الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٤

الغدير في الكتاب والسنة والأدب13%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 423

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 198993 / تحميل: 8504
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ألجزء الرابع

بقية شعراء الغدير فى القرن

الرابع و شعراءه فى القرن الخامس و شطر من

السادس و هم واحدو ثلثون شاعراً

و الله مستعان

١

بسم الله الرحمن الرحيم

ألحمد لِلَّه على ما عرَّفنا من نفسه، وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربّوبيَّته، ودلَّنا عليه من الإخلاص في توحيده، وجنَّبنا من الإلحاد والنفاق والشِّقاق والشكِّ في أمره، ومنَّ علينا بسيِّد رُسله صلّى الله عليه وآله، و أكرمنا بالثَّقلين خليفتي نبيِّه:كتاب الله العزيز. والعترة الطاهرة سلام الله عليهم، وأسعد حظَّنا بتواصل أشواطنا في السعي وراء صالح المجتمع، ووفَّقنا لِلسير في سبيل الخدمة لِلمِلأ وفي مقدَّمهم روّاد العلم والفضيلة، وأثبت أقدامنا في جدَد الحقِّ والحقيقة، وتعالى في تلك الجدةَ جدّنا، وتوالت بسعد الجدّ صحائف أعمالنا وآثار يراعنا، ونحن نستثبت في الأمر ولا نتفوَّه إلّا بثبت، والله وليُّ التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النَّصير.

عبد الحسين أحمد

الامينى

٢

بقية شعراء الغدير

في لقرن الرابع

٢٢

أبو الفتح كشاجم

ألمتوفى ٣٦٠

له شغلٌ عن سؤال الطللْ

أقام الخليط به ؟ أم رحلْ ؟

فما ضمنته لحاظ الظبا

تطالعه من سجوف الكللْ

ولا تستفزُّ حجاه الخدود

بمصفرَّة واحمرار الخجلْ

كفاه كفاه فلا تعذلاه

كرّ الجديدين كرّ العذلْ

طوى الغيّ مشتعلاً في ذراه

فتطفى الصبابةُ لمّا اشتغلْ

له في البكاءِ على الطاهرين

مندوحةُ عن بُكاء الغزلْ

فكم فيهمُ من هِلالٍ هوى

قُبيل التمام وبدرٍ أفلْ

همُ حجج الله في خلقه

ويوم المعاد على من خذلْ

ومَن أنزل الله تفضيلهم

فردَّ على الله ما قد نزلْ

فجدّهمُ خاتم الأنبياء

ويعرف ذاك جميع المللْ

ووالدهم سيِّد الأوصياء

ومُعطي الفقير ومردي البطلْ

ومن علّم السّمر طعن الحلي

لدى الروع والبيض ضرب القللْ

ولو زالت الأرض يوم الهياج

من تحت أخمصه(١) لم يزلْ

ومن صدَّ عن وجه دنياهمُ

وقد لبست حليها والحللْ

وكان إذا ما اُضيفوا إليه

فأرفعهم رتبةً في المَثَلْ

سماءٌ اُضيف إليها ألحضيض

وبحرٌ قرنت إليه الوَشَلْ(٢)

____________________

(١) أخمص القدم:ما لا يصيب الارض من باطنها، ويراد به القدم كلها.

(٢) الوشل كما مر:الماء القليل يتحلب من صخر أو جبل.

٣

بجودٍ تعلّم منه السحاب

و حلمٍ تولَّد منه الجبَلْ

وكم شبهة بهُداه جلا

وكم خُطّة بحجاه فصلْ

وكم أطفأ الله نار الضَّلال

به وهي ترمي الهدى بالشعلْ

و مَن رَدَّ خالقنا شمسه

عليه وقد جنحت للطفلْ(١)

و لو لم تعد كان في رأيه

و في وجهه من سناها بدلْ

و من ضَرب الناس بالمرهفات

على الدين ضربّ عراب الإبلْ

و قد علموا أنّ يوم الغدير

بغدرهمُ جرَّ يوم الجملْ

فيا معشر الظالمين الّذين

أذا قوا النبيَّ مضيض الثكلْ

إلى أن قال:

يُخالفكم فيه نصُّ الكتاب

وما نصَّ في ذاك خير الرُّسلْ

نبذتم وصيَّته بالعراء

و قلتم عليه الَّذي لم يقلْ

إلى آخر قصيدته الموجودة في نسخ ديوانه المخطوط ٤٧ بيتاً وقد أسقط ناشر ديوانه من القصيدة ما يخالف مذهبه وليست هذه بأوَّل يد حرَّفت الكلّم عن مواضعها.

( الشاعر )

أبو الفتح محمود بن محمَّد بن الحسين بن سندي بن شاهك الرملي(٢) ألمعروف بكشاجم. هو نابغةٌ من رجالات الاُمَّة، وفذُّ من أفذاذها، وأوحديُّ من نياقدها، كان لا يُجارى ولا يُبارى، ولا يُساجل ولا يُناضل، فكان شاعراً كاتباً متكلّماً منجِّماً منطقيّاً محدِّثاً، ومن نُطس الأواسيِّ محقِّقاً مدقِّقاً مجادلاً جواداً.

فهو جمُاع الفضايل وإنَّما لقّب نفسه بكشاجم إشارةً بكلِّ حرف منها إلى علم فبالكاف إلى أنَّه كاتب، وبالشين إلى أنَّه شاعر، وبالألف إلى أدبه أو إنشاده، و بالجيم إلى نبوغه في الجدل أو جوده، وبالميم إلى أنَّه متكلّم أو منطقيُّ أو منجِّمٌ، و لمّا ولع في الطلبِّ وبرع فيه زاد على ذلك حرف الطاء فقيل:طكشاجم. إلّا أنَّه

____________________

١ - طفلت الشمس:دنت للغروب. مر حديث رد الشمس في الجزء الثالث ١٢٦ - ١٤١.

٢ - نسبة إلى الرملة من أرباض فلسطين.

٤

لم يشتهر به، هذا ما طفحت به المعاجم(١) في تحليل هذا اللقب على الخلاف الّذي أوعزنا إليه في الإشارة، لكن الرجل بارع في جميع ما ذكر من العلوم ولعلّه هو المنشأ للإختلاف في التحليل.

ادبه وشعره

إنَّ المترجَم قدوةٌ في الأدب وأسوةٌ في الشعر، حتّى انَّ الرفاء السري الشاعر المفلق على تقدُّمه في فنون الشعر والأدب كان مغرى بنسخ ديوانه، وكان في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب(٢) ولشهرته بهذا الجانب قال بعضهم:

يا بؤس من يمنى بدمع ساجم

يهمى على حجب الفؤاد الواجمِ(٣)

لولا تعلّله(٤) بكأس مُدامة

ورسائل الصّابي وشعر كشاجمِ(٥)

دوَّن شعره أبو بكر محمَّد بن عبد الله الحمدوني، ثمَّ ألحق به زيادات أخذها من أبي الفرج إبن كشاجم.

وشعره كما تطفح عنه شواهد تضلّعه في اللغة والحديث، وبراعته في فنون الأدب والكتاب والقريض، كذلك يقيم له وزناً في الغرائز الكريمة النفسيَّة، ويمثِّله بملكاته الفاضلة كقوله:

شهرت نداي مناصبٌ لي

في ذرى كسرى صريحهْ

وسجيَّةٌ لي في المكا

رم إنَّني فيها شحيحهْ

متحيِّزاً فيها معلّى المجـ

ـد مجتنباً منيحهْ

ولقد سننت فيها من الكتا

بة للورى طرقاً فسيحهْ

وفضضت من عذر المعا

ني الغرِّ في اللغة الفصيحهْ

وشفعت مأثور الروا

ية بالبديع من القريحهْ

و وصلت ذاك بهمَّةٍ

في المجد سائبةٍ طموحهْ

____________________

١ - راجع شذرات الذهب ج ٣ ص ٣٧، والشيعة وفنون الاسلام ص ١٠٨.

٢ - تاريخ إبن خلكان ج ١ ص ٢١٨.

