الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109342
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109342 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فعدّى بمن كما في الآية، وبعن كما في قوله:( مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ) الحاقّة: ٢٩.

وإنّما نسب اتّباع الظنّ إلى أكثرهم لأنّ الأقلّ منهم وهم أئمّة الضلال على يقين من الحقّ، ولم يؤثروا عليه الباطل و يدعوا إليه إلّا بغيا كما قال تعالى:( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) البقرة: ٢١٣. وأمّا الأكثرون فإنّما اتّبعوا آباءهم تقليداً لهم لحسن ظنّهم بهم.

وقوله:( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) تعليل لقوله:( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ) والمعنى أنّ الله عليم بما يأتونه من الأعمال يعلم أنّها اتّباع للظنّ.

٦١

( سورة يونس آية ٣٧ - ٤٥)

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ( ٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ( ٣٩) وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ( ٤٠) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ( ٤١) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ( ٤٢) وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ( ٤٣) إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ( ٤٥)

( بيان)

رجوع إلى أمر القرآن وأنّه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه وتلقين الحجّة في ذلك، وللآيات اتّصال بما تقدّمها من قوله:( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) الآية، فقد تقدّم أنّ من هدايته تعالى إلى

٦٢

الحق هدايته الناس إلى دينه الّذى يرتضيه من طريق الوحى إلى أنبيائه والكتب الّتى أنزلها إليهم ككتب نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمّدعليهم‌السلام ، وهذه الآيات تذكرها وتقيم الحجّة على أنّ القرآن منها هاد إلى الحقّ، ولذلك اُشير إليها معه حيث قيل:( تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) .

وفي آخر الآيات الرجوع إلى ذكر الحشر وهو من مقاصد السورة كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللهِ ) إلى آخر الآية، قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ نفى صفة أو معنى بنفى الكون يفيد نفى الشأن والاستعداد، وهو أبلغ من نفيه نفسه ففرق بين قولنا: ما كان زيد ليقوم، وقولنا: لم يقم أو ما قام زيد إذ الأوّل يدلّ على أنّ القيام لم يكن من شأن زيد ولا استعدّ له استعداداً والثانى ينفى القيام عنه فحسب وفي القرآن منه شئ كثير كقوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) يونس: ٧٤، وقوله:( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ) الشورى: ٥٢، وقوله:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ) العنكبوت: ٤٠.

فقوله:( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللهِ ) نفى لشأنيّة الافتراء عن القرآن كما قيل وهو أبلغ من نفى فعليّته، والمعنى ليس من شأن هذا القرآن ولا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله سبحانه.

وقوله:( وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي تصديقا لما هو حاضر منزل من الكتاب وهو التوراة والانجيل كما حكى عن المسيح قوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) الصفّ: ٦، وإنّما وصفهما بما بين يديه مع تقدّمهما لأنّ هناك كتاباً غير الكتابين ككتاب نوح وكتاب إبراهيمعليهما‌السلام فإذا لوحظ تقدّم جميعها عليه كان الأقرب منها زماناً إليه وهو التوراة والإنجيل موصوفاً بأنّه بين يديه.

وربّما قيل: إنّ المراد بما بين يديه هو ما يستقبل نزوله من الاُمور كالبعث

٦٣

والنشور والحساب والجزاء، وليس بشئ.

وقوله:( وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ) عطف على( تَصْدِيقَ ) والمراد بالكتاب بدلالة من السياق جنس الكتاب السماويّ النازل من عند الله سبحانه على أنبيائه، والتفصيل إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر بالإيضاح والشرح.

وفيه دلالة على أنّ الدين الإلهىّ المنزل على أنبيائهعليهم‌السلام واحد لا اختلاف فيه إلّا بالإجمال والتفصيل، والقرآن يفصّل ما أجمله غيره كما قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران: ١٩.

وأنّ القرآن الكريم مفصّل لما أجمله الكتب السماويّة السابقة مهيمن عليها جميعاً كما قال تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة: ٤٨. وقوله:( لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) أي لا ريب فيه هو من ربّ العالمين، والجملة الثانية كالتعليل للاُولى.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ) إلى آخر الآية، أم منقطعة والمعنى بل يقولون افتراه، والضمير للقرآن، واتّصاف السورة بكونها مثل القرآن شاهد على أنّ القرآن يصدق على الكثير منه والقليل.

