الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89843 / تحميل: 7005
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

إنّما هو معنى متوهّم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجيّة لم يكن يمكننا البلوغ إليها لولا فرض هذا المعنى الموهوم وتقديره وهي قهر المتغلّبين واُولي السطوة والقوّة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء والخاملين ووضع كلّ من الأفراد في مقامه الّذي له وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وغير ذلك.

لكن لمّا كان حقيقة معنى الملك واسمه باقياً ما دامت هذه الآثار الخارجيّة باقية مترتّبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجيّة إلى عللها الخارجيّة هو عين استناد الملك إليه وكذلك القول في العزّة الاعتباريّة وآثارها الخارجيّة واستنادها إلى عللها الحقيقيّة وكذلك الأمر في غيرها كالأمر والنهي والحكم والوضع ونحو ذلك.

ومن هنا يتبيّن: أنّ لها جميعاً استناداً إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه وعزّه.

١٦١

( سورة آل عمران الآيات ٢٨ - ٣٢)

لاَ يَتّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْ‏ءٍ إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ( ٢٨) قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السّماواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ( ٣٠) قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ فَإِن تَوَلّوا فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ( ٣٢)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدّمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة: أنّ المقام مقام التعرّض لحال أهل الكتاب والمشركين والتعريض لهم فالمراد بالكافرين إن كان يعمّ أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن تولّيهم والامتزاج الروحيّ بالمشركين وبهم جميعاً وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرّضة لهم ودعوة إلى تركهم والاتّصال بحزب الله وحبّ الله وطاعة رسوله.

قوله تعالى: ( لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) الأولياء جمع الوليّ من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشئ فوليّ الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الّذي يملك تدبير اُمورهم واُمور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليّهم

١٦٢

ثمّ استعمل وكثر استعماله في مورد الحبّ لكونه يستلزم غالباً تصرّف كلّ من المتحابّين فط اُمور الآخر لإفضائه إلى التقرّب والتأثّر عن إرادة المحبوب وسائر شؤونه الروحيّة فلا يخلو الحبّ عن تصرّف المحبوب في اُمور المحبّ في حياته.

فاتّخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحيّ بهم بحيث يؤدّي إلى مطاوعتهم والتأثّر منهم في الأخلاق وسائر شؤون الحياة وتصرّفهم في ذلك ويدلّ على ذلك تقييد هذا النهي بقوله: من دون المؤمنين فإنّ فيه دلالة على إيثار حبّهم على حبّ المؤمنين وإلقاء أزمّة الحياة إليهم دون المؤمنين وفيه الركون إليهم والاتّصال بهم والانفصال عن المؤمنين.

وقد تكرّر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولّي الكافرين واليهود والنصارى واتّخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسّر معنى التولّي المنهيّ عنه ويعرّف كيفيّة الولاية المنهيّ عنها كاشتمال هذه الاية على قوله: من دون المؤمنين بعد قوله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء واشتمال قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء الاية ) المائدة - ٥١ على قوله: بعضهم أولياء بعض وتعقب قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء الاية ) الممتحنة - ١ بقوله: لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآيات.

وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين للدلاله على سبب الحكم وعلّته وهو أنّ صفتي الكفر والإيمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتّصف بهما فيفرّق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحياة لا يلائم حالهما مع الولاية فإنّ الولاية يوجب الاتّحاد والامتزاج وهاتان الصفتان توجبان التفرّق والبينونة وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواصّ الإيمان وآثاره ثمّ فساد أصله ولذلك عقّبه بقوله: ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ثمّ عقّبه أيضاً بقوله: إلاّ أن تتّقوا منهم تقية فاستثنى التقيّة فإنّ التقيّة

١٦٣

إنّما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.

ودون في قوله: من دون المؤمنين كأنّه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور والمعنى: مبتدئاً من مكان دون مكان المؤمنين فإنّهم أعلى مكاناً.

والظاهر أنّ ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنوّ مع خصوصيّة الانخفاض فقولهم: دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك واخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثمّ استعمل بمعنى غير كقوله:( إلهين من دون الله ) المائدة - ١١٦ وقوله:( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء - ٤٨ أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيداً أي الزمه. كلّ ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظيّ.

قوله تعالى: ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ) أي ومن يتّخذهم أولياء من دون المؤمنين وإنّما بدّل من لفظ عامّ للإشعار بنهاية نفرة المتكلّم منه حتّى أنّه لا يتلفّظ به إلّا بلفظ عامّ كالتكنية عن القبائح وهو شائع في اللسان ولذلك أيضاً لم يقل: ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأنّ فيه صوناً للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل.