٣ - يمنى:يبتلى ويصاب. يهمى:يسيل. الواجم:العبوس من شدة الحزن.

٤ - علل فلاناً بكذا:شغله. أو:لهاه به.

٥ - معجم الادباء ج ١ ص ٣٢٦.

٥

عزيمةٍ لا بالكليلـ

ـة في الخطوب ولا الطليحه

كلتاهما لي صاحبٌ

في كلِّ داميةٍ جموحهْ

ويحكي القارئ عن نبوغه وسرده المعاني الفخمة في أسلاك نظمه، ورقّة لطائفه، وقوَّة أنظاره، ودقَّة فكرته، ومتانة رويَّته قوله:

لو بحقٍّ تناول النجمِ خلقٌ

نلت أعلى النجوم باستحقاقِ

أو لَيس اللسان منّي أمضى

من ظبات المهنّدات الرقاقِ ؟

ويدي تحمل الأنامل منها

قلماً ليس دمعه بالراقي

أفعواناً تهاب منه الأعادي

حيَّة يستعيذ منها الرّاقي

وتراهُ يجود من حيث تجري

منه تلك السموم بالدِّرياقِ

مطرقاً يهلك العدوّ عقاباً

ويريش الوليّ ذا الأخفاقِ

وسطورٌ خططتها في كتاب

مثل غيم السحابة الرَّقراقِ

صغت فيه من البيان حليّاً

باختراع البعيد لا الاشفاقِ

وقوافٍ كأنَّهن عقود الد

رّ منظومة على الأعناقِ

غررٌ تظهر المسامع تيهاً

حين يسمعنها على الأحداقِ

ويحار الفهم الرَّقيق إذا ما

جال منهنَّ في المعاني الرِّقاقِ

ثاويات معي وفكري قد

سيَّرها في نوازح الآفاقِ

وإذا ما ألمَّ خطبٌ فرأسي

فيه مثل الشهاب في الأعناقِ

وإذا شئت كان شعري أحلي

من حديث الفتيان والعشّاقِ

حلف مشمولة وزير عوان

أسدٌ في الحروب غير مطاقِ

إصطباحي تنفيذ أمرٍ ونهي

ومن الراح بالعشيِّ اغتباقي

ووقور الندى ولا اُخجل الشا

رب منه ولا أذمُّ الساقي

أنزع الكأس إن شربت وأ

سقيه دهاقاً صحبي وغير دهاقِ

و معدٌّ لِلصيد منتخبات

من اُصول كريمة الأعراق

مضمرات كأنَّها الخيل تطوى

كلّ يوم بطونها للسِّباق

رايقات الشباب مكتسبات

حللاً من صنيعة الخلاق

٦

تصف البيض والجفون إذا ما

أخرجت ألسناً من الأشداقِ

وكأنَّ المها إذا ما رأتها

حذرت واستطامنت في وثاقِ

مع ندامي كأنَّهم والتَّصافي

خُلقوا من تألّفٍ واتِّفاقِ

والباحث يجد شاعرنا عند شعره معلِّماً أخلاقيّاً فذّاً بعد ما يرى أمثلة خلايقه الكريمة، ونفايس سجاياه، وصدقه في ولاءه، وقيامه بشؤون الإنسانيَّة نصب عينيه مهما وقف على مثل قوله:

ولدينا لذي المودَّة حفظٌ

و وفاءٌ بالعهد والميثاقِ

أتواخى رضاه جهدي فلمّا

مسَّه الضرُّ مسَّه إرفاقي

تلك أخلاقنا ونحن اُناسٌ

همّنا في مكارم الأخلاقِ

وقوله:

اُناسٌ أعرضوا عنّا

بلا جُرم ولا معنى

أساؤا ظنّهم فينا

فهلّا أحسنوا الظنّا

وخلّونا ولو شاؤا

لعادوا كالَّذي كنّا

فإن عادوا لنا عُدنا

وإن خانوا لَما خُنّا

وإن كانوا قد اشتغلوا

فإنّا عنهمُ أغنى

وقوله من قصيدة يمدح بها إبن مقلة:

كم فيَّ من خلّة لوانَّها امتحنت

أدَّت إلى غبطةٍ أو سدَّت الخلّه

وهمَّةٍ في محلِّ النجم موقعها

وعزمة لم تكن في الخطب منجلّه

وذلَّةٍ أكسبتني عزّ مكرمةٍ

وربّما يُستفاد العزُّ بالذّله

صاحبت سادات أقوام فما عثروا

يوماً على هفوة منّي ولا زلّه

واستمتعوا بكفاياتي وكنت لهم

أوفى من الدرع أو أمضى من الاله

خطُّ يروق وألفاظٌ مهذَّبة

لا وعرة النظم بل مختاره سهله

لو أنَّني منهلٌ منها أخا ظمأ

روت صداه فلم يحتج إلى غلّه

وكم سننتُ رسوماً غير مشكلةٍ

كانت لمن أمَّها مُسترشداً قبله

عمت فلا منشيء الديوان مكتفياً

منها ولم يغن عنها كاتب السلّه

٧

وصاحبتني رجالاتٌ بذلت لها

مالي فكان سماحي يقتضي بذله

فأعمل الدهر في ختلي مكائده

والدهر يعمل في أهل الهوى ختله

لكن قنعت فلم أرغب إلى أحد

والحرُّ يحمل عن أخوانه كلّه

وتراه متى ما أبعده الزَّمان عن أخلاّئه وحجبهم عنه، عزَّ عليه البين، وعظمت عليه شُقَّته، وثقل عليه عبءه، فجاء في شكواه يفزع ويجزع، ويأنُّ ويحنُّ، فيصوِّر على قاريء شعره حنانه وحنينه، ويمثِّل سجاح عينه لوعة وجده، ولهب هواه بمثل قوله:

يا مَن لعين ذرفتْ

و مَن لروحٍ تلفتْ

مُنهلّة عبرتها

كأنَّها قد طرفتْ(١)

إن أمنت فاضت وإن

خافت رقيباً وقفتْ

و إنما بكاؤها

على ليالٍ سلفتْ

وقوله:

يا مُعرضاً لا يلتفتْ

بمثل ليلي لا تبتْ

برَّح هجرانك بي

حتّى رثى لي من شمتْ

علقت قلبي بالمنى

فأحيه أو فأمت

وبما كان [ كشاجم ] مجلوباً بالحنان ولين الجانب، وسجاحة الخلايق، و حسن الأدب، مطبوعاً بالعطف والرأفة، مفطوراً على عوامل الإنسانيَّة، والغرائز الكريمة، ولم يكن شريراً، ولا رديء النفس، ولا بذيَّ اللسان، ولا مسارعاً في الوقيعة في أحد، كان يرى الشعر إحدى مآثره الجمَّة، ويعدُّه من فضايله، وما كان يتَّخذه عدَّةً للمدح، ولا جنَّةً في الهجاء، وما يُهمّه التوجّه إلى الجانبين، لم ير لأيٍّ منهما وزناً، لعدم تحرِّيه التحامل على أحد، وعدم اتِّخاذه مكسباً ليدرّ له أخلاف الرِّزق، ولا آلةً لدنياه وجمع حطامها، وكان يقول:

ولئن شعرتُ لما قصد

ت هجاء شخص أو مديحهْ

لكن وجدت الشعر للـ

ـآداب ترجمةً فصيحهْ

____________________

١ - طرفت عينه:أصابها شيئ فدمعت.

٨

هجاؤه

أخرج القرن الرابع شعراء هجّائين قد اتَّخذ كلُّ واحدٍ منهم طريقة خاصَّةً من فنون الهجاء، وكلُّ فنّ مع هذه نوعٌ فذُّ في الهجاء، يظهر ميزه متى قرن بالآخر و منهم مُكثرٌ و منهم من استقلَّ، وشاعرنا من الفرقة الثانية، وله فنُّ خاصُّ من الهجاء كان يختاره ويلتزم به في شعره.

