الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن18%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89886 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مناله ولذا يقال للشئ النادر الوجود أنّه عزيز الوجود أي صعب المنال ويقال عزيز القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة وصعب المنال من حيث مقامه فيهم ووجدانه كلّ ما لهم من غير عكس ثمّ استعمل في كلّ صعوبة كما يقال: يعزّ علىّ كذا. قال تعالى:( عزيز عليه ما عنتمّ ) التوبة - ١٢٨ أي صعب عليه واستعمل في كلّ غلبة كما يقال من عزّ بزّ أي من غلب سلب. قال تعالى:( وعزّني في الخطاب ) ص - ٢٣ أي غلبني والأصل في معناه ما مرّ.

ويقابله الذلّ وهو سهولة المنال بقهر محقّق أو مفروض. قال تعالى:( ضربت عليهم الذلّة والمسكنة ) البقرة - ٦١ وقال تعالى:( واخفض لهما جناح الذلّ ) الإسراء - ٢٤ وقال تعالى:( أذلّة على المؤمنين ) المائدة - ٥٤.

والعزّة من لوازم الملك على الإطلاق وكلّ من سواه إذا تملّك شيئاً فهو تعالى خوّله ذلك وملّكه وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزّة له تعالى محضاً وما عند غيره منها فإنّما هو بإيتائه وإفضاله. قال تعالى:( أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله جميعاً ) النساء - ١٣٩ وقال تعالى:( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ) المنافقون - ٨ وهذه هي العزّة الحقيقيّة وأمّا غيرها فإنّما هي ذلّ في صورة عزّ. قال تعالى:( بل الّذين كفروا في عزّة وشقاق ) ص - ٢ ولذا أردفه بقوله:( كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ) ص - ٣.

وللذلّ بالمقابلة ما يقابل العزّ من الحكم فكلّ شئ غيره تعالى ذليل في نفسه إلّا من أعزّه الله تعالى (تعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء).

قوله تعالى: ( بيدك الخير إنّك على كلّ شئ قدير ) الأصل في معنى الخير هو الانتخاب وإنّما نسمّي الشئ خيراً لإنّا نقيسه إلى شئ آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلّا لكونه متضمّنا لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة وإن كنّا أردناه أيضاً لشئ آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة وغيره خير من جهته فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمّى خيراً لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحداً منها وتردّدنا في

١٤١

اختياره من بينها.

فالشئ كما عرفت إنّما يسمّى خيراً لكونه منتخباً إذا قيس إلى شئ آخر مؤثراً بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل: إنّه صيغة التفضيل وأصله أخير. وليس بأفعل التفضيل وإنّما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلّق بغيره كما يتعلّق أفعل التفضيل. يقال: زيد أفضل من عمرو وزيد أفضلهما ويقال: زيد خير من عمرو وزيد خيرهما.

ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه ويقال أفضل وأفاضل وفُضلي وفُضليات ولا يجرى ذلك في خير بل يقال: خير وخيرة وأخيار وخيرات كما يقال: شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبّهة.

وممّا يؤيّده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى:( قل ما عند الله خير من اللهو ) الجمعة - ١١ فلا خير في اللهو حتّى يستقيم معنى أفعل. وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنّه منسلخ فيها عن معنى التفضيل وهو كما ترى فالحقّ أنّ الخير إنّما يفيد معنى الانتخاب واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شئ من الخير من الخصوصيّات الغالبة في الموارد.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنّه الّذي ينتهي إليه كلّ شئ ويرجع إليه كلّ شئ ويطلبه ويقصده كلّ شئ لكنّ القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلّت أسماؤه وإنّما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى:( والله خير وأبقى ) طه - ٧٣ وكقوله تعالى:( أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار ) يوسف - ٣٩.

نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى:( والله خير الرازقين ) الجمعة - ١١ وقوله:( وهو خير الحاكمين ) الأعراف - ٨٧ وقوله:( وهو خير الفاصلين ) الأنعام - ٥٧ وقوله:( وهو خير الناصرين ) آل عمران - ١٥٠ وقوله:( والله خير الماكرين ) آل عمران - ٥٤ وقوله:( وأنت خير الفاتحين ) الأعراف - ٨٩ وقوله:( وأنت خير الغافرين ) الأعراف - ١٥٥ وقوله:( وأنت خير الوارثين )

١٤٢

الأنبياء - ٨٩ وقوله:( وأنت خير المنزلين ) المؤمنون - ٢٩ وقوله:( وأنت خير الراحمين ) المؤمنون - ١٠٩.

ولعلّ الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادّة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق إطلاق الاسم عليه تعالى صوناً لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق وقد عنت الوجوه لجنابه وأمّا التسمية عند الإضافة والنسبة وكذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه.

