الراغب - قطع الثمرة عن الشجر وقد استعير لكلّ اكتساب مكروه، والشقاق المخالفة والمعاداة. والمعنى: احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي ومعاداتى بسبب ما أدعوكم إليه إصابة مصيبة مثل مصيبة قوم نوح وهى الغرق أو قوم هود وهى الريح العقيم أو قوم صالح وهى الصيحة والرجفة.

وقوله:( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ) أي لا فصل كثيراً بين زمانهم وزمانكم وقد كانت الفاصلة الزمانيّة بين القومين أقلّ من ثلاثة قرون، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيمعليهما‌السلام وشعيب معاصراً لموسىعليهما‌السلام .

وقيل: المراد به نفى البعد المكانىّ، والإشارة إلى أنّ بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم وهو بالأرض المقدّسة، فالمعنى: وما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة. والسياق لا يساعد عليه

٣٩٠

والتقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلّا بدليل.

قوله تعالى: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) قد تقدّم الكلام في معنى قوله:( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي استغفروا الله من ذنوبكم وارجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله إنّ الله ذو رحمة ومودّة يرحم المستغفرين التائبين ويحبّهم.

وقد قال أوّلا:( َاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) فأضاف الربّ إليهم ثمّ قال في مقام تعليله:( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ولعلّ الوجه فيه أنّه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيّته لأنّها الصفة الّتى ترتبط بها العبادة ومنها الاستغفار والتوبة، وأضاف ربوبيّته إليهم بقوله:( رَبَّكُمْ ) لتأكيد الارتباط و للإشعار بأنّه هو ربّهم لا ما يتّخذونها من الأرباب من دون الله.

وكان من حقّ الكلام أن يقول في تعليله: إنّ ربّكم رحيم ودود لكنّه لمّا كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، وقد أثبت سابقا أنّه ربّ القوم أضافه ثانياً إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى إنّ ربّكم وربّى رحيم ودود.

على أنّ في هذه الإضافة معنى المعرفة والخبرة فتفيد تأييداً لصحّة القول فإنّه في معنى أنّه تعالى رحيم ودود وكيف؟ لا وهو ربّى أعرفه بهذين الوصفين.

والودود من أسماء الله تعالى، وهو فعول من الود بمعنى الحبّ إلّا أنّ المستفاد من موارد استعماله أنّه نوع خاصّ من المحبّة وهو الحبّ الّذى له آثار وتبعات ظاهرة كالإلفة والمراودة والإحسان، قال تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ) الروم: ٢١.

والله سبحانه يحبّ عباده ويظهر آثار حبّه بإفاضة نعمه عليهم( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) إبراهيم: ٣٤ فهو تعالى ودود لهم.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) إلى آخر الآية، الفقه أبلغ من الفهم وأقوى، ورهط الرجل عشيرته وقومه، وقيل: إنّه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة وعلى هذا ففى قولهم: رهطك، إشارة إلى قلّتهم

٣٩١

وهوان أمرهم، والرجم هو الرمى بالحجارة.

لمّا حاجّهم شعيبعليه‌السلام وأعياهم بحجّته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجّة فذكروا له:

أوّلا: أنّ كثيراً ممّا يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغى لا أثر له، وهذا كناية عن أنّه يتكلّم بما لا فائدة فيه.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) أي لا نفهم ما تقول ولست قويّاً فينا حتّى تضطرّنا قوّتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه، والسمع والقبول له فإنّا لا نراك فينا إلّا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله.

ثمّ هدّدوه بقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي ولو لا هذا النفر القليل الّذين هم عشيرتك لرجمناك لكنّا نراعى جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنّهم لو أرادوا قتله يوماً قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنّما كفّهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) تأكيداً لقولهم:( َلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي لست بقوىّ منيع جانباً علينا حتّى يمنعنا ذلك من قتلك بشرّ القتل، وإنّما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصّل قولهم إهانة شعيب و أنّهم لا يعبؤن به ولا بما قال، وإنّما يراعون في ترك التعرّض له جانب رهطه.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) الظهرىّ نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة وإنّما غيّر بالنسب وهو الشئ الّذى وراء الظهر فيترك نسيا منسيّا يقال: اتّخذه وراءه ظهريّا أي نسيه ولم يذكره ولم يعتن به.