ولعلّك تجده في فنِّه المختار مجلوب خلايقه الحسنة، ونفسيّاته الكريمة، وملكاته الفاضلة، فكأنّه قد خمرت بها فطرته، ومزجت بها طينته، أو جرت منه الدم، واستولت على روحه، وحكمت في كلِّ جارحةٍ منه، حتّى ظهرت آياتها في هجاؤه النادر الشاذّ، فيخيَّل إليك مهما يهجو أنَّه واعظٌ بارُّ يخطب، أو نصوحٌ يُودِّد و يُعاتب، أو مجادلٌ دون حقِّه يُجامل، لا أنَّه يغمز ويعيب، ويغيظ في الوقيعة ويُناضل، ويثور ويثأر لنفسه، وتجده قد اتَّخذ الهجاء شكَّة دفاع له لا شكَّة هجوم، وترى كلَّ هجاؤه خليّاً عن لهجةٍ حادَّة، وسُبابٍ مُقذع، عارياً عن قبيح المقال وخبث الكلام، بعيداً عن هتك مهجوِّه، ونسبته إلى كلِّ فاحشة، وقذفه بكلِّ سيِّئة، غير مُستبيح إيذاء مُهجوِّه، ولا مُستحلّ حرمته، ولا مجوِّز عليه الكذب والتهمة، خلاف ما جرت العادة بين كثير من اُدباء العصور المتقادمة، فعليك النظر إلى قوله في بعض إبناء رؤساء عصره وقد أنفذ إليه كتابا فلم يجبه عنه:

هاقد كتبتُ فما رددتَ جوابي

و رجَّعتَ مختوماً عليَّ كتابي

وأتى رسولاً مستكيناً يشتكي

ذلَّ الحجاب ونخوة البوّابِ

وكأنّني بك قد كتبت معذِّراً

وظلمتني بملامةٍ وعتابِ

فارجع إلى الإنصاف و أعلم أنَّه

أولى بذي الآداب والأحسابِ

يا رحمة الله التي قد أصبحت

دون الأنام عليَّ سوط عذابِ

بأبي و اُمّي أنت من مستجمع

تيه القيان ورقَّة الكتّابِ

وقوله الآخر في هجاء جماعة من الرؤساء:

عدمت رئاسة قوم شقوا

شباباً ونالوا الغنى حين شابوا

حديثٌ بنعمتهم عهدهم

فليس لهم في المعالي نصابُ

٩

يرون التكبّر مُستصوباً

من الرأي والكبر لاُ يستصابُ

وإن كاتبوا صارفوا في الدعاء

كأنَّ دعاؤهُم مُستجابُ

ومن لطيف شعره في الهجاء قوله:

إنَّ مظلومة التي

زوّجت من أبي عمرْ

ولدت ليلة الزفا

ف إلى بعلها ذَكَرْ

قلت:من أين ذا الغلا

م و ما مسَّها بشرْ ؟

قال لي بعلها:ألم

يأت في مسند الخبرْ ؟

ولد المرأ للفرا

ش وللعاهر الحجَرْ

قلت:هنَّيته على

رغم مَن أنكر الخبرْ

كشاجم والرياسة

وبما كان المترجَم كما سمعت مطبوعاً بسلامة النَّفس، وقداسة النَفَس، و طيب السريرة، متحلّياً بمكارم الأخلاق، خالياً من المكيدة و المراوغة والدسيسة، مزاولاً عن البذاء والايذاء والإعتساف، كان مترفِّعاً نفسه عن الرتبة وإشغال المنصَّة في أبواب الملوك والولاة، وما كان له مطمعٌ في شأن من الوزراء والولاية والكتابة و العمالة عند الاُمراء والخلفاء، وما أتَّخذ فضايله الجمَّة لها شرَكاً، ولنيل الآمال وسيلةً، وكان يرى التقمّص بالرَّياسة من مرديات النَّفس ويقول:

رأيت الرّياسة مقرونةً

بلبس التكبّر والنخوهْ

إذا ما تقمَّصها لابسٌ

ترفَّع في الجهر والخلوهْ

ويقعد عن حقّ إخوانه

ويطمع أن يهرعوا نحوهْ

و ينقصهم من جميل الدعاء

ويأمل عندهم الحظوهْ

فذلك إن أنا كاتبته

فلا يسمع الله لي دعوهْ

ولستُ بآتٍ له منزلاً

و لو انَّه يسكن المروهْ

وكان بالطبع والحال هذه ينهي أوليائه عن قبول الوظايف السلطانيّة، والتولّي بشيءٍ من المناصب عند الحُكّام، ويحذِّرهم عن التصدّي بوظيفةٍ من شؤون الملك والمملكة، ويمثِّل بين يديهم شنعة الايتمار، وينبِّههم بما يقتضيه الترأس من الظلم

١٠

والوقيعة في النفوس، ونصب العداء لمخالفيه، وما يوجب من دحض الحقِّ، وإضاعة الحقوق، ورفض مكارم الأخلاق. وحسبك ما كتبه إلى صديق له وكان قد تقلَّد البريد من قوله:

صرت لي عامل البريد مقينا(١)

وقديماً إليَّ كنت حبيبا

كنت تستثقل الرقيب فقد صر

ت علينا بما وليت رقيبا

كرهتك النفوس وانحرفت عنك

قلوبٌ وكنت تسبي القلوبا

أفلا يعجب الأنام بشخصٍ

صار ذئباً وكان ظبياً ربيبا؟!

حكمه ودرر كلمه:

فياله في شعره من شواهد صادقة تمثِّله بهذا الجانب العظيم، وتُعرب عن قَدم صدقه في حثِّ اُمَّته إلى المولى سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبتِّ الدَّعوة إليه بدُرر الكلم وغُرر الحِكَم، وإصلاح اُمَّته ببيان بحقيقة، وتشريح دعوة النَّفس الأمّارة بالسّوء، وهن حكميّاته قوله:

ليس خلقٌ إلّا وفيه إذا ما

وقع الفحص عنه خيرٌ وشرٌّ

لازمٌ ذاك في الجبلَّة لا يد

فعه مَن له بذلك خبرُ

حكمة الصانع المدبِّر أن لا

شيىء إلّا وفيه نفعٌ وضرٌّ

فاجتهد أن يكون أكبر قسمـ

ـيك من النفع والاقل الأضرٌّ

وتحمَّل مرارة الرأي واعلم

أنّ عقبى هواك منه أمرٌّ

رُض بفعل التدبير نفسك واقصر

ها عليه ففيه فضلٌ وفخرُ

لا تُطعها على الذي تبتغيه

وليرعها منك اعتسافٌ وقهرُ

إنَّ مِن شأنَّها مجانبة الخـ

ـير وإتيان كلَ ما قدَ يغرُّ

وقوله:

عجبي ممَّن تعالت حاله

وكفاه الله زّلات الطلبْ

كيف لا يقسم شطري عمره

بين حالين:نعيم وأدبْ ؟!

فإذا ما نال دهراً حظّه

فحديثٌ ونشيدٌ وكتبْ

مرَّة جِدّاً و اُخرى راحةً

فإذا ما غسق الليل انتصبْ

____________________

١ - مذكر المقينة:الماشطة.

