الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109331
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109331 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المثل أو العشرة الأمثال نظير ما يفيده قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) النساء: ١٧٣.

ولو كان المراد بالحسنى في قوله:( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ ) العاقبة الحسنى، وليس فيما يعقل فوق الحسنى شئ كان معنى قوله:( وَزِيَادَةٌ ) الزيادة على ما يعقله الإنسان من الفضل الإلهىّ كما يشير إليه قوله:( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) الم السجدة: ١٧ وما في قوله:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ق: ٣٥ فإنّ من المعلوم أنّ كلّ أمر حسن يشاؤه الإنسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك.

والرهق بفتحتين اللحوق والغشيان يقال: رهقه الدّين أي لحق به وغشيه، والقتر الدخان الأسود أو الغبار الأسود، وفي توصيفهم بقوله:( وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ) محاذاة لما في الآية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر وهو سواد صوريّ والذلّة وهى سواد معنوىّ.

والمعنى: للّذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى وزيادة من فضل الله - أو العاقبة الحسنى وزيادة لا تخطر ببالهم - ولا يغشى وجوههم سواد من قتر ولا ذلّة، واُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) إلى آخر الآية، جملة( جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ) مبتدء لخبر محذوف والتقدير: لهم جزاء سيّئة بمثلها من العذاب، والجملة خبر للمبتدء الّذى هو قوله:( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ ) والمراد أنّ الّذين كسبوا السيّئات لا يجزون إلّا مثل ما عملوه من العقوبات السيّئة فجزاء فعلة سيّئة عقوبة سيّئة.

وقوله:( مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ ) أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه وفيه نفى لشركائهم الّذين يظنّونهم شفعاء على وجه ينفى كلّ عاصم مانع سواء كان شريكاً شفيعاً أو ضدّاً قويّاً ممانعاً أو أيّ عاصم غيرهما.

وقوله:( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ) القطع جمع قطعة

٤١

ومظلما حال من الليل، والمراد كأنّ اللّيل المظلم قسّم إلى قطع فاُغشيت وجوههم تلك القطع فاسودّت بالتمام، والمتبادر منه أن يغشى وجه كلّ من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسّره بعضهم أنّ المراد أنّ الوجوه اُغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض. فليس في الكلام ما يدلّ على ذلك.

وقوله:( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) يدلّ على دوام بقائهم في النار للدلالة الصحابة والخلود عليه كما أنّ نظيره في أصحاب الجنّة يدلّ على نظيره.

قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ) إلى آخر الآية. المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين والمشركين وشركائهم فإنّه تعالى يذكر المشركين وشركاءهم في هذه الآية وما يتلوها ثمّ يشير إلى الجميع بقوله في الآية التالية:( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ) .

وقوله:( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ) أي الزموا مكانكم أنتم وليلزم شركاؤكم مكانهم وتفرّع على هذا الخطاب أن زيّلنا بينهم، وقطعنا الرابطة الّتى كانت تربطهم بشركائهم وهى رابطة الوهم والحسبان الّتى يتّصلون بسببها بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم فبان أنّ عبادتهم لم تقع عليهم ولم تتعلّق بهم لأنّهم إنّما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء.

والدليل على هذا الّذى ذكرناه قوله تعالى بعده:( وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) فالكلام على ظاهره من النفى الجدّىّ الصادق لعبادتهم إيّاهم، وليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، ولا أنّهم يريدون أنّا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإنّ الكلام لا يلائم هذا المعنى، ولا أنّ مرادهم التعريض لهم بأنّكم كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم المغوين لكم في الحقيقة فإنّ ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، وكذا لا يلائمه قوله بعده:( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ) الخ، على ما سيجئ من معناه بل مرادهم نفى العبادة حقيقة

٤٢

بنفى حقيقة الشركة، والاستشهاد على ذلك بشهادة الله وعلمه بغفلتهم عن عبادتهم.

والعبادة الّتى هي اتّصال ما بالمملوكيّة والتذلّل من العابد بالمعبود إنّما تكون عبادة إذا اتّصلت وارتبطت بالمعبود - حتّى يتمّ به معنى اللّام في قولنا: العبادة له - ولا يكون ذلك إلّا بشعور من المعبود وعلم منه بذلك فإذا لم يتحقّق هناك علم لم تتحقّق عبادة حقيقة، وإنّما هي صورة عبادة.

فقد تبيّن أنّ المراد بقوله:( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) إظهاره وإبرازه تعالى يومئذ حقيقة الأمر الّذى سترت عليه الأوهام وحجبته الأهواء في الدنيا وهو أنّ حقيقة المولويّة ومالكيّة زمان التدبير لله سبحانه وليس لغيره من المولويّة والربوبيّة شئ حتّى يصحّ الالتجاء إليه وتصدق عبادته.

فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقد يومئذ بان للمشركين أنّ شركاءهم لم يكونوا شركاء ولا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، وإنّما كانوا يأتون لهم بصورة العبادة الّتى كان الوهم والهوى يصوّرانها عبادة وليست بها.

وإليه يشير أيضاً قوله تعالى:( وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ) النحل: ٨٦.

وقد تبيّن بذلك أيضاً أنّ قوله:( وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) قول من شركائهم لهم على الجدّ والحقيقه، ويظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنّكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا لا أنّكم لم تعبدونا أصلا لأنّ ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الآخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح.

فإنّ نفى أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حقّ الصدق، وإثبات العبادة وإن لم يكن كذبا إلّا أنّه لا يخلو عن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الأمر على أنّ ما ذكره أنّ المراد نفى العبادة بأمرهم ودعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللّفظ.

على أنّ الكذب إنّما لا يقع في الآخرة إذا كان عملاً وكسباً وأمّا بمعنى

٤٣

نتيجة الملكات الدنيويّة فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله:( ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) الانعام: ٢٤ وغيره من الآيات.

وكذا قول بعضهم: أنّ المراد ما كنتم تخصّوننا بالعبادة، وإنّما كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم - فإنّ صدق عبادة الأهواء والشيطان على عملهم من جهة أنّه اتّباع للهوى والشيطان لا ينفى عنه صدق كونه عبادة للأصنام كما أنّه تعالى يصدّق في كلامه الجهات الثلاث جميعاً، قال تعالى:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ) يونس: ١٨، وقال:( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) الجاثية: ٢٣، وقال:( أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) يس: ٦٠.

ومن المعلوم أنّ الشركاء يحتجّون لنفى كونهم معبودين لهم لا لإثبات كون الهوى والشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإنّ هذا لا ينفعهم في الحجّة البتّة، ويستلزم لغويّة إثباتهم الغفلة لأنفسهم في قولهم:( إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) لأنّ الأهواء أيضاً ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أنّ الأصنام وهى أجسام ميّتة كذلك.

ولعلّ القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله:( مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) بتقديم المفعول على فعله، وظاهره أنّه قصر قلب مدلوله نفى المعبوديّة عن أنفسهم وإثباته لغيرهم، ليس نفياً لأصل العبادة فإنّهم يثبتونها في قولهم:( عَنْ عِبَادَتِكُمْ ) فإنّ إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت.

لكنّ الحقّ أنّ هؤلاء الشركاء إنّما قالوا لهم:( مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) تجاه ما قاله المشركون على ما حكاه الله:( رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ ) النحل: ٨٦ فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه وأثبتوها للشركاء، والشركاء لم يكن ينفعهم إلّا نفى عبادة المشركين عن أنفسهم، وأمّا أنّها ثابتة لمن؟ فلا غرض لهم يتعلّق بذلك وإنما همّهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، وقد احتجّوا على ذلك بإثبات الغفلة

٤٤

عن ذلك لأنفسهم، ولو كانوا شاعرين بعبادتهم وعبدوهم كان لزمهم أعنى الشركاء دعوى الشركة.

قوله تعالى: ( فَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) إلى آخر الآية، ظهر معناه بما مرّ من التقرير، والفاء في قوله:( فَكَفَىٰ بِاللهِ ) يفيد التعليل كقولنا: اعبد الله فهو ربّك، وهو شائع في الكلام.

قوله تعالى: ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ) إلى آخر الآية، البلاء الاختبار، والإشارة بقوله:( هُنَالِكَ ) إلى الموقف الّذى ذكره بقوله:( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) .

فذلك الموقف موقف تختبر وتمتحن كلّ نفس ما أسلفت وقدمت من الأعمال فتنكشف لها حقيقة أعمالها وتشاهدها مشاهدة عيان لا مجرّد الذكر أو البيان، وبمشاهدة الحقّ من كلّ شئ عياناً ينكشف أنّ المولى الحقّ هو الله سبحانه، وتسقط وتنهدم جميع الأوهام، وتضلّ جميع الدعاوى الّتى يفتريها الإنسان بأوهامه وأهوائه على الحقّ.

فهذه الافتراءات والدعاوى جميعاً إنّما نشأت من حيث الروابط الّتى نضعها في هذه الدنيا بين الأسباب والمسبّبات والاستقلال والمولويّة الّتى نعطيها الأسباب ولا إله إلّا الله ولا مولى حقّاً إلّا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الأمر، وانكشف غيم الوهم وانهتك حجاب الدعاوى ظهر أن لا مولى حقّاً إلّا هو سبحانه، وبطل جميع الإلهة الّتى إنّما أثبتها الافتراء من الإنسان، وسقطت وحبطت جميع الأعمال إلّا ما عبد به الله سبحانه عبادة حقّ.