والمعنى قل للّذين يقولون افتراه: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة مثل هذا القرآن المفترى وادعوا كلّ من استطعتم من دون الله مستمدّين مستظهرين فإنّه لو كان كلاماً مفترى كان كلاماً بشريّا وجاز أن يؤتى بمثله وفي ذلك تحدّ ظاهر بسورة واحدة من سور القرآن طويلة كانت أو قصيرة.

ومن هنا يظهر أوّلا: أنّ التحدّي ليس بسورة معيّنة فإنّهم لم يرموا بالافتراء بعض القرآن دون بعض بل جميعه، وهو يكلّفهم أن يأتوا بسورة مثل ما يدّعون أنّه افتراه، وإنّما ادّعوه لجميع القرآن دون بعضه.

ولا يصغى إلى قول من يقول: إنّ التنكير( في سورة ) للتعظيم أو للتنويع والمراد سورة من السور يذكر فيها قصص الأنبياء وأخبار وعيد الدنيا والآخرة لأنّ

٦٤

الافتراء إنّما يتّهم به الإخبار دون الإنشاء. أو يقول: المراد سورة طويلة مثل هذه السورة سورة يونس - في اشتمالها على اُصول الدين والوعد والوعيد.

وذلك أنّ القرآن بجميع آياته منسوب إلى الله سبحانه، ولا يختلف في ذلك ما يتضمّن الإخبار وما يتضمّن الإنشاء، وما كانت سورة طويلة أو قصيرة حتّى الآية الواحدة، والرمى بالافتراء يصحّ أن يتعلّق بالجميع لأنّه تكذيب للنسبة المتعلّقة بالجميع.

وثانياً: أنّ الآية لا تتحدّى ببلاغة القرآن وفصاحته فحسب بل السياق في هذه الآية وفي سائر الآيات الّتى وردت مورد التحدّي يشهد على أنّ التحدّي إنّما هو بما عليه القرآن من صفة الكمال ونعت الفضيلة من اشتماله على مخّ المعارف الإلهيّة، وجوامع الشرائع من الأحكام العباديّة والقوانين المدنيّة السياسيّة والاقتصاديّة والقضائيّة والأخلاق الكريمة والآداب الحسنة، وقصص الأنبياء، والاُمم الماضية، والملاحم والأخبار الغيبيّة، ووصف الملائكة والجنّ والسماء والأرض والحكمة والموعظة والوعد والوعيد، وأخبار البدء والعود، وقوّة الحجّة وجزالة البيان والنور والهداية من غير أن يختلف جزء منه عن جزء، أضف إلى ذلك وقوعه في بلاغته وفصاحته موقعاً يقصر عن البلوغ إليه أيدى البشر.

ولقد قصّر الباحثون من علماء الصدر الأوّل ومن يتلونهم إذ قصروا إعجازه على بلاغته وفصاحته، وكتبوا في ذلك كتبا وألّفوا رسائل فصرفهم ذلك عن التدبّر في حقائقه والتعمّق في معارفه، وأنهاهم إلى أن عدّوا المعاني أموراً مطروحة في الطريق يستوى فيه البدوىّ والحضرىّ والعاميّ والخاصىّ والجاهل والعالم، وأنّ الفضل لنظم اللفظ على نظم المعنى ولا قيمة لما وراء ذلك.

وقد وصفه الله تعالى بكلّ وصف جميل دخيل في التحدّي كوصفه بأنّه نور ورحمة وهدى وحكمة وموعظة وبرهان وتبيان لكلّ شئ وتفصيل الكتاب وشفاء للمؤمنين وقول فصل وما هو بالهزل، وأنّه مواقع للنجوم، وأنّه لا اختلاف فيه ولم يصرّح ببلاغته بعينها.

٦٥

وأطلق القول بأنّهم لا يأتون بمثله ولو دعوا من استطاعوا من دون الله، ولو اجتمع على ذلك الجنّ والإنس وكان بعضهم لبعض ظهيرا ولم يقيّد الكلام بالبلاغة والفصاحة.

وقد فصّلنا القول في إعجاز القرآن في تفسير قوله:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) البقرة: ٢٣ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) إلى آخر الآية. الآية تبيّن وجه الحقيقة في عدم إيمانهم به وقولهم إنّه افتراء وهو أنّهم كذّبوا من القرآن بما لم يحيطوا بعلمه أو كذّبوا بالقرآن الّذى لم يحيطوا بعلمه ففيه معارف حقيقيّة من قبيل العلوم الواقعيّة لا يسعها علمهم، ولم يأتهم تأويله بعد أي تأويل ذاك الّذى كذّبوا به حتّى يضطرّهم إلى تصديقه.