١١

يقتضي الدنيا نهاراً حقّها

وقضى لِلَّه ليلاً ما يجبْ

تلك أقسامٌ متى يعمل بها

عاملٌ يسعد ويرشد ويصبْ

ومن كلمه الذهبيَّة في تحليل معنى الرضا عن النَّفس وما يوجب ذلك من سخطها وجموحها ورفض الآداب قوله:

لم أرض عن نفسي مخافة سخطها

ورضى الفتى عن نفسه اغضابها

لو أنَّني عنها رضيت لقصَّرت

عمّا تُريد بمثلها آدابها

وببيننا آثارُ ذاك وأكثرت

عذلي عليه وطال فيه عتابها

ومن حكمه قوله:

بالحرص في الرِّزق يذلُّ الفتى

والصبر فيه الشَّرفُ الشامخُ

ومُستزيدٌ في طلاب الغنى

يجمع لحماً ما له طابخُ

يضيع ما نال بما يرتجي

والنّار قد يطفئها النافخُ

وقوله:

حُلل الشبيبة مستعارهْ

فدع الصّبا واهجر ديارهْ

لا يشغلنك عن العلا

خودٌ تمنِّيك الزيارهْ

خودٌ تطيِّب طيبها

ويزين ساعدها سوارهْ

يحلو أوائل حبّها

ويشوب آخره مرارهْ

ما عذر مثلك خالعاً

في سكر لذِّته عذارهْ

من بعد ما شدَّ الأشدّ

على تلابيه ازارهْ

من ساد في عصر الشبا

ب غدت لسودده غفارهْ

ما الفخر أن يغدو الفتى

متشبِّعاً ضخم الحرارهْ

كلفاً بشرب الراح مشـ

ـغوفاً بغزلان الستارهْ

مهجورةً عرصاته

لا تقرب الأضياف دارهْ

ألفخر أن يُشجي الفتي

أعداؤه و يُعزُّ جارهْ

و يَذبُّ عن أعراضه

ويَشبُّ لِلطرّاق نارةْ

ويروح إمّا للإمـ

رة سعيه أو لِلوزارهْ

١٢

فرد الكتابة والخطا

بة والبلاغة والعبارهْ

متيقّظ العزمات يجـ

ـتنب الكرى إلّا غرارهْ

فكأنَّه مِن حدَّةٍ

ونفاذ تدبيرٍ شرارهْ

حتّى يُخاف ويُرتجى

ويُرى له نشبٌ وشارهْ

في موكب لجب كأنَّ

الليل ألبسه خمارهْ

تزهي به عصبٌ تنفِّض

عن مناكبه غبارهْ

و يُطيل إبناء الرغا

ـئب في مشاكلّه انتظارهْ

فادأب لمجدٍ حادثٍ

أو سالف يعلي منارهْ

واعمر لِنفسك في العلا

حالاً وكن حسن العمارهْ

و اقمر لها سوقاً يُنـ

فِّقها وتاجرها تجارهْ

لا تَغدُ كلّاً واجتنب

أمراً يخاف الحرُّ عارهْ

وإذا عدمت عن المآ

كلّ خيرها فكلّ الحجارهْ

رحلة كشاجم

غادر المترجم بيئة نشأته [ الرملة ] إلى الأقطار الشرقيَّة، وساح في البلاد، ورحل رحلة بعد اُخرى إلى مصر وحلب والشام والعراق، وكان كما كان في قصيدته التي يمدح بها إبن مقلة بالعراق:

هذا على أنَّني لا أستفيق ولا

أفيق من رحلة في إثرها رحله

وما على البدر نقصٌ في إضاءته

أن ليس ينفكُّ من سيرو من نقله

وقال وهو في مصر:

قد كان شوقي إلى مصر يُؤرِّقني

فاليوم عدتُ وغادت مصر لي دارا

أغدو إلى الجيزة الفيحاء مُصطحباً(١)

طوراً وطوراً اُرجِّي السير أطوارا

بينا اُسامي رئيساً في رياسته

إذ رحتُ أحسب في الحانات خمّارا

فللد و اوين اصباحي ومُنصرفي

إلى بيوت دُمى يعلمن أوتارا

أمَّا الشباب فقد صاحبت شرَّته

وقد قضيت لبانات وأوطارا

____________________

١ - ألجيزة:بليدة في غربّي فسطاط مصر.

١٣

من شادنٍ من بني الأقباط يعقدما

بين الكثيب وبين الخضر زنّارا

وكأنَّه في بعض آناته يرى نفسه بين مصر والعراق، ويتذكّر أدواره فيهما، و ما ناله في سفره إليهما من سرّاء أو ضرّاء، أو شدَّة أو رخاء، وما حظي من الأهلين من النِّعمة والنقمة، والإكبار والإستحقار، فيمدح هذا ويذمُّ ذلك فيقول:

يا هذا قلت فاسمعي لفتى

في حاله عبرةٌ لمعتبره

أمرت بالصبر والسلوِّ ولو

عشقت ألفيت غير مصطبره

من مبلغ إخوتي ؟ وإن بعدوا

: إنَّ حياتي لبعدهم كدِره

قد همتُ شوقاً إلى وجوههم

تلك الوجوه البهيَّة النضره

إبناء ملك علاهُم بهُم

على العلا والفخار مفتخره

ترمي بهم نعمة تُزيِّنها

مروءةٌ لم تكن ترى نزره

ما أنفك ذا الخلق بين منتصر

على الأعادي بهم ومنتصره

جبال حلمٍ بدور أنديةٍ

اُسد وغى في الهياج مُبتدره

بيض كرام الفعال لا بخل الاً

يدي وليست من الندى صفره

للناس منهم منافعٌ ولهم

منافعٌ في الأنام مُشتهره

متى أراني بمصر جارهم

نسبي بها كلَّ غادةٍ خضره

والنيل مستكملٌ زيادته

مثل دروع الكماة منتثره

تغدو الزواريق فيه مُصعدةً

بنا وطوراً تروح منحدره

والراح تسعى بها مذكّرة

أردانها بالعبير مُختمره

بكران لكن لهذه مائة

وتلك ثنتان وثنتا عشره

يا ليتني لم أرَ العراق ولم

أسمع بذكر الأهواز والبصره

ترفعني تارةً وتُخفضني

اُخرى فمن سهلة ومن وعره

فوق ظهر سلهبة(١)

قطانها والبدار مُغتفره

وتارةً في الفرات طامية

أمواجه كالخيال معتكره

حتّى كأنَّ العراق تعشقني

أو طالبتني يد النوى بتره

____________________

١ - السلهبة:الجسيمة.

١٤

وكان يجتمع في رحلاته مع الملوك والاُمراء والوزراء ويحظىء بجوائزهم، و يستفيد من صِلاتهم، ويتَّصل بمشيخة العلم والحديث والأدب، ويقرأ عليهم، ويسمع عنهم، ويأخذ منهم، وجرت بينه وبينهم محاضرات ومناظرات ومكاتبات، إلى أن تضلّع في العلوم، وحاز قصب السبق في فنون متنوِّعة، وتقدَّم في الكتابة والخطابة، وحصل له من كلِّ فنّ حظّه الأوفى، ونصيبه الأعلى حتّى عرَّفه المسعودي في ( مروج الذهب ) ٢ ص ٥٢٣ بأنَّه كان من أهل العلم والرواية والأدب.

عقيدته

إنَّ عصر المترجَم من العصور التي زاعت فيه النحل والمذهب، وشاعت فيه الأهواء والآراء، وقلَّ فيه من لا يرى في العقايد رأياً يفسِّر به إسلامه وهو ينصُّ به على خبيئة قلبه تارةً ويضمرها اُخرى، وأمّا شاعرنا فكان في جانبٍ من ذلك، إماميّاً صادق التشيّع، موالياً لأهل بيت الوحي، متفانياً في ولائهم، ويجد الباحث في خلال شعره بيِّنات تظاهره بالتهالك في ولاء آل الله، وبثِّه الدعوة إليهم بحججه القويَّة، والتفجّع في مصابهم والذبِّ عنهم، والنيل من مناوئيهم، واعتقاده فيهم أنَّهم وسايله إلى المولى في الحاضرة، وواسطة نجاحه في الآخرة.