فالفقرات الثلاث من الآية أعنى قوله:( تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ) الخ، وقوله:( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ ) الخ، وقوله:( وَضَلَّ عَنْهُم ) الخ، كلّ منها تعيّن الاُخريين على إفادة حقيقة معناها، ومحصّل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولآية الإلهيّة يومئذ ظهور عيان وأن ليس لغيره تعالى إلّا الفقر والمملوكيّة المحضة فيبطل عند ذلك كلّ دعوى باطلة وينهدم بنيان الأوهام.

٤٥

كما يشير إلى ذلك قوله:( هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) الكهف: ٤٤، وقوله:( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، وقوله:( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ) الانفطار: ١٩، إلى غير ذلك.

( بحث روائي)

في أمالى المفيد بإسناده إلى ابى إسحاق الهمدانيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام فيما كتب إلى محمّد بن أبى بكر حين ولّاه مصر وأمره أن يقرأه على الناس، وفيما كتب: قال الله تعالى:( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ) والحسنى هي الجنّة والزيادة هي الدنيا.

وفي تفسير القمّىّ في روآية أبى الجارود عن أبى جعفرعليه‌السلام في الآية: فأمّا الحسنى فهى الجنّة، وأمّا الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا يحاسبهم الله في الآخرة، ويجمع الله لهم ثواب الدنيا والآخرة. الحديث.

أقول: والروايتان ناظرتان إلى المعنى الأوّل الّذى قدّمناه في البيان المتقدّم وروى ما في معنى الثاني الطبرسيّ في المجمع عن الباقرعليه‌السلام .

وفي تفسير البرهان روى في نهج البيان عن علىّ بن إبراهيم قال: قال: الزيادة هبة الله عزّوجلّ.

وفي الدرّ المنثور أخرج الدار قطنيّ وابن مردويه عن صهيب في الآية قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الزيادة النظر إلى وجه الله.

أقول: وروى هذا المعنى بعدّة طرق من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تقدّم توضيح معناها في تفسير قوله تعالى:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب.

وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله:( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ) قال: أما ترى البيت إذا كان الليل

٤٦

كان أشدّ سواداً من خارج فكذلك وجوههم يزدادون سوادا.

أقول: ورواه العيّاشيّ عن أبى بصير عنهعليه‌السلام وكأنّهعليه‌السلام يريد تفسير القطع من اللّيل الواقعة في الآية.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبوالشيخ عن السدّىّ في قوله:( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ) قال: نسختها قوله:( مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) .

أقول: وهو من أسخف القول بل الايتان ناظرتان إلى جهتين مختلفتين من المعنى وهما الظاهر والباطن.

٤٧

( سورة يونس آية ٣١ - ٣٦)

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ( ٣١) فَذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ( ٣٢) كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ( ٣٣) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ( ٣٤) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( ٣٥) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ( ٣٦)

( بيان)

حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبيّة يأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامتها على المشركين، وهى ثلاث حجج مرتّبة بحسب الدقّة والمتانة فالحجّة الاُولى تسلك من الطريق الّذى يعتبره الوثنيّون وعبدة الأصنام فإنّهم إنّما يعبدون أرباب الأصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلّا منهم لأجل ما يخصّ به من الشأن، وما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمّن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه وعقابه كما كان يعبد سكّان السواحل ربّ البحر، وأهل الجبال وأهل البرّ وأهل العلوم والصنائع وأهل الحروب والغارات

٤٨

وغيرهم كلّ يعبد من يناسب تدبيره الشأن الّذى يهمّه ليرضى عنه ربّه فيبارك عليه برضاه أو يكفّ عنه غضبه.

ومحصّل الحجّة أنّ تدبير العالم الإنسانيّ وسائر الموجودات جميعاً يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب أن يوحّدوه بالربوبيّة ولا يعبدوا إلّا إيّاه.

والحجّة الثانية ما يعتبره عامّة المؤمنين، وذلك أنّهم لا يلتفتون كثيراً إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادّة، وإنّما جلّ اعتنائهم بالحياة الدائمة الاُخرويّة الّتى تتعيّن سعادتها وشقاوتها بالجزاء الإلهىّ بأعمالهم فإذا قامت البيّنة العقليّة على الإعادة كالبدء كان من الواجب أن لا يعبد إلّا الله سبحانه، ولا يتّخذ أرباب من دونه طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه.

والحجّة الثالثة وهى الّتى تحنّ إليها قلوب الخاصّة من المؤمنين وهى أنّ المتّبع عند العقل هو الحقّ، ولمّا كان الحقّ سبحانه هو الهادى إلى الحقّ دون ما يدعونه من الأرباب من دون الله فليكن هو المتّبع دون ما يدعونه من الأرباب، وسيأتى في تفسير الآيات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء إن شاء الله.

