الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89880 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مناله ولذا يقال للشئ النادر الوجود أنّه عزيز الوجود أي صعب المنال ويقال عزيز القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة وصعب المنال من حيث مقامه فيهم ووجدانه كلّ ما لهم من غير عكس ثمّ استعمل في كلّ صعوبة كما يقال: يعزّ علىّ كذا. قال تعالى:( عزيز عليه ما عنتمّ ) التوبة - ١٢٨ أي صعب عليه واستعمل في كلّ غلبة كما يقال من عزّ بزّ أي من غلب سلب. قال تعالى:( وعزّني في الخطاب ) ص - ٢٣ أي غلبني والأصل في معناه ما مرّ.

ويقابله الذلّ وهو سهولة المنال بقهر محقّق أو مفروض. قال تعالى:( ضربت عليهم الذلّة والمسكنة ) البقرة - ٦١ وقال تعالى:( واخفض لهما جناح الذلّ ) الإسراء - ٢٤ وقال تعالى:( أذلّة على المؤمنين ) المائدة - ٥٤.

والعزّة من لوازم الملك على الإطلاق وكلّ من سواه إذا تملّك شيئاً فهو تعالى خوّله ذلك وملّكه وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزّة له تعالى محضاً وما عند غيره منها فإنّما هو بإيتائه وإفضاله. قال تعالى:( أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله جميعاً ) النساء - ١٣٩ وقال تعالى:( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ) المنافقون - ٨ وهذه هي العزّة الحقيقيّة وأمّا غيرها فإنّما هي ذلّ في صورة عزّ. قال تعالى:( بل الّذين كفروا في عزّة وشقاق ) ص - ٢ ولذا أردفه بقوله:( كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ) ص - ٣.

وللذلّ بالمقابلة ما يقابل العزّ من الحكم فكلّ شئ غيره تعالى ذليل في نفسه إلّا من أعزّه الله تعالى (تعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء).

قوله تعالى: ( بيدك الخير إنّك على كلّ شئ قدير ) الأصل في معنى الخير هو الانتخاب وإنّما نسمّي الشئ خيراً لإنّا نقيسه إلى شئ آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلّا لكونه متضمّنا لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة وإن كنّا أردناه أيضاً لشئ آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة وغيره خير من جهته فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمّى خيراً لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحداً منها وتردّدنا في

١٤١

اختياره من بينها.

فالشئ كما عرفت إنّما يسمّى خيراً لكونه منتخباً إذا قيس إلى شئ آخر مؤثراً بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل: إنّه صيغة التفضيل وأصله أخير. وليس بأفعل التفضيل وإنّما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلّق بغيره كما يتعلّق أفعل التفضيل. يقال: زيد أفضل من عمرو وزيد أفضلهما ويقال: زيد خير من عمرو وزيد خيرهما.

ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه ويقال أفضل وأفاضل وفُضلي وفُضليات ولا يجرى ذلك في خير بل يقال: خير وخيرة وأخيار وخيرات كما يقال: شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبّهة.

وممّا يؤيّده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى:( قل ما عند الله خير من اللهو ) الجمعة - ١١ فلا خير في اللهو حتّى يستقيم معنى أفعل. وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنّه منسلخ فيها عن معنى التفضيل وهو كما ترى فالحقّ أنّ الخير إنّما يفيد معنى الانتخاب واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شئ من الخير من الخصوصيّات الغالبة في الموارد.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنّه الّذي ينتهي إليه كلّ شئ ويرجع إليه كلّ شئ ويطلبه ويقصده كلّ شئ لكنّ القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلّت أسماؤه وإنّما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى:( والله خير وأبقى ) طه - ٧٣ وكقوله تعالى:( أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار ) يوسف - ٣٩.

نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى:( والله خير الرازقين ) الجمعة - ١١ وقوله:( وهو خير الحاكمين ) الأعراف - ٨٧ وقوله:( وهو خير الفاصلين ) الأنعام - ٥٧ وقوله:( وهو خير الناصرين ) آل عمران - ١٥٠ وقوله:( والله خير الماكرين ) آل عمران - ٥٤ وقوله:( وأنت خير الفاتحين ) الأعراف - ٨٩ وقوله:( وأنت خير الغافرين ) الأعراف - ١٥٥ وقوله:( وأنت خير الوارثين )

١٤٢

الأنبياء - ٨٩ وقوله:( وأنت خير المنزلين ) المؤمنون - ٢٩ وقوله:( وأنت خير الراحمين ) المؤمنون - ١٠٩.

ولعلّ الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادّة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق إطلاق الاسم عليه تعالى صوناً لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق وقد عنت الوجوه لجنابه وأمّا التسمية عند الإضافة والنسبة وكذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه.

والجملة أعنى قوله تعالى: بيدك الخير تدلّ على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الّذي هو الخبر والمعنى أنّ أمر كلّ خير مطلوب إليك وأنت المعطي المفيض إيّاه.

فالجملة في موضع التعليل لما تقدّمت عليها من الجمل أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء إلخ من قبيل تعليل الخاصّ بما يعمّه وغيره أعني أنّ الخير الّذي يؤتيه تعالى أعمّ من الملك والعزّة وهو ظاهر.

وكما يصحّ تعليل إيتاء الملك والإعزاز بالخير الّذي بيده تعالى كذلك يصحّ تعليل نزع الملك والإذلال فإنّهما وإن كانا شرّين لكن ليس الشرّ إلّا عدم الخير فنزع الملك ليس إلّا عدم الإعزاز فانتهاء كلّ خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كلّ حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الّذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتّصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلّا بنحو الخذلان وعدم التوفيق كما مرّ البحث عن ذلك.

وبالجملة هناك خير وشرّ تكوينيّان كالملك والعزّة ونزع الملك والذلّة والخير التكوينيّ أمر وجوديّ من إيتاء الله تعالى والشرّ التكوينيّ إنّما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنّه هو المالك للخير لا يملكه غيره فإذا أعطى غيره شيئاً من الخير فله الأمر وله الحمد وإن لم يعط أو منع فلا حقّ لغيره عليه حتّى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الاعطاء ظلماً. على أنّ إعطائه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامّة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.

١٤٣

وهناك خير وشرّ تشريعيّان وهما أقسام الطاعات والمعاصي وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعاً وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولو لا فرض اختيار في صدورها لم تتّصف بحسن ولا قبح وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلّا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.

فقد تبيّن: أنّ الخير كلّه بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كلّ وجدان وحرمان وخير وشرّ.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ في قوله: بيدك الخير إيجازاً بالحذف والتقدير: بيدك الخير والشرّ كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى:( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ ) النحل - ٨١ أي والبرد.

وكأنّ السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى: وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى والمعتزلة وان أخطأوا في نفي الانتساب نفياً مطلقاً حتّى بالواسطة لكنّه لا يجوّز هذا التقدير الغريب وقد تقدّم البحث عن ذلك وبيان حقيقة الأمر.

قوله تعالى: ( إنّك على كلّ شئ قدير ) في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإنّ القدرة المطلقة على كلّ شئ توجب أن لا يقدر أحد على شئ إلّا بإقداره تعالى إيّاه على ذلك ولو قدر أحد على شئ من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجاً عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديراً على كلّ شئ وإذا كانت لقدرته هذه السعة كان كلّ خير مفروض مقدوراً عليه له تعالى وكان أيضاً كلّ خير أفاضه غيره منسوباً إليه مفاضاً عن يديه فهو له أيضاً فجنس الخير الّذي لا يشذّ منه شاذّ بيده وهذا هو الحصر الّذي يدلّ عليه قوله تعالى: بيدك الخير.

قوله تعالى: ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ) الولوج هو الدخول والظاهر كما ذكروه أنّ المراد من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع

١٤٤

والأمكنة على بسيط الأرض واختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيّام في الطول والليالي في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالى في الطول من أوّل الشتاء إلى أوّل الصيف ثمّ يأخذ الليالي في الطول والأيّام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أوّل الصيف إلى أوّل الشتاء كلّ ذلك في البقاع الشماليّة والأمر في البقاع الجنوبيّة على عكس الشماليّة منها فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائماً أمّا الاستواء في خطّ الاستواء والقطبين فإنّما هو بحسب الحسّ وأمّا في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.

قوله تعالى: ( وتخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من الحيّ ) وذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنّه تعالى سمّى الإيمان حياة ونوراً والكفر موتاً وظلمة كما قال تعالى:( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) الأنعام - ١٢٢ ويمكن أن يراد الأعمّ من ذلك ومن خلق الأحياء كالنبات والحيوان من الأرض العديمة الشعور وإعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإنّ كلامه تعالى كالصريح في أنّه يبدّل الميّت إلى الحيّ والحيّ إلى الميّت. قال تعالى:( ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون ) المؤمنون - ١٥ إلى غيرها من الآيات.