وكان من مصاديق الآية الكريمة:يُخرج الحيّ من المَيت. فإنَّ نصب جدِّه السندي إبن شاهك وعدائه لأهل البيت الطاهر وضغطه وإضطهاده الإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليه في سجن هارون ممّا سار به الرُّكبان، وسوَّدت به صحيفة تاريخه، إّلا أنَّ حفيده هذا باينه في جميع نزعاته الشيطانيّة، فهو من شعراء أهل البيت المجاهرين بولائهم، المتعصِّبين لهم، الذابِّين عنهم ولا بدع فإنَّ الله هو الذي يخرج الدُّر من بين الحصى، ويُنبت الورد محتفّاً بالأشواك، فمَن نمازج شعره في المذهب قوله:

بكاءٌ وقلَّ غناء البكاءِ

على رزء ذريَّة الأنبياءِ

لئن ذلَّ فيه عزيز الدُّموع

لقد عزَّ فيه ذليل العزاءِ

أعاذلتي إنَّ برد التّقى

كسانيه حبّي لأهل الكساءِ

سفينة نوح فمن يعتلق

بحبِّهمُ يعتلق بالنجاءِ

١٥

لعمري لقد ضلَّ رأي الهوى

بأفئدة من هواها هوائي

وأوصى النبيُّ ولكن غدت

وصاياه مُنبذةً بالعراءِ

ومن قبلها أمر الميِّتون

بردِّ الاُمور إلى الأوصياءِ

ولم ينشر القوم غلّ الصدو

ر حتّى طواه الرَّدى في رداءِ

ولو سلّموا لإمام الهدى

لقوبل معوجّهم باستواءِ

هلالٌ إلى الرشد عالي الضيا

وسيفٌ على الكفر ماضي المضاءِ

وبحرٌ تدفَّق بالمعجزات

كما يتدفَّق ينبوع ماءِ

علومٌ سماويَّةٌ لا تُنال

ومَن ذا ينال نجوم السماء ؟

لعمري الاولى جحدوا حقَّه

وما كان أولاهُم بالولاءِ

وكم موقف كان شخص الحمام

من الخوف فيه قليل الخفاءِ

جلاه فإن أنكروا فضله

فقد عرفت ذاك شمس الضحاءِ

أراها العجاج قُبيل الصَّباح

وردَّت عليه بُعيد المساءِ

وإن وتر القوم في بدرهم

لقد نقض القوم في كربلاءِ

مطايا الخطايا خذي في الظلام

فما همَّ إبليس غير الحداءِ

لقد هتكت حرم المصطفى

وحلَّ بهنَّ عظيم البلاءِ

وساقوا رجالهمُ كالعبيد

وحادوا نساءهمُ كالإماءِ

فلو كان جدُّهمُ شاهداً

ليتبع أظعانهم بالبكاءِ

حقودٌ تضرَّم بدريَّةٌ

وداءُ الحقود عزيزُ الدواءِ

تراه مع الموت تحت اللوا

ء والله والنصَّر فوق اللواءِ

غداة خميس إمام الهدى

وقد غاث فيهم هزبر اللقاءِ

وكم أنفس في سعيرٍ هوت

وهام مطيَّرة في الهواءِ

بضربٍ كما انقدَّ جيب القميص

وطعن كما انحلَّ عقد السقاءِ

وخيرة ربّي من الخيرتين

وصفوة ربّي من الأصفياءِ

طهرتم فكنتم مديح المديح

وكان سواكم هجاء الهجاءِ

قضيت بحبِّكمُ ما عليَّ

إذا ما دُعيت لفصل القضاءِ

_١_

١٦

وأيقنت أنَّ ذنوبي به

تساقط عنّي سقوط الهباءِ

فصلّى عليكم إ~له الورى

صلاةً توازي نجوم السماءِ

وقوله في مدحهم صلوات الله عليهم:

آل النبيِّ فضلتمُ

فضل النجوم الزاهره

وبهرتمُ أعدائكم

بالمأثرات السائره

ولكم مع الشَّرف البلا

غة والحلوم الوافره

وإذا تفوخر بالعلا

منكم علاكم فاخره

هذا وكم أطفأتمُ

عن أحمد من نائره

بالسّمر تخضب بالنجـ

ـيع(*) وبالسيوف البائره

تشفى بها أكبادكم

من كلِّ نفسٍ كافره

ورفضتمُ الدنيا لذا

فزتم بحظِّ الآخره

وقوله في ولاء أمير المؤمنينعليه‌السلام مشيراً إلى ما رويناه ص ٢٦ في الجزء الثالث ممّا ورد في حبِّ أمير المؤمنين:

حبُّ الوصيِّ مبرَّةٌ وصله

وطهارةٌ بالأصل مكتفله

والنّاس عالمهم يدين به

حبّاً ويجهل حقَّه الجهله

ويرى التشيّع في سراتهمُ

والنّصب في الأرذال والسفله

وقوله في المعنى:

حبُّ عليٍّ علوّ همَّه

لأنّه سيِّد الأئمَّه

ميِّز محبِّيه هل تراهم

إلّا ذوي ثروة ونعمه؟!

بين رئيس إلى أديب

قد أكمل الطرف واستتمَّه

وطيّب الأصل ليس فيه

عند امتحان الاُصول تُهمه

فهم إذا خلصوا ضياء

والنصب الظالمون ظلمه

هذه الأبيات ذكرها له الثعالبي في ( ثمار القلوب ) ص ١٣٦ في وجه إضافة السواد إلى وجه الناصبي، ويأتي مثله في ترجمة الناشي الصغير.

____________________

* - النجيع:من الدم ما كان مائلا الى السواد.

١٧

ولكشاجم يرثي آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله:

أجل هو الرزء فادحهُ

باكره فاجعُ ورائحهُ

لاربع دارٍ عفا ولا طلل

أوحش لمّا نأت ملاقحهُ

فجائعٌ لو درى الجنين بها

لعاد مبيضَّةً مسالحهُ

يا بؤس دهرٍ على آل رسو

ل الله تجتاحهم جوائحهُ(١)

إذا تفكّرت في مصابهمُ

أثقب زند الهموم قادحه

بعضهمُ قربّت مصارعه

وبعضهم بوعدت مطارحهُ

أظلم في كربلاء يومهمُ

ثمَّ تجلّى وهم ذبائحهُ

لا يبرح الغيث كلّ شارقة

تهمى غواديه أو روائحهُ

على ثرى حلّة غريب رسو

ل الله مجروحةٌ جوارحه

ذلَّ حماه وقلَّ ناصره

ونال أقصى مناه كاشحهُ

وسيق نسوأنَّه طِلاح(٢)

أحسن أن تهادى بهم طلائحهُ

وهنَّ يمنعن بالوعيد من النـ

ـوح والملأ الأعلى نوائحه

عادى الأسى جدّه ووالده

حين استغاثتهما صوائحهُ

لو لم يُرد ذو الجلال حربهم

به لضاقت بهم فسائحهُ

وهو الذي اجتاح حين ما عقر

ت ناقته إذ دعاه صالحهُ

يا شيع الغيِّ والضَّلال ومن

كلّهمُ جمَّة فضائحهُ

غششتم الله في أذيَّة مَن

إليكُم اُدِّيت نصائحهُ

عفرتمُ بالثرى جبين فتىً

جبريل قبل النبيِّ ماسحهُ

سيّان عند الإله كلُكمُ

خاذله منكمُ وذابحهُ

على الذي فاتهم بحقِّهم

لعنٌ يغاديه أو يُراوحهُ

جهلتمُ فيهم الذي عرفه البيـ

ـت وما قابلت أباطحهُ

إن تصمتوا عن دعائهم فلكم

يوم وغى لا يُجاب صائحهُ

____________________

م - ١ - جاحه واجاجه واجتاحه:استأصله وأهلكه. جوائح جمع جائحة:البلية والداهية العظيمة )

م - ٢ - طلاح:معيية من السفر ).