ومن في قوله: من الله للابتداء ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزّب أي ليس من حزب الله في شئ كما قال تعالى:( ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون ) المائدة - ٥٦ وكما فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله:( فمن تبعني فإنّه منّي ) إبراهيم - ٣٦ أي من حزبي وكيف كان فالمعنى والله أعلم: ليس من حزب الله مستقرّاً في شئ من الأحوال والآثار.

قوله تعالى: ( إلّا أن تتّقوا منهم تقية ) الاتّقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثمّ ربّما استعمل بمعنى الخوف استعمالاً للمسبّب في مورد السبب ولعلّ التقيّة في المورد من هذا القبيل.

والاستثناء منقطع فإنّ التقرّب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولّي ظاهراً من غير عقد القلب على الحبّ والولاية ليس من التولّي في شئ لأنّ الخوف و

١٦٤

الحبّ أمران قلبيّان متبائنان ومتنافيان أثراً في القلب فكيف يمكن اتّحادهما ؟ فاستثناء الاتّقاء استثناء منقطع.

وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقيّة على ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام كما تدلّ عليه الآية النازلة في قصّة عمّار وأبويه ياسر وسميّة وهي قوله تعالى:( من كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) النحل - ١٠٦.

وبالجملة الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقليّ يؤكدّه إذ لا بغية للدين ولا همّ لشارعه إلّا ظهور الحقّ وحياته وربّما يترتّب على التقيّة والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحقّ من حفظ مصلحة الدين وحياة الحقّ ما لا يترتّب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسّف وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائيّ التالي وفي الكلام على قوله تعالى:( من كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من اُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) النحل - ١٠٦.

قوله تعالى: ( ويحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير ) التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذّر الله عباده من عذابه كما قال تعالى:( إنّ عذاب ربّك كان محذوراً ) أسرى - ٥٧، وحذرّ من المنافقين وفتنة الكفّار فقال:( هم العدوّ فاحذرهم ) المنافقين - ٤، وقال:( واحذرهم أن يفتنوك ) المائدة - ٤٩، وحذّرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين وليس ذلك إلّا للدلالة على أنّ الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز فيهذه المعصية أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شئ مخوف آخر حتّى يتّقى عنه بشئ أو يتحصّن منه بحصن وإنّما هو الله الّذي لا عاصم منه ولا أنّ بينه وبين الله سبحانه أمر مرجوّ في دفع الشرّ عنه من وليّ ولا شفيع ففي الكلام أشدّ التهديد ويزيد في اشتداده تكراره مرّتين في مقام واحد ويؤكّده تذييله أوّلاً بقوله: وإلى الله المصير وثانياً بقوله: و الله رؤوف بالعباد على ما سيجئ من بيانه.

ومن جهة اُخرى: يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن

١٦٥

اتّخاذ غير المؤمنين أولياء أنّه خروج عن زي العبوديّة ورفض لولاية الله سبحانه ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الّذي هو أشدّ وأضرّ بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإنّ العدوّ الظاهر عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتّقاء والحذر وأمّا الصديق والحميم إذا استأنس مع الأعداء ودبّ فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلّا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون وهو الهلاك الّذي لا رجاء للحياة والبقاء معه.

وبالجملة هو طغيان وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه قال تعالى:( أ لم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الّذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصّب عليهم ربّك سوط عذاب إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ١٤ فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكاً يورده المرصاد الّذي ليس به ألّا الله جلّت عظمته فيصّب عليه سوط عذاب ولا مانع.

ومن هنا يظهر: أنّ التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: ويحذّركم الله نفسه لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده.

ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى:( فاستقم كما اُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تنصرون ) هود - ١١٣ وهذه آية ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنّها شيّبته - على ما في الرواية - فإنّ الآيتين - كما هو ظاهر للمتدبّر - ظاهرتان في أنّ الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مسّ النار استتباعاً لا ناصر معه، وهو الانتقام الإلهيّ لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدّم بيانه.

ومن هنا يظهر أيضاً: أنّ في قوله: ويحذّركم الله نفسه دلالة على أنّ التهديد إنّما هو بعذاب مقضيّ قضائاً حتماً من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدالّ على عدم حائل يحول في البين ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعيّة

١٦٦

الوقوع كما يدلّ على مثله قوله في آيتي سورة هود: فتمسّكم النار وما لكم من ناصرين.

وفي قوله: وإلى الله المصير دلالة على أن لا مفرّ لكم منه ولا صارف له ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.

و الآيات أعني قوله تعالى: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن وسيجئ بيانه إنشاء الله في سورة المائدة.