وأمّا ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أنّ الحياة الّتى تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكاً من جرثومة حيّة إلى اُخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادّة الفاقدة للشعور وذلك لإنكاره الكون الحادث فيبطله الموت المحسوس الّذي تثبته التجربة في جراثيم الحياة فتبدّل الحياة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما. ولبقيّة الكلام مقام آخر.

والآية أعني قوله تعالى: تولج الليل في النهار إلخ تصف تصرّفه تعالى في الملك

١٤٥

الحقيقيّ التكوينيّ كما أنّ الآية السابقة أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء إلخ تصف تصرّفه في الملك الاعتباريّ الوضعيّ وتوابعه.

وقد وضع في كلّ من الآيتين أربعة أنحاء من التصرّف بنحو التقابل فوضع في الأولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه ووضع الإعزاز والإذلال وبحذائهما إخراج الحيّ من الميّت وعكسه وفي ذلك من عجيب اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإنّ إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حرّيّتهم وإطلاقهم الغريزيّ وإذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار ونزع الملك بالعكس من ذلك وكذا إعطاء العزّة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفيّ الأثر لولاها نظير إخراج الحيّ من الميّت والإذلال بالعكس من ذلك وفي العزّة حياة وفي الذلّة ممات.

وهنا وجه آخر: وهو أنّ الله عدّ النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوّة قال تعالى:( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) الإسراء - ١٢ ومظهر هذا الإثبات والإمحاء في المجتمع الإنسانيّ ظهور الملك والسلطنة وزواله وعدّ الحياة والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى:( أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون ) النحل - ٢١ وخصّ العزّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال:( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ) المنافقون - ٨ وهم الّذين يذكرهم بالحياة فصارت العزّة والذلّة مظهرين في المجتمع الإنسانيّ للحياة والموت ولهذا قابل ما ذكره في الآية الاُولى من إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار وعكسه وإخراج الحيّ من الميّت وعكسه.

ثمّ وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: وترزق من تشاء بغير حساب وما ذكره في الآية الاُولى: بيدك الخير كما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( وترزق من تشاء بغير حساب ) المقابلة المذكورة آنفاً تعطي أن يكون قوله: وترزق إلخ بياناً لما سبقه من إيتاء الملك والعزّ والإيلاج وغيره فالعطف عطف

١٤٦

تفسير فيكون من قبيل بيان الخاصّ من الحكم بما هو أعمّ منه كما أنّ قوله: بيدك الخير بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل والمعنى إنّك متصرّف في خلقك بهذه التصرّفات لأنّك ترزق من تشاء بغير حساب.

( معنى الرزق في القرآن)

الرزق معروف والّذي يتحصّل من موارد استعماله أنّ فيه شوباً من معنى العطاء كرزق الملك الجنديّ ويقال لما قرّره الملك لجنديّه ممّا يؤتاه جملة: رزقة وكان يختصّ بما يتغذّى به لا غير كما قال تعالى:( وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ) البقرة - ٢٣٣ فلم يعدّ الكسوة رزقاً.

ثمّ توسّع في معناه فعدّ كلّ ما يصل الإنسان من الغذاء رزقاً كأنّه عطيّة بحسب الحظّ والجدّ وإن لم يعلم معطيه ثمّ عمّم فسمّى كلّ ما يصل إلى الشئ ممّا ينتفع به رزقاً وإن لم يكن غذائاً كسائر مزايا الحياة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك. قال تعالى:( أم تسألهم خرجاً فخراج ربّك خير وهو خير الرازقين ) المؤمنون - ٧٢ وقال: فيما يحكى عن شعيب( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي ورزقني منه رزقاً حسناً ) هود - ٨٨ والمراد به النبوّة والعلم إلى غير ذلك من الآيات.

والمتحصّل من قوله تعالى:( إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين) الذاريات - ٥٨ والمقام مقام الحصر:أوّلا: أنّ الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلّا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدّقه أمثال قوله تعالى:( والله خير الرازقين ) الجمعة - ١١ حيث أثبت رازقين وعدّه تعالى خيرهم، وقوله:( وارزقوهم فيها واكسوهم ) النساء - ٥ كلّ ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أنّ الملك والعزّة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.

وثانياً: أنّ ما ينتفع به الخلق في وجودهم ممّا ينالونه من خير فهو رزقهم

١٤٧

والله رازقه ويدلّ على ذلك مضافاً إلى آيات الرزق على كثرتها آيات كثيرة اُخر كالآيات الدالّة على أنّ الخلق والأمر والحكم والملك (بكسر الميم) والمشيّة والتدبير والخير لله محضاً عزّ سلطانه.

وثالثاً: أنّ ما ينتفع به الإنسان انتفاعاً محرّماً لكونه سبباً للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنّه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع. قال تعالى:( قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) الأعراف - ٢٨ وقال تعالى:( إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان - إلى أن قال -وينهي عن الفحشاء والمنكر ) النحل - ٩٠ وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شئ ثمّ يأمر به أو ينهي عنه ثمّ يحصر رزقه فيه.

ولا منافاة بين عدم كون نفع محرّم رزقاً بحسب التشريع وكونه رزقاً بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتّى يستتبع ذلك قبحاً وما بيّنه القرآن من عموم الرزق إنّما هو بحسب حال التكوين وليس البيان الإلهيّ بموقوف على الأفهام الساذجة العاميّة حتّى يضرب صفحاً عن التعرّض للمعارف الحقيقيّة وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضرّ به إلّا الخاسرون قال تعالى:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا خساراً ) الإسراء - ٨٢.

على أنّ الآيات تنسب الملك الّذي لأمثال نمرود وفرعون والأموال والزخارف الّتي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلّا أنّ ذلك كلّه بإذن الله آتاهم ذلك امتحاناً وإتماماً للحجّة وخذلاناً واستدراجاً ونحو ذلك وهذا كلّه نسب تشريعيّة وإذا صحّت النسبة التشريعيّة من غير محذور لزوم القبح فصحّة النسبة التكوينيّة الّتي لا مجال للحسن والقبح العقلائيّين فيها أوضح.

ثمّ إنّه تعالى ذكر أنّ كلّ شئ فهو مخلوق له منزّل من عنده من خزائن رحمته كما قال:( وإن من شئ إلّا عندنا خزائنه وما ننزّله إلّا بقدر معلوم ) الحجر - ٢١ وذكر أيضاً أنّ ما عنده فهو خير. قال تعالى:( وما عند الله خير ) القصص

١٤٨

- ٦٠ وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أنّ كلّ ما يناله شئ في العالم ويتلبّس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعّم بسببه كما يفيده أيضاً قوله تعالى:( الّذي أحسن كلّ شئ خلقه ) الم السجدة - ٧ مع قوله تعالى:( ذلكم الله ربّكم خالق كلّ شئ لا إله إلّا هو ) المؤمن - ٦٤.

وأمّا كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهيّة شرّاً يستضرّ به فإنّما شرّيّته وإضراره نسبيّ متحقّق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصّة مع كونه خيراً نافعاً بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مرّ يشير إليه قوله تعالى:( وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ) النساء - ٧٩ وقد مرّ البحث عن هذا المعنى فيما مرّ.

وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكلّه خير ينتفع به يكون رزقاً بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلّا العطيّة الّتي ينتفع بها الشئ المرزوق وربّما أشار إليه قوله تعالى:( ورزق ربّك خير ) طه - ١٣١.

ومن هنا يظهر أنّ الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبيّنه القرآن اُمور متساوية فكلّ رزق خير ومخلوق وكلّ خلق رزق وخير وإنّما الفرق: أنّ الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوّة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عارياً عن هذه النعمة الإلهيّة. قال تعالى:( الّذي أعطى كلّ شئ خلقه ) طه - ٥٠.

والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوّة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته والقوّة الغاذية خير للإنسان ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجاً طالباً.

وأمّا الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقّق معناه إلى شئ ثابت أو مفروض فالغذاء مثلاً مخلوق موجد في نفسه وكذا القوّة الغاذية مخلوقة و

١٤٩

الإنسان مخلوق.

ولما كان كلّ رزق لله وكلّ خير لله محضاً فما يعطيه تعالى من عطيّة وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض وبلا شئ مأخوذ في مقابله إذ كلّ ما فرضنا من شئ فهو له تعالى حقّاً ولا استحقاق هناك إذ لا حقّ لأحد عليه تعالى إلّا ما جعل هو على نفسه من الحقّ كما جعله في مورد الرزق. قال تعالى:( وما من دابّة في الأرض إلّا على الله رزقها ) هود - ٦ وقال تعالى:( فوربّ السماء والأرض إنّه لحقّ مثل ما أنّكم تنطقون ) الذاريات - ٢٣.