١٨

في حيث كبش الرِّدي يُناطح من

أبصر كبش الورى يُناطحهُ

وفي غدِ يعرف المخالف من

خاسر دينِ منكم و رابحهُ

وبين أيديكُم حريق لظى

يلفح تلك الوجوه لافحهُ

إن عبتموهم بجهلكم سفهاً

ما ضرَّ بدر السَّماء نائحهُ

أو تكتموا الحق فالقرآن مشكله

بفضلهم ناطقٌ و واضحهُ

ما أشرق المجد من قبورهم

إلّا و سكّانها مصابحهُ

قومٌ أبى حدُّ سيف والدهم

للدين أو يستقيم جامحهُ

وهو الذي استأنس الزَّمان به

والدين مذعورةٌ مسارحهُ

حاربه القوم وهو ناصره

قِدما وغشّوه وهو ناصحهُ

وكم كسى منهم السيوف دماً

يوم جلاد يطيح طائحهُ

ما صفح القوم عندما قدروا

لمّا جنت فيهمُ صفائحهُ

بل منحوه العناد واجتهدوا

أن يمنعوه والله مانحهُ

كانوا خفافاً إلى أذيّته

وهو ثقيل الوقار راجحهُ

وله قوله:

زعموا أنَّ من أحبَّ عليّاً

ظلَّ لِلفقر لابساً جلبابا

كذبوا من أحبَّه من فقيرٍ

يتحلّى من الغنى أثوابا

حرّفوا منطق الوصيِّ بمعنى

خالفوا إد تأوَّلوه الصَّوابا

إنَّما قال:ارفضوا عنكم الد

نيا إذا كنتمُ لنا أحبابا

مشايخه وتآليفه

لم نقف في المصادر التي بين أيدينا على ما يفيدنا في التنقيب عن أيّام صباه، و كيفيَّة تعلّمه، وأساتذته في فنونه، ومشايخه في علومه، والمصادر برمَّتها خاليةٌ من البحث عن هذا الجانب إلّا أنَّ شعره يُفيدنا تلمّذه على الأخفش الأصغر عليِّ بن سليمان المتوفّى سنة ٣١٥ فهو إمّا قرأ عليه في مصر أيَّام الأخفش بها وقد ورد الأخفش مصر سنة ٢٨٧ وخرج منها إلى حلب سنة ٣٠٦، وإمّا في بغداد قبل أن غادرها الأخفش إلى مصر، إذ يذكر قرائته عليه في قصيدة يمدحه بها في الشام حينما نزل بها الأخفش

١٩

إما في رواحه إلى مصر، إمّا في أوبته عنها فقال:

فلمّا خُيِّل الصبح

ولمّا يبدُ تبليجه

واتبعت العرا وجهاً

كسى البشر تباهيجه

إلى كعبة آداب

بأرض الشام محجوجه

إلى معدن بالحكمة

والآداب ممزوجه

سماعيٌّ قرائيٌّ

له في العلم مرجوجه

ومَن يعدل بالعلم

من المنآد تعويجه

إذ الأخبار حاجته

ثناها وهي محجوجه

به تغدو من الشكِّ

قلوب القوم مثلوجه

و يلقى طرق الحكمة

للأفهام منهوجه

لكي يفرج عنّي الخطـ

ـب لا أسطيع تفريجه

وكي يمنحني تأديبـ

ـه المحض وتخريجه

ومَن أولى بتقريب

خلا من كنت ضرِّيجه

ومن توَّجني من علـ

ـمه أحسن تتويجه

له أدب النديم كما في فهرست إبن النديم.

٢ - كتاب الرسائل.

٣ - ديوان شعره.

٤ - كتاب المصايد والمطارد(١) .

٥ - خصايص الطرف.

٦ - ألصبيح.

٧ - البيرزة في علم الصيد.

ولادته ووفاته

ما عثرنا في الكتب والمعاجم على ما يفيدنا تاريخ ولادته لكن يلوح من شعره الذي يذكر فيه شيبه وهرمه في أوايل القرن الرابع انَّه ولد في أواسط القرن الثالث

____________________

١ - ينقل عنه ابن خلكان في تاريخه ج ٢ ص ٣٧٩.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وأمّا ما صدر عن الخضر ـ لو سلّم عدم نبوّته ـ فليس من القطع بالأحكام ، بل في الموضوعات ، وهو خارج عن المقام ، فإنّ قتل مثل الغلام جائز في شريعة موسى ٧ لكنّ موسى لم يعلم أنّه من الأشخاص الّذين يجوز قتلهم ؛ ولذا ، بعد العلم ترك الإنكار.

مع إنّ كلام اليافعي خارج عن محلّ النزاع ؛ لأنّ الكلام في دعوى أنّ من شهد الحقيقة سقطت عنه الأحكام بحسب الشرع الأحمدي ، ويكون شرعا كالطفل في عدم التكليف له ، لا في إمكان أن يحصل لشخص يقين بأنّه غير مكلّف بأحكام المسلمين ، كنبيّ جاءه شرع جديد!

ولا ريب أنّ الأوّل ، بل الثاني ، مخالف لضرورة الدين ، وقائله كافر واجب القتل ، كما قال الغزّالي.

هذا ، وينقل عن الصوفية ضلال آخر ، وهو القول بالتناسخ(١) ، قاتلهم الله تعالى ، وعطّل ديارهم.

* * *

__________________

وقد ورد مضمون هذا الحديث ومعناه في مصادر الجمهور ، فانظر مثلا :

صحيح مسلم ٤ / ١٠٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣ ـ ٤ ح ١ ـ ٣ ، مسند أحمد ٢ / ٢٥٨ ، سنن الدارقطني ٢ / ٢٢٠ ذ ح ٢٦٧٩ ، السنن الكبرى ١ / ٣٨٨ وج ٤ / ٣٢٦ وج ٧ / ١٠٣ ، تفسير القرطبي ١٨ / ١٣ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٣٧ في تفسير آية (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )[ سورة الحشر ٥٩ : ٧ ].

(١) انظر : دائرة معارف القرن العشرين ١٠ / ١٧٧ مادّة « نسخ ».

٢٢١
٢٢٢

في حقيقة الكلام

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

المبحث السابع

في أنّه تعالى متكلّم

وفيه مطالب :

[ المطلب ] الأوّل

في حقيقة الكلام

الكلام عند العقلاء : عبارة عن المؤلّف من الحروف المسموعة.

وأثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا ، مغايرا لهذه الحروف والأصوات ، ( وهذه الحروف والأصوات )(٢) دالّة عليه(٣) .

وهذا غير معقول ، فإنّ كلّ عاقل إنّما يفهم من الكلام ما قلناه

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٠ ، شرح العقائد النفسية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣ ـ ٩٤.

٢٢٣

فأمّا ما ذهبوا إليه ، فإنّه غير معقول لهم ولغيرهم ألبتّة ، فكيف يجوز إثباته لله تعالى؟!

وهل هذا إلّا جهل عظيم؟! لأنّ الضرورة قاضية بسبق التصوّر على التصديق.

وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم ، على معنى أنّه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة ، قائمة بالأجسام الجمادية ، كما كلّم الله موسى من الشجرة ، فأوجد فيها الحروف والأصوات.

والأشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافّة البشر ، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم.

وإثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه ـ مع إنّه غير متصوّر ألبتّة ، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه ـ معلوم البطلان ؛ ومع ذلك ، فإنّه صادر منّا أو فينا [ عندهم ] ، ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوته!

٢٢٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى متكلّم ؛ والدليل عليه : إجماع الأنبياء : عليه ، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يثبتون له الكلام ، ويقولون : إنّه تعالى أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ، فثبت المدّعى(٢) .

ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك ، تارة يطلقونه على المؤلّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون : هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته [ تعالى ](٣) .

ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلّا المؤلّف من الحروف والأصوات

فنقول أوّلا : ليرجع الشخص إلى نفسه ، أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر(٤) ويرتّب معاني ، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم ، فإنّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ، ويقول في نفسه : سأتكلّم بهذا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٩١.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٨ و ٢٤٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣.

(٤) تزوير الكلام : إصلاح الكلام أو تهيئته وتقديره ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١١٢ ـ ١١٣ مادّة « زور ».

٢٢٥

فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتّة ؛ فهذا هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول ـ على طريقة الدليل ـ : إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها ، لها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول : هذه المدلولات هي الكلام النفسي.

فإن قال الخصم : تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني.

قلنا : هي غير العلم ؛ لأنّ من جملة الكلام الخبر ، وقد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالخبر عن الشيء غير العلم به.

فإن قال : هو الإرادة.

قلنا : هو غير الإرادة ؛ لأنّ من جملة الكلام الأمر ، وقد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ؛ وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه.

واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ؛ إذ لا طلب فيهما أصلا ، كما لا إرادة قطعا.

وأقول : لا نسلّم عدم الطلب فيهما ؛ لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب ، وهو الطلب.

ثمّ إنّ في الصورتين لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر ؛ لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين : الطلب منه ، مع عدم الفعل من المأمور ؛ وكلاهما لا بدّ [ من ] أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار.