هذا ما يقتضيه السياق من المعنى فقوله:( وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يشير إلى يوم القيامة كما يؤيّده قوله تعالى:( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) الأعراف: ٥٣.

وهذا يؤيّد ما قدّمناه في تفسير قوله:( ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ) آل عمران: ٧ في الجزء الثالث من الكتاب أنّ المراد بالتأويل في عرف القرآن هو الحقيقة الّتى يعتمد عليها معنى من المعاني من حكم أو معرفة أو قصّة أو غير ذلك من الحقائق الواقعيّة من غير أن يكون من قبيل المعنى، وأنّ لجميع القرآن وما يتضمّنه من معرفة أو حكم أو خبر أو غير ذلك تأويلا.

ويؤيّد ذلك أيضاً قوله بعد:( كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) فإنّ التشبيه يعطى أنّ المراد أنّ الّذين من قبلهم من المشركين أيضاً كذّبوا بما دعاهم إليه أنبياؤهم لكونهم لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله، فلما جاء به سائر الأنبياء من أجزاء الدعوة الدينيّة من معارف وأحكام تأويل كما أنّ لمعارف القرآن وأحكامه تأويلا من غير أن يكون من قبيل المفاهيم ومعانى الألفاظ كما توهّموه.

٦٦

فمحصّل المعنى أنّ هؤلاء المشركين الرامين للقرآن بأنّه افتراء مثل المشركين والكفّار من الاُمم السابقة استقبلتهم من الدعوة الدينيّة بمعارفها وأحكامها اُمور لم يحيطوا بها علما حتّى يوقنوا بها ويصدّقوا، فحملهم الجهل على التكذيب بها ولما يأتهم اليوم الّذى يظهر لهم فيه تأويلها وحقيقة أمرها ظهوراً يضطرّهم على الايقان والتصديق بها وهو يوم القيامة الّذى يكشف لهم فيه الغطاء عن وجه الحقائق بواقعيّتها فهؤلاء كذّبوا وظلموا كما كذّب الّذين من قبلهم وظلموا فانظر كيف كان عاقبة اُولئك الظالمين حتّى تحدس بما سيصيب هؤلاء.

هذا ما يعطيه دقيق البحث في معنى الآية، وللمفسّرين فيها أقوال شتّى مختلفة مبنيّة على ما ذهبوا إليه من معنى التأويل لا جدوى في التعرّض لها وقد استقصينا أقوالهم سابقا.

قوله تعالى: ( وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) قسّمهم قسمين من يؤمن بالقرآن ومن لا يؤمن به ثمّ كنّى عمّن لا يؤمن به أنّهم مفسدون فتحصّل من ذلك أنّ الّذين يكذّبون بما في القرآن إنّما كذّبوا به لأنّهم مفسدون.

فالآية لبيان حالهم الّذى هم عليه من إيمان البعض وكفر البعض وأنّ الكفر ناش من رذيلة الافساد.

وأمّا ما ذكره بعضهم في تفسير الآية: أنّ المراد أنّ قومك لن يكونوا كاُولئك الظالمين من قبلهم الّذين كذّبوا رسلهم إلّا قليلاً منهم فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال بل سيكون قومك قسمين قسم سيؤمن بهذا القرآن وقسم لا يؤمن به أبدا فهو معنى خارج عن مدلول الآية ألبتّة.

قوله تعالى: ( وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) إلى آخر الآية، تلقين للتبرّى على تقدير تكذيبهم له، وهو من مراتب الانتصار للحقّ ممّن انتهض لإحيائه فالطريق هو حمل الناس عليه إن حملوا وإلّا فالتبرّي منهم لئلّا يحملوه على باطلهم.

٦٧

وقوله:( أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) تفسير لقوله:( ل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) .

قوله تعالى: ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ) الاستفهام للإنكار، وقوله:( وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ) قرينة على أنّ المراد بنفى السمع نفى ما يقارنه من تعقّل ما يدلّ عليه الكلام المسموع وهو المسمّى بسمع القلب.

والمعنى: ومنهم الّذين يستمعون إليك وهم صمّ لا سمع لقلوبهم، ولست أنت قادرا على إسماعهم ولا سمع لهم.