فالرزق مع كونه حقّاً على الله لكونه حقّاً مجعولاً من قبله عطيّة منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحقّ.

ومن هنا يظهر أنّ للإنسان المرتزق بالمحرّمات رزقاً مقدّراً من الحلال بنظر التشريع فإنّ ساحته تعالى منزّهة من أن يجعل رزق إنسان حقّاً ثابتاً على نفسه ثمّ يرزقه من وجه الحرام ثمّ ينهاه عن التصرّف فيه ويعاقبه عليه.

وتوضيحه ببيان آخر: أنّ الرزق لمّا كان هو العطيّة الإلهيّة بالخير كان هو الرحمة الّتي له على خلقه وكما أنّ الرحمة رحمتان: رحمة عامّة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ومتّق وفاجر وإنسان وغير إنسان ورحمة خاصّة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنّة كذلك الرزق منه ما هو رزق عامّ وهو العطيّة الإلهيّة العامّة الممدّة لكلّ موجود في بقاء وجوده ومنه ما هو رزق خاصّ وهو الواقع في مجرى الحلّ.

وكما أنّ الرحمة العامّة والرزق العامّ مكتوبان مقدّران. قال تعالى:( وخلق كلّ شئ فقدّره تقديراً ) الفرقان - ٢ كذلك الرحمة الخاصّة والرزق الخاصّ مكتوبان مقدّران وكما أنّ الهدى - وهو رحمة خاصّة - مكتوب مقدّر تقديراً تشريعيّاً لكلّ إنسان مؤمناً كان أو كافراً ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب قال تعالى:( وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين ) الذاريات - ٥٨ وقال تعالى:

١٥٠

( وقضى ربّك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه ) الإسراء - ٢٣ فالعبادة وهى تستلزم الهدى وتتوقّف عليه مقضيّة مقدّرة تشريعاً كذلك الرزق الخاصّ - وهو الّذى عن مجرى الحلّ - مقضى مقدّر. قال تعالى:( قد خسر الّذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افترائاً على الله قد ضلّوا وما كانوا مهتدين ) الأنعام - ١٤٠ وقال تعالى:( والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق فما الّذين فضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت إيمانهم فهم فيه سواء ) النحل - ٧١ والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعيّ يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.

ومن الواجب أن يعلم: أنّ الرزق كما مرّ من معناه هو الّذي ينتفع به من العطيّة على قدر ما ينتفع فمن اوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلّا القليل منه فإنّما رزقه هو الّذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلّا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلاً وقلّته وللكلام في الرزق تتمّة ستمرّ بك في قوله تعالى:( وما من دابّة في الأرض إلّا على الله رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها كلّ في كتاب مبين ) هود - ٦.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من الكلام في قوله تعالى: وترزق من تشاء بغير حساب فنقول: توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنّما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً فلا يقابل عطيّته منهم شئ فلا حساب لرزقه تعالى.

وأمّا كون نفى الحساب راجعاً إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدّر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى:( إنّا كلّ شئ خلقناه بقدر ) القمر - ٤٩ وقوله:( ومن يتقّ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شئ قدراً ) الطلاق - ٣ فالرزق منه تعالى عطيّة بلا عوض لكنّه مقدّر على ما يريده تعالى.

١٥١

وقد تحصّل من الآيتينأوّلا: أنّ الملك (بضمّ الميم) كلّه لله كما أنّ الملك (بكسر الميم) كلّه لله.

وثانياً: أنّ الخير كلّه بيده ومنه تعالى.

وثالثاً: أنّ الرزق عطيّة منه تعالى بلا عوض واستحقاق.

ورابعاً: أنّ الملك والعزّة وكلّ خير اعتباريّ من خيرات الاجتماع كالمال والجاه والقوّة وغير ذلك كلّ ذلك من الرزق المرزوق.

( بحث روائي)

في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممّن تشاء أليس قد آتى الله بني اُميّة الملك؟ قال: ليس حيث تذهب إنّ الله عزّوجلّ آتانا الملك، وأخذته بنو اُميّة بمنزلة الرجل يكون له الثوب، فيأخذه الآخر فليس هو للّذي أخذه.

اقول: وروى مثله العيّاشيّ عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام) وإيتاء الملك على ما تقدّم بيانه يكون على وجهين: إيتاء تكوينيّ وهو انبساط السلطنة على الناس ونفوذ القدرة فيهم سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود:( أن آتاه الله الملك ) وأثره نفوذ الكلمة ومضىّ الأمر والإرادة وسنبحث عن معنى كونه تكوينيّاً وإيتاء تشريعيّ وهو القضاء بكونه ملكاً مفترض الطاعة كما قال تعالى:( إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ) البقرة - ٢٤٧ وأثره افتراض الطاعة وثبوت الولاية ولا يكون إلّا العدل وهو مقام محمود عند الله سبحانه والّذي كان لبني اُميّة من الملك هو المعنى الأوّل وأثره وقد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الأوّل وأخذ معه أثر المعنى الثاني وهو المقام الشرعيّ والحمد الدينيّ فنبهّه (عليه السلام) أنّ الملك بهذا المعنى ليس لبني اُميّة بل هو لهم ولهم أثره وبعبارة اُخرى: الملك الّذي لبني اُميّة إنّما يكون محموداً إذا كان في أيديهم عليهم السلام

١٥٢

وأمّا في أيدي بني اُميّة فليس إلّا مذموماً لأنّه مغصوب وعلى هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلّا بنحو المكر والاستدراج كما في ملك نمرود وفرعون.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني اُميّة في هذه الآية ففي الإرشاد في قصّة إشخاص يزيد بن معاوية رؤوس شهداء الطفّ قال المفيد: ولمّا وضعت الرؤس وفيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد:

نفلّق هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلماً

قال: ثمّ أقبل على أهل مجلسه فقال: إنّ هذا كان يفخر علىّ ويقول: أبي خير من أب يزيد واُمّي خير من اُمّه وجدّى خير من جدّه وأنا خير منه فهذا الّذي قتله فأمّا قوله بأنّ أبي خير من أب يزيد فلقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه وأمّا قوله بأنّ اُمّي خير من اُمّ يزيد فلعمري لقد صدق إنّ فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي وأمّا قوله: جدّي خير من جدّه فليس لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول بأنّه خير من محمّد وأمّا قوله بأنّه خير منّي فلعلّه لم يقرء هذه الآية: قل اللّهمّ مالك الملك الآية.

وردّت زينب بنت عليّ عليه وعليها السلام عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق (عليه السلام) في الرواية السابقة على ما رواه السيّد بن طاووس وغيره فقالت فيما خاطبته: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاُسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والاُمور متّسقة. وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا. مهلاً مهلاً أنسيت قول الله: ولا يحسبنّ الّذين كفروا إنّما نملي لهم خير لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين الخطبة.

وفي المجمع في قوله تعالى: وتخرج الحيّ من الميّت الآية قيل معناه: وتخرج المؤمن من الكافر وتخرج الكافر من المؤمن. قال: وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام).

١٥٣

أقول: وروى قريباً منه الصدوق عن العسكريّ (عليه السلام).

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهديّ عن ابن مسعود أو عن سلمان عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ. قال: المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

وفيه أيضاً بالطريق السابق عن سلمان الفارسيّ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لمّا خلق الله آدم (عليه السلام) أخرج ذرّيّته فقبض قبضه بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنّة ولا أبالي وقبض بالاُخرى قبضة فجاء فيها كلّ ردئ فقال: هؤلاء أهل النار ولا اُبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن، ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله: تخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من الحيّ.

أقول: وروي هذا المعنى عن عدّة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضاً مقطوعاً والرواية من أخبار الذرّ والميثاق وسيجئ بيانها في موضع يليق بها إنشاء الله.

وفي الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد وعدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي: أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله فإنّ الله تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً فمن اتّقى الله وصبر أتاه رزقه من حلّه، ومن هتك حجاب ستر الله عزّوجلّ وأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه.

وفي النهج قال (عليه السلام): الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل همّ سنتك يومك كفاك كلّ يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإنّ الله تعالى جدّه سيؤتيك في كلّ غد جديد ما قسّم لك، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهمّ لما ليس لك ولن يسبقك إلى رزقك طالب ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطئ عنك ما قد قدّر لك.