والجملة أعنى قوله تعالى: بيدك الخير تدلّ على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الّذي هو الخبر والمعنى أنّ أمر كلّ خير مطلوب إليك وأنت المعطي المفيض إيّاه.

فالجملة في موضع التعليل لما تقدّمت عليها من الجمل أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء إلخ من قبيل تعليل الخاصّ بما يعمّه وغيره أعني أنّ الخير الّذي يؤتيه تعالى أعمّ من الملك والعزّة وهو ظاهر.

وكما يصحّ تعليل إيتاء الملك والإعزاز بالخير الّذي بيده تعالى كذلك يصحّ تعليل نزع الملك والإذلال فإنّهما وإن كانا شرّين لكن ليس الشرّ إلّا عدم الخير فنزع الملك ليس إلّا عدم الإعزاز فانتهاء كلّ خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كلّ حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الّذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتّصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلّا بنحو الخذلان وعدم التوفيق كما مرّ البحث عن ذلك.

وبالجملة هناك خير وشرّ تكوينيّان كالملك والعزّة ونزع الملك والذلّة والخير التكوينيّ أمر وجوديّ من إيتاء الله تعالى والشرّ التكوينيّ إنّما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنّه هو المالك للخير لا يملكه غيره فإذا أعطى غيره شيئاً من الخير فله الأمر وله الحمد وإن لم يعط أو منع فلا حقّ لغيره عليه حتّى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الاعطاء ظلماً. على أنّ إعطائه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامّة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.

١٤٣

وهناك خير وشرّ تشريعيّان وهما أقسام الطاعات والمعاصي وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعاً وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولو لا فرض اختيار في صدورها لم تتّصف بحسن ولا قبح وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلّا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.

فقد تبيّن: أنّ الخير كلّه بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كلّ وجدان وحرمان وخير وشرّ.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ في قوله: بيدك الخير إيجازاً بالحذف والتقدير: بيدك الخير والشرّ كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى:( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ ) النحل - ٨١ أي والبرد.

وكأنّ السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى: وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى والمعتزلة وان أخطأوا في نفي الانتساب نفياً مطلقاً حتّى بالواسطة لكنّه لا يجوّز هذا التقدير الغريب وقد تقدّم البحث عن ذلك وبيان حقيقة الأمر.

قوله تعالى: ( إنّك على كلّ شئ قدير ) في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإنّ القدرة المطلقة على كلّ شئ توجب أن لا يقدر أحد على شئ إلّا بإقداره تعالى إيّاه على ذلك ولو قدر أحد على شئ من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجاً عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديراً على كلّ شئ وإذا كانت لقدرته هذه السعة كان كلّ خير مفروض مقدوراً عليه له تعالى وكان أيضاً كلّ خير أفاضه غيره منسوباً إليه مفاضاً عن يديه فهو له أيضاً فجنس الخير الّذي لا يشذّ منه شاذّ بيده وهذا هو الحصر الّذي يدلّ عليه قوله تعالى: بيدك الخير.

قوله تعالى: ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ) الولوج هو الدخول والظاهر كما ذكروه أنّ المراد من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع

١٤٤

والأمكنة على بسيط الأرض واختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيّام في الطول والليالي في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالى في الطول من أوّل الشتاء إلى أوّل الصيف ثمّ يأخذ الليالي في الطول والأيّام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أوّل الصيف إلى أوّل الشتاء كلّ ذلك في البقاع الشماليّة والأمر في البقاع الجنوبيّة على عكس الشماليّة منها فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائماً أمّا الاستواء في خطّ الاستواء والقطبين فإنّما هو بحسب الحسّ وأمّا في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.

قوله تعالى: ( وتخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من الحيّ ) وذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنّه تعالى سمّى الإيمان حياة ونوراً والكفر موتاً وظلمة كما قال تعالى:( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) الأنعام - ١٢٢ ويمكن أن يراد الأعمّ من ذلك ومن خلق الأحياء كالنبات والحيوان من الأرض العديمة الشعور وإعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإنّ كلامه تعالى كالصريح في أنّه يبدّل الميّت إلى الحيّ والحيّ إلى الميّت. قال تعالى:( ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون ) المؤمنون - ١٥ إلى غيرها من الآيات.

وأمّا ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أنّ الحياة الّتى تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكاً من جرثومة حيّة إلى اُخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادّة الفاقدة للشعور وذلك لإنكاره الكون الحادث فيبطله الموت المحسوس الّذي تثبته التجربة في جراثيم الحياة فتبدّل الحياة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما. ولبقيّة الكلام مقام آخر.