قال صاحب « المواقف » هاهنا : « ولو قالت المعتزلة : إنّه ـ أي المعنى

٢٢٦

النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر ـ هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلّم بما أخبر به ، أو يصير سببا لاعتقاده إرادته ـ أي إرادة المتكلّم ـ لما أمر به ، لم يكن بعيدا ؛ لأنّ إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ، ومغايرة لما يدلّ عليها من الأمور المتغيّرة والمختلفة ، وليس يتّجه عليه أنّ الرجل قد يخبر بما لا يعلم ، أو يأمر بما لا يريد ، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدلّ عليه بالعبارات مغاير للإرادة كما تدّعيه الأشاعرة »(١) .

هذا كلام صاحب « المواقف ».

وأقول : من أخبر بما لا يعلمه ، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا ، بل يصدر عنه الإخبار وهو يدلّ على مدلول ؛ هو الكلام النفسي ، من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء.

وأمّا في الأمر ، وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب ، الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب.

فإذا تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي ، الذي هو الطلب في هذا الأمر ، وهو المطلوب.

ولمّا ثبت أنّ ها هنا صفة هي غير الإرادة والعلم ، فنقول : هو الكلام النفساني ؛ فإذا هو متصوّر عند العقل ، ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور ، فمن ادّعى بطلانه وعدم كونه متصوّرا ، فهو مبطل.

وأمّا من ذهب إلى أنّ كلام الله تعالى هو أصوات وحروف يخلقها الله

__________________

(١) المواقف : ٢٩٤ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٩٥.

٢٢٧

تعالى في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرئيل ، أو النبيّ ، وهو حادث(١)

فيتّجه عليه : إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، وخالق الكلام لا يقال : إنّه متكلّم ، كما إنّ خالق الذوق لا يقال : إنّه ذائق.

وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف ، فضلا عن أهل التحقيق.

نعم ، الأصوات والحروف دالّة على كلام الله تعالى ، ويطلق عليها « الكلام » أيضا ، ولكنّ « الكلام » في الحقيقة : هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتناه.

__________________

(١) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٥٢٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، وانظر : المواقف : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، شرح المواقف ٨ / ٩٢ ـ ٩٣.

٢٢٨

وأقول :

لا يخفى أنّه إذا صدر من المتكلّم خبر فليس هناك إلّا خمسة أمور :

الأوّل : اللفظ الصادر عنه.

الثاني : معاني مفردات اللفظ ، ومعنى هيئته.

الثالث : تصوّر الألفاظ والمعاني.

الرابع : مطابقة النسبة للواقع ، وعدمها.

الخامس : التصديق ، والعلم بالنسبة الثبوتية والسلبية حيث يكون معتقدا بها.

كما أنّه إذا صدر منه أمر أو نهيّ لم يكن هناك إلّا أربعة أمور : الثلاثة الأول ، ورابع هو : الإرادة والكراهة ، ومقدّماتهما ؛ كتصوّر المرجّحات والتصديق بها.

ومن الواضح أنّ الكلام النفسي الذي يعنونه في الخبر مخالف للأمر الأوّل.

وكذا للثاني ؛ لأنّ معاني المفردات والهيئة أمور خارجية غالبا غير قديمة ، فكيف تكون هي المراد بالكلام النفسي؟!

ومخالف أيضا للرابع ، ضرورة أنّه غير المطابقة للواقع وعدمها.

وللثالث والخامس ؛ لأنّه غير تصوّر الأطراف والعلم بالنسبة بإقرارهم.

فلا يكون الكلام النفسي في الخبر معقولا.

٢٢٩

وأمّا ما ذكره من صورة التزوير ، فلا يدلّ على وجود غير المذكورات الخمسة ، فإنّ ترتيب أجزاء الكلام أو معانيه في الذهن لا يقتضي أكثر من تصوّرها قبل النطق.

كما إنّ انتفاء العلم عن المخبر الشاكّ أو العالم بالخلاف لا يقتضي إلّا انتفاء التصديق بالمخبر به ، لا ثبوت أمر آخر غير الخمسة.

وكذا الحال في الكلام النفسي في الأمر والنهي ؛ لأنّه لا يصحّ أن يراد به الأوّلان ، أعني : اللفظ ومعاني مفرداته وهيئته ، وهو ظاهر

ولا الثالث ، أعني : تصوّر الألفاظ والمعاني

ولا الرابع ، أعني : الإرادة والكراهة ومقدّماتهما ؛ لأنّ هذين الأمرين ليسا بكلام نفسي عندهم ، ولا نعقل أمرا غير المذكورات يكون كلاما نفسيا.

وأمّا خلوّ صورتي الاعتذار والاختبار عن الإرادة والكراهة ، فلا يدلّ على وجود طلب آخر حتّى يكون كلاما نفسيا ، فإنّا لا نجد في الصورتين طلبا في النفس أصلا ، كما لا نجد في غيرهما إلّا طلبا واحدا يعبّر عنه بالطلب مرّة ، وبالإرادة والكراهة أخرى.

وأمّا ما قاله من وجود الطلب في الصورتين ، بدليل وجوده عند المخاطب ، وبدليل صحّة اعتذار المتكلّم واختباره الدالّة على حصولطلب منه

ففيه : إنّ معنى وجود الطلب عند المخاطب إنّما هو تصوّره وفهمه إيّاه ، فلا يتوقّف على حصوله عند المتكلّم في الواقع ، نظير ما يفهمه السامع للخبر الكاذب ، فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في الواقع.

٢٣٠

وأمّا صحّة الاعتذار والاختبار ، فلا تتوقّف إلّا على إظهار ثبوت الطلب ، فلا يكون الموجود في الصورتين إلّا صيغة الطلب وصورته لا حقيقته.

فإن قلت : فعلى هذا يخلو الأمر والنهي عن المعنى واقعا في الصورتين.

قلت : إن أريد من الخلوّ عن المعنى انتفاء ذاته واقعا وعند المتكلّم ، فنحن نلتزم به ، ولا يضرّ في الدلالة ، كما في الخبر الكاذب.

وإن أريد انتفاؤه في مقام الدلالة عند السامع ، فهو ممنوع ؛ لأنّ ثبوت المعنى عند السامع إنّما يكون بتصوّره له ، وهو حاصل عند سماع اللفظ للعالم بمعناه ، ولا يتوقّف على العلم بإرادة المتكلّم له.

على إنّه قد يقال : إنّ معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة القائمتين بالنفس حتّى يلزم انتفاء المعنى في صورتي الاختبار والاعتذار ، بل هو الإرادة والكراهة القائمتان باللفظ بإنشائه لهما ؛ لأنّ صيغ الإنشاء منشئة وموجدة لمعانيها ، لا حاكية عن أمور نفسية.

غاية الأمر : إنّ الأمور النفسية إذا ثبتت في الواقع تكون داعية لإنشاء الطلب والإرادة والكراهة وإذا لم تثبت ، يكون الداعي غيرها ، كالاختبار وإظهار العذر في الصورتين.

فحينئذ يكون المعنى في الصورتين موجودا حقيقة ، كغيرهما ، إلّا أنّه موجود بوجود إنشائي في الجميع ، ومثله الكلام في سائر الصيغ الإنشائية.

وكيف كان ، فنحن في غنى عمّا ذكره الفضل عن « المواقف » ، فلا حاجة إلى الإطالة بتحقيق أمره والنظر في ما أورده عليه.

٢٣١

وأمّا قوله : « إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم »

فقد خالف به الأشاعرة ، حيث قالوا : « المتكلّم من قام به الكلام » كما ذكره القوشجي(١) ، وقد فرّ بذلك عمّا أورد عليهم ، وذكره الشريف الجرجاني ـ على ما نقل عنه ـ وهو أنّ الكلام هيئات وكيفيات عارضة للصوت القائم بالهواء(٢) .

فيكون الكلام قائما بالهواء ، والهواء ليس قائما بالمتكلّم حتّى يقال :

ما قام به قائم بالمتكلّم بالوساطة.

فإذا ، نسبة الكلام إلى المتكلّم ليست لقيامه فيه ، بل بأن يعيّن حروفه وكلماته ، ويميّز بعضها عن بعض فلو كان المتكلّم من قام به الكلام ، لم يصحّ إطلاقه على الإنسان.