١٥٤

وفي قرب الأسناد: ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كلّ نفس بما قدّر لها ولكن لله فضول فاسألوا الله من فضله.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة وسيجئ استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي)

قد تقدّم في بعض ما مرّ من الأبحاث السابقة: أنّ اعتبار أصل الملك (بالكسر) من الاعتبارات الضروريّة الّتي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفرداً أو مجتمعاً وأنّ أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك (بالكسر).

وأمّا الملك (بالضمّ) وهو السلطنة على الأفراد فهو أيضاً من الاعتبارات الضروريّة الّتي لا غنى للإنسان عنها لكنّ الّذي يحتاج إليه ابتدائاً هو الاجتماع من حيث تألّفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متبائنة الإرادات دون الفرد من حيث إنّه فرد فإنّ الأفراد المجتمعين لتبائن إراداتهم واختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلّب كلّ على الآخرين في أخذ ما بأيديهم والتعدّي على حومة حدودهم وهضم حقوقهم فيقع الهرج والمرج ويصير الاجتماع الّذي اتّخذوه وسيلة إلى سعادة الحياة ذريعة إلى الشقاء والهلاك ويعود الدواء دائاً ولا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلّا بجعل قوّة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الأفراد المجتمعين حتّى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاقّ الوسط وترفع الدانية المستهلكة إليه أيضاً فتتحّد جميع القوى من حيث المستوى ثمّ تضع كلّ واحدة منها في محلّها الخاصّ وتعطي كلّ ذي حقّ حقّه.

ولمّا لم تكن الإنسانيّة في حين من الأحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام

١٥٥

كما مرّ بيانه سالفاً لم يكن الاجتماعات في الأعصار السالفة خالية عن رجال متغلّبين على الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقّيّة والتملّك على النفوس والأموال وكانت بعض فوائد الملك الّذي ذكرناه - وهو وجود من يمنع عن طغيان بعض الأفراد على بعض - يترتّب على وجود هذا الصنف من المتغلّبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة وإن كانوا هم أنفسهم وأعضادهم وجلاوزتهم قوى طاغية من غير حقّ مرضيّ وذلك لكونهم مضطرّين إلى حفظ الأفراد في حال الذلّة والاضطهاد حتّى لا يتقوّى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوماً عليهم أنفسهم كما أنّهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم.

وبالجملة بقاء جلّ الأفراد على حال التسالم خوفاً من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعيّ وإنّما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلّبين أذا لم يبلغ تعدّيهم مبلغ جهدهم ويتظلّمون ويشتكون إذا بلغ بهم الجهد وحمل عليهم من التعدّي ما يفوق طاقتهم.

نعم ربّما فقدوا بعض هؤلاء المتسمّين بالملوك والرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك وأحسّوا بالفتنة والفساد وهدّدهم اختلال النظم ووقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض اُولي الطول والقوّة منهم وألقوا إليه زمام الملك فصار ملكاً يملك أزمّة الاُمور ثمّ يعود الأمر على ما كان عليه من التعدّي والتحميل.

ولم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتّى تضجّرت من سوء سير هؤلاء المتسمّين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي وإطلاقهم فيما يشائون فوضعت قوانين تعيّن وظائف الحكومة الجارية بين الاُمم وأجبرت الملوك باتّباعها وصار الملك ملكاً مشروطاً بعد ما كان مطلقاً واتّحد الناس على التحفّظ على ذلك وكان الملك موروثاً.

ثمّ أحسّت اجتماعات يبغي ملوكهم وسوء سيرهم ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيّرة موروثةً فبدّلوا الملك برئاسة

١٥٦

الجمهور فانقلب الملك المؤبّد المشروط إلى ملك مؤجّل مشروط. وربّما وجد في الأقوام والاُمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم الّتي شاهدوها ممّن بيده زمام أمرهم وربّما حدث في مستقبل الأيّام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.

لكنّ الّذي يتحصّل من جميع هذه المساعى الّتي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر أعني إلقاء زمام الاُمّة إلى من يدبّر أمرها ويجمع شتات إراداتها المتضادّة وقواها المتنافية: أن لا غنى للمجتمع الإنسانيّ عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيّرت أسماؤه وتبدّلت شرائطه بحسب اختلاف الاُمم ومرور الأيّام فإنّ طروق الهرج والمرج واختلال أمر الحياة الاجتماعيّة على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمّة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.

وهذا هو الّذي تقدّم في أوّل الكلام: أنّ الملك من الاعتبارات الضروريّة في الاجتماع الإنسانيّ.

وهو مثل سائر الموضوعات الاعتباريّة الّتي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادّة لسعادة الإنسانيّة.

وللنبوّة في هذا الاصلاح السهم الأوفى فإنّ من المسلّم في علم الاجتماع: أنّ انتشار قول ما من الأقوال بين العامّة وخاصّة إذا كان ممّا يرتبط بالغريزة ويستحسنه القريحة ويطمأنّ إليه النفوس المتوقّعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرّقة وجعل الجماعات المتشتّتة يداً واحداً تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شئ.

ومن الضروريّ: أنّ النبوّة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل وتمنعهم عن الظلم وتندبهم إلى عبادة الله والتسليم له وتنهاهم عن اتّباع الفراعنة الطاغين والنماردة المستكبرين المتغلّبين ولم تزل هذه الدعوة بين الاُمم منذ قرون متراكمة جيلاً بعد جيل واُمّة بعد اُمّة وإن اختلفت بحسب السعة والضيق باختلاف

١٥٧

الاُمم والأزمنة ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوىّ بين الاجتماعات الإنسانيّة قروناً متمادية وهو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.

وقد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئاً كثيراً من الوحي المنزل على الأنبياء (عليهم السلام) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربّه:( ربّ إنّهم عصوني واتّبعوا من لم يزده ماله وولده إلّا خساراً ومكروا مكراً كبّاراً وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ) نوح - ٢٣ وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن. قال تعالى:( قالوا أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلّا على ربّي لو تشعرون ) الشعراء - ١١٣ وقول هود (عليه السلام) لقومه:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم جبّارين ) الشعراء - ١٣٠ وقول صالح (عليه السلام) لقومه:( فاتّقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الّذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) الشعراء - ١٥٢.

ولقد قام موسى (عليه السلام) للدفاع عن بني إسرائيل ومعارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة وانتهض قبله إبراهيم (عليه السلام) لمعارضة نمرود ومن بعده عيسى بن مريم (عليه السلام) وسائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك والعظماء وتقبيح سيرهم الظالمة ودعوة الناس إلى رفض طاعة المفسدين واتّباع الطاغين.

وأمّا القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد والإباء عن الضيم وإنبائه عن عواقب الظلم والفساد والعدوان والطغيان ممّا لا يخفى قال تعالى:( ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الّذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ١٤ إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا أنّ الملك (بالضمّ) من ضروريّات المجتمع الإنسانيّ فيكفي في بيانه أتمّ بيان قوله تعالى بعد سرد قصّة طالوت:( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين ) البقرة - ٢٥١ وقد مرّ بيان كيفيّة

١٥٨

دلالة الآية بوجه عامّ.

وفي القرآن آيات كثيرة تتعرّض للملك والولاية وافتراض الطاعة ونحو ذلك واُخرى تعدّه نعمة وموهبة كقوله تعالى:( وآتيناهم ملكاً عظيماً ) النساء - ٥٤ وقوله تعالى:( وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ) المائدة - ٢٠ وقوله تعالى:( والله يؤتي ملكه من يشاء ) البقرة - ٢٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.

غير أنّ القرآن إنّما يعدّه كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربّما يتخيّل فيه شئ من الكرامة من مزايا الحياة قال تعالى:( يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات - ١٣. والتقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشئ لأنّه إن كان أمراً دنيويّاً فلا مزيّة لأمر دنيويّ ولا قدر إلّا للدين وإن كان أمراً اُخرويّاً فأمره إلى الله سبحانه وعلى الجملة لا يبقى للإنسان المتلبّس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلّا تحمّل الجهد ومشقّة التقلّد والإعباء نعم له عند ربّه عظيم الأجر ومزيد الثواب إن لازم صراط العدل والتقوى.

وهذا هو روح السيرة الصالحة الّتي لازمها أولياء الدين وسنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقلّ في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله والطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة وأنّهم لم ينالوا من ملكهم إلّا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض ويعارضوهم في طغيانهم واستكبارهم.

ولذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك وتشييد بنيان القيصريّة والكسرويّة وإنّما تلقّى الملك شأناً من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنسانيّ نظير التعليم أو إعداد القوّة لإرهاب الكفّار.