قوله تعالى: ( قل إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يعلمه الله ) الآيه نظيرة قوله تعالى:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) البقرة - ٢٨٤ غير أنّه لمّا كان الأنسب بحال العلم أن يتعلّق بالمخفيّ بخلاف الحساب فإنّ الأنسب له أن يتعلّق بالبادي الظاهر قدّم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.

وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة - وهو علمه بما تخفيه صدوركم أو تبديه - من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام وليس ذلك إلّا ترفّعاً عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنّه سيخالف ما وصّاه كما مرّ ما يشبه ذلك في قوله: ومن يفعل ذلك.

وفي قوله تعالى: ويعلم ما في السماوات والأرض والله على كلّ شئ قدير مضاهاة لما مرّ من آية البقرة وقد مرّ الكلام فيه.

قوله تعالى: ( يوم تجد كلّ نفس ما علمت من خير محضراً وما علمت من سوء ) الظاهر من اتّصال السياق أنّه من تتمّة القول في الآية السابقة الّذي أمر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والظرف متعلّق بمقدّر أي واذكر يوم تجد أو متعلّق بقوله: يعلمه الله ويعلم ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإنّ هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة إلى تحقّقه منه تعالى وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوّته في اليوم قال تعالى:( يوم هم بارزون لا

١٦٧

يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار ) المؤمن - ١٦ وقال:( لا عاصم اليوم من الله ) هود - ٤٣ وقال:( ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله جميعاً ) البقرة - ١٦٥ وقال:( والأمر يومئذ لله ) الانفطار - ١٩ إذ من المعلوم أنّ الله سبحانه له كلّ الملك والقدرة والقوّة والأمر دائماً - قبل القيامة وفيها وبعدها - وإنّما اختصّ يوم القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهوراً لا ريب فيه.

ومن ذلك يظهر أنّ تعلّق الظرف بقوله: يعلمه الله لا يفيد تأخّر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شرّ إلى يوم القيامة.

على أنّ في قوله تعالى: محضراً دون أن يقول: حاضراً دلالة على ذلك فإنّ الإحضار إنّما يتمّ فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ولا حافظ لها إلّا الله سبحانه قال تعالى:( وربّك على كلّ شئ حفيظ ) سبأ - ٢١ وقال:( وعندنا كتاب حفيظ ) ق - ٤.

وقوله: تجد من الوجدان خلاف الفقدان. ومن في قوله: من خير ومن سوء للبيان، والتنكير للتعميم أي تجد كلّ ما عملت من الخير وإنّ قلّ وكذا من السوء. وقوله: وما عملت من سوء معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق. والآية من الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال وقد مرّ البحث عنها في سورة البقرة.

قوله تعالى: ( تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ) الظاهر أنّه خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى النفس. ولو للتمنّي وقد كثر دخوله في القرآن على أنّ المفتوحة المشدّدة فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.

والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانيّة قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد والأبد يتقاربان لكنّ الأبد عبارة عن مدّة الزمان الّتي ليس لها حدّ محدود ولا يتقيّد لا يقال: أبد كذا. والأمد مدّة لها حدّ مجهول إذا اُطلق وقد ينحصر نحو أن

١٦٨

يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الزمان والأمد أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عامّ في المبدء والغاية، ولذا قال بعضهم: الأمد والمدى يتقاربان، انتهى.

وفي قوله: تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً دلالة على أنّ حضور سيّئ العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأنّ حضور خير العمل يسرّها وإنّما تودّ الفاصلة الزمانيّة بينها وبينه دون أن تودّ أنّه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها إلّا أن تحبّ بعده وعدم حضوره في أشقّ الأحوال وعند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك قال تعالى:( نقيّض له شيطاناً فهو له قرين - إلى أن قال -حتّى إذ جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ) الزخرف - ٣٨.

قوله تعالى: ( ويحذّركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ) ذكر التحذير ثانياً يعطي من أهمّيّة المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظراً إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية والتحذير الأوّل ناظراً إلى وبالها في الدنيا أو في الأعمّ من الدنيا والآخرة.

وأمّا قوله: والله رؤوف بالعباد فهو - على كونه حاكياً عن رأفته وحنانه تعالى المتعلّق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبوديّة والرقّيّة - دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنّما يؤتى بها لتثبيت التخويف وإيجاد الإذعان بأنّ المتكلّم ناصح لا يريد إلّا الخير والصلاح تقول: إيّاك أن تتعرّض لي في أمر كذا فإنّي آليت أن لا اُسامح مع من تعرّض لي فيه، إنّما اُخبرك بهذا رأفة بك وشفقة.

فيؤل المعنى - والله أعلم - إلى مثل أن يقال: إنّ الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلاً أن يتعرّضوا لمثل هذه المعصية الّتي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثّر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع.

