الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109343
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109343 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وبقائهم ورزقهم الّذى يمدّ به بقاؤهم وسائر ما ينعم به عليهم من نعمه الّتى لا تحصى كثرة وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، وإذا نسبت إلى المؤمنين خاصّة كانت هي ما يختصّ بهم من سعادة الحياة الإنسانيّة بمظاهرها المختلفة الّتى ينعم الله بها عليهم من المعارف الحقّة الإلهيّة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة، والحياة الطيّبة في الدنيا والآخرة والجنّة والرضوان.

ومن ثمّ إذا وصف القرآن بأنّه رحمة للمؤمنين كان معناه أنّه يغشى المؤمنين أنواع الخيرات والبركات الّتى كنزها الله فيه لمن تحقّق بحقائقها وتلبّس بمعانيها، قال تعالى:( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) أسرى: ٨٢.

وإذا اُخذت هذه النعوت الأربعة الّتى عدّها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية أعنى أنّه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة، وقيس بعضها إلى بعض ثمّ اعتبرت مع القرآن كنت الآية بيانا جامعا لعامّة أثره الطيّب الجميل وعلمه الزاكى الطاهر الّذى يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أوّل ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكّن من نفوسهم ويستقرّ في قلوبهم.

فإنّه يدركهم أوّل ما يدركهم وقد غشيهم يمّ الغفلة وأحاطت بهم لجّة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشكّ والريب، وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكلّ صفة أو حالة رديّة خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبّههم بها عن رقدة الغفلة، ويزجرهم عمّا بهم من سوء السريرة والأعمال السيّئة، ويبعثهم نحو الخير والسعادة.

ثمّ يأخذ في تطهير سرّهم عن خبائث الصفات، ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحداً بعد آخر حتّى يأتي على آخرها.

ثمّ يدلّهم على المعارف الحقّة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف برفعهم درجة بعد درجة، وتقريبهم منزلة فمنزلة حتّى يستقرّوا في مستقرّ المقرّبين، ويفوزوا فوز المخلصين.

ثمّ يلبسهم لباس الرحمة وينزّلهم دار الكرامة ويقرّهم على أريكة السعادة

٨١

حتّى يلحقهم بالنبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن اُولئك رفيقا، ويدخلهم في زمرة عباده المقرّبين في أعلى علّيّين.

فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنّما يعظ بما فيه ويشفى الصدور ويهدى ويبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنّه السبب الموصول بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. فافهم ذلك.

وقد افتتح سبحانه الآية بقوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) وهو خطاب لعامّة الناس دون المشركين أو مشركي مكّة خاصّة وإن كانت الآية واقعة في سياق الكلام معهم وذلك لأنّ النعوت المذكورة فيها بقوله:( قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) تتعلّق بعامّتهم دون قبيل خاصّ منهم.

ومن غريب التفسير قول بعضهم: إنّ المراد بالرحمة ما يتّصف به المؤمنون من الرحمة والرأفة فيما بينهم وهو خطأ يدفعه السياق البتّة.

قوله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) الفضل هو الزيادة، وتسمّى العطيّة فضلا لأنّ المعطى إنّما يعطى غالباً ما لا يحتاج إليه من المال ففى تسمية ما يفيضه الله على عباده فضلا إشارة إلى غناه تعالى وعدم حاجته في إفاضته إلى ما يفيضه ولا إلى من يفيض عليه.

وليس من البعيد أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامّة خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإنّ رحمة السعادة الدينيّة إذا انضمّت إلى النعمة العامّة من حياة ورزق وسائر البركات العامّة كان المجموع منهما أحقّ بالفرح والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج.

ومن الممكن أن يتأيد ذلك بقوله:( بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ) حيث اُدخلت باء السببيّة على كلّ من الفضل والرحمة، وهو مشعر بكون كلّ واحد منهما سبباً مستقلّاً وإن جمع بينهما ثانياً بقوله:( فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) للدلالة على استحقاق مجموعهما لأن ينحصر فيه الفرح.

٨٢

ويمكن أن يكون المراد بالفضل غير الرحمة من الاُمور المذكورة في الآية السابقة أعني الموعظة وشفاء ما في الصدر والهدى، والمراد بالرحمة الرحمة بمعناها المذكور في الآية السابقة وهى العطيّة الخاصّة الإلهيّة الّتى هي سعادة الحياة في الدنيا والآخرة.

والمعنى على هذا أنّ ما تفضّل الله به عليهم من الموعظة وشفاء ما في الصدور والهدى، وما رحم المؤمنين به من الحياة الطيّبة ذلك أحقّ أن يفرحوا به دون ما يجمعونه من المال.

وربّما تأيّد هذا الوجه بقوله سبحانه:( وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ) النور: ٢١ حيث نسب زكاتهم إلى الفضل والرحمة معا واستناد الزكاة إلى الفضل بمعنى العطيّة العامّة بعيد عن الفهم، وممّا يؤيّد هذا الوجه ملائمته لما ورد في الرواية من تفسير الآية بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلىّعليه‌السلام أو بالقرآن والاختصاص به وسيجئ إن شاء الله.