بل إنّما دعا الناس إلى الاجتماع والاتّحاد والاتّفاق على الدين ونهاهم عن التفرّق والشقاق فيه وجعله هو الأصل فقال تعالى:( وأنّ هذا صراطي مستقيماً

١٥٩

فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) الأنعام - ١٥٣ وقال تعالى:( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون ) آل عمران - ٦٤ فالقرآن - كما ترى - لا يدعو الناس إلّا إلى التسليم لله وحده ويعتبر من المجتمع المجتمع الدينىّ ويدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد والخضوع لكلّ قصر مشيد ومنتدي رفيع وملك قيصريّ وكسرويّ والتفرّق بإفراز الحدود وتفريق الأوطان وغير ذلك.

( بحث فلسفي)

لا ريب أنّ الواجب تعالى هو الّذي تنتهي إليه سلسلة العلّيّة في العالم وأنّ الرابطة بينه وبين العالم جزءاً وكلّاً هي رابطة العلّيّة وقد تبيّن في أبحاث العلّة والمعلول أنّ العلّيّة إنّما هي في الوجود بمعنى أنّ الوجود الحقيقيّ في المعلول هو المترشّح من وجود علّته وأمّا غيره كالماهيّة فهو بمعزل عن الترشّح والصدور والافتقار إلى العلّة وينعكس بعكس النقيض إلى أنّ ما لا وجود حقيقيّ له فليس بمعلول ولا منته إلى الواجب تعالى.

ويشكل الأمر في استناد الاُمور الاعتباريّة المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقيّ لها أصلاً وإنّما وجودها وثبوتها ثبوت اعتباريّ لا يتعدّى ظرف الاعتبار والوضع وحيطة الفرض وما يشتمل عليه الشريعة من الأمر والنهى والأحكام والأوضاع كلّها اُمور اعتباريّة فيشكل نسبتها إليه تعالى وكذا أمثال الملك والعزّ والرزق وغير ذلك.

والّذي تحلّ به العقدة أنّها وإن كانت عارية عن الوجود الحقيقيّ إلّا أنّ لها آثاراً هي الحافظة لأسمائها كما مرّ مراراً وهذه الآثار اُمور حقيقيّة مقصودة بالاعتبار ولها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصحّحة لنسبتها فالملك الّذي بيننا أهل الاجتماع وإن كان أمراً اعتباريّاً وضعيّاً لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقيّ و

١٦٠

إنّما هو معنى متوهّم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجيّة لم يكن يمكننا البلوغ إليها لولا فرض هذا المعنى الموهوم وتقديره وهي قهر المتغلّبين واُولي السطوة والقوّة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء والخاملين ووضع كلّ من الأفراد في مقامه الّذي له وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وغير ذلك.

لكن لمّا كان حقيقة معنى الملك واسمه باقياً ما دامت هذه الآثار الخارجيّة باقية مترتّبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجيّة إلى عللها الخارجيّة هو عين استناد الملك إليه وكذلك القول في العزّة الاعتباريّة وآثارها الخارجيّة واستنادها إلى عللها الحقيقيّة وكذلك الأمر في غيرها كالأمر والنهي والحكم والوضع ونحو ذلك.

ومن هنا يتبيّن: أنّ لها جميعاً استناداً إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه وعزّه.

١٦١

( سورة آل عمران الآيات ٢٨ - ٣٢)

لاَ يَتّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْ‏ءٍ إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ( ٢٨) قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السّماواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ( ٣٠) قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ فَإِن تَوَلّوا فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ( ٣٢)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدّمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة: أنّ المقام مقام التعرّض لحال أهل الكتاب والمشركين والتعريض لهم فالمراد بالكافرين إن كان يعمّ أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن تولّيهم والامتزاج الروحيّ بالمشركين وبهم جميعاً وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرّضة لهم ودعوة إلى تركهم والاتّصال بحزب الله وحبّ الله وطاعة رسوله.

قوله تعالى: ( لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) الأولياء جمع الوليّ من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشئ فوليّ الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الّذي يملك تدبير اُمورهم واُمور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليّهم

١٦٢

ثمّ استعمل وكثر استعماله في مورد الحبّ لكونه يستلزم غالباً تصرّف كلّ من المتحابّين فط اُمور الآخر لإفضائه إلى التقرّب والتأثّر عن إرادة المحبوب وسائر شؤونه الروحيّة فلا يخلو الحبّ عن تصرّف المحبوب في اُمور المحبّ في حياته.

فاتّخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحيّ بهم بحيث يؤدّي إلى مطاوعتهم والتأثّر منهم في الأخلاق وسائر شؤون الحياة وتصرّفهم في ذلك ويدلّ على ذلك تقييد هذا النهي بقوله: من دون المؤمنين فإنّ فيه دلالة على إيثار حبّهم على حبّ المؤمنين وإلقاء أزمّة الحياة إليهم دون المؤمنين وفيه الركون إليهم والاتّصال بهم والانفصال عن المؤمنين.

وقد تكرّر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولّي الكافرين واليهود والنصارى واتّخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسّر معنى التولّي المنهيّ عنه ويعرّف كيفيّة الولاية المنهيّ عنها كاشتمال هذه الاية على قوله: من دون المؤمنين بعد قوله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء واشتمال قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء الاية ) المائدة - ٥١ على قوله: بعضهم أولياء بعض وتعقب قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء الاية ) الممتحنة - ١ بقوله: لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآيات.

وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين للدلاله على سبب الحكم وعلّته وهو أنّ صفتي الكفر والإيمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتّصف بهما فيفرّق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحياة لا يلائم حالهما مع الولاية فإنّ الولاية يوجب الاتّحاد والامتزاج وهاتان الصفتان توجبان التفرّق والبينونة وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواصّ الإيمان وآثاره ثمّ فساد أصله ولذلك عقّبه بقوله: ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ثمّ عقّبه أيضاً بقوله: إلاّ أن تتّقوا منهم تقية فاستثنى التقيّة فإنّ التقيّة

١٦٣

إنّما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.

ودون في قوله: من دون المؤمنين كأنّه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور والمعنى: مبتدئاً من مكان دون مكان المؤمنين فإنّهم أعلى مكاناً.

والظاهر أنّ ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنوّ مع خصوصيّة الانخفاض فقولهم: دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك واخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثمّ استعمل بمعنى غير كقوله:( إلهين من دون الله ) المائدة - ١١٦ وقوله:( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء - ٤٨ أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيداً أي الزمه. كلّ ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظيّ.

قوله تعالى: ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ) أي ومن يتّخذهم أولياء من دون المؤمنين وإنّما بدّل من لفظ عامّ للإشعار بنهاية نفرة المتكلّم منه حتّى أنّه لا يتلفّظ به إلّا بلفظ عامّ كالتكنية عن القبائح وهو شائع في اللسان ولذلك أيضاً لم يقل: ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأنّ فيه صوناً للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل.

ومن في قوله: من الله للابتداء ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزّب أي ليس من حزب الله في شئ كما قال تعالى:( ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون ) المائدة - ٥٦ وكما فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله:( فمن تبعني فإنّه منّي ) إبراهيم - ٣٦ أي من حزبي وكيف كان فالمعنى والله أعلم: ليس من حزب الله مستقرّاً في شئ من الأحوال والآثار.

قوله تعالى: ( إلّا أن تتّقوا منهم تقية ) الاتّقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثمّ ربّما استعمل بمعنى الخوف استعمالاً للمسبّب في مورد السبب ولعلّ التقيّة في المورد من هذا القبيل.

والاستثناء منقطع فإنّ التقرّب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولّي ظاهراً من غير عقد القلب على الحبّ والولاية ليس من التولّي في شئ لأنّ الخوف و

١٦٤

الحبّ أمران قلبيّان متبائنان ومتنافيان أثراً في القلب فكيف يمكن اتّحادهما ؟ فاستثناء الاتّقاء استثناء منقطع.

وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقيّة على ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام كما تدلّ عليه الآية النازلة في قصّة عمّار وأبويه ياسر وسميّة وهي قوله تعالى:( من كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) النحل - ١٠٦.

وبالجملة الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقليّ يؤكدّه إذ لا بغية للدين ولا همّ لشارعه إلّا ظهور الحقّ وحياته وربّما يترتّب على التقيّة والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحقّ من حفظ مصلحة الدين وحياة الحقّ ما لا يترتّب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسّف وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائيّ التالي وفي الكلام على قوله تعالى:( من كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من اُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) النحل - ١٠٦.