فالتجأ الشريف وتبعه الفضل إلى القول بأنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، ولم يعلما أنّ التكلّم حينئذ يكون بمعنى تعيين الحروف وإيجادها ، والمتكلّم بمعنى موجدها.

فيكون التكلّم قائما بذاته تعالى قيام صدور ، بلا حاجة إلى المعنى النفسي ، كما يقوم بالبشر ، ويوصف كلّ منهما بالمتكلّم بمعنى واحد.

هذا لو حملنا كلامه على ما أراده الشريف.

وأمّا إذا أخذنا بظاهره ، حيث عرّف « المتكلّم » ـ بحسب النسخ التي وجدناها ـ بمن قامت به صفة المتكلّم ، بصيغة اسم الفاعل لا المصدر ،

__________________

(١) شرح التجريد : ٤١٩.

(٢) انظر مؤدّاه في تعريف الصوت من كتابه التعريفات : ١٣٥.

٢٣٢

كانت هذه المقدّمة لاغية ، والمدار على قوله بعدها : « وخالق الكلام لا يقال إنّه متكلّم » ، وهو دعوى مجرّدة يردّها أيضا ما سبق.

فالحقّ أنّ المتكلّم من تلبّس بالتكلّم ، وتلبّسه به من حيث إيجاده للكلام في الهواء بمباشرة لسان المتكلّم ـ كما في كلام الإنسان ـ ، أو بمباشرة شجرة ونحوها ـ كما في كلام الله تعالى ـ ، وهذا نحو من أنحاء التلبّس ، فإنّها مختلفة :

إذ قد تكون بنحو الإيجاد ، كما عرفت ، ومثله الخطّاط والصبّاغ ، فإنّ تلبّسهما بالخطّ والصبغ ، بإيجادهما لهما في الثوب والقرطاس مثلا.

وقد تكون بنحو الحلول ، كالحيّ والميّت.

وقد تكون بنحو الانتزاع ، كما في صفات الباري جلّ وعلا ، بناء على قول أهل الحقّ من كون صفاته تعالى عين ذاته خارجا ، منتزعة منها مفهوما.

.. إلى غير ذلك من أنحاء التلبّس ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.

فلا يلزم أن يكون التلبّس مخصوصا بالحلول ، حتّى يقال بثبوت الكلام النفسي بناء على تصوّره.

ثمّ إنّ هذه الملابسات لا تجعل المشتقّات قياسية ، بل تتبع الورود ، فربّ مشتقّ يستعمل مع ملابسة لا يستعمل الآخر معها ، ولا يستعمل هو بدونها.

فلا يرد على دعوى إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى بملابسة الإيجاد ، النقض بالذائق والمتحرّك ، حيث لا يطلقان عليه تعالى مع إيجاده الذوق والحركة.

٢٣٣

على إنّه لو تمّ ما ذكره الفضل من كون « المتكلّم » وضعا هو من قام المبدأ به قيام حلول ، فهو بحث لفظي لا يلتفت إليه مع امتناعه عقلا ، فيلزم أن يراد به معنى الموجد.

مضافا إلى أنّه لم يعلم إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى في الكتاب والسنّة ، وإن أطلق عليه فيهما أنّه أخبر وأمر ونهى وقال وكلّم ويكلّم

بل إطلاق « المتكلّم » عليه عرفيّ مستفاد من إطلاق تلك الأمور في الكتاب والسنّة عليه تعالى ، فلا ينفع الخصم بوجه سديد ألبتّة.

ثمّ إنّه على ما ذكرنا من كون المتكلّم موجد الكلام ، يكون التكلّم من الصفات الإضافية الآتية من جهة القدرة : كالرازق والخالق ، لا من الصفات الذاتية القديمة التي هي في عرض القدرة : كالحيّ والعالم ، خلافا للأشاعرة.

هذا ، والأعجب من الأشاعرة : الحنابلة ، فإنّهم وافقوا الأشاعرة في قدم كلامه ، لكن قالوا : هو حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ؛ كما نقله عنهم في « المواقف » و« شرح التجريد » للقوشجي(١) .

ونقلا عن بعضهم أنّه قال : « الجلد والغلاف قديمان » أيضا(٢) .

وهذا هو الجهل المفرط!

وسيذكر المصنّف ; دلالة العقل على حدوث الحروف ، فانتظر.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦.

(٢) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦ ؛ أي : « فضلا عن المصحف » كما جاء في شرح التجريد وشرح المواقف ٨ / ٩٢.

٢٣٤

كلامه تعالى متعدّد

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

[ المطلب ] الثاني

في أنّ كلامه تعالى متعدّد

المعقول من الكلام ـ على ما تقدّم ـ أنّه الحروف والأصوات المسموعة ، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام ، وذلك بأن يكون : خبرا ، أو أمرا ، أو نهيا ، أو استفهاما ، أو تنبيها ؛ وهو الشامل للتمنّي ، والترجّي ، والتعجّب ، والقسم ، والنداء ؛ ولا وجود له إلّا في هذه الجزئيات.

والّذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا ، فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه [ تعالى ] واحد مغاير لهذه المعاني ؛ وذهب آخرون : إلى تعدّده(٢) .

والّذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيء

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥١ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١١٠ ـ ١١١ ، شرح المواقف ٨ / ٩١ ـ ٩٤ ، شرح التجريد : ٤١٨ ـ ٤١٩.

٢٣٥

لا يتصوّرونه هم ولا خصومهم!

ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره ، كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ، ويناط به الأحكام؟!

* * *

٢٣٦

وقال الفضل(١) :

الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات ، مثل :

العلم والقدرة ، فكما إنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة ، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء.

وهذا بحسب التعلّق ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر [ أ ] وعلى وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي.

وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يكون متعدّدا عنده.

فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني ، فإن ثبت ، فهو قديم واحد كسائر الصفات ؛ وإن انحصر الكلام في اللفظي ، فهو حادث متعدّد ؛ وقد أثبتنا الكلام النفسي ، فطامّات الرجل ليست إلّا التّرّهات.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢١٦.

٢٣٧

وأقول :

صرّح الفضل وغيره أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي ، ومعه كيف يكون اللفظي متعدّدا دون النفسي؟! وإلّا لخرج عن كونه مدلولا مرتّبا في النفس على حسب ترتيب اللفظي!

على إنّه لا وجه لأن يحصل مفهوم الكلام بمجرّد تعلّقه بأنواع الكلام من دون أن يكون في نفسه على أحد الهيئات المخصوصة.

ثمّ ما أراد بتعلّقه بالأمر والنهي وأخواتهما؟!

فإن أراد به إيجاده لها ، فلا نعرف صفة ذاتية بها الإيجاد سوى القدرة.

وإن أراد كونه جنسا لها ، لزم وجود الجنس في القدم بدون الفصل ، وهو باطل.

وإن أراد به عروضه عليها ، لزم عروض القديم في قدمه على الحادث في حدوثه ، وهو ممتنع ؛ ولا يمكن وجوده قبلها ؛ لامتناع قيام العرض بلا معروض.

وإن أراد العكس ، وأنّه معروض لها ، فإن كان عروضها في القدم ، نافى فرض حدوثها ، ولزم عروض الحادث في حدوثه على القديم في قدمه وإن كان عروضها حال حدوثها ، لزم أن لا يكون في القدم كلاما لعدم العروض حينئذ ؛ ولا نتصوّر وجها لكونه كلاما حقيقيا قبل العروض.

وإن أراد به ما هو من نحو الانكشاف وتعلّق العلم بالمعلوم ، فقد

٢٣٨

صار علما ؛ وهو كما ترى.

وإن أراد غير ذلك ، فليبيّنه أصحابه حتّى نعرف صحّته من فساده.

وبالجملة : كما لا نعقل معنى للكلام النفسي ، لا نعقل وجها صحيحا لتعلّقه ، لا سيّما مع حفظ دلالة الكلام اللفظي عليه على نحو دلالة اللفظ على معناه المطابقي.

* * *

٢٣٩
٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423