قوله تعالى: ( وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ) إلى آخر الآية الكلام فيها نظير الكلام في سابقتها.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) مسوق للإشارة إلى أنّ ما ابتلى به هؤلاء المحرومون من السمع والبصر من جهة الصمم والعمى من آثار ظلمهم أنفسهم من غير أن يكون الله تعالى ظلمهم بسلب السمع والبصر عنهم فإنّهم إنّما اُوتوا ما اُوتوا من قبل أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) الخ، ظاهر الآية أن يكون( َيَوْمَ ) ظرفاً متعلّقاً بقوله:( قَدْ خَسِرَ ) الخ، وقوله:( كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً ) الخ، حالاً من ضمير الجمع في( يَحْشُرُهُمْ ) وقوله:( يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) حالا ثانياً مبيّنا للحال الأوّل.

والمعنى قد خسر الّذين كذّبوا بلقاء الله في يوم يحشرهم إليه حالكونهم يستقلّون هذه الحياة الدنيا فيعدّونها كمكث ساعة من النهار وهم يتعارفون بينهم من غير أن ينكر بعضهم بعضا أو ينساه.

وقد ذكر بعضهم أنّ قوله:( كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا ) صفة ليوم أو صفة للمصدر المحذوف المدلول عليه بقوله:( يَحْشُرُهُمْ ) ، وذكر بعض آخر أنّ قوله:( يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) صفة لساعة، وهما من الاحتمالات البعيدة الّتى لا يساعد عليها اللّفظ.

٦٨

وكيف كان ففى الآية رجوع إلى حديث اللقاء المذكور في أوّل السورة وانعطاف على ما ذكره آنفاً أنّ من المتوقّع أن يأتيهم تأويل الدين.

فكأنّها تقول: إنّهم وإن لم يأتهم تأويل القرآن بعد لا ينبغى لهم أن يغترّوا بالجمود على مظاهر هذه الحياة الدّنيا ويستكثروا الأمد ويستبطؤا الأجل فإنّهم سوف يحشرون إلى الله فيشاهدون أن ليست الحياة الدنيا إلّا متاعاً قليلاً، ولا اللبث فيها إلّا لبثاً يسيرا كأن لم يلبثوا إلّا ساعة من النهار يتعارفون بينهم.

فيومئذ يظهر لهم خسرانهم في تكذبيهم بلقاء الله ظهور عيان وذلك بإتيان تأويل الدين وانكشاف حقيقة الأمر وظهور نور التوحيد على ما كان، ووضوح أنّ الملك يومئذ لله الواحد القهّار جلّ شأنه.

٦٩

( سورة يونس آية ٤٦ - ٥٦)

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ( ٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ( ٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ٤٨) قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ( ٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ( ٥٠) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ( ٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ( ٥٢) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ( ٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ( ٥٤) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٥٥) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( ٥٦)

( بيان)

الآيات تنبئ عن سنّة إلهيّة جارية، وهى أنّ الله سبحانه قضى قضاء حقّ لا يردّ ولا يبدّل أن يرسل إلى كلّ اُمّة رسولا يبلّغهم رسالته ثمّ يحكم بينه وبينهم حكماً فصلا بإنزال العذاب عليهم وإنجاء المؤمنين وإهلاك المكذّبين.

ثمّ تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبرهم أنّ هذه الاُمّة يجرى فيهم ما جرى في الاُمم

٧٠

الماضية من السنّة الإلهيّة من غير أن يستثنوا من كلّيتها غير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يذكر لهم فيما لقّنه الله من جواب سؤالهم عن وقت العذاب إلّا أنّ القضاء حتم وللاُمّة عمراً وأجلاً كالفرد ينتهى إليه أمد حياتها، وأمّا وقت النزول فقد اُبهم إبهاما.

وقد قدّمنا في قوله تعالى:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) الأنفال: ٣٣ أنّ الآية لا تخلو عن إشعار بأنّ الاُمّة ستنتزع منهم نعمة الاستغفار بعد زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينزل عليهم العذاب، وقد تقدّم أنّ الشواهد قائمة على كون الآية مدنيّة فهى بعد هذه الآيات المكّيّة من قبيل الإيضاح في الجملة بعد الإبهام ومن ملاحم القرآن.

وقد حمل بعض المفسّرين ما وقع من حديث العذاب في هذه الآيات على عذاب الآخرة، وسياق الآيات يأبى ذلك.