وقوله:( فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) ذكروا أنّ الفاء في قوله:( فَلْيَفْرَحُوا ) زائدة كقول الشاعر:( فإذا قتلت فعند ذلك فاجزعى ) والظرف أعني قوله:( فَبِذَٰلِكَ ) بدل من قوله:( بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ) ومتعلّق بقوله:( فَلْيَفْرَحُوا ) قدّم عليه لإفادة الحصر، وقوله:( هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) بيان ثان لمعنى الحصر.

فظهر بذلك كلّه أنّ الآية تفريع على مضمون الآية السابقة فإنّه تعالى لمّا خاطب الناس امتنانا عليهم بأنّ هذا القرآن موعظة لهم وشفاء لما في صدورهم وهدى ورحمة للمؤمنين منهم فرّع عليه أنّه ينبغى لهم حينئذ أن يفرحوا بهذا الّذى امتنّ به عليهم من الفضل والرحمة لا بالمال الّذى يجمعونه فإنّ ذلك - وفيه سعادتهم وما تتوقّف عليه سعادتهم - خير من المال الّذى ليس إلّا فتنة ربّما أهلكتهم وأشقتهم.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ) إلى آخر الآية. نسبة الرزق وهو ما يمدّ الإنسان في بقائه من الاُمور الأرضيّة من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها إلى الإنزال مبنىّ على حقيقة يفيدها القرآن

٨٣

وهى أنّ الأشياء لها خزائن عند الله تتنزّل من هناك على حسب ما قدّرها الله سبحانه، قال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ وقال تعالى:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) الذاريات: ٢٢ وقال:( وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) الزمر: ٦ وقال:( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ ) الحديد: ٢٥.

وأمّا ما قيل: إنّ التعبير بالإنزال إنّما هو لكون أرزاق العباد من المطر الّذى ينزّله الله من السماء، فوجه بسيط لا يطّرد على تقدير صحّته في جميع الموارد الّتى عبّر فيها عن كينونتها بالإنزال كما في الأنعام وفي الحديد، والرزق الّذى تذكر الآية أنّ الله أنزله لهم فجعلوا منه حراماً وحلالاً هو الأنعام من الإبل والغنم كالوصيلة والسائبة والحام وغيرها.

واللّام في قوله:( لَكُم ) للغاية وتفيد معنى النفع أي أنزل الله لأجلكم ولتنتفعوا به، وليست للتعدية فإنّ الإنزال إنّما يتعدّى بعلى أو إلى، ومن هنا أفاد الكلام معنى الإباحة والحلّ أي أنزلها الله فأحلّها، وهذا هو النكتة في تقديم التحريم على الإحلال في قوله:( فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ) أي كان الله أحلّه لكم بإنزاله رزقاً لكم تنتفعون به في حياتكم وبقائكم ولكنّكم قسمتموه قسمين من عند أنفسكم فحرّمتم قسما وأحللتم آخر فالمعنى: قل لهم يا محمّد: أخبروني عمّا أنزل الله لكم ولأجلكم من الرزق الحلال فقسمتموه قسمين وجعلتم بعضه حراماً وبعضه حلالاً ما هو السبب في ذلك؟ ومن البيّن أنّه افتراء على الله لا عن إذن منه تعالى.

وقوله:( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) سؤال عن سبب تقسيمهم الرزق إلى حرام وحلال، وإذ كان من البيّن أنّه ليس ذلك عن إذن منه تعالى لعدم اتّصالهم بربّهم بوحى أو رسول كان من المتعيّن أنّه افتراء فالاستفهام في سياق الترديد كناية عن إثبات الافتراء لهم وتوبيخ وذمّ.

والّذى يقضى به النظر الابتدائيّ أنّ الترديد في الآية غير حاصر إذ كما يجوز أن يكون تقسيمهم رزق الله إلى حرام وحلال عن إذن من الله أو افتراء عليه تعالى كذلك يجوز أن يكون عن مصلحة أحرزوها أو زعموها في ذلك أو عن هوى لهم

٨٤

فيه من غير أن ينسبوه إلى الله تعالى فيكون افتراء عليه.

ومن وجه آخر الترديد في الآية بين إذن الله والافتراء على الله يشعر بأنّ الحكم إنّما هو لله فالحكم بكون بعض الرزق حراماً وبعضه حلالاً وهو دائر بينهم إمّا أن يكون من الله أو افتراء عليه، ومن الممكن أن يمنع ذلك في بادئ النظر فكثير من السنن الدائرة بين الناس كوّنتها طبيعة مجتمعهم أو عادتهم القوميّة وغير ذلك.

لكنّ التدبّر في كلامه تعالى والبحث العميق يدفع ذلك فإنّ القرآن يرى أنّ الحكم يختصّ بالله تعالى، وليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم ووضعه في المجتمع الإنسانيّ، قال تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) يوسف: ٤٠.

وقد أشار تعالى إلى لمّ ذلك في قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠ فتبيّن به أنّ معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة والفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما ينطق به الكون والوجود.

وذلك أنّ الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال:( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) المؤمنون: ١١٥ بل خلقهم لأغراض إلهيّة وغآيات كماليّة يتوجّهون إليها بحسب جبلّتهم ويسيرون نحوها بفطرتهم بما جهّزهم به من الأسباب والأدوات وهداهم إليه من السبيل الميسّر لهم كما قال:( أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥٠، وقال:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: ٢٠.