والآية أعني قوله تعالى: تولج الليل في النهار إلخ تصف تصرّفه تعالى في الملك

١٤٥

الحقيقيّ التكوينيّ كما أنّ الآية السابقة أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء إلخ تصف تصرّفه في الملك الاعتباريّ الوضعيّ وتوابعه.

وقد وضع في كلّ من الآيتين أربعة أنحاء من التصرّف بنحو التقابل فوضع في الأولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه ووضع الإعزاز والإذلال وبحذائهما إخراج الحيّ من الميّت وعكسه وفي ذلك من عجيب اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإنّ إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حرّيّتهم وإطلاقهم الغريزيّ وإذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار ونزع الملك بالعكس من ذلك وكذا إعطاء العزّة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفيّ الأثر لولاها نظير إخراج الحيّ من الميّت والإذلال بالعكس من ذلك وفي العزّة حياة وفي الذلّة ممات.

وهنا وجه آخر: وهو أنّ الله عدّ النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوّة قال تعالى:( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) الإسراء - ١٢ ومظهر هذا الإثبات والإمحاء في المجتمع الإنسانيّ ظهور الملك والسلطنة وزواله وعدّ الحياة والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى:( أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون ) النحل - ٢١ وخصّ العزّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال:( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ) المنافقون - ٨ وهم الّذين يذكرهم بالحياة فصارت العزّة والذلّة مظهرين في المجتمع الإنسانيّ للحياة والموت ولهذا قابل ما ذكره في الآية الاُولى من إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار وعكسه وإخراج الحيّ من الميّت وعكسه.

ثمّ وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: وترزق من تشاء بغير حساب وما ذكره في الآية الاُولى: بيدك الخير كما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( وترزق من تشاء بغير حساب ) المقابلة المذكورة آنفاً تعطي أن يكون قوله: وترزق إلخ بياناً لما سبقه من إيتاء الملك والعزّ والإيلاج وغيره فالعطف عطف

١٤٦

تفسير فيكون من قبيل بيان الخاصّ من الحكم بما هو أعمّ منه كما أنّ قوله: بيدك الخير بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل والمعنى إنّك متصرّف في خلقك بهذه التصرّفات لأنّك ترزق من تشاء بغير حساب.

( معنى الرزق في القرآن)

الرزق معروف والّذي يتحصّل من موارد استعماله أنّ فيه شوباً من معنى العطاء كرزق الملك الجنديّ ويقال لما قرّره الملك لجنديّه ممّا يؤتاه جملة: رزقة وكان يختصّ بما يتغذّى به لا غير كما قال تعالى:( وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ) البقرة - ٢٣٣ فلم يعدّ الكسوة رزقاً.

ثمّ توسّع في معناه فعدّ كلّ ما يصل الإنسان من الغذاء رزقاً كأنّه عطيّة بحسب الحظّ والجدّ وإن لم يعلم معطيه ثمّ عمّم فسمّى كلّ ما يصل إلى الشئ ممّا ينتفع به رزقاً وإن لم يكن غذائاً كسائر مزايا الحياة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك. قال تعالى:( أم تسألهم خرجاً فخراج ربّك خير وهو خير الرازقين ) المؤمنون - ٧٢ وقال: فيما يحكى عن شعيب( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي ورزقني منه رزقاً حسناً ) هود - ٨٨ والمراد به النبوّة والعلم إلى غير ذلك من الآيات.

والمتحصّل من قوله تعالى:( إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين) الذاريات - ٥٨ والمقام مقام الحصر:أوّلا: أنّ الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلّا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدّقه أمثال قوله تعالى:( والله خير الرازقين ) الجمعة - ١١ حيث أثبت رازقين وعدّه تعالى خيرهم، وقوله:( وارزقوهم فيها واكسوهم ) النساء - ٥ كلّ ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أنّ الملك والعزّة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.

وثانياً: أنّ ما ينتفع به الخلق في وجودهم ممّا ينالونه من خير فهو رزقهم

١٤٧

والله رازقه ويدلّ على ذلك مضافاً إلى آيات الرزق على كثرتها آيات كثيرة اُخر كالآيات الدالّة على أنّ الخلق والأمر والحكم والملك (بكسر الميم) والمشيّة والتدبير والخير لله محضاً عزّ سلطانه.

وثالثاً: أنّ ما ينتفع به الإنسان انتفاعاً محرّماً لكونه سبباً للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنّه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع. قال تعالى:( قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) الأعراف - ٢٨ وقال تعالى:( إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان - إلى أن قال -وينهي عن الفحشاء والمنكر ) النحل - ٩٠ وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شئ ثمّ يأمر به أو ينهي عنه ثمّ يحصر رزقه فيه.