ولو لا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر أن تذكر أوّلاً الحجّة الثانية ثمّ الثالثة ثمّ الاُولى أو تذكر الثانية ثمّ يجمع بين الاُولى والثالثة فيذكر بعدها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ) إلى آخر الآية. الرزق هو العطاء الجارى، ورزقه تعالى للعالم الإنسانيّ من السماء هو نزول الأمطار والثلوج ونحوه، ومن الأرض هو بإنباتها نباتها وتربيتها الحيوان ومنهما يرتزق الإنسان، وببركة هذه النعم الإلهيّة يبقى النوع الإنسانيّ و المراد بملك السمع والأبصار كونه تعالى متصرّفاً في الحواسّ الإنسانيّة الّتى بها ينتظم له أنواع التمتّع من الأرزاق المختلفة الّتى أذن الله تعالى أن يتمتّع بها فإنّما هو يشخّص ويميّز ما يريده ممّا لا يريده بإعمال السمع والبصر واللمس و الذوق والشمّ

٤٩

فيتحرّك نحو ما يريده، ويتوقّف أو يفرّ ممّا يكرهه بها.

فالحواسّ هي الّتى تتمّ بها فائده الرزق الإلهىّ، وإنّما خصّ السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيويّة أكثر من غيرهما، والله سبحانه هو الّذى يملكهما ويتصرّف فيهما بالإعطاء والمنع والزيادة والنقيصة.

وقوله:( وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) الحياة بحسب النظر البادئ في الإنسان هي المبدء الّذى يظهر به العلم والقدرة في الشئ فيصدر أعماله عن العلم والقدرة ما دامت الحياة، وإذا بطلت بطل الصدور كذلك.

ثمّ اكتشف من طريق النظر العلميّ أنّ ذلك لا يختصّ بأقسام الحيوان كما كان يعطيه النظر الابتدائيّ فإنّ الملاك الّذى كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - وهو كونه ذا نفس يصدر عنها أعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعيّة كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة وسكونه من غير حركة - موجود في النبات.

وكذلك الأبحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطى ذلك فإنّ جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان الّتى إليها تنتهى أعماله الحيويّة توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلميّ على أيّ حال يهدى إلى عموم الحياة لجميع أنواع الحيوان والنبات.

ثمّ الحياة وهى تقابل الموت الّذى هو بطلان مبدء الأعمال الحيويّة تعود بحسب التحليل إلى كون الشئ بحيث تترتّب عليه آثاره المطلوبة منه كما أنّ الموت عدم كونه كذلك فحياة الأرض هي كونها نابتة مخضرّة وموتها خلافه، وحياة العمل كونه بحيث ينتهى إلى الغرض الّذى اُتى به لأجله وموته خلافه، وحياة الكلمة كونها بحيث تؤثّر في السامع أثراً مطلوباً وموتها خلافه، وحياة الإنسان كونه جاريا على ما تهدى إليه الفطرة الإنسانيّة ككونه ذا عقل سليم ونفس زاكية، ولذا عدّ القرآن الشريف الدين حياة للإنسان لأنّه يرى أنّ الدين الحقّ وهو الإسلام هو الفطرة الإلهيّة.

إذا تبيّن هذا اتّضح أنّ خروج الحىّ من الميّت وخروج الميّت من الحىّ

٥٠

يختلف معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة والموت فعلى النظرتين الاُوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان والنبات بالكينونة من غيرها كالمنيّ والبيضة والبذر فإنّ الحىّ كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب أيضاً بحسب البدء في حياة غير متناهية ولا طريق إلى إثباته، وخروج أجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان والنبات بالانفصال.

وعلى النظرة الأخيرة أعني نظرة تعميم الحياة لكلّ ما يترتّب عليه آثارها المطلوبة منها هو أن يخرج من الاُمور غير المفيدة في باب اُمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتولّد كخلق الإنسان الحىّ والحيوان الحىّ والنبات الحىّ من التراب الميّت وبالعكس، وكخروج الإنسان العاقل الصالح من الإنسان الّذى لا عقل له ولا صلاح وبالعكس، وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

وظاهر الآية الكريمة بالنظر إلى سياقها ومقام المخاطبة فيها أن يكون المراد بإخراج الحىّ من الميّت وبالعكس فيها هو هذا المعنى الأخير، وذلك أنّ الآية تقيم الحجّة على المشركين من المسلك الّذى كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتّخاذ الآلهة المختلفة وهو أنّ العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتّة علويّة وسفليّة والسفليّة من إنسان وحيوان ونبات وبحر وبرّ واُمور وراء ذلك كثيرة، وكلّ منها تحت تدبير مدبّر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقرّبنا إلى الله زلفى وبالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبّرات مختلفة يوجب وجود أرباب من دون الله كثيرة.

والآية تردّ عليهم حجّتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى وأنّ ذلك يدلّ على أنّ الله سبحانه ربّ كلّ شئ وحده، فهى تخاطبهم بأنّكم تعترفون بأنّ ما يخصّكم من التدبير كرزقكم وما يعمّكم وغيركم منه ينتهى إلى الله سبحانه فهو المدبّر لأمركم وأمر غيركم فهو الربّ لا ربّ سواه.

