الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن18%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89864 / تحميل: 7007
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

مأخوذة من نظام الكون ثمّ نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلّا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم. فنظام الكون (وهو فعل الله سبحانه) هو العدل فافهم ذلك.

ولو كان هناك إله يغني منه في شئ من الاُمور لم يكن نظام التكوين عدلاً مطلقاً بل كان فعل كل إله عدلاً بالنسبه إليه وفي دائرة قضائه وعمله.

وبالجملة فالله سبحانه يشهد وهو شاهد عدل على أنّه لا إله إلّا هو يشهد لذلك بكلامه وهو قوله: شهد الله أنّه لا إله إلّا هو على ما هو ظاهر الآية الشريفة فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة: قوله تعالى:( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً ) النساء - ١٦٦.

والملائكة يشهدون بأنّه لا إله إلّا هو فإنّ الله يخبر في آيات مكّيّة نازلة قبل هذه الآيات بأنّهم عباد مكرمون لا يعصون ربّهم ويعملون بأمره ويسبّحونه وفي تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره. قال تعالى:( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) الأنبياء - ٢٧ وقال تعالى:( والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ) الشورى - ٥

وأولوا العلم يشهدون أنّه لا إله إلّا هو يشاهدون من آياته الآفاقيّة والأنفسيّة وقد ملات مشاعرهم ورسخت في عقولهم.

وقد ظهر ممّا تقدّمأولا: أنّ المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل وإن كانت صحيحة حقّة في نفسها فإنّ عالم الوجود يشهد على وحدانيّته في الاُلوهيّة بالنظام الواحد المتّصل الجاري فيه، وبكلّ جزء من أجزائه الّتي هي أعيان الموجودات.

وثانياً: أنّ قوله تعالى: قائماً بالقسط حال من فاعل قوله: شهد الله والعامل فيه شهد وبعبارة اُخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة واُولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائماً بالقسط يشهد أن لا إله إلّا هو والملائكة واُولوا العلم يشهدون بالوحدانيّة كما هو ظاهر الآية حيث فرّقت بين قوله: لا إله

١٢١

إلّا هو وقوله: قائماً بالقسط بتوسيط قوله: والملائكة واُولوا العلم ولو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حقّ الكلام أن يقال: إنّه لا إله إلّا هو قائماً بالقسط والملائكة. ومن ذلك يظهر ما فيما ذكره عدّة من المفسّرين في تفسير الآية من الجهتين جميعاً كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام.

ومن أردء الإشكال ما ذكره بعضهم: أنّ حمل الشهادة على الشهادة الكلاميّة كما مرّ يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقّفاً على صحّة الوحي فإنّ صدق هذه الشهادة يتوقّف على كون القرآن وحياً حقّاً وهو متوقّف عليه فيكون بياناً دوريّاً. ومن هنا ذكر بعضهم: أنّ المراد بالشهادة هنا معنى استعاريّ بدعوى أنّ دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة واتّصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه وإخباره تعالى بأنّه واحد لا إله غيره وكذا عبادة ملائكته له وإطاعتهم لأمره وكذا ما يشاهده اُولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيّته بمنزلة شهادتهم على وحدانيّته تعالى.

والجواب: أنّ فيه خلطاً ومغالطة فإنّ النقل إنّما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحسّ إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أمّا لو غرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلاً أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أنّ المتواتر من الخبر أقوى أثراً وأجلى صدقاً من القضيّة الّتي اُقيم عليها برهان مؤلّف من مقدّمات عقليّة نظريّة وإن كانت يقينيّة وأنتجت اليقين.

فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب والزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين، والله سبحانه (وهو الله الّذي لا سبيل للنقص والباطل إليه) لا يتصوّر في حقّه الكذب فشهادته على وحدانيّة نفسه شهادة حقّ كما أنّ إخباره عن شهادة الملائكة واُولي العلم يثبت شهادتهم.