فوجود الأشياء في بدء خلقها مناسب لما هيّئ لها من منزلة الكمال مجهّز بقوى وأدوات يتوسّل بها إلى غايتها، ولا يسير شئ منها إلى كماله المهيّأ له إلّا من طريق الصفات الاكتسابيّة والأعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعنى القوانين الجارية في الصفات والأعمال الاكتسابيّة منطبقا على الخلقة والفطرة فإنّ الفطرة لا تنسى غايتها ولا تتخطّاها، ولا تبعث نحو فعل ولا تزجر عن فعل إلّا لدعوة ما جهّزت به إليه، ولا يدعو الجهاز إلّا لأجل ما جهّز لأجله وهو الغاية.

٨٥

فالإنسان لمّا كان مجهّزا بجهاز التغذية والنكاح كان حكمه الحقيقيّ في دين الفطرة هو التغذّى والنكاح دون الجوكيّة والرهبانيّة مثلاً، ولمّا كان مطبوعاً على الاجتماع والتعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم ويقوم بالأعمال الاجتماعيّة، وعلى هذا القياس.

فالذي يتعيّن للإنسان من الأحكام والسنن هو الّذى يدعوه إليه الكون العالميّ الّذى هو جزء حقير منه، وقد جهّز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا الكون العامّ المرتبط بعض أجزائه ببعض، وهو مركب إرادة الله تعالى هو الحامل للشريعة الفطريّة الإنسانيّة، والداعى إلى دين الله الحنيف.

فالدين الحقّ هو حكم الله سبحانه لا حكم إلّا له، وهو المنطبق على الخلقة الإلهيّة، وما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الإنسان إلّا إلى الشقاء والهلاك ولا يهديه إلّا إلى عذاب السعير.

ومن هنا ينحلّ ما تقدّم من العقدتين فإنّ الحكم لمّا كان لله سبحانه وحده كان كلّ حكم دائر بين الناس إمّا حكما لله حقيقة مأخوذا من لدنه بوحى أو رسالة أو حكما مفترى على الله، ولا ثالث للقسمين.

على أنّ المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الأحكام الّتى ابتدعوها واستنّوا بها فيما بينهم إلى الله سبحانه كما يشير إليه قوله تعالى:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا ) الآية الأعراف: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) إلى آخر الآية، لمّا كان جواب الاستفهام المتقدّم:( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) معلوما من المورد، وهو أنّه افتراء، استعظم وخامة عاقبته فإنّه افتراء على الله سبحانه والافتراء من الآثام والذنوب بحكم البداهة فلا محاله له أثر سيّئ، ولذلك قال تعالى إيعاداً وتهديداً:( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .

وأمّا قوله:( إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ) فهو شكوى وعتبى يشار به إلى ما اعتاد عليه الناس من كفران أكثرهم لنعمة الله، و

٨٦

عدم شكرهم قبال عطيّته ونعمته، والمراد بالفضل ههنا هو العطيّة الإلهيّة فإنّ الكلام في الرزق الّذى أنزله الله لهم وهو الفضل، وتحريمهم بعضه وهو الكفران وعدم الشكر.

وبرجوع ذيل الآية إلى صدرها يكون الافتراء على الله من مصاديق كفران نعمته، والمعنى أنّ الله ذو فضل وعطاء على الناس ولكنّ أكثرهم كافرون لنعمته وفضله فما ظنّ الّذين يكفرون بنعمة الله ورزقه بتحريمه افتراء على الله الكذب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الشأن الحال والأمر الّذى يتّفق ويصلح، ولا يقال إلّا فيما يعظم من الأحوال والاُمور قال:( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) . انتهى.

وقوله:( وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ) الظاهر أنّ الضمير إلى الله سبحان ومن الاُولى للابتداء والنشوء والثانية للبيان، والمعنى: ولا تتلو شيئاً هو القرآن ناشئاً ونازلاً من قبله تعالى، والإفاضة في الفعل الخوض فيه جمعاً.

وقد وقع في قوله:( إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ) التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير، والنكتة فيه الإشارة إلى كثرة الشهود فإنّ لله شهودا على أعمال الناس من الملائكة والناس والله من ورائهم محيط، والعظماء يتكلّمون عنهم وعن غيرهم للدلالة على أنّ لهم أعوانا وخدمة.

وليس ينبغى أن يغفل عن أنّ أصل الالتفات يبدء من أوّل الآيه فإنّ الآيات السابقة كانت تخاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأخذ المشركين على الغيبة وتكلّمهم بوساطته من غير أن تواجهه بشئ من الخطاب يخصّ نفسه، وقد حوّلت هذه الآية وجه الكلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يخصّ به نفسه فقالت:( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ) ثمّ جمعته والمشركين وغيرهم جميعاً في خطاب واحد فقالت:( وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ) وذلك بضمّهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم على

٨٧

غيبتهم وبسط الخطاب على الجميع بنوع من التغليب كما تقول لمخاطبك: أنت وقومك تفعلون كذا وكذا.

والدليل على أنّ هذا الخطاب بنحو الضمّ والتغليب قوله بعده:( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ ) الخ، فإنّه يكشف عن كون الخطاب معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاريا على ما كان.

وعلى أيّ حال فالتحوّل المذكور في خطاب الآية للإشارة إلى أنّ السلطنة والإحاطة التامّة الإلهيّة واقعة على الأعمال شهادة وعلماً على أتمّ ما يكون من كلّ جهة من غير أن يستثنى منه نبىّ ولا مؤمن ولا مشرك أو يغفل عن عمل من الأعمال فلا يتوهّمنّ أحد أنّ الله يخفى عليه شئ من أمره فلا يحاسبه عليه يوم القيامة، وليكن هذا هو ظنّه بربّه يوم القيامة وليأخذ حذره.