وقد بدأت في التعداد بما يخصّ الإنسان أعنى قوله:( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) وختمت بما يعمّه وغيره أعني قوله:( وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) وظاهر

٥١

السياق أن يكون المراد بقوله:( أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) هو التدبير الخاصّ بالإنسان فيكون المراد ملك السمع والأبصار الّتى لأفراد الإنسان، وكذا إخراج الحىّ من الإنسان من ميّته وبالعكس، وقد تبيّن أنّ الحياة المخصوصة بالإنسان هو كونه ذا نعمة العقل والدين.

فالمراد بإخراج الحىّ من الميّت وبالعكس - والله اعلم - إخراج الإنسان الحىّ بالسعادة الإنسانيّة من الإنسان الميّت الّذى لا سعادة له وبالعكس.

فالله سبحانه يلقّن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجّة على توحيده بالربوبيّة فأمره بقوله:( قُلْ ) أن يقول لهم في سياق الاستفهام( مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) بالإمطار والإنبات والتكوين( أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ) منكم فتتمّ بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيّبات الرزق، ولولاهما لم توفّقوا لذلك وفنيتم عن آخركم( وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) أي كلّ أمر مفيد في بابه من غيره( وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) فيتولّد الإنسان السعيد من الشقىّ والشقىّ من السعيد( وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) في جميع الخليقة.

( فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) اعترافاً بأنّه الّذى ينتهى إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان وغيره لأنّ الوثنيّين يعتقدون ذلك فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يوبّخهم أوّلا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجّة ثمّ يستنتج لهم من الحجّة وجوب توحيده تعالى فقال:( فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) ثمّ قال:( فَذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ ) .

قوله تعالى: ( فَذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) الجملة الاُولى نتيجة الحجّة السابقة، وقد وصف الربّ بالحقّ ليكون توضيحا لمفاد الحجّة، وتوطئة وتمهيداً لقوله بعده:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) .

وقوله:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) أخذ بلازم الحجّة السابقة لاستنتاج أنّهم ضالّون في عبادة الأصنام فإنّه إذا كانت ربوبيّته تعالى حقّة فإنّ الهدى في

٥٢

اتّباعه وعبادته فإنّ الهدى مع الحقّ لا غير فلا يبقى عند غيره الّذى هو الباطل إلّا الضلال.

فتقدير الكلام: فماذا بعد الحقّ الّذى معه الهدى إلّا الباطل الّذى معه الضلال فحذف من كلّ من الطرفين شئ واُقيم الباقي مقامه إيجازاً، وقيل: فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال، ولذا قال بعضهم: إنّ في الآية احتباكا - وهو من المحسنات البديعيّة - وهو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كلّ منهما شئ يدلّ عليه الآخر فإنّ تقدير الكلام: فما ذا بعد الحقّ إلّا الباطل؟ وما ذا بعد الهدى إلّا الضلال؟ فحذف الباطل من الأوّل والهدى من الثاني وبقى قوله: فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال؟ والوجه هو الّذى قدّمناه.

ثمّ تممّ الآية بقوله:( فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) أي إلى متى تصرفون عن الحقّ الّذى معه الهدى إلى الضلال الّذى مع الباطل.

قوله تعالى: ( كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) ظاهر السياق أنّ الكلمة الّتى تكلّم الله سبحانه بها على الفاسقين هي أنّهم لا يؤمنون أي أنّه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما وهو أنّ الفاسقين - وهم على فسقهم - لا يؤمنون ولا تنالهم الهداية الإلهيّة إلى الإيمان، وقد قال تعالى:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) المائدة: ١٠٨.

وعلى هذا فالإشارة بقوله:( كَذَٰلِكَ ) إلى ما تحصّل من الآية السابقة: أنّ المشركين صرفوا عن الحقّ وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحقّ إلّا الضلال.

فمعنى قوله:( كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) الخ، أنّ الكلمة الإلهيّة والقضاء الحتمىّ الّذى قضى به في الفاسقين - هو أنّهم لا يؤمنون - هكذا حقّت وثبتت في الخارج وأخذت مصداقها وهو أنّهم خرجوا عن الحقّ فوقعوا في الضلال أي إنّا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا وإنّما قضينا ذلك لأنّهم صرفوا عن الحقّ وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما فافهم ذلك.

٥٣

وفي الآية دلالة على أنّ الاُمور الضروريّة والأحكام والقوانين البيّنة الّتى تجرى في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحقّ والباطل ولا بين الهدى والضلال لها نوع استناد إلى القضاء الإلهىّ، وليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها.