ولا منافاة بين عدم كون نفع محرّم رزقاً بحسب التشريع وكونه رزقاً بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتّى يستتبع ذلك قبحاً وما بيّنه القرآن من عموم الرزق إنّما هو بحسب حال التكوين وليس البيان الإلهيّ بموقوف على الأفهام الساذجة العاميّة حتّى يضرب صفحاً عن التعرّض للمعارف الحقيقيّة وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضرّ به إلّا الخاسرون قال تعالى:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا خساراً ) الإسراء - ٨٢.

على أنّ الآيات تنسب الملك الّذي لأمثال نمرود وفرعون والأموال والزخارف الّتي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلّا أنّ ذلك كلّه بإذن الله آتاهم ذلك امتحاناً وإتماماً للحجّة وخذلاناً واستدراجاً ونحو ذلك وهذا كلّه نسب تشريعيّة وإذا صحّت النسبة التشريعيّة من غير محذور لزوم القبح فصحّة النسبة التكوينيّة الّتي لا مجال للحسن والقبح العقلائيّين فيها أوضح.

ثمّ إنّه تعالى ذكر أنّ كلّ شئ فهو مخلوق له منزّل من عنده من خزائن رحمته كما قال:( وإن من شئ إلّا عندنا خزائنه وما ننزّله إلّا بقدر معلوم ) الحجر - ٢١ وذكر أيضاً أنّ ما عنده فهو خير. قال تعالى:( وما عند الله خير ) القصص

١٤٨

- ٦٠ وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أنّ كلّ ما يناله شئ في العالم ويتلبّس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعّم بسببه كما يفيده أيضاً قوله تعالى:( الّذي أحسن كلّ شئ خلقه ) الم السجدة - ٧ مع قوله تعالى:( ذلكم الله ربّكم خالق كلّ شئ لا إله إلّا هو ) المؤمن - ٦٤.

وأمّا كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهيّة شرّاً يستضرّ به فإنّما شرّيّته وإضراره نسبيّ متحقّق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصّة مع كونه خيراً نافعاً بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مرّ يشير إليه قوله تعالى:( وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ) النساء - ٧٩ وقد مرّ البحث عن هذا المعنى فيما مرّ.

وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكلّه خير ينتفع به يكون رزقاً بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلّا العطيّة الّتي ينتفع بها الشئ المرزوق وربّما أشار إليه قوله تعالى:( ورزق ربّك خير ) طه - ١٣١.

ومن هنا يظهر أنّ الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبيّنه القرآن اُمور متساوية فكلّ رزق خير ومخلوق وكلّ خلق رزق وخير وإنّما الفرق: أنّ الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوّة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عارياً عن هذه النعمة الإلهيّة. قال تعالى:( الّذي أعطى كلّ شئ خلقه ) طه - ٥٠.

والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوّة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته والقوّة الغاذية خير للإنسان ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجاً طالباً.

وأمّا الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقّق معناه إلى شئ ثابت أو مفروض فالغذاء مثلاً مخلوق موجد في نفسه وكذا القوّة الغاذية مخلوقة و

١٤٩

الإنسان مخلوق.

ولما كان كلّ رزق لله وكلّ خير لله محضاً فما يعطيه تعالى من عطيّة وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض وبلا شئ مأخوذ في مقابله إذ كلّ ما فرضنا من شئ فهو له تعالى حقّاً ولا استحقاق هناك إذ لا حقّ لأحد عليه تعالى إلّا ما جعل هو على نفسه من الحقّ كما جعله في مورد الرزق. قال تعالى:( وما من دابّة في الأرض إلّا على الله رزقها ) هود - ٦ وقال تعالى:( فوربّ السماء والأرض إنّه لحقّ مثل ما أنّكم تنطقون ) الذاريات - ٢٣.

فالرزق مع كونه حقّاً على الله لكونه حقّاً مجعولاً من قبله عطيّة منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحقّ.

ومن هنا يظهر أنّ للإنسان المرتزق بالمحرّمات رزقاً مقدّراً من الحلال بنظر التشريع فإنّ ساحته تعالى منزّهة من أن يجعل رزق إنسان حقّاً ثابتاً على نفسه ثمّ يرزقه من وجه الحرام ثمّ ينهاه عن التصرّف فيه ويعاقبه عليه.

وتوضيحه ببيان آخر: أنّ الرزق لمّا كان هو العطيّة الإلهيّة بالخير كان هو الرحمة الّتي له على خلقه وكما أنّ الرحمة رحمتان: رحمة عامّة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ومتّق وفاجر وإنسان وغير إنسان ورحمة خاصّة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنّة كذلك الرزق منه ما هو رزق عامّ وهو العطيّة الإلهيّة العامّة الممدّة لكلّ موجود في بقاء وجوده ومنه ما هو رزق خاصّ وهو الواقع في مجرى الحلّ.