وذكر تلاوة القرآن مستقلّاً مع دخوله في قوله قبلا:( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ) فإنّه أحد شؤونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإيماء إلى أهميّة أمرها ومزيد العنآية بها.

وفي الآية أوّلاً تشديد في العظة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى اُمّته، وثانياً: أنّ الّذى يتلوه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن للناس من وحى الله وكلامه لا يطرقه تغيير ولا يدبّ فيه باطل لا في تلقّيه من الله ولا في تلاوته للناس فالآية قريبة المضمون من قوله:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

وقوله:( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ) إلى آخر الآية العزوب الغيبة والتباعد والخفاء، وفيه إشارة إلى حضور الأشياء عنده تعالى من غير غيبة وحفظه لها في كتاب من غير زوال، وقد تقدّم بعض ما يتعلّق به من الكلام في ذيل قوله:( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) الأنعام: ٥٩ في الجزء السابع من الكتاب.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) استئناف في الكلام غير أنّه متعلّق بغرض السورة وهو الدعوة إلى الإيمان بكتاب الله والندب إلى توحيد الله تعالى بمعناه الوسيع.

وللدلالة على أهميّة المطلب افتتح بلفظة( أَلَا ) التنبيهيّة، والله سبحانه يذكر

٨٨

في هذه الآية والآيتين بعدها أولياءه ويعرّفهم ويصف آثار ولايتهم وما يختصّون به من الخصيصة.

والولآية وإن ذكروا لها معاني كثيرة لكنّ الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثمّ استعيرت لقرب الشئ من الشئ بوجه من وجوه القرب كالقرب نسباً أو مكاناً أو منزلة أو بصداقة أو غير ذلك ولذلك يطلق الولىّ على كلّ من طرفي الولآية، وخاصّة بالنظر إلى أنّ كلّا منهما يلى من الآخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولىّ عبده المؤمن لأنّه يلى أمره ويدبّر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم ويأمره وينهاه فيما ينبغى له أو لا ينبغى وينصره في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

والمؤمن حقّا ولى ربّه لأنّه يلى منه إطاعته في أمره ونهيه ويلى منه عامّة البركات المعنويّة من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الإكرام بالجنّة والرضوان.

فأولياء الله - على أيّ حال - هم المؤمنون فإنّ الله يعدّ نفسه وليّاً لهم في حياتهم المعنويّة حيث يقول:( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٦٨.

غير أنّ الآية التالية لهذه الآية المفسّرة للكلمة تأبى أن تكون الولآية شاملة لجميع المؤمنين وفيهم أمثال الّذين يقول الله سبحانه فيهم:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦ فإنّ قوله في الآية التالية:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يعرّفهم بالإيمان والتقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمرّ سابق على إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل:( آمَنُوا ) ثمّ قيل عطفا عليه:( وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) فدلّ على أنّهم كانوا يستمرّون على التقوى قبل تحقّق هذا الإيمان منهم ومن المعلوم أنّ الإيمان الابتدائيّ غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى وخاصّة التقوى المستمرّ.

فالمراد بهذه الإيمان مرتبة اُخرى من مراتب الإيمان غير المرتبة الاُولى منه. فقد تقدّم في الجزء الأوّل من الكتاب آية ١٣٠ من البقرة أنّ لكلّ من

٨٩

الإيمان والاسلام وكذا الشرك والكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الاُولى من الإسلام إجراء الشهادتين لساناً والتسليم ظاهراً، وتليه المرتبة الاُولى من الإيمان وهو الإذعان بمؤدّى الشهادتين قلباً إجمالاً وإن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحقّ، ولذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦.

ولا يزال إسلام العبد يصفو وينمو حتّى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كلّ ما يرجع إليه وإليه مصير كلّ أمر، وكلّما ارتفع الإسلام درجة ورقى مرتبة كان الإيمان المناسب له الإذعان بلوازم تلك المرتبة حتّى يسلم العبد لربّه حقيقة معنى ألوهيّتة، وينقطع عنه السخط والاعتراض فلا يسخط لشئ من أمره من قضاء وقدر وحكم، ولا يعترض على شئ من إرادته، وبإزاء ذلك الإيمان باليقين بالله وجميع ما يرجع إليه من أمر، وهو الإيمان الكامل الّذى تتمّ به للعبد عبوديّته.

قال تعالى:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء: ٦٥، والأشبه أن تكون هذه المرتبة من الإيمان أو ما يقرب منه هو المراد بالآية أعنى قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) فإنّه الإيمان المسبوق بتقوى مستمرّ دون الإيمان بمرتبته الاُولى كما تقدّم.

على أنّ توصيفه أهل هذا الإيمان بأنّهم( لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) يدلّ على أنّ المراد منه الدرجة العالية من الإيمان الّذى يتمّ معه معنى العبوديّة والمملوكيّة المحضة للعبد الّذى يرى معه أنّ الملك لله وحده لا شريك له، وأن ليس إليه من الأمر شئ حتّى يخاف فوته أو يحزن لفقده.