قوله تعالى: ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ) قد تقدّم كلام

١٦٩

في معنى الحبّ وأنّه يتعلّق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلّق بغيره في تفسير قوله تعالى:( والّذين آمنوا أشدّ حبّاً لله الآية ) البقرة - ١٦٥.

ونزيد عليه هيهنا: أنّه لا ريب أنّ الله سبحانه - على ما ينادي به كلامه - إنّما يدعو عبده إلى الإيمان به وعبادته بالإخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى:( ألا لله الدين الخالص ) الزمر - ٣ وقال تعالى:( وما اُمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) البيّنة - ٥ وقال تعالى:( فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) المؤمن - ١٤ إلى غير ذلك من الآيات.

ولا شكّ أنّ الاخلاص في الدين إنّما يتمّ على الحقيقة إذا لم يتعلّق قلب الإنسان - الّذي لا يريد شيئاً ولا يقصد أمراً إلّا عن حبّ نفسيّ وتعلّق قلبيّ - بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ندّ أو غاية دنيويّة بل ولا مطلوب اُخرويّ كفوز بالجنّة أو خلاص من النار وإنّما يكون متعلّق قلبه هو الله تعالى في معبوديّته فالإخلاص لله في دينه إنّما يكون بحبّه تعالى.

ثمّ الحبّ الّذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كلّ طالب بمطلوبه وكلّ مريد بمراده إنّما يجذب المحبّ إلى محبوبه ليجده ويتمّ بالمحبوب ما للمحبّ من النقص ولا بشرى للمحبّ أعظم من أن يبشّر أنّ محبوبه يحبّه وعند ذلك يتلاقى حبّان ويتعاكس دلالان.

فالإنسان إنّما يحبّ الغذاء وينجذب ليجده ويتمّ به ما يجده في نفسه من النقص الّذي آتيه الجوع، وكذا يحبّ النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الّذي علامته الشبق وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الأنس وله يضيق صدره، وكذا العبد يحبّ مولاه والخادم ربّما يتولّه لمخدومه ليكون مولى له حقّ المولويّة، ومخدوماً له حقّ المخدوميّة. ولو تأمّلت موارد التعلّق والحبّ أو قرأت قصص العشّاق والمتولّهين على اختلافهم لم تشكّ في صدق ما ذكرناه.

فالعبد المخلص لله بالحبّ لا بغية له إلّا أن يحبّه الله سبحانه كما أنّه يحبّ الله ويكون الله له كما يكون هو لله عزّ اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أنّ الله سبحانه لا

١٧٠

يعدّ في كلامه كلّ حبّ له حبّاً (والحبّ في الحقيقة هو العلقة الرابطة الّتي تربط أحد الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحبّ الحاكم في الوجود فإنّ حبّ الشئ يقتضي حبّ جميع ما يتعلّق به ويوجب الخضوع والتسليم لكلّ ما هو في جانبه والله سبحانه هو الله الواحد الأحد الّذي يعتمد عليه كلّ شئ في جميع شئون وجوده ويبتغي إليه الوسيلة ويصير إليه كلّ ما دقّ وجلّ فمن الواجب أن يكون حبّه والإخلاص له بالتديّن له بدين التوحيد وطريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان وشعوره وإنّ الدين عند الله الإسلام وهذا هو الدين الّذي يندب إليه سفراؤه ويدعو إليه أنبياؤه ورسله وخاصّة دين الإسلام الّذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه وهو الدين الفطريّ الّذي يختم به الشرائع وطرق النبوّة كما يختم بصادعه الأنبياء عليهم السلام وهذا الّذى ذكرناه ممّا لا يرتاب فيه المتدبّر في كلامه تعالى.

وقد عرّف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبيله الّذي سلكه بسبيل التوحيد، وطريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال:( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) يوسف - ١٠٨ فذكر أنّ سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص واتّباعه واقتفاء أثره إنّما هو في ذلك فهو صفة من اتّبعه.

ثمّ ذكر الله سبحانه أنّ الشريعة الّتي شرعها له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي الممثّلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال:( ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ) الجاثية - ١٨ وذكر أيضاً أنّه إسلام لله حيث قال:( فإنّ حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن ) آل عمران - ٢٠ ثمّ نسبه إلى نفسه وبيّن أنّه صراطه المستقيم فقال:( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ) الأنعام - ١٥٣ فتبيّن بذلك كلّه أنّ الإسلام (وهو الشريعة المشرّعة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي هو مجموع المعارف الأصليّة والخلقيّة والعمليّة وسيرته في الحياة) هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الّذي يعتمد ويبتني على الحبّ فهو دين الإخلاص وهو دين الحبّ.