وكما أنّ الرحمة العامّة والرزق العامّ مكتوبان مقدّران. قال تعالى:( وخلق كلّ شئ فقدّره تقديراً ) الفرقان - ٢ كذلك الرحمة الخاصّة والرزق الخاصّ مكتوبان مقدّران وكما أنّ الهدى - وهو رحمة خاصّة - مكتوب مقدّر تقديراً تشريعيّاً لكلّ إنسان مؤمناً كان أو كافراً ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب قال تعالى:( وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين ) الذاريات - ٥٨ وقال تعالى:

١٥٠

( وقضى ربّك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه ) الإسراء - ٢٣ فالعبادة وهى تستلزم الهدى وتتوقّف عليه مقضيّة مقدّرة تشريعاً كذلك الرزق الخاصّ - وهو الّذى عن مجرى الحلّ - مقضى مقدّر. قال تعالى:( قد خسر الّذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افترائاً على الله قد ضلّوا وما كانوا مهتدين ) الأنعام - ١٤٠ وقال تعالى:( والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق فما الّذين فضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت إيمانهم فهم فيه سواء ) النحل - ٧١ والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعيّ يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.

ومن الواجب أن يعلم: أنّ الرزق كما مرّ من معناه هو الّذي ينتفع به من العطيّة على قدر ما ينتفع فمن اوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلّا القليل منه فإنّما رزقه هو الّذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلّا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلاً وقلّته وللكلام في الرزق تتمّة ستمرّ بك في قوله تعالى:( وما من دابّة في الأرض إلّا على الله رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها كلّ في كتاب مبين ) هود - ٦.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من الكلام في قوله تعالى: وترزق من تشاء بغير حساب فنقول: توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنّما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً فلا يقابل عطيّته منهم شئ فلا حساب لرزقه تعالى.

وأمّا كون نفى الحساب راجعاً إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدّر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى:( إنّا كلّ شئ خلقناه بقدر ) القمر - ٤٩ وقوله:( ومن يتقّ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شئ قدراً ) الطلاق - ٣ فالرزق منه تعالى عطيّة بلا عوض لكنّه مقدّر على ما يريده تعالى.

١٥١

وقد تحصّل من الآيتينأوّلا: أنّ الملك (بضمّ الميم) كلّه لله كما أنّ الملك (بكسر الميم) كلّه لله.

وثانياً: أنّ الخير كلّه بيده ومنه تعالى.

وثالثاً: أنّ الرزق عطيّة منه تعالى بلا عوض واستحقاق.

ورابعاً: أنّ الملك والعزّة وكلّ خير اعتباريّ من خيرات الاجتماع كالمال والجاه والقوّة وغير ذلك كلّ ذلك من الرزق المرزوق.

( بحث روائي)

في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممّن تشاء أليس قد آتى الله بني اُميّة الملك؟ قال: ليس حيث تذهب إنّ الله عزّوجلّ آتانا الملك، وأخذته بنو اُميّة بمنزلة الرجل يكون له الثوب، فيأخذه الآخر فليس هو للّذي أخذه.

اقول: وروى مثله العيّاشيّ عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام) وإيتاء الملك على ما تقدّم بيانه يكون على وجهين: إيتاء تكوينيّ وهو انبساط السلطنة على الناس ونفوذ القدرة فيهم سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود:( أن آتاه الله الملك ) وأثره نفوذ الكلمة ومضىّ الأمر والإرادة وسنبحث عن معنى كونه تكوينيّاً وإيتاء تشريعيّ وهو القضاء بكونه ملكاً مفترض الطاعة كما قال تعالى:( إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ) البقرة - ٢٤٧ وأثره افتراض الطاعة وثبوت الولاية ولا يكون إلّا العدل وهو مقام محمود عند الله سبحانه والّذي كان لبني اُميّة من الملك هو المعنى الأوّل وأثره وقد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الأوّل وأخذ معه أثر المعنى الثاني وهو المقام الشرعيّ والحمد الدينيّ فنبهّه (عليه السلام) أنّ الملك بهذا المعنى ليس لبني اُميّة بل هو لهم ولهم أثره وبعبارة اُخرى: الملك الّذي لبني اُميّة إنّما يكون محموداً إذا كان في أيديهم عليهم السلام