وذلك أنّ الخوف إنّما يعرض للنفس عن توقّع ضرر يعود إليها، والحزن إنّما يطرء عليها لفقد ما تحبّه أو تحقّق ما تكرهه ممّا يعود إليها نفعه أو ضرره، ولا يستقيم تحقّق ذلك إلّا فيما يرى الإنسان لنفسه ملكاً أو حقّاً متعلّقاً بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك. وأمّا ما لا علقة للإنسان به بوجه

٩٠

من الوجوه أصلاً فلا يخاف الإنسان عليه ولا يحزن لفقده البتّة.

والّذى يرى كلّ شئ ملكاً طلقاً لله سبحانه لا يشاركه في ملكه أحد لا يرى لنفسه ملكاً أو حقّاً بالنسبة إلى شئ حتّى يخاف في أمره أو يحزن، وهذا هو الّذى يصفه الله من أوليائه إذ يقول:( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فهؤلاء لا يخافون شيئاً ولا يحزنون لشئ لا في الدنيا ولا في الآخرة إلّا أن يشاء الله وقد شاء أن يخافوا من ربّهم وأن يحزنوا لما فاتهم من كرامته إن فاتهم وهذا كلّه من التسليم لله فافهم ذلك.

فإطلاق الآية يفيد اتّصافهم بهذين الوصفين: عدم الخوف وعدم الحزن في النشأتين الدنيا والآخرة، وأمّا مثل قوله تعالى:( إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) الزخرف: ٧٠ فإنّ ظاهر الآيات وإن كان هو أنّها تريد الأولياء بالمعنى الّذى تصفه الآية الّتى نحن فيها إلّا أنّ إثبات عدم الخوف والحزن لهم يوم القيامة لا ينفى ذلك عنهم في غيره. نعم هناك فرق من جهة اُخرى وهو خلوص النعمة والكرامة وبلوغ صفائها يوم القيامة وكونها مشوبة غير خالصة في غيره.

ونظيرها قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) فصّلت: ٣١ فإنّ الآيات وإن كنت ظاهرة في كون هذا التنزّل والقول والبشارة يوم الموت لمكان قوله:( كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) وقوله:( أَبْشِرُوا ) غير أنّ الإثبات في وقت لا يكفى للنفي في وقت آخر كما عرفت.

هذا ما يدلّ عليه الآية بحسب إطلاق لفظها وتأييد سائر الآيات لها، وقد قيّد أكثر المفسّرين قوله:( لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) - بالاستناد إلى آيات الآخرة - بيوم الموت والقيامة، وأهملوا ما تفيده خصوصيّة اللّفظ في قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) وأخذوا الإيمان والتقوى أمرين متقارنين فرجع المعنى إلى أنّ أولياء الله هم المتّقون من أهل الإيمان ولا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون

٩١

وهذا - كما عرفت - من التقييد من غير مقيّد.

وعمّم بعضهم نفى الخوف والحزن فذكر أنّهم متّصفون به في الدنيا والآخرة غير أنّه أفسد المعنى من جهة اُخرى فقال: إنّ المراد بالأولياء على ما تفسّرهم به الآية الثانية جميع المتّقين من المؤمنين، والمراد بعدم خوفهم وحزنهم أنّهم لا يخافون في الآخرة ممّا يخاف منه الكافرون والفاسقون والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الموقف وعذاب الآخرة ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم وأنّهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفّار ولا يحزنون كحزنهم.

قال: وأمّا أصل الخوف والحزن فهو من الأعراض البشريّة الّتى لا يسلم منها أحد في الدنيا، وإنّما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس وأرضاهم بسنن الله اعتقاداً وعلماً بأنّه إذا ابتلاهم بشئ ممّا يخيف أو يحزن فإنّما يربّيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الّذى يزداد به أجرهم كما صرّحت بذلك الآيات الكثيرة. انتهى.

أمّا تقييده الآية بأنّ المنفىّ عن الأولياء هو الخوف والحزن للّذين يعرضان للكفّار دون ما يعرض لعامّة المؤمنين بحسب الطبع البشرىّ واستناده في ذلك إلى الآيات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيّد، وأمّا قوله: إنّ أصل الخوف والحزن ممّا لا يسلم منه أحد أصلاً فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمّقه في البحث عن الأخلاق العالية والمقامات المعنويّة الإنسانيّة فحمله ذلك على أن يقيس حال المكرمين من عباد الله المقرّبين من الأنبياء والأولياء إلى ما يجده من حال المتوسّطين من عامّة الناس فزعم أنّ ما يغشى العامّة من الأعراض الّتى سمّاها أحوالاً طبيعيّة يغشى الخاصّة لا محالة، وأنّ ما يتعدّر أو يتعسّر على المتوسّطين من الأحوال فهو كذلك عند الكاملين، ولا يبقى حينئذ للمقامات المعنويّة والدرجات الحقيقيّة إلّا أنّها أسماء ليس وراءها حقيقة، واعتبارات وضعيّة اصطلح عليها نظير المقامات الوهميّة والدرجات الرسميّة الاجتماعيّة الّتى نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع.