قوله تعالى: ( ويحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير ) التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذّر الله عباده من عذابه كما قال تعالى:( إنّ عذاب ربّك كان محذوراً ) أسرى - ٥٧، وحذرّ من المنافقين وفتنة الكفّار فقال:( هم العدوّ فاحذرهم ) المنافقين - ٤، وقال:( واحذرهم أن يفتنوك ) المائدة - ٤٩، وحذّرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين وليس ذلك إلّا للدلالة على أنّ الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز فيهذه المعصية أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شئ مخوف آخر حتّى يتّقى عنه بشئ أو يتحصّن منه بحصن وإنّما هو الله الّذي لا عاصم منه ولا أنّ بينه وبين الله سبحانه أمر مرجوّ في دفع الشرّ عنه من وليّ ولا شفيع ففي الكلام أشدّ التهديد ويزيد في اشتداده تكراره مرّتين في مقام واحد ويؤكّده تذييله أوّلاً بقوله: وإلى الله المصير وثانياً بقوله: و الله رؤوف بالعباد على ما سيجئ من بيانه.

ومن جهة اُخرى: يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن

١٦٥

اتّخاذ غير المؤمنين أولياء أنّه خروج عن زي العبوديّة ورفض لولاية الله سبحانه ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الّذي هو أشدّ وأضرّ بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإنّ العدوّ الظاهر عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتّقاء والحذر وأمّا الصديق والحميم إذا استأنس مع الأعداء ودبّ فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلّا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون وهو الهلاك الّذي لا رجاء للحياة والبقاء معه.

وبالجملة هو طغيان وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه قال تعالى:( أ لم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الّذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصّب عليهم ربّك سوط عذاب إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ١٤ فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكاً يورده المرصاد الّذي ليس به ألّا الله جلّت عظمته فيصّب عليه سوط عذاب ولا مانع.

ومن هنا يظهر: أنّ التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: ويحذّركم الله نفسه لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده.

ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى:( فاستقم كما اُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تنصرون ) هود - ١١٣ وهذه آية ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنّها شيّبته - على ما في الرواية - فإنّ الآيتين - كما هو ظاهر للمتدبّر - ظاهرتان في أنّ الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مسّ النار استتباعاً لا ناصر معه، وهو الانتقام الإلهيّ لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدّم بيانه.

ومن هنا يظهر أيضاً: أنّ في قوله: ويحذّركم الله نفسه دلالة على أنّ التهديد إنّما هو بعذاب مقضيّ قضائاً حتماً من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدالّ على عدم حائل يحول في البين ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعيّة

١٦٦

الوقوع كما يدلّ على مثله قوله في آيتي سورة هود: فتمسّكم النار وما لكم من ناصرين.

وفي قوله: وإلى الله المصير دلالة على أن لا مفرّ لكم منه ولا صارف له ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.

و الآيات أعني قوله تعالى: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن وسيجئ بيانه إنشاء الله في سورة المائدة.

قوله تعالى: ( قل إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يعلمه الله ) الآيه نظيرة قوله تعالى:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) البقرة - ٢٨٤ غير أنّه لمّا كان الأنسب بحال العلم أن يتعلّق بالمخفيّ بخلاف الحساب فإنّ الأنسب له أن يتعلّق بالبادي الظاهر قدّم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.

وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة - وهو علمه بما تخفيه صدوركم أو تبديه - من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام وليس ذلك إلّا ترفّعاً عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنّه سيخالف ما وصّاه كما مرّ ما يشبه ذلك في قوله: ومن يفعل ذلك.

وفي قوله تعالى: ويعلم ما في السماوات والأرض والله على كلّ شئ قدير مضاهاة لما مرّ من آية البقرة وقد مرّ الكلام فيه.

قوله تعالى: ( يوم تجد كلّ نفس ما علمت من خير محضراً وما علمت من سوء ) الظاهر من اتّصال السياق أنّه من تتمّة القول في الآية السابقة الّذي أمر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والظرف متعلّق بمقدّر أي واذكر يوم تجد أو متعلّق بقوله: يعلمه الله ويعلم ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإنّ هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة إلى تحقّقه منه تعالى وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوّته في اليوم قال تعالى:( يوم هم بارزون لا

١٦٧

يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار ) المؤمن - ١٦ وقال:( لا عاصم اليوم من الله ) هود - ٤٣ وقال:( ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله جميعاً ) البقرة - ١٦٥ وقال:( والأمر يومئذ لله ) الانفطار - ١٩ إذ من المعلوم أنّ الله سبحانه له كلّ الملك والقدرة والقوّة والأمر دائماً - قبل القيامة وفيها وبعدها - وإنّما اختصّ يوم القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهوراً لا ريب فيه.

ومن ذلك يظهر أنّ تعلّق الظرف بقوله: يعلمه الله لا يفيد تأخّر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شرّ إلى يوم القيامة.

على أنّ في قوله تعالى: محضراً دون أن يقول: حاضراً دلالة على ذلك فإنّ الإحضار إنّما يتمّ فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ولا حافظ لها إلّا الله سبحانه قال تعالى:( وربّك على كلّ شئ حفيظ ) سبأ - ٢١ وقال:( وعندنا كتاب حفيظ ) ق - ٤.

وقوله: تجد من الوجدان خلاف الفقدان. ومن في قوله: من خير ومن سوء للبيان، والتنكير للتعميم أي تجد كلّ ما عملت من الخير وإنّ قلّ وكذا من السوء. وقوله: وما عملت من سوء معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق. والآية من الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال وقد مرّ البحث عنها في سورة البقرة.

قوله تعالى: ( تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ) الظاهر أنّه خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى النفس. ولو للتمنّي وقد كثر دخوله في القرآن على أنّ المفتوحة المشدّدة فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.

والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانيّة قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد والأبد يتقاربان لكنّ الأبد عبارة عن مدّة الزمان الّتي ليس لها حدّ محدود ولا يتقيّد لا يقال: أبد كذا. والأمد مدّة لها حدّ مجهول إذا اُطلق وقد ينحصر نحو أن

١٦٨

يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الزمان والأمد أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عامّ في المبدء والغاية، ولذا قال بعضهم: الأمد والمدى يتقاربان، انتهى.

وفي قوله: تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً دلالة على أنّ حضور سيّئ العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأنّ حضور خير العمل يسرّها وإنّما تودّ الفاصلة الزمانيّة بينها وبينه دون أن تودّ أنّه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها إلّا أن تحبّ بعده وعدم حضوره في أشقّ الأحوال وعند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك قال تعالى:( نقيّض له شيطاناً فهو له قرين - إلى أن قال -حتّى إذ جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ) الزخرف - ٣٨.

قوله تعالى: ( ويحذّركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ) ذكر التحذير ثانياً يعطي من أهمّيّة المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظراً إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية والتحذير الأوّل ناظراً إلى وبالها في الدنيا أو في الأعمّ من الدنيا والآخرة.

وأمّا قوله: والله رؤوف بالعباد فهو - على كونه حاكياً عن رأفته وحنانه تعالى المتعلّق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبوديّة والرقّيّة - دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنّما يؤتى بها لتثبيت التخويف وإيجاد الإذعان بأنّ المتكلّم ناصح لا يريد إلّا الخير والصلاح تقول: إيّاك أن تتعرّض لي في أمر كذا فإنّي آليت أن لا اُسامح مع من تعرّض لي فيه، إنّما اُخبرك بهذا رأفة بك وشفقة.

فيؤل المعنى - والله أعلم - إلى مثل أن يقال: إنّ الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلاً أن يتعرّضوا لمثل هذه المعصية الّتي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثّر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع.

قوله تعالى: ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ) قد تقدّم كلام

١٦٩

في معنى الحبّ وأنّه يتعلّق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلّق بغيره في تفسير قوله تعالى:( والّذين آمنوا أشدّ حبّاً لله الآية ) البقرة - ١٦٥.

ونزيد عليه هيهنا: أنّه لا ريب أنّ الله سبحانه - على ما ينادي به كلامه - إنّما يدعو عبده إلى الإيمان به وعبادته بالإخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى:( ألا لله الدين الخالص ) الزمر - ٣ وقال تعالى:( وما اُمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) البيّنة - ٥ وقال تعالى:( فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) المؤمن - ١٤ إلى غير ذلك من الآيات.

ولا شكّ أنّ الاخلاص في الدين إنّما يتمّ على الحقيقة إذا لم يتعلّق قلب الإنسان - الّذي لا يريد شيئاً ولا يقصد أمراً إلّا عن حبّ نفسيّ وتعلّق قلبيّ - بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ندّ أو غاية دنيويّة بل ولا مطلوب اُخرويّ كفوز بالجنّة أو خلاص من النار وإنّما يكون متعلّق قلبه هو الله تعالى في معبوديّته فالإخلاص لله في دينه إنّما يكون بحبّه تعالى.