١٥٢

وأمّا في أيدي بني اُميّة فليس إلّا مذموماً لأنّه مغصوب وعلى هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلّا بنحو المكر والاستدراج كما في ملك نمرود وفرعون.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني اُميّة في هذه الآية ففي الإرشاد في قصّة إشخاص يزيد بن معاوية رؤوس شهداء الطفّ قال المفيد: ولمّا وضعت الرؤس وفيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد:

نفلّق هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلماً

قال: ثمّ أقبل على أهل مجلسه فقال: إنّ هذا كان يفخر علىّ ويقول: أبي خير من أب يزيد واُمّي خير من اُمّه وجدّى خير من جدّه وأنا خير منه فهذا الّذي قتله فأمّا قوله بأنّ أبي خير من أب يزيد فلقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه وأمّا قوله بأنّ اُمّي خير من اُمّ يزيد فلعمري لقد صدق إنّ فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي وأمّا قوله: جدّي خير من جدّه فليس لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول بأنّه خير من محمّد وأمّا قوله بأنّه خير منّي فلعلّه لم يقرء هذه الآية: قل اللّهمّ مالك الملك الآية.

وردّت زينب بنت عليّ عليه وعليها السلام عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق (عليه السلام) في الرواية السابقة على ما رواه السيّد بن طاووس وغيره فقالت فيما خاطبته: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاُسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والاُمور متّسقة. وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا. مهلاً مهلاً أنسيت قول الله: ولا يحسبنّ الّذين كفروا إنّما نملي لهم خير لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين الخطبة.

وفي المجمع في قوله تعالى: وتخرج الحيّ من الميّت الآية قيل معناه: وتخرج المؤمن من الكافر وتخرج الكافر من المؤمن. قال: وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام).

١٥٣

أقول: وروى قريباً منه الصدوق عن العسكريّ (عليه السلام).

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهديّ عن ابن مسعود أو عن سلمان عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ. قال: المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

وفيه أيضاً بالطريق السابق عن سلمان الفارسيّ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لمّا خلق الله آدم (عليه السلام) أخرج ذرّيّته فقبض قبضه بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنّة ولا أبالي وقبض بالاُخرى قبضة فجاء فيها كلّ ردئ فقال: هؤلاء أهل النار ولا اُبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن، ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله: تخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من الحيّ.

أقول: وروي هذا المعنى عن عدّة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضاً مقطوعاً والرواية من أخبار الذرّ والميثاق وسيجئ بيانها في موضع يليق بها إنشاء الله.

وفي الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد وعدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي: أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله فإنّ الله تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً فمن اتّقى الله وصبر أتاه رزقه من حلّه، ومن هتك حجاب ستر الله عزّوجلّ وأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه.

وفي النهج قال (عليه السلام): الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل همّ سنتك يومك كفاك كلّ يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإنّ الله تعالى جدّه سيؤتيك في كلّ غد جديد ما قسّم لك، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهمّ لما ليس لك ولن يسبقك إلى رزقك طالب ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطئ عنك ما قد قدّر لك.

١٥٤

وفي قرب الأسناد: ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كلّ نفس بما قدّر لها ولكن لله فضول فاسألوا الله من فضله.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة وسيجئ استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي)

قد تقدّم في بعض ما مرّ من الأبحاث السابقة: أنّ اعتبار أصل الملك (بالكسر) من الاعتبارات الضروريّة الّتي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفرداً أو مجتمعاً وأنّ أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك (بالكسر).

وأمّا الملك (بالضمّ) وهو السلطنة على الأفراد فهو أيضاً من الاعتبارات الضروريّة الّتي لا غنى للإنسان عنها لكنّ الّذي يحتاج إليه ابتدائاً هو الاجتماع من حيث تألّفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متبائنة الإرادات دون الفرد من حيث إنّه فرد فإنّ الأفراد المجتمعين لتبائن إراداتهم واختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلّب كلّ على الآخرين في أخذ ما بأيديهم والتعدّي على حومة حدودهم وهضم حقوقهم فيقع الهرج والمرج ويصير الاجتماع الّذي اتّخذوه وسيلة إلى سعادة الحياة ذريعة إلى الشقاء والهلاك ويعود الدواء دائاً ولا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلّا بجعل قوّة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الأفراد المجتمعين حتّى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاقّ الوسط وترفع الدانية المستهلكة إليه أيضاً فتتحّد جميع القوى من حيث المستوى ثمّ تضع كلّ واحدة منها في محلّها الخاصّ وتعطي كلّ ذي حقّ حقّه.