فلا وفى حقّ البحث العلميّ حتّى يهديه إلى حقّ النتيجة فيتبيّن أنّ التوحيد

٩٢

الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شئ من الاستقلال في التأثير حتّى يتعلّق به لنفسه حبّ أو بغض أو خوف أو حزن ولا فرح ولا أسى ولا غير ذلك، وإنّما يخاف هذا الّذى غشيه التوحيد ويحزن أو يحبّ أو يكره بالله سبحانه، ويرتفع التناقض حينئذ بين قولنا: إنّه لا يخاف شيئاً إلّا الله وبين قولنا: إنّه يخاف كثيراً ممّا يضرّه ويحذر اُموراً يكرهها فافهم ذلك.

ولا البحث القرآنيّ أتقن واستفرغ فيه الوسع حتّى يظهر له أنّ قوله تعالى:( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) اُطلق فيه نفى الخوف والحزن من غير تقييد بشئ أو حال إلّا ما صرّح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا يخافون من شئ في دنيا ولا آخرة إلّا من الله سبحانه ولا يحزنون.

وأمّا الآيات الكثيرة الّتى تصف المؤمنين بعدم الخوف والحزن عند الموت أو يوم القيامة فهى إنّما تصف أحوالهم في ظرف ولا يستوجب نفى شئ أو إثباته في مورد خلافه في غيره وهو ظاهر.

والآية مع ذلك تدلّ على أنّ هذا الوصف إنّما هو لطائفة خاصّة من المؤمنين يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصّة من الإيمان تخصّهم دون غيرهم من عامّة المؤمنين وذلك بما يفسّرها من قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) بما تقدّم من تقرير دلالته.

وبالجملة ارتفاع الخوف من غير الله والحزن عن الأولياء ليس معناه أنّ الخير والشرّ والنفع والضرر والنجاة والهلاك والراحة والعناء واللذّة والألم والنعمة والبلاء متساوية عندهم ومتشابهة في إدراكهم فإنّ العقل الإنسانيّ بل الشعور العامّ الحيوانىّ لا يقبل ذلك.

بل معناه أنّهم لا يرون لغيره تعالى استقلالاً في التأثير أصلاً، ويقصرون الملك والحكم فيه تعالى فلا يخافون إلّا إيّاه أو ما يحبّ الله ويريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه.

قوله تعالى: ( لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ

٩٣

اللهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) يبشّرهم الله تعالى بشارة إجماليّة بماتقرّ به أعينهم فإن كان قوله:( لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ) إنشاء للبشارة كان معناه وقوع ما بشّر به في الدنيا وفي الآخرة كلتيهما، وإن كان إخباراً بأنّ الله سيبشّرهم بشرى كانت البشارة واقعة في الدنيا وفي الآخرة، وأمّا المبشّر به فهل يقع في الآخرة فقط أو في الدنيا والآخرة معاً؟ الآية ساكتة عن ذلك.

وقد وقع في كلامه تعالى بشارات للمؤمنين بما ينطبق على أوليائه تعالى كقوله تعالى:( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ وقوله:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن: ٥١ وقوله:( بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) الحديد: ١٢ إلى غير ذلك.

وقوله:( لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) إشارة إلى أنّ ذلك من القضاء المحتوم الّذى لا سبيل للتبدّل إليه، وفيه تطييب لنفوسهم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) تأديب للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعزيته وتسليته فيما كانوا يؤذونه به بالوقوع في ربّه والطعن في دينه والاعتزاز بشركائهم وآلهتهم كما يشعر به القول في الآية التالية فكاد يحزن لله فسلّاه الله وطيّب نفسه بتذكيره ما يسكن وجده وهو أنّ العزّة لله وأنّه سميع لمقالهم عليهم بحاله وحالهم وإذ كان له تعالى كلّ العزّة فلا يعبأ بما اعتزّوا به من العزّة الوهميّة فهذوا ما هذوا، وإذ كان سميعا عليما فلو شاء لأخذهم بالنكال وإذ كان لا يأخذهم فإنّما في ذلك مصلحة الدعوة وخير العاقبة.

ومن هنا يظهر أنّ كلّاً من قوله:( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ ) وقوله:( هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) علّة مستقلّة للنهى ولذا جئ بالفصل من غير عطف.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية فيه بيان مالكيّته تعالى لكلّ من في السماوات والأرض الّتى بها يتمّ للإله معنى الربوبيّة فإنّ الربّ هو المالك المدبّر لأمر مملوكه، وهذا الملك لله وحده لا شريك

٩٤

له فما يدعون له من الشركاء ليس لهم من معنى الشركة إلّا ما في ظنّ الداعين وفي خرصهم من المفهوم الّذى لا مصداق له.

فالآية تقيس شركاءهم إليه تعالى وتحكم أنّ نسبتهم إليه تعالى نسبة الظنّ والخرص إلى الحقيقة والحقّ، والباقى ظاهر.

وقد قيل:( مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ) ولم يقل: ما في السماوات وما في الأرض لأنّ الكلام في ربوبيّة العباد من ذوى الشعور والعقل وهم الملائكة والثقلان.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ) الآية. الآية تتممّ البيان الّذى اُورد في الآية السابقة لإثبات ربوبيّته تعالى والربوبيّة - كما تعلم - هي الملك والتدبير، وقد ذكر ملكه تعالى في الآية السابقة، فبذكر تدبير من تدابيره العامّة في هذه الآية تصلح به عامّة معيشة الناس وتستبقى به حياتهم يتمّ له معنى الربوبيّة.