قوله تعالى: ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ ) إمّا نرينّك أصله: إن نرك، زيد عليه ما والنون الثقيلة للتأكيد، والترديد بين الإرادة والتوفّى للتسوية واستيعاب التقادير، والمعنى إلينا مرجعهم على أيّ تقدير، ولفظة ثمّ للتراخي بحسب ترتيب الكلام دون الزمان والآية مسوقة لتطييب نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولتكون كالتوطئة لحديث قضاء العذاب الّذى ستفصّله الآيات التالية لهذه الآية.

والمعنى طب نفساً فإنّا موقعون بهم ما نعدهم سواء أريناك بعض ذاك أو توفّيناك قبل أن نريك ذاك فإنّ أمرهم إلينا ونحن شاهدون لأفعالهم المستوجبة للعذاب لا تغيب عنّا ولا ننساها.

والالتفات من قوله:( نُرِيَنَّكَ ) إلى قوله:( ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ ) للدلالة على علّة الحكم فإنّ الله سبحانه شهيد على كلّ فعل بمقتضى اُلوهيّته.

قوله تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) قضاء إلهىّ منحلّ إلى قضاءين أحدهما: أنّ لكلّ اُمّة من الاُمم رسولاً يحمل رسالة الله إليهم ويبلّغها إيّاهم، وثانيهما: أنّه إذا جاءهم وبلّغهم رسالته فاختلفوا

٧١

من مصدّق له ومكذّب فإنّ الله يقضى ويحكم بينهم بالقسط والعدل من غير أن يظلمهم. هذا ما يعطيه سياق الكلام من المعنى.

ومنه يظهر أنّ قوله:( فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ) فيه إيجاز بالحذف والإضمار والتقدير: فإذا جاء رسولهم إليهم وبلّغ الرسالة فاختلف قومه بالتكذيب والتصديق، ويدلّ على ذلك قوله:( قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) فإنّ القضاء إنّما يكون فيما اختلف فيه، ولذا كان السؤال عن القسط وعدم الظلم في القضاء في مورد العذاب والضرار أسبق إلى الذهن.

وقد تقدّم الفرق بين الرسول والنبىّ في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب، وهذا القضاء المذكور في الآية من خواصّ الرسالة دون النبوّة.

قوله تعالى: ( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود، وهو القضاء بينهم في الدنيا، والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله:( قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) الخ، فقول بعضهم: إنّ السؤال عن عذاب يوم القيامة أو إنّ السائلين بعض المشركين من الاُمم السابقة لا يلتفت إليه.

قوله تعالى: ( قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) إلى آخر الآية، لما كان قولهم:( مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) في معنى قولنا: أيّ وقت يفى ربّك بما وعدك أو يأتي بما أوعدنا به أنّه يقضى بيننا وبينك فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك فيصفو لكم الجوّ ويكون لكم الأرض وتخلصون من شرّنا؟ فهلّا عجّل لكم ذلك - وذلك أنّ كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء كما تدلّ على استعجالهم الآيات التالية وهذا نظير قولهم:( لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) الحجر: ٧.

لقّن سبحانه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبدأهم في الجواب ببيان أنّه لا يملك لنفسه ضرّاً حتّى يدفعه عنها ولا نفعاً حتّى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلّا ما شاء الله أن يملكه من

٧٢

ضرّ ونفع فالأمر إلى الله سبحانه جميعاً، واقتراحهم عليه بأن يعجّل لهم القضاء والعذاب من الجهل.

ثمّ يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جواباً إجماليّاً بالإعراض عن تعيين الوقت والإقبال على ذكر ضرورة الوقوع، أمّا الأوّل فإنّه من الغيب الّذى لا يعلمه إلّا الله، وأمره الّذى لا يتسلّط عليه إلّا هو، وقد تقدّم قوله في آيات السورة:( وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) الآية ٢٠ من السورة.

وأمّا الثاني أعنى ذكر ضرورة الوقوع فقد بيّن ذلك بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامّة الجارية في الكون تنحلّ بها العقدة وتندفع بها الشبهة، وهى أنّ لكلّ اُمّة أجلاً لا يتخطّاهم ولا يتخطّونه فهو آتيهم لا محالة، وإذا أتاهم لم يخبط في وقوعه موقعه ولا ساعة، وهو قوله تعالى:( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) أي وأنتم اُمّة من الاُمم فلا محالة لكم أيضاً أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.

فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبّروه بأن لهم أنّ لكلّ اُمّة حياة اجتماعيّة وراء الحياة الفرديّة الّتى لكلّ واحد من أفرادها ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها، ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغىّ والثواب والعقاب نصيبها، وهى ممّا اعتنى بها التدبير الإلهىّ نظير الفرد من الإنسان حذو النعل بالنعل.

ويدلّهم على ذلك ما يحدّثهم به التاريخ ويفصح عنه الاثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية، وقد قصّ عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وكلدة قوم ابراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم.

فهؤلاء اُمم منقرضة سكنت أجراسهم وخمدت أنفاسهم ولم ينقرضوا إلّا بعذاب وهلاك، ولم يعذّبوا إلّا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبيّنات ولم يأت قوماً منهم رسوله

٧٣

إلّا واختلفوا في الحقّ الّذى جاءهم فمنهم من آمن به ومنهم من كذّب به وهم الأكثرون.

فهذا يدلّهم على أنّ هذه الاُمّة - وقد اختلفوا في الحقّ لمّا جاءهم - سيقضى الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الاُمم وإنّ الله لبالمرصاد.

وعلى الباحث المتدبّر أن يتنبّه لأنّ الله سبحانه وإن بدء في وعيده بالمشركين غير أنّه هدّد في أثناء كلامه المجرمين فتعلّق الوعيد بهم، ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم فلينتظروا عذاباً واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم أنّ اُمّتهم هذه اُمّة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا إكراماً منه لنبيّهم نبىّ الرحمة فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كلّ إثم وخطيئة وهتكوا كلّ حجاب مع أنّه لا كرامة عند الله إلّا بالتقوى وقد خاطب المؤمنين من هذه الاُمّة بمثل قوله:( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) النساء: ١٢٣.

وربّما تعدّى المتعدّى فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا فذكر أنّ الاُمّة مغفور لهم محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلّا كرامة أنّ لهم أن يفعلوا ما شاؤوا فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن، ولا في الآخرة إلّا المغفرة والجنّة.

ولا يبقى على هذا للملّة والشريعة إلّا أنّها تكاليف وأحكام جزافيّة لعب بها ربّ العالمين ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون تعالى عمّا يقولون علوّاً كبيرا.

فهذا كلّه من الإعراض عن ذكر الله وهجر كتابه، وقال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) إلى آخر الآيتين، البيات والتبييت الإتيان ليلا ويغلب في الشرّ كقصد العدوّ عدوّه ليلا.

ولمّا كان قولهم:( مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) في معنى استعجال آية

٧٤

العذاب الّتى يلجئهم إلى الإيمان رجع بعد بيان تحقّق الوقوع إلى توبيخهم وذمّهم من الجهتين فوبّخهم أوّلا على استعجالهم بالعذاب، وهو عذاب فجاءىّ من الحزم أن يكون الإنسان منه على حذر لا أن يستعجل فيه فقال تعالى ملقّنا لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ) وأخبروني( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ) ليلا( أَوْ نَهَارًا ) فإنّه عذاب لا يأتيكم إلّا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله( مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ) من العذاب( الْمُجْرِمُونَ ) أي ما ذا تستعجلون منه وأنتم مجرمون لا يتخطّاكم إذا أتاكم.

ففى قوله:( مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) التفات من الخطاب إلى الغيبة وكأنّ النكتة فيه رعآية حالهم أن لا يشافهوا بصريح الشرّ وليكون تعرّضاً لملاك نزول العذاب عليهم وهو إجرامهم.

ووبّخهم ثانياً على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه وهو حين نزول العذاب فإنّ آية العذاب يلجئهم إلى الإيمان قطعاً على ما هو المجرّب من إيمان الإنسان عند إشراف الهلكة، ومن جهة اُخرى الإيمان توبة والتوبة غير مقبولة عند ظهور آية العذاب والإشراف على الموت.

فقال تعالى:( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ) العذاب( آمَنتُم بِهِ ) أي بالقرآن أو بالدين أو بالله( آلْآنَ ) أي أتؤمنون به في هذا الآن والوقت( وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره بالاستهزاء به.