ومن جميع ما تقدّم على طوله يظهر معنى الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها،

١٧١

أعني قوله: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله فالمراد - والله أعلم - إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديّتكم بالبناء على الحبّ حقيقة فاتّبعوا هذه الشريعة الّتي هي مبنيّة على الحبّ الّذي ممثّله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الّذي يسلك بسالكه إليه تعالى فإن اتّبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبّكم الله وهو أعظم البشارة للمحبّ وعند ذلك تجدون ما تريدون وهذا هو الّذى يبتغيه محبّ بحبّه. هذا هو الّذى تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.

وأمّا بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتّخاذ الكفّار أولياء وارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعى في تحقّقها تحقّق الحبّ بين الإنسان وبين من يتولّى كما تقدّم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله وأنّهم من حزبه فإنّ ولاية الله لا يتمّ باتّباع الكافرين في أهوائهم (ولا ولاية إلّا باتّباع) وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عزّ ومال بل تحتاج إلى اتّباع نبيّه في دينه كما قال تعالى:( ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الّذين لا يعلمون إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإنّ الظالمين بعضهم أولياء بعض والله وليّ المتّقين ) الجاثية - ١٩ انظر إلى الانتقال من معنى الاتّباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية.

فمن الواجب على من يدّعي ولاية الله بحبّه أن يتّبع الرسول حتّى ينتهى ذلك إلى ولاية الله له بحبّه.

وإنّما ذكر حبّ الله دون ولايته لأنّه الأساس الّذى تبتنى عليه الولاية وإنّما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأنّ ولاية النبيّ والمؤمنين تؤل بالحقيقة إلى ولاية الله.

قوله تعالى: ( ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) الرحمة الواسعة الإلهيّة وما عنده من الفيوضات المعنويّة والصوريّة غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده وأصنافهم، ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، ولا سبيل

١٧٢

يلزمه على الإمساك إلّا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره قال تعالى:( وما كان عطاء ربّك محظوراً ) أسرى - ٢٠.

والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامه القرب والزلفى وجميع الاُمور الّتى هي من توابعها كالجنّة وما فيها. وإزالة رينها عن قلب الإنسان ومغفرتها وسترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة ولذلك عقّب قوله: يحببكم الله بقوله: ويغفر لكم ذنوبكم فإنّ الحبّ كما تقدّم يجذب المحبّ إلى المحبوب وكما كان حبّ العبد لربّه يستدعى منه التقرّب بالإخلاص له وقصر العبوديّة فيه كذلك حبّه تعالى لعبده يستدعى قربه من العبد، وكشفه حجب البعد وسبحات الغيبة، ولا حجاب إلا الذنب فيستدعى ذلك مغفرة الذنوب وأمّا ما بعده من الكرامة والإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدّم آنفاً.

والتأمّل في قوله تعالى:( كلّا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلّا إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون ) المطفّفين - ١٥ مع قوله تعالى فيهذه الآية:( يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) كاف في تأييد ما ذكرناه.

قوله تعالى: ( قل أطيعوا الله والرسول ) الخ لمّا كانت الآية السابقة تدعو إلى اتّباع الرسول، والاتّباع وهو اقتفاء الأثر لا يتمّ إلّا مع كون المتّبع (اسم مفعول) سالك سبيل والسبيل الّذى يسلكه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما هو الصراط المستقيم الّذى هو لله سبحانه وهو الشريعة الّتى شرعها لنبيّه وافترض طاعته فيه كرّر ثانياً في هذه الآية معنى اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قالب الإطاعة إشعاراً بأنّ سبيل الإخلاص الّذى هو سبيل النبيّ هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتّباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرّعة. ولعلّ ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأنّ الأمر واحد وذكر الرسول معه سبحانه لأنّ الكلام في اتّباعه.

ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أنّ المعنى: أطيعوا الله في كتابه والرسول في سنّته.

وذلك أنّه مناف لما يلوح من المقام من أنّ قوله: قل أطيعوا الله والرسول إلخ

١٧٣

كالمبيّن لقوله:( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني ) على أنّ الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة، ولذا لم يكرّر الأمر ولو كان مورد الإطاعة مختلفاً في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في قوله تعالى:( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولى الأمر منكم ) النساء - ٥٩ كما لا يخفى.

واعلم أنّ الكلام فيهذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فإنّ الله لا يحبّ الكافرين ) فيه دلالة على كفر المتولّي عن هذا الأمر كما يدلّ على ذلك سائر آيات النهى عن تولّى الكفّار وفيه أيضاً إشعار بكون هذه الآية كالمبيّنة لسابقتها حيث ختمت بنفى الحبّ عن الكافرين بأمر الإطاعة وقد كانت الآية الاُولى متضمّنة لإثبات الحبّ للمؤمنين المنقادين لأمر الاتّباع فافهم ذلك.