وللإشارة إلى هذا التدبير ذكر مع الليل سكنهم فيه، ومع النهار إبصارهم فيه الباعث لهم إلى أنواع الحركات والتنقّلات لكسب موادّ الحياة وإصلاح شؤون المعاش فليس يتمّ أمر الحياة الإنسانيّة بالحركة فقط أو بالسكون فقط فدبّر الله سبحانه الأمر في ذلك بظلمة الليل الداعية إلى تجديد تجهيز القوى بعد ما لحقها من العىّ والتعب والنصب وإلى الارتياح والاُنس بالأهل والتمتّع ممّا جمع واكتسب بالنهار والفراغ للعبوديّة، وبضوء النهار الباعث إلى الرؤية فالاشتياق فالطلب.

قوله تعالى: ( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية. الاستيلاد بمعناه المعروف عند الناس هو أن يفصل الموجود الحىّ بعض أجزاء مادّته فيربّيه بالحمل أو البيض تربية تدريجيّة حتّى يتكوّن فرداً مثله، والإنسان من بينها خاصّة ربّما يطلب الولد ليكون عوناً له على نوائب الدهر وذخراً ليوم الفاقة، وهذا المعنى بجميع جهاته محال عليه تعالى فهو عزّ اسمه

٩٥

منزّه عن الأجزاء متعال عن التدريج في فعله برئ عن المثل والشبه مستغن عن غيره بذاته.

وقد نفى القرآن الولد عنه بالاحتجاج عليه من كلّ من الجهات المذكورة كما تعرّض لنفيه من جميعها في قوله:( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) البقرة: ١١٧ وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات في الجزء الأوّل من الكتاب.

وأمّا الآية الّتى نحن فيها فهى مسوقة للاحتجاج على نفى الولد من الجهة الأخيرة فحسب وهو أنّ الغرض من وجوده الاستعانة به عند الحاجة وذلك إنّما يتصوّر فيمن كان بحسب طبعه محتاجاً فقيرا، والله سبحانه هو الغنىّ الّذى لا يخالطه فقر فإنّه المالك لما فرض في السماوات والأرض من شئ.

وقوله:( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ ) أي برهان( بِهَذَا ) إثبات لكونهم إنّما قالوه جهلاً من غير دليل فيكون محصّل المعنى أنّه لا دليل لكم على ما قلتموه بل الدليل على خلافه وهو أنّه تعالى غنىّ على الإطلاق، والولد إنّما يطلبه من به فاقة وحاجة، والكلام على ما اصطلح عليه في فنّ المناظرة من قبيل المنع مع السند.

وقوله:( أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) توبيخ لهم في قولهم ما ليس لهم به علم، وهو ممّا يستقبحه العقل الإنسانيّ ولا سيّما في ما يرجع إلى ربّ العالمين عزّ اسمه.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ) تخويف وإنذار بشؤم العاقبة، وفي الآيتين من لطيف الالتفات ما هو ظاهر فقد حكى الله أوّلا عنهم من طريق الغيبة قولهم:( اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) ثمّ خاطبهم خطاب الساخط الغضبان ممّا نسبوا إليه وافتروا عليه فقال:( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) وإنّما خاطبهم متنكّراً من غير أن يعرّفهم نفسه حيث قال:( عَلَى اللهِ ) ولم يقل: علىّ أو علينا صونا لعظمة مقامه أن يخالطهم معروفاً ثمّ اعرض عنهم تنزّها عن ساحة جهلهم ورجع إلى خطاب رسوله قائلاً:( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ

٩٦

عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ) لأنّه إنذار والإنذار شأنه.

قوله تعالى: ( مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) خطاب للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بيان وجه عدم فلاحهم بأنّه كفر بالله ليس بحذائه إلّا متاع قليل في الدنيا ثمّ الرجوع إلى الله والعذاب الشديد الّذى يذوقونه.

( بحث روائي)

في أمالى الشيخ قال: أخبرنا أبو عمرو قال: أخبرنا أحمد قال: حدّثنا يعقوب ابن يوسف بن زياد قال: حدّثنا نصر بن مزاحم قال: حدّثنا محمّد بن مروان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عبّاس قال:( بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ) بفضل الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبرحمته علىّعليه‌السلام .

أقول: ورواه الطبرسيّ وابن الفارسىّ عنه مرسلا، ورواه أيضاً في الدرّ المنثورعن الخطيب وابن عساكر عنه.

وفي المجمع قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : فضل الله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورحمته علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام .

أقول: وذلك أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعمة أنعم الله بها على العالمين بما جاء به من الرسالة وموادّ الهداية، وعلىّعليه‌السلام هو أوّل فاتح لباب الولآية وفعليّة التحقّق بنعمة الهداية فهو الرحمد فينطبق الخبر على ما قدّمناه في تفسير الآية.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقيّ عن ابن عبّاس:( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ ) القرآن و( بِرَحْمَتِهِ ) حين جعلهم من أهل القرآن.

أقول: أي الفضل موادّ المعارف والأحكام الّتى فيه، والرحمة فعليّة تحقّق ذلك في العاملين به فيرجع إلى ما قدّمناه في تفسير الآية فتبصّر، ولا مخالفة بين هذه

٩٧

الرواية والرواية السابقة حينئذ بحسب الحقيقة.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ) الآية قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا.

أقول: ورواه في المجمع عن الصادقعليه‌السلام .