ولمّا لم تكن الإنسانيّة في حين من الأحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام

١٥٥

كما مرّ بيانه سالفاً لم يكن الاجتماعات في الأعصار السالفة خالية عن رجال متغلّبين على الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقّيّة والتملّك على النفوس والأموال وكانت بعض فوائد الملك الّذي ذكرناه - وهو وجود من يمنع عن طغيان بعض الأفراد على بعض - يترتّب على وجود هذا الصنف من المتغلّبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة وإن كانوا هم أنفسهم وأعضادهم وجلاوزتهم قوى طاغية من غير حقّ مرضيّ وذلك لكونهم مضطرّين إلى حفظ الأفراد في حال الذلّة والاضطهاد حتّى لا يتقوّى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوماً عليهم أنفسهم كما أنّهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم.

وبالجملة بقاء جلّ الأفراد على حال التسالم خوفاً من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعيّ وإنّما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلّبين أذا لم يبلغ تعدّيهم مبلغ جهدهم ويتظلّمون ويشتكون إذا بلغ بهم الجهد وحمل عليهم من التعدّي ما يفوق طاقتهم.

نعم ربّما فقدوا بعض هؤلاء المتسمّين بالملوك والرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك وأحسّوا بالفتنة والفساد وهدّدهم اختلال النظم ووقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض اُولي الطول والقوّة منهم وألقوا إليه زمام الملك فصار ملكاً يملك أزمّة الاُمور ثمّ يعود الأمر على ما كان عليه من التعدّي والتحميل.

ولم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتّى تضجّرت من سوء سير هؤلاء المتسمّين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي وإطلاقهم فيما يشائون فوضعت قوانين تعيّن وظائف الحكومة الجارية بين الاُمم وأجبرت الملوك باتّباعها وصار الملك ملكاً مشروطاً بعد ما كان مطلقاً واتّحد الناس على التحفّظ على ذلك وكان الملك موروثاً.

ثمّ أحسّت اجتماعات يبغي ملوكهم وسوء سيرهم ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيّرة موروثةً فبدّلوا الملك برئاسة

١٥٦

الجمهور فانقلب الملك المؤبّد المشروط إلى ملك مؤجّل مشروط. وربّما وجد في الأقوام والاُمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم الّتي شاهدوها ممّن بيده زمام أمرهم وربّما حدث في مستقبل الأيّام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.

لكنّ الّذي يتحصّل من جميع هذه المساعى الّتي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر أعني إلقاء زمام الاُمّة إلى من يدبّر أمرها ويجمع شتات إراداتها المتضادّة وقواها المتنافية: أن لا غنى للمجتمع الإنسانيّ عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيّرت أسماؤه وتبدّلت شرائطه بحسب اختلاف الاُمم ومرور الأيّام فإنّ طروق الهرج والمرج واختلال أمر الحياة الاجتماعيّة على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمّة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.

وهذا هو الّذي تقدّم في أوّل الكلام: أنّ الملك من الاعتبارات الضروريّة في الاجتماع الإنسانيّ.

وهو مثل سائر الموضوعات الاعتباريّة الّتي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادّة لسعادة الإنسانيّة.

وللنبوّة في هذا الاصلاح السهم الأوفى فإنّ من المسلّم في علم الاجتماع: أنّ انتشار قول ما من الأقوال بين العامّة وخاصّة إذا كان ممّا يرتبط بالغريزة ويستحسنه القريحة ويطمأنّ إليه النفوس المتوقّعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرّقة وجعل الجماعات المتشتّتة يداً واحداً تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شئ.

ومن الضروريّ: أنّ النبوّة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل وتمنعهم عن الظلم وتندبهم إلى عبادة الله والتسليم له وتنهاهم عن اتّباع الفراعنة الطاغين والنماردة المستكبرين المتغلّبين ولم تزل هذه الدعوة بين الاُمم منذ قرون متراكمة جيلاً بعد جيل واُمّة بعد اُمّة وإن اختلفت بحسب السعة والضيق باختلاف

١٥٧

الاُمم والأزمنة ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوىّ بين الاجتماعات الإنسانيّة قروناً متمادية وهو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.

وقد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئاً كثيراً من الوحي المنزل على الأنبياء (عليهم السلام) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربّه:( ربّ إنّهم عصوني واتّبعوا من لم يزده ماله وولده إلّا خساراً ومكروا مكراً كبّاراً وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ) نوح - ٢٣ وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن. قال تعالى:( قالوا أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلّا على ربّي لو تشعرون ) الشعراء - ١١٣ وقول هود (عليه السلام) لقومه:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم جبّارين ) الشعراء - ١٣٠ وقول صالح (عليه السلام) لقومه:( فاتّقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الّذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) الشعراء - ١٥٢.