وقد تبيّن من الكلام في هذه الآيات الكريمة اُمور:

أحدها: الرخصة في التقيّه في الجملة.

وثانيها: أنّ مؤاخذة تولّى الكفّار والتمرّد عن النهى فيه لا يتخلّف البتّة، وهى من القضاء الحتم.

وثالثها: أنّ الشريعة الإلهيّة ممثّلة للإخلاص لله والإخلاص له ممثّل لحبّ الله سبحانه، وبعبارة اُخرى الدين الّذى هو مجموع المعارف الإلهيّة والاُمور الخلقيّة والأحكام العمليّة على ما فيها من العرض العريض لا ينتهى بحسب التحليل إلّا إلى الإخلاص فقط، وهو وضع الإنسان ذاته وصفات ذاته (وهي الأخلاق) وأعمال ذاته وأفعاله على أساس أنّها لله الواحد القهّار والإخلاص المذكور لا يحلّل إلّا إلى الحبّ هذا من جهة التحليل. ومن جهة التركيب ينتهي الحبّ إلى الإخلاص والإخلاص إلى مجموع الشريعة. كما أنّ الدين بنظر آخر ينحلّ إلى التسليم والتسليم إلى التوحيد.

١٧٤

ورابعها: أن تولّى الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الاُصول ككفر مانع الزكاة وتارك الصلاة ويمكن أن يكون كفر المتولّي بعناية ما ينجرّ إليه أمر التولّى على ما مرّ بيانه، وسيأتى في سورة المائدة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عبّاس قال: كان الحجّاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف وابن أبى الحقيق وقيس بن زيد وقد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خثيمة لاُولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى اُولئك النفر فأنزل الله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين إلى قوله: والله على كلّ شئ قدير.

أقول: الظاهر أن الرواية من التطبيق فأن الكافرين في عرف القرآن أعمّ من أهل الكتاب، وأولى بالقصّة أن تكون سبباً لنزول الآيات الناهية عن اتّخاذ اليهود والنصارى أولياء دون هذه الآيات.

وفي الصافىّ في قوله تعالى: إلّا أن تتّقوا منهم تقية الآية عن كتاب الاحتجاج عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في حديث: وأمرك أن تستعمل التقيّة في دينك فإنّ الله: يقول وإيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، وأن تترك التقيّة الّتى أمرتك بها فإنّك شائط بدمك ودماء إخوانك، معرّض لزوال نعمك ونعمهم، مذلّهم في أيدى أعداء دين الله، وقد أمرك الله بإعزازهم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله يقول: لا دين لمن لا تقيّة له، ويقول: قال الله: إلّا أن تتّقوا منهم تقاة.

وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام): التقيّة في كلّ شئ يضطرّ إليه ابن آدم وقد

١٧٥

أحلّ الله له.

اقول: والأخبار في مشروعيّة التقيّة من طرق أئمّة أهل البيت كثيرة جدّاً ربّما بلغت حدّ التواتر، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.

وفي معاني الأخبار عن سعيد بن يسار قال: قال لى أبوعبدالله: هل الدين إلّا الحبّ؟ إنّ الله عزّوجلّ يقول: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله.

اقول: ورواه في الكافي عن الباقر (عليه السلام) وكذا القمّىّ والعيّاشيّ في تفسيريهما عن الحذّاء عنه (عليه السلام): وكذا العيّاشيّ في تفسيره عن بريد عنه (عليه السلام) وعن ربعىّ عن الصادق (عليه السلام). والرواية تؤيّد ما أوضحناه في البيان المتقدّم.

وفي المعاني عن الصادق (عليه السلام) قال: ما أحبّ الله من عصاه ثمّ تمثّل بقوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقـاً لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: ومن سرّه أن يعلم أنّ الله يحبّه، فليعمل بطاعة الله وليتّبعنا، أ لم يسمع قول الله عزّوجلّ لنبيه: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم؟ الحديث.

اقول: وسيأتى بيان كون اتّباعهم اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الكلام على قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولى الأمر منكم الآية ) النساء - ٥٩.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من رغب عن سنّتى فليس منّى ثمّ تلا هذه الآية: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله إلى آخر الآية.

وفيه أيضاً أخرج ابن أبى حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الشرك أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحبّ على شئ من الجور، ويبغض على شئ من العدل، وهل الدين إلّا الحبّ

١٧٦

والبغض في الله؟ قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله.

وفيه أيضاً أخرج أحمد وأبوداود والترمذيّ وابن ماجة وابن حبّان والحاكم عن أبى رافع عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: لا ألقيّن أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندرى، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه.