قوله تعالى: ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) الأشبه أن تكون الآية متّصلة بقوله تعالى:( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) الخ، فتكون الآية الاُولى تبيّن تحقّق وقوع العذاب عليهم وإهلاكه إيّاهم، والآية الثانية تبيّن أنّه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الآخرة ولا تجزون إلّا أعمالكم الّتى كنتم تكسبونها وذنوبكم الّتى تحملونها، والخطاب تكوينيّ كنّى به عن شمول العذاب لهم ونيله إيّاهم، وعلى هذا المعنى فالآيتان:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ - إلى قوله -تَسْتَعْجِلُونَ ) واردتان مورد الاعتراض.

قوله تعالى: ( وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم

٧٥

بِمُعْجِزِينَ ) إلى آخر الآية - يستنبؤنك أي يستخبرونك، وقوله:( أَحَقٌّ هُوَ ) بيان له، والضمير على ما يفيده السياق راجع إلى القضاء أو العذاب، والمال واحد، وقد أمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤكّد القول في إثباته من جميع جهاته، وبعبارة اُخرى أن يجيبهم بوجود المقتضى وعدم المانع.

فقوله:( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ) إثبات لتحقّقه وقد أكّد الكلام بالقسم والجملة الاسميّة وإنّ واللّام، وقوله:( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) بيان أنّه لا مانع هناك يمنع من حلول العذاب بكم.

قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ) إلى آخر الآية، إشارة إلى شدّة العذاب أهميّة التخلّص منه عندهم، وإسرار الندامة إخفاؤها وكتمانها خشية الشماتة ونحوها، والظاهر أنّ المراد بالقضاء والعذاب في الآية هو القضاء و العذاب الدنيويّان لا غير.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الآية وما بعدها بيان برهانىّ على حقّيّة ما ذكره من كونه حقّاً واقعاً لا يمنع عنه مانع فإنّ كلّ شئ ممّا في السماوات والأرض إذا كان مملوكاً لله وحده لا شريك له كان كلّ تصرّف مفروض فيها إليه تعالى، ولم يكن لغيره شئ من التصرّف إلّا بإذنه فإذا تصرّف في شئ كان مستنداً إلى إرادته فقط من غير أن يستند إلى مقتض آخر خارج يتصرّف في ذاته المقدّسة فيحمله على الفعل، أو يتقيّد بعدم مانع خارجيّ إذا وجد تصرّف فيه سبحانه بمنعه عن الفعل، فهو تعالى يفعل ما يفعل عن نفسه من غير أن يرتبط إلى مقتض من خارج أو مانع من خارج فإذا أراد سبحانه شيئاً فعله من غير ممدّ أو عائق، وإذا وعد وعداً كان حقّاً لا مردّ له من غير أن يتغيّر عن وعده بصارف.

فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقيّ يهدى إلى العلم بأنّ وعده حقّ لا يمازجه باطل ولكنّ أكثرهم وهم العامّة من الناس لا يعلمون لعجزهم عن الإمعان في هذه الأبحاث الحقيقيّة أو إعجابهم بسذاجة الفهم وانسلاكهم في سلك العامّة.

٧٦

فهم على ذلك يقيسون ملكه تعالى إلى ملك العظماء المستعلين من الإنسان فإنّهم يجدون الواحد من عظمائهم وقد اُوتى ملكاً وسلطاناً ومن كلّ ما يتنافس فيه فيرون له القدرة المطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثمّ يجدونه ربّما يهم ويسعى ولا يقع ما اهتمّ به أو وعد وعداً ثمّ لم يف به رعآية لمصلحة شخصه أو غيره أو لمانع عائق فيقيسون أمره تعالى إلى أمره، ووعده إلى وعده. على أنّ الوعد عندهم قول من شأنه جواز أن ينطبق على الخارج وأن لا ينطبق.

مع أنّ حقيقة معنى ملكه وسلطانه وسعة قدرته ونفوذ إرادته أنّ الناس يعتقدون له ذلك ويتصوّرونه عظيماً فيهم ولو طحنته نازلات الدهر يوماً فأهلكته أو تغيّرت عليه عقائد الناس بسبب من الأسباب سلبته ما عنده من ملك وقدرة، ومعنى وقوع ما أراده أو أحبّه أنّ الأسباب الكونيّة ساعدته على ذلك ووافقته على ما أحبّه، ولو لم تساعده ولم توافقه كلّيّة الأسباب لم يكن له أن يضطرّها إلى الخضوع لما يتوهّم لنفسه من القدرة كما لا توافقه على مثل الموت والحياة والشباب والشيب والصحّة والمرض واُمور اُخرى كثيرة فليس له من الأمر شئ.