وهذا نقض من شعيب لقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي كيف تعزّزون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعزّزون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإنّى أنا الّذى أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعزّ عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا

٣٩٢

منسيّا وليس لكم ذلك وما كان لكم أن تفعلوه إنّ ربّى بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكلّ شئ وجوداً وعلماً وقدرة. وفي الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: المكانة الحال الّتى يتمكّن بها صاحبها من عمل. انتهى وهو في الأصل - كما قيل - من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوى على العمل كلّ القوّة ويقال: تمكّن من كذا أي أحاط به قوّة.

وهذا تهديد من شعيب لهم أشدّ التهديد فإنّه يشعر بأنّه على وثوق ممّا يقول لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمرّدهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوّة والتمكّن فلهم عملهم وله عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الّذى يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا - إلى قوله -جَاثِمِينَ ) تقدّم ما يتّضح به معنى الآية.

قوله تعالى: ( كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) غنى في المكان إذا أقام فيه. وقوله:( أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ ) الخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود، وقد تقدّم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ: قال: قال بعث الله شعيبا إلى مدين وهى قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) قال: كان سعرهم رخيصا.

وفيه عن محمّد بن الفضيل عن الرضاعليه‌السلام قال: سألته عن انتظار الفرج فقال:

٣٩٣

أو ليس تعلم أنّ انتظار الفرج من الفرج؟ ثمّ قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) .

أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لاتعلم وهى لغة مولّدة.

وفي المعاني بإسناده عن عبدالله بن الفضل الهاشميّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قلت: فقوله عزّوجلّ:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) وقوله عزّوجلّ:( إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ) ؟ فقال: إذا فعل العبد ما أمر الله عزّوجلّ به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عزّوجلّ وسمّى العبد موفّقا، وإذا أراد العبد أن يدخل في شئ من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ومتى خلّى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتّى يتركها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفّقه.

أقول: محصّل بيانهعليه‌السلام أنّ توفيقه تعالى وخذلانه من صفاته الفعليّة فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدّى العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب الّتى يستعان بها على المعصية. والخذلان خلاف ذلك. وعلى ذلك فمتعلّق التوفيق الأسباب لأنّه إيجاد التوافق بينها وهى المتّصفة بها، وأمّا توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلّق.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن علىّ قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: قل: ربّى الله ثمّ استقم. قلت: ربّى الله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت واليه اُنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا ونهلته نهلا.

أقول: وقد تقدّمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.

وفيه أخرج الواحدى وابن عساكر عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بكى شعيبعليه‌السلام من حبّ الله حتّى عمى فردّ الله عليه بصره، وأوحى الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أشوقا إلى الجنّة أم خوفا من النار؟ فقال: لا ولكن اعتقدت حبّك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما اُبالى ما الّذى تصنع بى؟ فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقّا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمى.

٣٩٤

أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبىّ دون النظر الحسّىّ المستلزم للجسميّة، تعالى عن ذلك، وقد تقدّم توضيحه في تفسير قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ) الأعراف: ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب.

وفيه أخرج أبوالشيخ عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام ، أنّه خطب فتلا هذه الآية في شعيب:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف.( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) قال علىّ: فو الله الّذى لا إله غيره ما هابوا جلال ربّهم ما هابوا إلّا العشيرة.

( كلام في قصة شعيب وقومه في القرآن في فصول)

١ - قصّته عليه‌السلام : هوعليه‌السلام ثالث الرسل من العرب الّذين ذكرت أسماؤهم في القرآن وهم هود وصالح وشعيب ومحمّدعليهم‌السلام ذكر الله تعالى طرفاً من قصصه في سور الأعراف وهود والشعراء والقصص والعنكبوت.

كانعليه‌السلام من أهل مدين - مدينة في طريق الشام من الجزيرة - وكان معاصراً لموسىعليه‌السلام ، وقد زوّجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثمانى حجج وإن أتمّ عشراً فمن عنده ( القصص: ٢٧ ) فخدمه موسى عشر سنين ثمّ ودّعه وسار بأهله إلى مصر.