ثمّ الحبّ الّذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كلّ طالب بمطلوبه وكلّ مريد بمراده إنّما يجذب المحبّ إلى محبوبه ليجده ويتمّ بالمحبوب ما للمحبّ من النقص ولا بشرى للمحبّ أعظم من أن يبشّر أنّ محبوبه يحبّه وعند ذلك يتلاقى حبّان ويتعاكس دلالان.

فالإنسان إنّما يحبّ الغذاء وينجذب ليجده ويتمّ به ما يجده في نفسه من النقص الّذي آتيه الجوع، وكذا يحبّ النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الّذي علامته الشبق وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الأنس وله يضيق صدره، وكذا العبد يحبّ مولاه والخادم ربّما يتولّه لمخدومه ليكون مولى له حقّ المولويّة، ومخدوماً له حقّ المخدوميّة. ولو تأمّلت موارد التعلّق والحبّ أو قرأت قصص العشّاق والمتولّهين على اختلافهم لم تشكّ في صدق ما ذكرناه.

فالعبد المخلص لله بالحبّ لا بغية له إلّا أن يحبّه الله سبحانه كما أنّه يحبّ الله ويكون الله له كما يكون هو لله عزّ اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أنّ الله سبحانه لا

١٧٠

يعدّ في كلامه كلّ حبّ له حبّاً (والحبّ في الحقيقة هو العلقة الرابطة الّتي تربط أحد الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحبّ الحاكم في الوجود فإنّ حبّ الشئ يقتضي حبّ جميع ما يتعلّق به ويوجب الخضوع والتسليم لكلّ ما هو في جانبه والله سبحانه هو الله الواحد الأحد الّذي يعتمد عليه كلّ شئ في جميع شئون وجوده ويبتغي إليه الوسيلة ويصير إليه كلّ ما دقّ وجلّ فمن الواجب أن يكون حبّه والإخلاص له بالتديّن له بدين التوحيد وطريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان وشعوره وإنّ الدين عند الله الإسلام وهذا هو الدين الّذي يندب إليه سفراؤه ويدعو إليه أنبياؤه ورسله وخاصّة دين الإسلام الّذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه وهو الدين الفطريّ الّذي يختم به الشرائع وطرق النبوّة كما يختم بصادعه الأنبياء عليهم السلام وهذا الّذى ذكرناه ممّا لا يرتاب فيه المتدبّر في كلامه تعالى.

وقد عرّف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبيله الّذي سلكه بسبيل التوحيد، وطريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال:( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) يوسف - ١٠٨ فذكر أنّ سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص واتّباعه واقتفاء أثره إنّما هو في ذلك فهو صفة من اتّبعه.

ثمّ ذكر الله سبحانه أنّ الشريعة الّتي شرعها له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي الممثّلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال:( ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ) الجاثية - ١٨ وذكر أيضاً أنّه إسلام لله حيث قال:( فإنّ حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن ) آل عمران - ٢٠ ثمّ نسبه إلى نفسه وبيّن أنّه صراطه المستقيم فقال:( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ) الأنعام - ١٥٣ فتبيّن بذلك كلّه أنّ الإسلام (وهو الشريعة المشرّعة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي هو مجموع المعارف الأصليّة والخلقيّة والعمليّة وسيرته في الحياة) هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الّذي يعتمد ويبتني على الحبّ فهو دين الإخلاص وهو دين الحبّ.

ومن جميع ما تقدّم على طوله يظهر معنى الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها،

١٧١

أعني قوله: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله فالمراد - والله أعلم - إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديّتكم بالبناء على الحبّ حقيقة فاتّبعوا هذه الشريعة الّتي هي مبنيّة على الحبّ الّذي ممثّله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الّذي يسلك بسالكه إليه تعالى فإن اتّبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبّكم الله وهو أعظم البشارة للمحبّ وعند ذلك تجدون ما تريدون وهذا هو الّذى يبتغيه محبّ بحبّه. هذا هو الّذى تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.

وأمّا بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتّخاذ الكفّار أولياء وارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعى في تحقّقها تحقّق الحبّ بين الإنسان وبين من يتولّى كما تقدّم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله وأنّهم من حزبه فإنّ ولاية الله لا يتمّ باتّباع الكافرين في أهوائهم (ولا ولاية إلّا باتّباع) وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عزّ ومال بل تحتاج إلى اتّباع نبيّه في دينه كما قال تعالى:( ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الّذين لا يعلمون إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإنّ الظالمين بعضهم أولياء بعض والله وليّ المتّقين ) الجاثية - ١٩ انظر إلى الانتقال من معنى الاتّباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية.

فمن الواجب على من يدّعي ولاية الله بحبّه أن يتّبع الرسول حتّى ينتهى ذلك إلى ولاية الله له بحبّه.

وإنّما ذكر حبّ الله دون ولايته لأنّه الأساس الّذى تبتنى عليه الولاية وإنّما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأنّ ولاية النبيّ والمؤمنين تؤل بالحقيقة إلى ولاية الله.

قوله تعالى: ( ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) الرحمة الواسعة الإلهيّة وما عنده من الفيوضات المعنويّة والصوريّة غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده وأصنافهم، ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، ولا سبيل

١٧٢

يلزمه على الإمساك إلّا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره قال تعالى:( وما كان عطاء ربّك محظوراً ) أسرى - ٢٠.

والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامه القرب والزلفى وجميع الاُمور الّتى هي من توابعها كالجنّة وما فيها. وإزالة رينها عن قلب الإنسان ومغفرتها وسترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة ولذلك عقّب قوله: يحببكم الله بقوله: ويغفر لكم ذنوبكم فإنّ الحبّ كما تقدّم يجذب المحبّ إلى المحبوب وكما كان حبّ العبد لربّه يستدعى منه التقرّب بالإخلاص له وقصر العبوديّة فيه كذلك حبّه تعالى لعبده يستدعى قربه من العبد، وكشفه حجب البعد وسبحات الغيبة، ولا حجاب إلا الذنب فيستدعى ذلك مغفرة الذنوب وأمّا ما بعده من الكرامة والإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدّم آنفاً.

والتأمّل في قوله تعالى:( كلّا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلّا إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون ) المطفّفين - ١٥ مع قوله تعالى فيهذه الآية:( يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) كاف في تأييد ما ذكرناه.

قوله تعالى: ( قل أطيعوا الله والرسول ) الخ لمّا كانت الآية السابقة تدعو إلى اتّباع الرسول، والاتّباع وهو اقتفاء الأثر لا يتمّ إلّا مع كون المتّبع (اسم مفعول) سالك سبيل والسبيل الّذى يسلكه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما هو الصراط المستقيم الّذى هو لله سبحانه وهو الشريعة الّتى شرعها لنبيّه وافترض طاعته فيه كرّر ثانياً في هذه الآية معنى اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قالب الإطاعة إشعاراً بأنّ سبيل الإخلاص الّذى هو سبيل النبيّ هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتّباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرّعة. ولعلّ ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأنّ الأمر واحد وذكر الرسول معه سبحانه لأنّ الكلام في اتّباعه.

ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أنّ المعنى: أطيعوا الله في كتابه والرسول في سنّته.

وذلك أنّه مناف لما يلوح من المقام من أنّ قوله: قل أطيعوا الله والرسول إلخ

١٧٣

كالمبيّن لقوله:( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني ) على أنّ الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة، ولذا لم يكرّر الأمر ولو كان مورد الإطاعة مختلفاً في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في قوله تعالى:( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولى الأمر منكم ) النساء - ٥٩ كما لا يخفى.

واعلم أنّ الكلام فيهذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فإنّ الله لا يحبّ الكافرين ) فيه دلالة على كفر المتولّي عن هذا الأمر كما يدلّ على ذلك سائر آيات النهى عن تولّى الكفّار وفيه أيضاً إشعار بكون هذه الآية كالمبيّنة لسابقتها حيث ختمت بنفى الحبّ عن الكافرين بأمر الإطاعة وقد كانت الآية الاُولى متضمّنة لإثبات الحبّ للمؤمنين المنقادين لأمر الاتّباع فافهم ذلك.

وقد تبيّن من الكلام في هذه الآيات الكريمة اُمور:

أحدها: الرخصة في التقيّه في الجملة.

وثانيها: أنّ مؤاخذة تولّى الكفّار والتمرّد عن النهى فيه لا يتخلّف البتّة، وهى من القضاء الحتم.