على أنّ من أثبت له شركاء كالأصنام وأربابها فإنّما يثبتها بعنوان أنّها شفعاء عند الله ووسائط بينه وبين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:( ما نعبدهم إلّا

١٢٢

ليقرّبونا إلى الله زلفى ) الزمر - ٣، وكذا من اتّخذ له شريكاً بالشرك الخفّي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنّما يتّخذه سبباً من الله غير أنّه مستقلّ بالتأثير بعد حصوله له وبالجملة ما اتّخذ له من شريك فإنّما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، وإذا شهد الله على أنّه لم يتّخذ لنفسه شريكاً أبطل ذلك دعوى من يدّعي له شريكاً، وجرى الكلام مجرى قوله:( قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) يونس - ١٨، فإنّه إبطال لدعوى وجود الشريك بأنّ الله لا يعلم به في السماوات والأرض ولا يخفى عليه شئ وبالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبيّة والعظمة كقوله:( سبحانه وتعالى عمّا يشركون ) يونس - ١٨ ونحو ذلك غير أنّه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبراً في مورد دعوى والمخبر به قائم بالقسط فكان شهادةً فعبّر بلفظ الشهادة تفنّناً في الكلام فيؤل المعنى إلى أنّه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثّرون في الخلق والتدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله وشهد به لكنّه يخبر أنّه ليس يعلم لنفسه شريكاً فلا شريك له ولعلم واعترف به الملائكة الكرام الّذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق والتدبير لكنّهم يشهدون أن لا شريك له ولعلم به وشهد أثره أولوا العلم لكنّهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له.

فالكلام نظير قولنا: لو كان في المملكة الفلانيّة ملك مؤثّر في شئون المملكة وإداره اُمورها غير الملك الّذي نعرفه لعلم به الملك وعرفه لأنّه من المحال أن لا يحسّ بوجوده وهو يشاركه ولعلم به القوى المجريه والعمّال المتوسّطون بين العرش والرعيّة وكيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده وهم يحملون أوامره ويجرون أحكامه بين ما في أيديهم من الأحكام والأوامر ؟ ولعلم به العقلاء من عامّة أهل المملكة، وكيف لا وهم يطيعون أوامره وعهوده ويعيشون في ملكه؟ لكنّ الملك ينكر وجوده وعمّال الدولة لا يعرفونه وعقلاء الرعيّة لا يشاهدون ما يدلّ على وجوده فليس.

قوله تعالى: ( لا إله إلّا هو العزيز الحكيم ) الجملة كالمعترضة الدخيلة في

١٢٣

الكلام لاستيفاء حقّ معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصوداً في الكلام أصالة. ومن أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جلّ شأنه في موارد يذكر أمره ذكراً يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى:( قالوا اتّخذا الله ولداً سبحانه ) يونس - ٦٨ فقوله: سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقّه تعالى، ونظيره بوجه قوله تعالى:( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم الآية ) المائدة - ٦٤.

وبالجملة لمّا اشتمل أوّل الآية على شهادة الله والملائكة واُولي العلم بنفي الشريك كان من حقّ الله سبحانه على من يحكي ويخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلّم (وهو في الآية هو الله سبحانه) وعلى من يسمع ذلك أن يوحّد الله بنفي الشريك عنه فيقول: لا إله إلّا هو. نظير ذلك قوله تعالى في قصّة الإفك:( ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ) النور - ١٦ فإنّ من حقّه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتاناً وأرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزّهوا الله قبله فإنّه تعالى أحقّ من يجب تنزيهه.

فموضع قوله: لا إله إلّا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حقّ تعظيمه ولذا تمّم بالاسمين العزيز الحكيم ولو كان في محلّ النتيجة من الشهادة لكان حقّ الكلام أن يتمّم بوصفي الوحدة والقيام بالقسط. فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيّته لأنّه المتفرّد بالعزّة الّتي يمنع جانبه أن يستذّل بوجود شريك له في مقام الاُلوهيّة والمتوحّد بالحكمة الّتي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره وما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.

وقد تبيّن بما مرّ من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية وكذا وجه تتميمها: بالاسمين: العزيز الحكيم، والله العالم.

١٢٤

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله تعالى: قل للّذين كفروا ستغلبون الآية روى محمّد بن إسحاق عن رجاله قال: لمّا أصاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم وقد عرفتم أنّي نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمّد لا يغرّنّك أنّك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنّا والله لو قاتلناك لعرفت أنّا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية.

أقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن إسحاق وابن جرير والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس، وروى ما يقرب منه القمّيّ في تفسيره. وقد عرفت ممّا تقدّم: أنّ سياق الآيات لا يلائم نزولها في حقّ اليهود كلّ الملائمة وأنّ الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة اُحد والله أعلم.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): ما تلذّذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّة أكبر لهم من لذّة النساء وهو قوله: زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين الآية ثمّ قال: وإنّ أهل الجنّة ما يتلذّذون بشئ من الجنّة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام ولا شراب.