ولقد قام موسى (عليه السلام) للدفاع عن بني إسرائيل ومعارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة وانتهض قبله إبراهيم (عليه السلام) لمعارضة نمرود ومن بعده عيسى بن مريم (عليه السلام) وسائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك والعظماء وتقبيح سيرهم الظالمة ودعوة الناس إلى رفض طاعة المفسدين واتّباع الطاغين.

وأمّا القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد والإباء عن الضيم وإنبائه عن عواقب الظلم والفساد والعدوان والطغيان ممّا لا يخفى قال تعالى:( ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الّذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ١٤ إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا أنّ الملك (بالضمّ) من ضروريّات المجتمع الإنسانيّ فيكفي في بيانه أتمّ بيان قوله تعالى بعد سرد قصّة طالوت:( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين ) البقرة - ٢٥١ وقد مرّ بيان كيفيّة

١٥٨

دلالة الآية بوجه عامّ.

وفي القرآن آيات كثيرة تتعرّض للملك والولاية وافتراض الطاعة ونحو ذلك واُخرى تعدّه نعمة وموهبة كقوله تعالى:( وآتيناهم ملكاً عظيماً ) النساء - ٥٤ وقوله تعالى:( وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ) المائدة - ٢٠ وقوله تعالى:( والله يؤتي ملكه من يشاء ) البقرة - ٢٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.

غير أنّ القرآن إنّما يعدّه كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربّما يتخيّل فيه شئ من الكرامة من مزايا الحياة قال تعالى:( يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات - ١٣. والتقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشئ لأنّه إن كان أمراً دنيويّاً فلا مزيّة لأمر دنيويّ ولا قدر إلّا للدين وإن كان أمراً اُخرويّاً فأمره إلى الله سبحانه وعلى الجملة لا يبقى للإنسان المتلبّس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلّا تحمّل الجهد ومشقّة التقلّد والإعباء نعم له عند ربّه عظيم الأجر ومزيد الثواب إن لازم صراط العدل والتقوى.

وهذا هو روح السيرة الصالحة الّتي لازمها أولياء الدين وسنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقلّ في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله والطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة وأنّهم لم ينالوا من ملكهم إلّا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض ويعارضوهم في طغيانهم واستكبارهم.

ولذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك وتشييد بنيان القيصريّة والكسرويّة وإنّما تلقّى الملك شأناً من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنسانيّ نظير التعليم أو إعداد القوّة لإرهاب الكفّار.

بل إنّما دعا الناس إلى الاجتماع والاتّحاد والاتّفاق على الدين ونهاهم عن التفرّق والشقاق فيه وجعله هو الأصل فقال تعالى:( وأنّ هذا صراطي مستقيماً

١٥٩

فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) الأنعام - ١٥٣ وقال تعالى:( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون ) آل عمران - ٦٤ فالقرآن - كما ترى - لا يدعو الناس إلّا إلى التسليم لله وحده ويعتبر من المجتمع المجتمع الدينىّ ويدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد والخضوع لكلّ قصر مشيد ومنتدي رفيع وملك قيصريّ وكسرويّ والتفرّق بإفراز الحدود وتفريق الأوطان وغير ذلك.

( بحث فلسفي)

لا ريب أنّ الواجب تعالى هو الّذي تنتهي إليه سلسلة العلّيّة في العالم وأنّ الرابطة بينه وبين العالم جزءاً وكلّاً هي رابطة العلّيّة وقد تبيّن في أبحاث العلّة والمعلول أنّ العلّيّة إنّما هي في الوجود بمعنى أنّ الوجود الحقيقيّ في المعلول هو المترشّح من وجود علّته وأمّا غيره كالماهيّة فهو بمعزل عن الترشّح والصدور والافتقار إلى العلّة وينعكس بعكس النقيض إلى أنّ ما لا وجود حقيقيّ له فليس بمعلول ولا منته إلى الواجب تعالى.

ويشكل الأمر في استناد الاُمور الاعتباريّة المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقيّ لها أصلاً وإنّما وجودها وثبوتها ثبوت اعتباريّ لا يتعدّى ظرف الاعتبار والوضع وحيطة الفرض وما يشتمل عليه الشريعة من الأمر والنهى والأحكام والأوضاع كلّها اُمور اعتباريّة فيشكل نسبتها إليه تعالى وكذا أمثال الملك والعزّ والرزق وغير ذلك.

والّذي تحلّ به العقدة أنّها وإن كانت عارية عن الوجود الحقيقيّ إلّا أنّ لها آثاراً هي الحافظة لأسمائها كما مرّ مراراً وهذه الآثار اُمور حقيقيّة مقصودة بالاعتبار ولها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصحّحة لنسبتها فالملك الّذي بيننا أهل الاجتماع وإن كان أمراً اعتباريّاً وضعيّاً لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقيّ و

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432