١٧٧

( سورة آل عمران الآيات ٣٣ - ٣٤)

إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٣٣) ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ٣٤)

( بيان)

افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حقّ القول فيها، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها، وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرّضة لحال أهل الكتاب.

قوله تعالى: ( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً ) إلى آخر الآية، الاصطفاء كما مرّ بيانه في قوله تعالى:( لقد اصطفيناه في الدنيا ) البقرة - ١٣٠ أخذ صفوة الشئ وتخليصه ممّا يكدّره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام وهو جرى العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربّه فيما يرتضيه له.

لكنّ ذلك غير الاصطفاء على العالمين، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختلّ معنى الكلام فالاصطفاء على العالمين نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو اُمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.

ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى:( وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ) آل عمران - ٤٢ حيث فرّق بين الاصطفائين فالاصطفاء غير الاصطفاء.

وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحاً فأمّا آدم فقد اصطفى على العالمين بأنّه أوّل خليفة من هذا النوع الإنسانيّ جعله الله في الأرض قال تعالى:( وإذ قال ربّك للملائكة إنّى جاعل في الأرض خليفة ) البقرة - ٣٠ وأوّل من فتح

١٧٨

به باب التوبة قال تعالى:( ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى ) طه - ١٢٢ وأوّل من شرع له الدين، قال تعالى:( فإمّا يأتينّكم منّى هدى فمن اتّبع هداى فلا يضلّ ولا يشقى الآيات ) طه - ١٢٣. فهذه اُمور لا يشاركه فيها غيره، ويا لها من منقبة له (عليه السلام).

وأمّا نوح فهو أوّل الخمسة اُولى العزم صاحب الكتاب والشريعه كما مرّ بيانه في تفسير قوله تعالى:( كان الناس اُمّه واحدة فبعث الله النبيّين ) البقرة - ٢١٣ وهو الأب الثاني لهذا النوع، وقد سلّم الله تعالى عليه في العالمين قال تعالى:( وجعلنا ذرّيّته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين ) الصافّات - ٧٩.

ثمّ ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين، والآل خاصّة الشيئ قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، ويصغّر على اُهيل إلّا أنّه خصّ بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال: آل فلان ولا يقال: آل رجل وآل زمان كذا أو موضع كذا ولا يقال: آل الخيّاط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل يقال: آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكلّ يقال: أهل الله وأهل الخيّاط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا، وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغّر أويلا، ويستعمل فيمن يختصّ بالإنسان اختصاصاً ذاتيّاً إمّا بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة. فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصّتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.

فأمّا آل إبراهيم فظاهر لفظه أنّهم الطيّبون من ذرّيّته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بنى إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذرّيّته، وسيّدهم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والملحقون بهم في مقامات الولاية إلّا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدلّ على أنّه لم يستعمل على تلك السعة فإنّ عمران هذا إمّا هو أبو مريم أو أبو موسى (عليه السلام) وعلى أيّ تقدير هو من ذرّيّة إبراهيم وكذا آله وقد اُخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذرّيّته الطاهرين لا جميعهم.

وقد قال الله تعالى فيما قال:( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد

١٧٩

آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ) النساء - ٥٤ والآية في مقام الإنكار على بنى إسرائيل وذمّهم كما يتّضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتفّ بها من الآيات. ومن ذلك يظهر أنّ المراد من آل ابراهيم فيها غير بنى إسرائيل أعنى غير إسحاق ويعقوب وذرّيّة يعقوب وهم (أي ذرّيّة يعقوب) بنو إسرائيل فلم يبق لآل ابراهيم إلّا الطاهرون من ذرّيّته من طريق إسماعيل وفيهم النبيّ وآله.

على أنّا سنبيّن إنشاء الله أنّ المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه داخل في آل ابراهيم بدلالة الآية.

على أنّه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات:( إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والّذين آمنوا الآية ) آل عمران - ٦٨ وقوله تعالى:( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا اُمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا - إلى أن قال -ربّنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم الآيات ) البقرة - ١٢٩.

فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذرّيّته من طريق إسماعيل والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافى بين عدم تعرّضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذرّيّته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسموّ شأنهم وعلوّ مقامهم، وهى آيات متكثّرة جدّاً لا حاجة إلى إيرادها. فإنّ إثبات الشئ لا يستلزم نفى ما عداه.

وكذا لا ينافى مثل ما ورد في بنى إسرائيل من قوله تعالى:( ولقد آتينا بنى اسرائيل الكتاب والحكم والنبوّة ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على العالمين ) الجاثية - ١٦ كلّ ذلك ظاهر.