وثالثها: أنّ الشريعة الإلهيّة ممثّلة للإخلاص لله والإخلاص له ممثّل لحبّ الله سبحانه، وبعبارة اُخرى الدين الّذى هو مجموع المعارف الإلهيّة والاُمور الخلقيّة والأحكام العمليّة على ما فيها من العرض العريض لا ينتهى بحسب التحليل إلّا إلى الإخلاص فقط، وهو وضع الإنسان ذاته وصفات ذاته (وهي الأخلاق) وأعمال ذاته وأفعاله على أساس أنّها لله الواحد القهّار والإخلاص المذكور لا يحلّل إلّا إلى الحبّ هذا من جهة التحليل. ومن جهة التركيب ينتهي الحبّ إلى الإخلاص والإخلاص إلى مجموع الشريعة. كما أنّ الدين بنظر آخر ينحلّ إلى التسليم والتسليم إلى التوحيد.

١٧٤

ورابعها: أن تولّى الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الاُصول ككفر مانع الزكاة وتارك الصلاة ويمكن أن يكون كفر المتولّي بعناية ما ينجرّ إليه أمر التولّى على ما مرّ بيانه، وسيأتى في سورة المائدة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عبّاس قال: كان الحجّاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف وابن أبى الحقيق وقيس بن زيد وقد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خثيمة لاُولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى اُولئك النفر فأنزل الله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين إلى قوله: والله على كلّ شئ قدير.

أقول: الظاهر أن الرواية من التطبيق فأن الكافرين في عرف القرآن أعمّ من أهل الكتاب، وأولى بالقصّة أن تكون سبباً لنزول الآيات الناهية عن اتّخاذ اليهود والنصارى أولياء دون هذه الآيات.

وفي الصافىّ في قوله تعالى: إلّا أن تتّقوا منهم تقية الآية عن كتاب الاحتجاج عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في حديث: وأمرك أن تستعمل التقيّة في دينك فإنّ الله: يقول وإيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، وأن تترك التقيّة الّتى أمرتك بها فإنّك شائط بدمك ودماء إخوانك، معرّض لزوال نعمك ونعمهم، مذلّهم في أيدى أعداء دين الله، وقد أمرك الله بإعزازهم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله يقول: لا دين لمن لا تقيّة له، ويقول: قال الله: إلّا أن تتّقوا منهم تقاة.

وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام): التقيّة في كلّ شئ يضطرّ إليه ابن آدم وقد

١٧٥

أحلّ الله له.

اقول: والأخبار في مشروعيّة التقيّة من طرق أئمّة أهل البيت كثيرة جدّاً ربّما بلغت حدّ التواتر، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.

وفي معاني الأخبار عن سعيد بن يسار قال: قال لى أبوعبدالله: هل الدين إلّا الحبّ؟ إنّ الله عزّوجلّ يقول: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله.

اقول: ورواه في الكافي عن الباقر (عليه السلام) وكذا القمّىّ والعيّاشيّ في تفسيريهما عن الحذّاء عنه (عليه السلام): وكذا العيّاشيّ في تفسيره عن بريد عنه (عليه السلام) وعن ربعىّ عن الصادق (عليه السلام). والرواية تؤيّد ما أوضحناه في البيان المتقدّم.

وفي المعاني عن الصادق (عليه السلام) قال: ما أحبّ الله من عصاه ثمّ تمثّل بقوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقـاً لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: ومن سرّه أن يعلم أنّ الله يحبّه، فليعمل بطاعة الله وليتّبعنا، أ لم يسمع قول الله عزّوجلّ لنبيه: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم؟ الحديث.

اقول: وسيأتى بيان كون اتّباعهم اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الكلام على قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولى الأمر منكم الآية ) النساء - ٥٩.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من رغب عن سنّتى فليس منّى ثمّ تلا هذه الآية: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله إلى آخر الآية.

وفيه أيضاً أخرج ابن أبى حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الشرك أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحبّ على شئ من الجور، ويبغض على شئ من العدل، وهل الدين إلّا الحبّ

١٧٦

والبغض في الله؟ قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله.

وفيه أيضاً أخرج أحمد وأبوداود والترمذيّ وابن ماجة وابن حبّان والحاكم عن أبى رافع عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: لا ألقيّن أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندرى، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه.

١٧٧

( سورة آل عمران الآيات ٣٣ - ٣٤)

إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٣٣) ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ٣٤)

( بيان)

افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حقّ القول فيها، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها، وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرّضة لحال أهل الكتاب.

قوله تعالى: ( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً ) إلى آخر الآية، الاصطفاء كما مرّ بيانه في قوله تعالى:( لقد اصطفيناه في الدنيا ) البقرة - ١٣٠ أخذ صفوة الشئ وتخليصه ممّا يكدّره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام وهو جرى العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربّه فيما يرتضيه له.

لكنّ ذلك غير الاصطفاء على العالمين، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختلّ معنى الكلام فالاصطفاء على العالمين نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو اُمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.

ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى:( وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ) آل عمران - ٤٢ حيث فرّق بين الاصطفائين فالاصطفاء غير الاصطفاء.

وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحاً فأمّا آدم فقد اصطفى على العالمين بأنّه أوّل خليفة من هذا النوع الإنسانيّ جعله الله في الأرض قال تعالى:( وإذ قال ربّك للملائكة إنّى جاعل في الأرض خليفة ) البقرة - ٣٠ وأوّل من فتح

١٧٨

به باب التوبة قال تعالى:( ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى ) طه - ١٢٢ وأوّل من شرع له الدين، قال تعالى:( فإمّا يأتينّكم منّى هدى فمن اتّبع هداى فلا يضلّ ولا يشقى الآيات ) طه - ١٢٣. فهذه اُمور لا يشاركه فيها غيره، ويا لها من منقبة له (عليه السلام).

وأمّا نوح فهو أوّل الخمسة اُولى العزم صاحب الكتاب والشريعه كما مرّ بيانه في تفسير قوله تعالى:( كان الناس اُمّه واحدة فبعث الله النبيّين ) البقرة - ٢١٣ وهو الأب الثاني لهذا النوع، وقد سلّم الله تعالى عليه في العالمين قال تعالى:( وجعلنا ذرّيّته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين ) الصافّات - ٧٩.

ثمّ ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين، والآل خاصّة الشيئ قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، ويصغّر على اُهيل إلّا أنّه خصّ بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال: آل فلان ولا يقال: آل رجل وآل زمان كذا أو موضع كذا ولا يقال: آل الخيّاط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل يقال: آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكلّ يقال: أهل الله وأهل الخيّاط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا، وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغّر أويلا، ويستعمل فيمن يختصّ بالإنسان اختصاصاً ذاتيّاً إمّا بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة. فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصّتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.

فأمّا آل إبراهيم فظاهر لفظه أنّهم الطيّبون من ذرّيّته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بنى إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذرّيّته، وسيّدهم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والملحقون بهم في مقامات الولاية إلّا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدلّ على أنّه لم يستعمل على تلك السعة فإنّ عمران هذا إمّا هو أبو مريم أو أبو موسى (عليه السلام) وعلى أيّ تقدير هو من ذرّيّة إبراهيم وكذا آله وقد اُخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذرّيّته الطاهرين لا جميعهم.

وقد قال الله تعالى فيما قال:( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد

١٧٩

آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ) النساء - ٥٤ والآية في مقام الإنكار على بنى إسرائيل وذمّهم كما يتّضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتفّ بها من الآيات. ومن ذلك يظهر أنّ المراد من آل ابراهيم فيها غير بنى إسرائيل أعنى غير إسحاق ويعقوب وذرّيّة يعقوب وهم (أي ذرّيّة يعقوب) بنو إسرائيل فلم يبق لآل ابراهيم إلّا الطاهرون من ذرّيّته من طريق إسماعيل وفيهم النبيّ وآله.

على أنّا سنبيّن إنشاء الله أنّ المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه داخل في آل ابراهيم بدلالة الآية.

على أنّه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات:( إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والّذين آمنوا الآية ) آل عمران - ٦٨ وقوله تعالى:( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا اُمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا - إلى أن قال -ربّنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم الآيات ) البقرة - ١٢٩.

فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذرّيّته من طريق إسماعيل والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافى بين عدم تعرّضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذرّيّته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسموّ شأنهم وعلوّ مقامهم، وهى آيات متكثّرة جدّاً لا حاجة إلى إيرادها. فإنّ إثبات الشئ لا يستلزم نفى ما عداه.

وكذا لا ينافى مثل ما ورد في بنى إسرائيل من قوله تعالى:( ولقد آتينا بنى اسرائيل الكتاب والحكم والنبوّة ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على العالمين ) الجاثية - ١٦ كلّ ذلك ظاهر.

ولا أنّ تفضيلهم على العالمين ينافى تفضيل غيرهم على العالمين، ولا تفضيل غيرهم عليهم فإنّ تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنّما يستلزم تقدّمهم في

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432