أقول: وقد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثمّ تقديم النساء على باقي المشتهيات ثمّ جعل هذه الشهوات متاع الدنيا وشهوات الجنّة خيراً منها.

ومراده (عليه السلام) من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنّما هو الحصر الإضافيّ أي أنّ النكاح أكبر لذّة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلّقة بجسم الإنسان وأمّا غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ وليّ من أولياء الله تعالى بقرب ربّه ومشاهدة آياته الكبرى ولطائف رضوانه وإكرامه وغيرهما فذلك خارج عن

١٢٥

مورد كلامه (عليه السلام) وقد قامت البراهين العلميّة على أنّ أعظم اللذائذ التذاذ الشئ بنعمة وجوده واُخرى على أنّ التذاذ الأشياء بوجود ربّها أعظم من التذاذها بنفسها وهناك روايات كثيرة دالّة على أنّ التذاذ العبد بلذّة الحضور والقرب منه تعالى أكبر عنده من كلّ لذّة، وقد روي في الكافي عن الباقر (عليه السلام): كان عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنّه يسخّي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله تعالى:( أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) وهو ذهاب العلماء وسيجئ عدّة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.

وفي المجمع في قوله تعالى: القناطير المقنطرة عن الباقر والصادق (عليهما السلام) القنطار ملؤ مسك ثور ذهباً.

وفي تفسير القمّيّ قال (عليه السلام): الخيل المسوّمة المرعيّة.

وفي الفقيه والخصال عن الصادق (عليه السلام): من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرّة وهو قائم فواظب على ذلك حتّى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى.

أقول: وهذا المعنى مرويّ في روايات أخر عن أئمّة أهل البيت وهو من سنن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وروي ما يقرب منه في الدرّ المنثور أيضاً عن ابن جرير عن جعفر بن محمّد قال من صلّى من الليل ثمّ استغفر في آخر الليل سبعين مرّة كتب من المستغفرين. وقوله (عليه السلام): ووجبت له المغفرة من الله مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم: فاغفر لنا ذنوبنا. فإنّ في الحكاية لدعائهم من غير ردّ إمضائاً للاستجابة.

١٢٦

( سورة آل عمران الآيات ١٩ - ٢٥)

إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الْإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ( ١٩) فَإِنْ حَاجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّهِ‏ِ وَمَنِ اتّبَعَنِ وَقُل لِلّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠) إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ٢١) أُولئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٢٢) أَلَمْ تَرَ إَلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى‏ كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى‏ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُعْرِضُونَ( ٢٣) ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّامَاً مَعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ( ٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( ٢٥)

( بيان)

الآيات متعرّضة لحال أهل الكتاب وهم آخر الفرق الثلاث الّتي تقدّم أنّها عرضة للكلام في هذه السورة، وأهمّهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود والنصارى ففيهم وفي أمرهم نزل معظم السورة واليهم يعود.

قوله تعالى: ( إنّ الدين عند الله الإسلام ) قد مرّ معنى الإسلام بحسب اللغة وكأنّ هذا المعنى هو المراد هيهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغياً بينهم فيكون المعنى إنّ الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر

١٢٧

عباده إلّا به، ولم يبيّن لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلّا إيّاه، ولم ينصب الآيات الدالّة إلّا له وهو الإسلام الّذي هو التسليم للحقّ الّذي هو حقّ الاعتقاد وحقّ العمل وبعبارة اُخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبيّة في المعارف والأحكام وهو وإن اختلف كمّاً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنّه ليس في الحقيقة إلّا أمراً واحداً وإنّما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون التضادّ والتنافي والتفاضل بينها بالدرجات ويجمع الجميع أنّها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله.

فهذا هو الدين الّذي أراده الله من عباده وبيّنه لهم ولازمه أن يأخذ الإنسان بما تبيّن له من معارفه حقّ التبيّن ويقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرّف فيها من عند نفسه وأمّا اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهيّ عليهم وبيانه تعالى لما هو عنده دين وهو الإسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر وكون الدين واحداً بل كانوا عالمين بذلك وإنّما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفر منهم بآيات الله المبيّنة لهم حقّ الأمر وحقيقته لا بالله فإنّهم يعترفون به ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب، يحاسبه سريعاً في دنياه وآخرته: أمّا في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحياة عنه، وأمّا في الآخرة فبأليم عذاب النار.

والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين: اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين.

وممّا تقدّم يظهرأولا: أنّ المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعيّ بمعنى كونه شرعاً واحداً لا يختلف إلّا بالدرجات وبحسب استعدادات الاُمم المختلفة دون كونه واحداً بحسب التكوين بمعنى كونه واحداً مودعاً في الفطرة الإنسانيّة على وتيرة واحدة.

وثانياً: أنّ المراد بالآيات هو آيات الوحي والبيانات الإلهيّة الّتي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينيّة الدالّة على الوحدانيّة وما يزاملها من المعارف الإلهيّة.

١٢٨

والآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدلّ عليه بالبغي وهو الانتقام كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة: قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم الآية على تهديد المشركين والكفّار ولعلّ هذا هو السبب في أنّه جمع أهل الكتاب والمشركين معاً في الآية التالية في الخطاب بقوله: قل للّذين اُوتوا الكتاب والامّيّين أأسلمتم إلخ وفيه إشعار بالتهديد أيضاً.

قوله تعالى: ( فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن ) الضمير في حاجّوك راجع إلى أهل الكتاب وهو ظاهر والمراد به محاجّتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا: أنّ اختلافنا ليس لبغى منّا بعد البيان بل إنّما هو شيئ ساقنا إليه عقولنا وأفهامنا واجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحقّ سبحانه وأن ما تراه وتدعو إليه يا محمّد من هذا القبيل أو يقولوا ما يشابه ذلك والدليل على ذلك قوله فقل: أسلمت وجهي لله وقوله: وقل للّذين اُوتوا الكتاب والاُمّيّين أأسلمتم فإنّ الجملتين حجّة سيقت لقطع خصامهم وحجاجهم لا إعراض عن المحاجّة معهم.

ومعناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها: أنّ الدين عند الله الإسلام لا يختلف فيه كتب الله ولا يرتاب فيه سليم العقل، ويتفرّع عليه أن لا حجّة عليك في إسلامك وأنت مسلم فإن حاجّوك في أمر الدين فقل: أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن فهذا هو الدين ولا حجّة بعد الدين في أمر الدين ثمّ سلهم: أأسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا وليقبلوا ما أنزل الله عليك وعلى من قبلك ولا حجّة عليهم ولا مخاصمة بعد ذلك بينكم وإن تولّوا فلا تخاصمهم ولا تحاجّهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروريّ وهو أنّ الدين هو التسليم لله سبحانه وما عليك إلّا البلاغ.

وقد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب والاُمّيّين بقوله: وقل للّذين اُوتوا الكتاب والاُمّيّين أأسلمتم لكون الدين مشتركاً بينهم وإن اختلفوا في التوحيد و التشريك.

١٢٩

وقد علّق الإسلام على الوجه وهو ما يستقبلك من الشئ أو الوجه بالمعنى الأخصّ لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواسّ والمشاعر إسلاماً لجميع البدن ليدلّ على معنى الإقبال والخضوع لأمر الربّ تعالى. وعطف قوله: ومن اتّبعن حفظاً لمقام التبعيّة وتشريفاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قوله تعالى: ( وقل للّذين اُوتوا الكتاب والاُمّيّين أأسلمتم ) إلى آخر الآية المراد باللاُمّيّين المشركين سمّوا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب وكذا كان أهل الكتاب يسمّونهم كما حكاه تعالى من قولهم:( ليس علينا في الاُمّيّين سبيل ) آل عمران - ٧٥ والاُمّيّ هو الّذي لا يكتب ولا يقرء.

وفي قوله تعالى: وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد دلالة

أولا: على النهي عن المراء والإلحاح في المحاجّة فإنّ المحاجّة مع من ينكر الضروريّ لا تكون إلّا مرائاً ولجاجاً في البحث.

وثانياً: على أنّ الحكم في حقّ الناس والأمر مطلقاً إلى الله سبحانه وليس للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّا أنّه رسول مبلّغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى:( ليس لك من الأمر شئ ) آل عمران - ١٢٨ وقال تعالى:( لست عليهم بمسيطر ) الغاشية - ٢٣.