وكان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام وكانوا قوماً منعمين بالأمن والرفاهية والخصب ورخص الأسعار فشاع الفساد بينهم والتطفيف بنقص المكيال والميزان ( هود: ٨٤ وغيره ) فأرسل الله إليهم شعيبا وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان فدعاهم إلى ما اُمر به ووعظهم بالإنذار والتبشير وذكّرهم ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

وبالغعليه‌السلام في الاحتجاج عليهم وعظتهم فلم يزدهم إلّا طغياناً وكفراً وفسوقاً ( الأعراف وهود وغيرهما من السور ) ولم يؤمنوا به إلّا عدّة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم والسخريّة بهم وتهديدهم عن اتّباع شعيبعليه‌السلام ، وكانوا يقعدون بكلّ صراط يوعدون ويصدّون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا ( الأعراف: ٨٦ ).

٣٩٥

وأخذوا يرمونهعليه‌السلام بأنّه مسحور وأنّه كاذب ( الشعراء: ١٨٥، ١٨٦ ) وأخافوه بالرجم، وهدّدوه والّذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودنّ في ملّتهم ( الأعراف: ٨٨ ) ولم يزالوا به حتّى أيأسوه من إيمانهم فتركهم وأنفسهم ( هود: ٩٣ ) ودعا الله بالفتح قال: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلّة ( الشعراء: ١٨٩ ) وقد كانوا يستهزؤن به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين وأخذتهم الصيحة ( هود: ٩٤ ) والرجفة ( الأعراف: ٩١ - العنكبوت: ٣٧ ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ونجّى شعيبا ومن معه من المؤمنين ( هود: ٩٤ ) فتولّى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّى و نصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ( الأعراف: ٩٣ ).

٢ - شخصيّته المعنويّة : كانعليه‌السلام من زمرة الرسل المكرمين وقد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، وقد حكى عنه فيما كلّم به قومه وخاصّة في سور الأعراف وهود والشعراء شيئاً كثيراً من حقائق المعارف والعلوم الإلهيّة والأدب البارع مع ربّه ومع الناس.

وقد سمّى نفسه الرسول الأمين ( الشعراء: ١٧٨ ) ومصلحا ( هود: ٨٨ ) وأنّه من الصالحين ( الشعراء: ٢٧ ) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، وقد خدمه الكليم موسى بن عمرانعليه‌السلام زهاء عشر سنين سلام الله عليه.

٣ - ذكره في التوراة : لم تقصّ التوراة قصّته مع قومه وإنّما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصّة قتل موسى القبطىّ وفراره من مصر إلى مديان ( القصّة ) فسمّته( رعوئيل كاهن مديان) (١) .

____________________

(١) الاصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة.

٣٩٦

( سورة هود آية ٩٦ - ٩٩)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ( ٩٦) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ( ٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ( ٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ( ٩٩)

( بيان)

إشارة إلى قصّة موسى - الكليم -عليه‌السلام ، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن ذكر بإسمه في مائة ونيّف وثلاثين موضعاً منه في بضع وثلاثين سورة وقد اعتنى بتفصيل قصّته أكثر من غيره غير أنّه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجماليّة إليها.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) الباء في قوله بآياتنا للمصاحبة أي ولقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا وذلك أنّ الّذين بعثهم الله من الأنبياء والرسل وأيّدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من اُوتى الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالحعليه‌السلام المؤيّد بآية الناقة، وطائفة اُيّدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى وعيسى ومحمّدعليهم‌السلام ، كما قال تعالى خطابا لموسىعليه‌السلام :( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ) طه: ٤٢، وقال في عيسىعليه‌السلام :( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) الخ، آل عمران: ٤٩، وقال في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ ) الصفّ: ٩، والهدى القرآن بدليل قوله:( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) البقرة ٢، وقال تعالى:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ) الأعراف: ١٥٧.

٣٩٧

فموسىعليه‌السلام مرسل مع آيات وسلطان مبين، وظاهر أنّ المراد بهذه الآيات الاُمور الخارقة الّتى كانت تجرى على يده، ويدلّ على ذلك سياق قصصهعليه‌السلام في القرآن الكريم.

وأمّا السلطان وهو البرهان والحجّة القاطعة الّتى يتسلّط على العقول والأفهام فيعمّ الآية المعجزة والحجّة العقليّة، وعلى تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العامّ على الخاصّ.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أنّ الله سبحانه سلّطه على الأوضاع الجارية بينه وبين آل فرعون ذاك الجبّار الطاغى الّذى ما ابتلى بمثله أحد من الرسل غير موسىعليه‌السلام لكنّ الله تعالى أظهر موسى عليه حتّى أغرقه و جنوده ونجّى بنى اسرائيل بيده، ويشعر بهذا المعنى قوله:( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) طه: ٤٦، وقوله لموسىعليه‌السلام :( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ) طه: ٦٨.