وربّما ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد بالكلمة في الآية كلمة العذاب وقوله:( أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) في موضع التعليل بتقدير لامه، والتقدير كثبوت هذه الحجّة عليهم حقّت كلمة ربّك على الّذين فسقوا وهى وعيدهم بالعذاب وإنّما حقّت عليهم العذاب لأنّهم لا يؤمنون.

ولا يخلو عن سقم فإنّ وجه الشبه غير ظاهر ولا متّفق فيهما فالحجّة ثابتة عليهم بذاتها وأمّا العذاب فليس ثبوته كذلك بل لأمر آخر وهو أنّهم لا يؤمنون.

والحجّة - كما سمعت في البيان المتقدّم - حجّة ساذجة يعترف بحقّيّتها الوثنيّة، وقد صرفوها عن وجهها وأقاموا على ما يدّعونها من ربوبيّة أربابهم واستحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: إنّ تدبير كلّ شأن من شؤون العالم العامّة إلى واحد من هذه الأرباب فهو ربّ ذلك الشأن، وإنّما نعبد أصنامها وتماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده.

فأخذت الآية اعترافهم بأنّ هذه التدابير لله سبحانه - وكيف لا تكون له وهو خالق الكلّ ومبقيها؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبيّة وهو المستحقّ للعبادة لا غيره.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) إلى آخر الآية. تلقين للاحتجاج من جهة المبدء والمعاد فإنّ الّذى يبدء كلّ شئ ثمّ يعيده يستحقّ أن يعبده الإنسان اتّقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه وينال عظيم ثوابه يوم المعاد.

ولمّا كان المشركون - وهم المخاطبون بالحجّة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتصدّى جواب سؤاله بنفسه وقال:( قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ) وإلى متى تصرفون عن الحقّ.

٥٤

وليس اعتماد الآية على مسألة الإبداء والإعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدّمة غير بيّنة ولا مبيّنة فقد احتجّ عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، ومن طريق وجوب الجزاء على الأعمال في العدل وغير ذلك وقد نفى سبحانه الريب عن البعث والقيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه.

والحجّة - كما تقدّم الإيماء إليه - حجّة عامّة المؤمنين الّذين يعبدونه تعالى خوفا من العقاب أو رغبة في الثواب الّذى أعدّ لهم يوم القيامة.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) إلى آخر الآية، يهدى للحقّ وإلى الحقّ بمعنى واحد فالهداية تتعدّى بكلتا الحرفين، وقد ورد تعديتها باللّام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله:( أو لم يهدلهم ) الم السجدة: ٢٦، وقوله:( يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) أسرى: ٩ إلى غير ذلك فما ذكره بعضهم من كون اللّام في قوله:( يَهْدِي لِلْحَقِّ ) للتعليل ليس بشئ.

لقّن سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحجّة وهى ثالثة الحجج، وهى حجّة عقليّة يعتمد عليها الخاصّة من المؤمنين، وتوضيحها أنّ من المرتكز في الفطرة الإنسانيّة وبه يحكم عقله أنّ من الواجب على الإنسان أن يتّبع الحقّ حتّى أنّه إن انحرف في شئ من أعماله عن الحقّ واتّبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى فإنّما اتّبعه لحسبانه إيّاه حقّاً والتباس الأمر عليه، ولذا يعتذر عنه بما يحسبه حقّا فالحقّ واجب الاتّباع على الإطلاق ومن غير قيد أو شرط.

والهادي إلى الحقّ واجب اتّباعه لما عنده من الحقّ، ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدى إليه أو يهدى إلى غيره لأنّ اتّباع الهادى إلى الحقّ اتّباع لنفس الحقّ الّذى معه وجوب اتّباعه ضروريّ.

وقد اعتمد في الحجّة على هذه المقدّمة الضروريّة فافتتح الكلام فيها بسؤالهم عن شركائهم هل فيهم من يهدى إلى الحقّ؟ ومن البيّن أن لا جواب للمشركين في ذلك مثبتا إذ شركاؤهم سواء أكانوا جمادا غير ذى حياة كالأوثان والأصنام أم كانوا

٥٥

من الأحياء كالملائكة وأرباب الأنواع والجنّ والطواغيت من فرعون ونمروذ وغيرهما لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا.

وإذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فإنّهم لا يجيبون، ولذلك أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك - أعني الهداية إلى الحقّ - بإثباتها لله سبحانه فقيل:( قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) فإنّ الله سبحانه هو الّذى يهدى كلّ شئ إلى مقاصده التكوينيّة والاُمور الّتى يحتاج إليها في بقائه كما في قوله:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥٠، وقوله:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى: ٣ وهو الّذى يهدى الإنسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنّة والمغفرة بإذنه بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع، وأمرهم ببثّ الدعوة الحقّة الدينيّة بين الناس.