وفي أمالى المفيد بإسناده عن عبآية الأسديّ عن ابن عبّاس قال: سئل أميرالمؤمنين علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام عن قوله تعالى:( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فقيل له: من هؤلاء الأولياء؟ فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : قوم أخلصوا لله في عبادته، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرّت الخلق سواهم بعاجلها فتركوا ما علموا أنّه سيتركهم، وأماتوا منها ما علموا أنّه سيميتهم.

ثمّ قال: أيّها المطلّ نفسه بالدنيا الراكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها ألم تر إلى مصارع آبائك في البلاد ومصارع أبنائك تحت الجنادل والثرى؟ كم مرضت ببدنك وعللت بكفنك تستوصف لهم الأطبّاء، وتستغيث لهم الأحبّاء فلم تغن عنهم غناءك، ولا ينجع عنهم دواؤك؟

وفتفسير العيّاشيّ عن مرثد العجلىّ عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: وجدنا في كتاب علىّ بن الحسينعليه‌السلام :( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) قال: إذا أدّوا فرائض الله، وأخذوا بسنن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتورّعوا عن محارم الله، وزهدوا في عاجل زهرة الدنيا، ورغبوا فيما عند الله، واكتسبوا الطيّب من رزق الله، ولا يريدون هذا التفاخر والتكاثر ثمّ أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة فاُولئك الّذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا ويثابون على ما قدّموا لآخرتهم.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد والحكيم والترمذيّ عن عمرو بن الجموح أنّه سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّه لا يحقّ العبد حقّ صريح الإيمان حتّى يحبّ لله ويبغض لله تعالى فإذا أحبّ الله وأبغض الله فقد استحقّ الولاء من الله. الحديث.

٩٨

أقول: والروآيات الثلاث في معنى الولآية يرجع بعضها إلى بعض وينطبق الجميع على ما قدّمناه في تفسير الآية.

وفيه أخرج ابن المبارك وابن أبى شيبة وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) قال: يذكر الله لرؤيتهم.

أقول: ينبغى أن يحمل إلى أنّ من آثار ولايتهم ذلك لا أنّ كلّ من كان كذلك كان من أهل الولآية إلّا أن يراد أنّهم كذلك في جميع أحوالهم وأعمالهم، وفي معناها ما روى عن أبى الضحى وسعد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية قال: إذا رأوا ذكر الله.

وفيه أخرج ابن أبى الدنيا في ذكر الموت وأبوالشيخ وابن مردويه وأبو القاسم بن منده في كتاب سؤال القبر من طريق أبى جعفر عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل من أهل البادية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا قوله:( لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) فهى الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشّر بها في دنياه، وأمّا قوله:( وَفِي الْآخِرَةِ ) فإنّها بشارة المؤمن عند الموت أنّ الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك.

أقول: وفي هذا المعنى روآيات كثيرة من طرق أهل السنّة ورواها الصدوق مرسلا وقوله:( ترى للمؤمن) بصيغة المجهول أعمّ من أن يراها هو نفسه أو غيره وقوله:( عند الموت) قد اُضيف إليه في بعض الروآيات البشرى يوم القيامة بالجنّة.

وفي المجمع في قوله:( لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) عن أبى جعفرعليه‌السلام في معنى البشارة في الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، وفي الآخرة الجنّة وهى ما يبشّرهم به الملائكة عند خروجهم من القبور، وفي القيامة إلى أن يدخلوا الجنّة يبشّرونهم حالا بعد حال.

٩٩

أقول: وقال بعد ذلك: وروى ذلك في حديث مروىّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتهى وروى مثله عن الصادقعليه‌السلام ورواه القمّىّ في تفسيره مضمرا.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهراشوب عن زريق عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: هو أن يبشّراه بالجنّة عند الموت يعنى محمّدا وعليّاعليهما‌السلام .

وفي الكافي بإسناده عن أبان بن عثمان عن عقبة أنّه سمع أباعبد اللهعليه‌السلام يقول: إنّ الرجل إذا وقعت نفسه في صدره رأى. قلت: جعلت فداك وما يرى؟ قال: يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول له رسول الله: أنا رسول الله أبشر، ثمّ قال: ثمّ يرى علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام فيقول: أنا علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام الّذى كنت تحبّ أمّا لأنفعنّك اليوم.

قال: قلت له: أيكون أحد من الناس يرى هذا ثمّ يرجع إلى الدنيا؟ قال: إذا رأى هذا أبداً مات وأعظم ذلك قال: وذلك في القرآن قول الله عزّوجلّ:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) .

أقول: وهذا المعنى مروىّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بطرق كثيرة جدّاً وقوله:( وأعظم ذلك) أي عدّه عظيما. وقد اُخذ في الحديث قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) كلاماً مستقلّاً ففسّره بما فسّر، وتقدّم نظيره في رواية الدرّ المنثورعن جابر بن عبد الله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّ ظاهر السياق كون الآية مفسّرة لقوله قبلها:( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ ) الآية وهو يؤيّد ما قدّمناه في بعض الأبحاث السابقة أنّ جميع التقادير من التركيبات الممكنة في كلامه تعالى حجّة يحتجّ بها كما في قوله:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) الأنعام: ٩١ وقوله:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ ) وقوله:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ) وقوله:( قُلِ اللهُ ) .

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والترمذيّ وصحّحه وابن

١٠٠