وثالثاً: على تهديد أهل الكتاب والمشركين فإنّ ختم الكلام بقوله: والله بصير بالعباد بعد قوله: فإنّما عليك البلاغ لا يخلو من ذلك ويدلّ على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية وهو قوله تعالى:( قولوا آمنّا بالله - إلى أن قال -ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) البقرة - ١٣٧ تذكر الآية أنّ أهل الكتاب إن تولّوا عن الإسلام فهم مصرّون على الخلاف ثمّ يهدّدهم بما يسلّي به النبيّ ويطيّب نفسه. فالآية أعني قوله: وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم وبين ربّهم وإرجاع أمرهم إليه وهو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم ويسأله لسان استعدادهم.

١٣٠

ومن هنا يظهر: أنّ ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ في الآية دليلاً على حرّيّة الاعتقاد في أمر الدين وأن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإنّ الآية كما عرفت مسوقه لغير ذلك.

وفي قوله: بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبوديّة ولم يقل: بصير بهم أو بصير بالناس ونحو ذلك إشعار بأنّ حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنّهم عباده ومربوبون له أسلموا أو تولّوا.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين يكفرون بآيات الله ) إلى آخر الآية الكلام في الآية وإن كان مسوقاً سوق الاستيناف لكنّه مع ذلك لا يخلو عن إشعار وبيان للتهديد الّذي يشعر به آخر الآية السابقة فإنّ مضمونها منطبق على أهل الكتاب وخاصّة اليهود.

وقوله: يكفرون ويقتلون في موضعين للاستمرار ويدلّان على كون الكفر بآيات الله وهو الكفر بعد البيان بغياً وقتل الأنبياء وهو قتل من غير حقّ وقتل الّذين يدعون إلى القسط والعدل وينهون عن الظلم والبغي دأباً وعادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود. فقد قتلوا جمعاً كثيراً وجمّاً غفيراً من أنبيائهم وعبّادهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكذا النصارى جروا مجريهم.

وقوله: فبشّرهم بعذاب أليم تصريح بشمول الغضب ونزول السخط. وليس هو العذاب الاُخرويّ فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية: اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة إلخ فهم مبشّرون بالعذاب الدنيويّ والاُخرويّ معاً أمّا الاُخرويّ فأليم عذاب النار وأمّا الدنيويّ فهو ما لقوه من التقتيل والإجلاء وذهاب الأموال والأنفس وما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرّح به آيات الكتاب العزيز.

وفي قوله تعالى: اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين دلالةأولا: على حبط عمل من قتل رجلاً من جهة أمره بالمعروف

١٣١

أو نهيه عن المنكر.وثانياً على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله: وما لهم من ناصرين.

قوله تعالى: ( ألم تر إلى الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب ) إلى آخر الآية يومي إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنّهم يبغون باتّخاذ الخلاف وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنّهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له وتولّوا وأعرضوا عنه وليس ذلك إلّا باغترارهم بقولهم لن تمسّنا الخ و باغترارهم بما افتروه على الله في دينهم.

والمراد بالّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب أهل الكتاب وإنّما لم يقل: اُوتوا الكتاب وقيل: اُوتوا نصيباً من الكتاب ليدلّ على أنّ الّذي في أيديهم من الكتاب ليس إلّا نصيباً منه دون جميعه لأنّ تحريفهم له وتغييرهم وتصرّفهم في كتاب الله أذهب كثيراً من أجزائه كما يومي إليه قوله في آخر الآية التالية: وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون. وكيف كان فالمراد - والله أعلم - أنّهم يتولّون عن حكم كتاب الله اعتزازاً بما قالوا واغتراراً بما وضعوه من عند أنفسهم واستغنائاً به عن الكتاب.

قوله تعالى: ( ذلك بأنّهم قالوا لن تمسّنا النار ) الخ معناه واضح واغترارهم بفريتهم الّتي افترتها أنفسهم مع أنّ الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنّها خدعة باطلة إنّما هو لكون المغرورين غير المفترين وعلى هذا فنسبة الافتراء الّذي توسّل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم اُمّة واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض.