وقد مرّ في تفسير قوله تعالى:( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ ) آل عمران: ٦٠ أنّ الحقّ من الاعتقاد والقول والفعل إنّما يكون حقّا بمطابقة السنّة الجارية في الكون الّذى هو فعله فالحقّ بالحقيقة إنّما يكون حقّا بمشيّته وإرادته.

وإذ تحقّق أنّه ليس من شركائهم من يهدى إلى الحقّ، وأنّ الله سبحانه يهدى إلى الحقّ سألهم بقوله:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) ؟ أن يقضوا في الترجيح بين اتّباعه تعالى واتّباع شركائهم وهو تعالى يهدى إلى الحقّ وهم لا يهدون ولا يهتدون إلّا بغيرهم، ومن المعلوم أنّ الرجحان لمن يهدى على من لا يهدى أي لاتّباعه تعالى على اتّباعهم، والمشركون يحكمون بالعكس، ولذلك لامهم ووبّخهم بقوله:( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ؟

والتعبير في الترجيح في قوله:( أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ) بأفعل التفضيل الدالّ على مطلق الرجحان دون التعيّن والانحصار مع أنّ اتّباعه تعالى حقّ لا غير واتّباعهم لا نصيب له من الحقّ إنّما هو بالنظر إلى مقام الترجيح، وليسهل بذلك قبولهم للقول من غير إثارة لعصبيّتهم وتهييج لجهالتهم.

٥٦

وقد أبدع تعالى في قوله( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) والقراءة الدائرة:( لَّا يَهِدِّي ) بكسر الهاء وتشديد الدالّ وأصله يهتدى، وظاهر قوله:( لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) وقد حذف متعلّقات الفعل فيه أنّه إنّما يهتدى بغيره لا بنفسه.

والكلام قد قوبل فيه قوله:( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) بقوله:( أَمَّن لَّا يَهِدِّي ) مع أنّ الهداية إلى الحقّ يقابلها عدم الهداية إلى الحقّ، وعدم الاهتداء إلى الحقّ يقابله الاهتداء إلى الحقّ فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية إلى الحقّ، وكذا الملازمة بين الهداية إلى الحقّ والاهتداء بالذات فالّذي يهدى إلى الحقّ يجب أن يكون مهتدياً بنفسه لا بهداية غيره والّذى يهتدى بغيره ليس يهدى إلى الحقّ أبدا.

هذا ما تدلّ عليه الآية بحسب ظاهرها الّذى لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على أنّ الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوّزات المبنيّة على المساهلة الّتى نبنى عليها ونداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحقّ إلى كلّ من تكلّم بكلمة حقّ ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقّق بمعناها، وسواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.

بل الهداية إلى الحقّ أعنى الإيصال إلى صريح الحقّ ومتن الواقع ليس إلّا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلّل بينه وبينه فاهتدى بالله وهدى غيره بأمر الله سبحانه، وقد تقدّمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) الآية البقرة: ١٢٤.

وقد تبيّن بما قدّمناه في معنى الآية اُمور:

أحدها: أنّ المراد بالهداية إلى الحقّ ما هو بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهى إلى الحقّ فإنّ من الضرورىّ أنّ وصف طريق الحقّ يتأتّى من كلّ أحد سواء اهتدى إلى الحقّ بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.

٥٧

وثانيها: أنّ المراد بقوله:( مَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) من لا يهتدى بنفسه، وهذا أعمّ من أن يكون ممّن يهتدى بغيره أو يكون ممّن لا يهتدى أصلا، لا بنفسه ولا بغيره كالأوثان والأصنام الّتى هي جماد لا يقبل هداية من غيره، وذلك أنّ قوله:( إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) استثناء من قوله:( مَّن لَّا يَهِدِّي ) الأعمّ من أن لا يهتدى أصلا أو يهتدى بغيره، والمأخوذ في قوله:( أَن يُهْدَىٰ ) فعل دخلت عليه أن المصدريّة المؤوّلة إلى المصدر، والجملة الفعليّة المؤوّلة إلى المصدر كذلك لا يدلّ على التحقّق بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله:( وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة: ١٨٤ فلا يدلّ على الوقوع وبين نحو قوله:( إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) يونس: ٢٩ فيدلّ على الوقوع، ويقال: ضربّك زيداً عجيب إذا ضربته، وأن تضرب زيداً عجيب إذا هممت أن تضربه.

فقوله:( مَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) معناه من لا يكون هداه من نفسه إلّا أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، ومن المعلوم أنّها إنّما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه أن يقبل ذلك، وأمّا إذا لم يقبل فإنّما يبقى له من الوصف أنّه لا يهتدى فافهم ذلك.

وللمفسّرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة:

منها: أنّه استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال لأنّ من نفى عنهم الهداية ممّن اتّخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم وعزيرا والملائكةعليهم‌السلام ، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحقّ بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) الأنبياء: ٧٣.