وفي هذه الآية ونظائرها دلالة واضحة على أنّ رسالة موسىعليه‌السلام ما كانت تختصّ بقومه من بنى اسرائيل بل كانت تعمّهم وغيرهم.

قوله تعالى: ( إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) نسبة رسالته إلى فرعون وملإه - والملأهم أشراف القوم وعظماؤهم الّذين يملؤن القلوب هيبة - دون جميع قومه لعلّها للإشارة إلى أنّ عامّتهم لم يكونوا إلّا أتباعاً لا رأى لهم إلّا ما رآه لهم عظماؤهم.

وقوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) الخ، الظاهر أنّ المراد بالأمر ما هو الأعمّ من القول والفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله:( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) المؤمن: ٢٩، فينطبق على السنّة والطريقة الّتى كان يتّخذها ويأمر بها. وكأنّ الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذّبه الله تعالى بقوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) .

والرشيد فعيل من الرشد خلاف الغىّ أي وما أمر فرعون بذى رشد حتّى

٣٩٨

يهدى إلى الحقّ بل كان ذا غىّ وجهالة، وقيل: الرشيد بمعنى المرشد.

وفي الجملة أعنى قوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) وضع الظاهر موضع المضمر والأصل( أمره ) ولعلّ الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد الأمر ولا يستفاد ذلك من الضمير البتّة.

قوله تعالى: ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) أي يقدم فرعون قومه فإنّهم اتّبعوا أمره فكان إماماً لهم من أئمّة الضلال، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) القصص: ٤١.

وقوله:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار، والتعبير بلفظ الماضي لتحقّق الوقوع، وربّما قيل: تفريع على قوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) أي اتّبعوه فأوردهم الاتّباع النار وقد استدلّ لتأييد هذا المعنى بقوله:( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) المؤمن: ٤٦ حيث تدلّ الآيات على تعذيبهم من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، ولا يخفى أنّ الآيات ظاهرة في خلاف ما استدلّ بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوّاً وعشيّاً، وفي يوم القيامة بالدخول في أشدّ العذاب الّذى سجّل فيها أنّه النار.

وقوله:( وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) الورد هو الماء الّذى يرده العطاش من الحيوان والإنسان للشرب، قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد والماء مورود. وقد أوردت الإبل الماء قال:( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) والورد الماء المرشّح للورود.انتهى.

وعلى هذا ففى الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية الّتى يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الّذى يقصده العطشان فعذب السعادة الّتى يقصدها الإنسان بأعماله ورد يرده، وسعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله والجنّة لكنّهم لما غووا باتّباع أمر فرعون وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقيّة تبدّلت غايتهم إلى النار فكانت النار هو الورد الّذى يردونه، وبئس الورد المورود، لأنّ الورد هو الّذى

٣٩٩

يخمد لهيب الصدر ويروى الحشا العطشان وهو عذب الماء ونعم المنهل السائغ وأمّا إذا تبدّل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود.

قوله تعالى: ( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) أي هم اتّبعوا إمر فرعون فاتّبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا وإبعاد من رحمته وطرد من ساحة قربه، ومصداق اللعن الّذى اُتبعوه هو الغرق، أو أنّه الحكم منه تعالى بإبعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الّذى من آثاره الغرق وعذاب الآخرة.

وقوله:( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) الرفد هو العطيّة والأصل في معناه العون، وسمّيت العطيّة رفداً ومرفوداً لأنّه عون للآخذ على حوائجه، والمعنى وبئس الرفد رفدهم يوم القيامة وهو النار الّتى يسجرون فيها، والآية نظيرة قوله في موضع آخر:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) القصص: ٤٢.

وربّما اُخذ:( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فى الآية ظرفاً متعلّقاً بقوله:( َأُتْبِعُوا ) أو بقوله:( لَعْنَةً ) نظير قوله:( فِي هَذِهِ ) ، والمعنى: وأتبعهم الله في الدنيا والآخرة لعنة أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا والآخرة ثمّ استونف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن الّذى اُتبعوه أو الإتباع باللعن.

تمّ والحمد الله

٤٠٠

401

402

403

404

405

406