وإمّا لأنّ الاغترار بغرور النفس والغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية باطلة وذكر المغرور أنّه هو الّذي افترى ما يغترّ به من الفرية ليس من أهل الكتاب ومن اليهود خاصّة ببعيد وقد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى:( وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلى بعضهم إلى

١٣٢

بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون ) البقرة - ٧٧.

على أنّ الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصّل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانيّة والصور الّتي زيّنتها ونمّقتها له نفسه دون الّذي حصل له العلم به كما أنّ المعتاد باستعمال المضرّات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم أنّها مضرّة وأنّ استعمال المضرّ ممّا لا ينبغي إلّا أنّ إلهيّئة الحاصلة في نفسه ملذّة له جاذبة إيّاه إلى الاستعمال لا تدع له مجالاً للتفكّر والاجتناب ونظائر ذلك كثيرة.

فهم لاستحكام الكبر والبغي وحبّ الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارّة لهم في دينهم وهم مع ذلك كرّروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكرّرونه ويلقّنونه أنفسهم حتّى أذعنوا به أي اطمأنّوا وركنوا إليه بالتلقين الّذي يؤثّر أثر العلم كما بيّنه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرّهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحقّ الّذي أنزله في كتابه.

قوله تعالى: ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ) إلى آخر الآية مدخول كيف مقدّر يدلّ عليه الكلام مثل يصنعون ونحوه. وفي الآية إيعاد لهؤلاء الّذين تولّوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وهم معرضون غير أنّه لمّا اُريد بيان أنّهم غير معجزين لله سبحانه اُخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة وهم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلّمين له مستكبرون عنه ولهذا اُخذ بالمحاذاة بين الكلامين وعبّر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله: إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الخ دون أن يقال: إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك.

والمعنى - والله أعلم - أنّهم يتولّون ويعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم

١٣٣

بينهم اغتراراً بما افتروه في دينهم واستكباراً عن الحقّ فكيف يصنعون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم القضاء الفصل والحكم الحقّ ووفّيت كلّ نفس ما كسبت والحكم حكم عدل وهم لا يظلمون وإذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولّوا ويعرضوا مظهرين بذلك أنّهم معجزون لله غالبون على أمره فإنّ القدرة كلّه لله وما هي إلا أيّام مهلة وفتنة.

( بحث روائي)

 في تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن مسلم قال: سألته عن قوله: إنّ الدين عند الله الإسلام فقال: الّذي فيه الإيمان.

وعن ابن شهر آشوب عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: إنّ الدين عند الله الإسلام الآية قال: التسليم لعليّ بن أبيطالب (عليه السلام) بالولاية.

أقول: وهو من الجري ولعلّ ذلك هو المراد أيضاً من الرواية السابقة.

وعنه أيضاً عن عليّ (عليه السلام) قال: لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، ولا ينسبها أحد بعدي: الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل. المؤمن أخذ دينه عن ربّه. إنّ المؤمن يعرف إيمانه في عمله، وإنّ الكافر يعرف كفره بإنكاره.

أيّها الناس! دينكم دينكم فإنّ السيّئة فيه خير من الحسنة في غيره إنّ السيّئة فيه تغفر، وإنّ الحسنة في غيره لا تقبل.

أقول: قوله (عليه السلام): لأنسبنّ الإسلام نسبة المراد بالنسبة التعريف كما سمّيت سورة التوحيد في الأخبار بنسبة الربّ والّذي عرّف به تعريف باللازم في غير الأوّل أعني قوله: الإسلام هو التسليم فإنّه تعريف لفظيّ عرّف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح منه. ويمكن أن يراد بالإسلام المعنى الاصطلاحيّ له وهو هذا الدين الّذي أتى به محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إشارة إلى قوله تعالى: إنّ الدين عند الله الإسلام

١٣٤

وبالتسليم الخضوع والانقياد ذاتاً وفعلاً فيعود الجميع إلى التعريف باللازم.

والمعنى: أنّ هذا الدين المسمّى بالإسلام يستتبع خضوع الإنسان لله سبحانه ذاتاً وفعلاً ووضعه نفسه وأعماله تحت أمره وإرادته وهو التسليم والتسليم لله يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه واليقين يستتبع التصديق وإظهار صدق الدين والتصديق يستتبع الإقرار وهو الإذعان بقراره وكونه ثابتاً لا يتزلزل في مقرّه ولا يزول عن مكانه وإقراره يستتبع أدائه وأدائه يستتبع العمل.