وفيه: أنّ محصّله: أنّ المعنى لا يهدى إلّا أن يهديه الله تعالى فيهدى غيره بعد اهتدائه بهدايته تعالى، وقد اختلّ عليه معنى الآية من أصله فإنّ من لا يهتدى إلى الحقّ بنفسه لا يتأتّى له أن يهدى إلى الحقّ فإنّه إنّما يماسّ الحقّ من وراء حجاب فكيف يوصل إليه؟

٥٨

على أنّ ما ذكره لا ينطبق على الأصنام الّتى هي مورد الاحتجاج في الآية فإنّها لا تقبل الهدايد من أصلها، وقد ذكر المسيح وعزيرا وهما ممّن قدّسته النصارى واليهود وليس وجه الكلام في الآية إليهم وإن شملتهما وغيرهما الآية بحسب عموم الملاك.

ومنها: أنّ الاستثناء منقطع والمراد بمن لا يهدّى الأصنام الّتى لا تقبل الهداية أصلا فحسب، والمعنى: أم من لا يهتدى أصلا كالأصنام إلّا أن يهديه الله فيهتدى حينئذ.

وفيه: أنّه لا يفى بتوجيه المقابلة الّتى بين قوله:( مَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) وقوله:( مَّن لَّا يَهِدِّي ) فإنّ الهداية إلى الحقّ والاهتداء إليه لا يتقابلان إلّا أن يؤول المعنى إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أم من لا يهتدى أصلا إلّا أن يهديه الله فيهتدى فيهدى غيره، ويرد عليه أنّه لا وجه حينئذ لتخصيصه بمثل الأصنام ممّن لا يهتدى اصلا حتّى يصير الاستثناء منقطعا بل يعمّ ما لا يهتدى أصلا لا بنفسه ولا بغيره، ومن لا يهتدى بنفسه ويهتدى بغيره كالملائكة مثلا، ويرد عليه ما ورد على الوجه السابق.

ومنها: أنّ المراد بمن لا يهدّى الأصنام الّتى لا تقبل الهداية و( إِلَّا ) بمعنى حتّى والمعنى لا يهتدى ولا يقبل الهداية حتّى يهدى.

وفيه: أنّ الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أم من لا يهتدى أصلا حتّى يهدى إلى الحقّ، ويعود الاستثناء مستدركا لا يتعلّق به غرض في الكلام. مضافا إلى أنّ مجئ إلّا بمعنى حتّى غير ثابت وعلى تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله أفصح الكلام.

ومنها: أنّ المراد بمن لا يهدّى إلّا أن يهدى الملائكة والجنّ ممّن يعبدون من دون الله وهم يقبلون الهداية من الله وإن لم يهتدوا من عند أنفسهم أو المراد الرؤساء المضلّون الّذين يدعون إلى الكفر فإنّهم وإن لم يهتدوا لكنّهم يقبلون

٥٩

الهداية ولو هدوا إلى الحقّ لهدوا إليه.

وفيه: أنّ الآيات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الأصنام، والقول بأنّ المراد بمن لا يهدّى إلّا أن يهدى الملائكة والجنّ أو الرؤساء المضلّون يخرجها عن صلاحية الانطباق على المورد.

وثالثها: أنّ الهداية إلى الحقّ بمعنى الإيصال إليه إنّما هي شأن من يهتدى بنفسه أي لا واسطة بينه وبين الله سبحانه في أمر الهداية إمّا من بادئ أمره أو بعنآية خاصّة من الله سبحانه كالأنبياء والأوصياء من الأئمّة، وأمّا الهداية بمعنى إراءة الطريق ووصف السبيل فلا يختصّ به تعالى ولا بالأئمّة من الأنبياء والأوصياء كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول:( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) المؤمن: ٣٨، وقال:( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) الإنسان: ٣.

وأمّا قوله تعالى خطاباً للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو إمام:( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) القصص: ٥٦ وغيره من الآيات فهى مسوقة لبيان الأصالة والتبع كما في آيات التوفّى وعلم الغيب ونحو ذلك ممّا سيقت لبيان أنّ الله سبحانه هو المالك لها بالذات والحقيقة، وغيره يملكها بتمليك الله ملكا تبعيّا أو عرضيّا، ويكون سببا لها بإذن الله، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) الأنبياء: ٧٣ وفي الأحاديث إشارة إلى ذلك وأنّ الهداية إلى الحقّ شأن النبيّ وأهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مرّ بعض الكلام في الهداية فيما تقدّم.

وقوله في ذيل الآية:( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) استفهام للتعجيب استغراباً لحكمهم باتّباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتّباع من لا يهتدى ولا يهدى إلى الحقّ.

قوله تعالى: ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) أغنى يغنى يتعدّى بمن وعن كلتيهما وقد جاء في الكلام الإلهىّ بكلّ من الوجهين

٦٠