لكنّه سبحانه مالك لخلقه بمعنى أنّ وجود كلّ شئ قائم به متكوّن متحوّل بأمره منوط باذنه، وما تصرّف فيه من شئ فإنّما يتصرّف عن نفسه لا عن اقتضاء من مقتض خارج مؤثّر فيه أو عدم مانع يعوقه عن فعله فلا ينتسب شئ إلّا إليه تعالى نفسه أو إلى غيره بإذنه بمقدار ما أذن فكيف يمكن أن يتخلّف عن مشيّته شئ فيرجع إلى غيره ولا غير هناك يرجع نحوه وينتسب إليه؟

وقوله تعالى فعله بما يدلّ بنفسه على مراده فكيف يتسرّب إليه الكذب وهو متن الخارج، والعين الخارجيّ لا كذب فيه؟ وإنّما الكذب والخطأ شأن المفاهيم الذهنيّة من حيث انطباقها على الخارج، وكيف يكون وعده باطلا ووعده لنا هو فعله الغائب عن نظرنا المستقبل لنا، وقد وجّه كلّيّه الأسباب إليه ولا مردّ له؟

فإمعان النظر في هذه الحقائق ينوّر للباحث المتدبّر معنى ملكه تعالى لما في السماوات والأرض، وأنّ لازم ذلك أنّ وعد الله حقّ، وأنّ الارتياب فيه إنّما

٧٧

هو من الجهل بمقامه تعالى.

ولذلك قال تعالى أوّلا:( أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ عقّبه بقوله كالاستنتاج منه:( أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) ثمّ استدرك فقال:( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) ثمّ بيّن ملكه بقوله:( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) الخ في الآية التالية.

قوله تعالى: ( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) احتجاج على ما تقدّم في الآية السابقة من ملكه تعالى بالنسبة إلى نوع الإنسان كأنّه تعالى يقول: إنّ أمركم جميعاً من حياة وموت ورجوع إليه تعالى فكيف لا تكونون ملكا له.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفرعليه‌السلام في قوله:( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا) يعنى ليلا( أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة وهم يجحدون نزول العذاب عليهم.

أقول: والرواية تتأيّد بالآيات وتؤيّد ما أسلفناه من البيان.

وفيه بإسناده عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن رجل عن حمّاد بن عيسى عمّن رواه، عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: سئل عن قوله تبارك وتعالى:( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) قال: قيل له ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء.

٧٨

( سورة يونس آية ٥٧ - ٧٠)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ( ٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ( ٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ( ٥٩) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ( ٦٠) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ( ٦١) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ( ٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٦٤) وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٦٥) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ( ٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ( ٦٧) قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ( ٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ( ٦٩) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ( ٧٠)

٧٩

( بيان)

عاد الكلام في الآيات إلى وصف القرآن الكريم بما له من كرائم الأوصاف ويتلوه متفرّقات ترتبط بسابق القول في غرض السورة، وفيها موعظة وحكمة وحجّة على مقاصد شتّى، وفيها وصف أولياء الله وبشارتهم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) إلى آخر الآية. قال الراغب في المفردات: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرقّ له القلب، والعظة والموعظة الاسم، انتهى. والصدر معروف والناس لمّا وجدوا القلب في الصدر وهم يرون أنّ الإنسان إنّما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الاُمور ويحبّ ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنّى، عدّوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحيّة الّتى في باطن الإنسان من فضائل ورذائل، وفي الفضائل صحّة القلب واستقامته، وفي الرذائل سقمه ومرضه، والرذيلة داء يقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق وحرج، ويقال: شفيت قلبى، فشفاء الصدور وشفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحيّة الخبيثة الّتى تجلب إلى الإنسان الشقاء وتنغّص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدنيا والآخرة.

والهدى هي الدلالة على المطلوب بلطف على ما ذكره الراغب، وقد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) الانعام: ١٢٥ في الجزء السابع من الكتاب بحث فيها.

والرحمة تأثّر خاصّ في القلب عن مشاهدة ضرّ أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إليه تعالى كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثّر لتنزّهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيّته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.

وعطيّته إذا نسبت إلى مطلق خلقه كانت هي ما ينسب إليه تعالى من وجودهم

٨٠