وقوله (عليه السلام): وإنّ الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب بإزائه في الآخرة أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحياة وفي الآخرة بنعيم الجنّة فلا ينافي ما ورد أنّ الكفّار يوجرون في مقابل حسناتهم بشئ من حسنات الدنيا. قال تعالى:( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ) الزلزال - ٧.

وفي المجمع عن أبي عبيدة الجرّاح قال: قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبيّاً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثمّ قرء: الّذين يقتلون النبيّين بغير حقّ ويقتلون الّذين يأمرون بالقسط من الناس ثمّ قال: يا أباعبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً في ساعة فقام مأة رجل واثنا عشر رجلاً من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً آخر النهار من ذلك اليوم وهو الّذي ذكره الله.

اقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيت المدراس على جماعه من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو وحرث بن زيد على أيّ دين أنت يا محمّد؟ قال: على ملّة إبراهيم ودينه. قالا: فإنّ ابراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله: ألم تر إلى الّذين

١٣٥

اُوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم إلى قوله: وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون.

أقول: وروى بعضهم: أنّ قوله تعالى: ألم تر نزل في قصّة الرجم وسيجئ ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى:( يا أهل الكتاب قد جائكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب الآية ) المائدة - ١٥ والروايتان من الآحاد وليستا بتلك القوّة.

١٣٦

( سورة آل عمران الآيات ٢٦ - ٢٧)

قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّن تَشَاءُ وَتُعِزّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنّكَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ٢٦) تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ٢٧)

( بيان)

الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدّمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب وخاصّة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة، ومن العذاب ما سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذلّ والمسكنة إلى يوم القيامة وأخذ أنفاسهم وذهب باستقلالهم في السودد.

على أنّ غرض السورة كما مرّ بيان أنّ الله سبحانه هو القائم على خلق العالم وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ويعزّ من يشاء وبالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء وهو الآخذ النازع للملك والعزّة ولكلّ خير عمّن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.

قوله تعالى: ( قل اللّهمّ مالك الملك ) أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الّذي بيده الخير على الإطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلّص من هذه الدعاوي الوهميّة الّتي نشبت في قلوب المنافقين والمتمرّدين من الحقّ من المشركين وأهل الكتاب فضلّوا وهلكوا بما قدّروه لأنفسهم من الملك والعزّة والغنى من الله سبحانه ويعرض الملتجي نفسه على إفاضة مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب.

والملك (بكسر الميم) ممّا نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله فمن الملك (بكسر الميم) ما هو حقيقيّ وهو كون شئ كالإنسان مثلاً بحيث يصحّ له أن

١٣٧

يتصرّف في شئ أيّ تصرّف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرّف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأيّ نحو شاء وأراد وكذا في يده بالقبض والبسط والأخذ بها والترك ونحو ذلك ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة حقيقيّة غير قابلة التغيّر يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغنى عنه ولا يفارقه إلّا بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الإنسان. ومن هذا القبيل ملكه تعالى (بكسر الميم) للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الإطلاق فله أن يتصرّف فيما شاء كيفما شاء.

ومن الملك (بكسر الميم) ما هو وضعيّ اعتباريّ وهو كون الشئ كالإنسان بحيث يصحّ له أن يتصرّف في شئ كيف شاء بحسب الرابطة الّتي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والأغراض الاجتماعيّة وإنّما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقيّ وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان والأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقيّ من ملكه الحقيقيّ التكوينيّ.

ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغيّر والتحوّل فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل.

وأمّا الملك (بالضمّ) فهو وإن كان من سنخ الملك (بالكسر) إلّا أنّه ملك لما يملكه جماعة الناس فإنّ المليك مالك لما يملكه رعاياه له أن يتصرّف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرّفهم تصرّفه ولا أن يزاحم مشيّتهم مشيّته فهو في الحقيقة ملك على ملك وهو ما نصطلح عليه بالملك الطوليّ كملك المولى للعبد وما في يده. ولهذا كان للملك (بالضمّ) من الأقسام ما ذكرناه للملك (بالكسر).

والله سبحانه مالك كلّ شئ ملكاً مطلقاّ: أمّا أنّه مالك لكلّ شئ على الإطلاق فلأنّ له الربوبيّة المطلقة والقيمومة المطلقة على كلّ شئ فإنّه خالق كلّ شئ وإله كلّ شئ. قال تعالى:( ذلكم الله ربّكم خالق كلّ شئ لا إله إلّا هو ) المؤمن - ٦٢

١٣٨

وقال تعالى:( له ما في السماوات وما في الأرض ) البقرة - ٢٥٥ إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ كلّ ما يسمّى شيئاً فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقلّ دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شئ وهذا هو الملك (بالكسر) كما مرّ.

وأمّا أنّه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكاً للموجودات فإنّ الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضاً كالأسباب حيث تملك مسبّباتها والأشياء تملك قواها الفعّالة والقوى الفعّالة تملك أفعالها كالإنسان يملك أعضائه وقواه الفعّالة من سمع وبصر وغير ذلك وهي تملك أفعالها وإذ كان الله سبحانه يملك كلّ شئ فهو يملك كلّ من يملك منها شيئاً ويملك ما يملكه و هذا هو الملك (بالضمّ) فهو مليك على الإطلاق. قال تعالى:( له الملك وله الحمد ) التغابن - ١ وقال تعالى:( عند مليك مقتدر ) القمر - ٥٥ إلى غير ذلك من الآيات هذا هو الحقيقيّ من الملك والملك.

وأمّا الاعتباريّ منها فإنّه تعالى مالك لأنّه هو المعطي لكلّ من يملك شيئاً من المال ولو لم يملك لم يصحّ منه ذلك ولكان معطياً لما لا يملك لمن لا يملك. قال تعالى:( وآتوهم من مال الله الّذي آتاكم ) النور - ٣٣.

وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنّه شارع حاكم يتصرّف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرّف الملوك فيما عند رعاياهم من المال. قال تعالى:( قل أعوذ بربّ الناس ملك الناس ) الناس - ٢ وقال تعالى:( وآتاكم من كلّ ما سألتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ) إبراهيم - ٣٤ وقال تعالى:( وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه ) الحديد - ٧ وقال تعالى:( وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ) الحديد - ١٠ وقال تعالى:( لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار ) المؤمن - ١٦ فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عزّ ملكه.

ومن التأمّل فيما تقدّم يظهر أنّ قوله تعالى: اللّهمّ مالك الملك مسوق:

أوّلا لبيان مِلكه تعالى (بالكسر) لكلّ مُلك (بالضمّ) ومالكيّة المُلك (بالضمّ) هو المُلك على المُلك (بالضمّ فيهما) فهو ملك الملوك! الّذي هو المعطي

١٣٩

لكلّ ملك ملكه كما قال تعالى:( أن آتاه الله الملك ) البقرة - ٢٥٨ وقال تعالى:( وآتيناهم ملكاً عظيماً ) النساء - ٥٤.

وثانياً يدلّ بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنّه الله جلّت كبرياؤه وهو ظاهر.

وثالثاً أنّ المراد بالملك في الآية الشريفة (والله أعلم) ما هو أعمّ من الحقيقيّ والاعتباريّ فإنّ ما ذكر من أمره تعالى في الآية الاُولى أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء على ما سنوضحه من شؤون الملك الاعتباريّ وما ذكره في الآية الثانية من شؤون الملك الحقيقيّ فهو مالك الملك مطلقاً.

قوله تعالى: ( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء ) الملك بإطلاقه شامل لكلّ ملك حقّاً أو باطلاً عدلاً أو جوراً فإنّ الملك (كما تقدّم بيانه في قوله:( أن آتاه الله الملك الآية ) البقرة - ٢٥٨) في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لأن يترتّب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنسانيّ وقد جبّل الله النفوس على حبّه والرغبة فيه والملك الّذي تقلّده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنّه ملك وإنّما المذموم إمّا تقلّد من لا يليق بتقلّده كمن تقلّده جوراً وغصباً وإمّا سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة ويرجع هذا الثاني أيضاً بوجه إلى الأوّل.

وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه وبالنسبة إلى غير أهله نقمة وهو على كلّ حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة يمتحن به عباده.

وقد تقدّم: أنّ التعليق على المشيّة في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافاً تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبراً في فعله ملزماً عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيّته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وأنّ جرى فعله على المصلحة دائماً.

قوله تعالى: ( وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء ) العزّ كون الشئ بحيث يصعب

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432