ولا أنّ تفضيلهم على العالمين ينافى تفضيل غيرهم على العالمين، ولا تفضيل غيرهم عليهم فإنّ تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنّما يستلزم تقدّمهم في

١٨٠

فضيلة دنيويّة أو اُخرويّة على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعنى آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر.

ولا أنّ تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافى وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضّل الله النبيّين على سائر العالمين وفضلّ بعضهم على بعض قال تعالى:( وكلّاً فضّلنا على العالمين ) الأنعام - ٨٦ وقال أيضاً:( ولقد فضّلنا بعض النبيّين على بعض ) أسرى - ٥٥.

وأمّا آل عمران فالظاهر أنّ المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات الّتى تذكر قصّة امرأة عمران ومريم ابنت عمران، وقد تكرّر ذكر عمران أبى مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبى موسى حتّى في موضع واحد يتعيّن فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيّد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها السلام، وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام أو هما وزوجة عمران.

وأمّا ما يذكر أنّ النصارى غير معترفين بكون اسم أبى مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى: ( ذرّيّة بعضها من بعض ) الذرّيّة في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثمّ استعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية، وهى منصوبة عطف بيان.

وفي قوله: بعضها من بعض دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها يبتدئ وينتهى من البعض الآخر وإليه. ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته. وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّيّة لا يفترقون في صفات الفضيلة الّتى اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب

١٨١

في الأفعال الإلهيّة، ومنها الاصطفاء الّذى هو منشأ خيرات هامّة في العالم.

قوله تعالى: ( والله سميع عليم ) أي سميع بأقوالهم الدالّة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم كما أنّ قوله: ذرّيّة بعضها من بعض بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة. فالمحصّل من الكلام: أنّ الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنّما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنّهم ذرّيّة متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحقّ. وإنّما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنّه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

( بحث روائي)

في العيون في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون: هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إنّ الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه. فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض، الحديث.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد عن الرضا عن أبى جعفر عليهما السلام: من زعم أنّه فرغ من الأمر فقد كذب لأنّ المشيّة لله في خلقه، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد، قال الله: ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم، آخرها من أوّلها وأوّلها من آخرها فإذا اُخبرتم بشئ منها بعينه أنّه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما اُخبرتم عنه.

أقول: وفيه دلالة على ما تقدّم في البيان السابق من معنى قوله: ذرّيّة بعضها من بعض الآية.

وفيه أيضاً عن الباقر (عليه السلام): أنّه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقيّة تلك العترة.

١٨٢

أقول: قوله (عليه السلام) ونحن بقيّة تلك العترة العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الّذى يعتمد عليه الشئ، ومنه العترة للأولاد والأقارب الأدنين ممّن مضى، وبعبارة اُخرى العمود المحفوظ في العشيرة.ومنه يظهر أنّه (عليه السلام) استفاد من قوله تعالى ذرّيّة بعضها من بعض أنّها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران. ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهى إشارة إلى اتّصال السلسلة في الاصطفاء.

١٨٣

( سورة آل عمران الآيات ٣٥ - ٤١)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٥) فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى‏ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى‏ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ( ٣٦) فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى‏ لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ٣٧) هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَاءِ( ٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمَحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى‏ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ( ٣٩) قَالَ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ( ٤٠) قَالَ رَبّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلّا تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلّا رَمْزَاً وَاذْكُر رَبّكَ كَثِيرَاً وَسَبّحْ بِالعَشِيّ وَالْإِبْكَارِ( ٤١)

( بيان)

قوله تعالى: ( إذ قالت أمرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّى إنّك أنت السميع العليم ) النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب. و التحرير

١٨٤

هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقّيّة وتحرير الكتاب كأنّه إطلاق للمعانى عن محفظة الذهن والفكر والتقبّل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبّل الهديّة وتقبّل الدعاء ونحو ذلك.

وفي قوله: قالت امرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني دلالة على أنّها إنّما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً، وأنّ حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأنّ زوجها عمران لم يكن حيّاً عندئذ وإلّا لم يكن لها أن تستقلّ بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدلّ عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى:( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم الآية ) آل عمران - ٤٤ على ما سيجئ من البيان.

ومن المعلوم أنّ تحرير الأب أو الأمّ للولد ليس تحريراً عن الرقّيّة وإنّما هو تحرير عن قيد الولاية الّتى للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلّط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصّة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، وقد قيل: إنّهم كانوا يحرّرون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتّى يبلغ الحلم ثمّ يخيّر بين الإقامة والرواح فإن أحبّ أن يقيم أقام، وإن أحبّ الرواح ذهب لشأنه.

وفي الكلام دلالة على أنّها كانت تعتقد أنّ ما في بطنها ذكر لا أناث حيث إنّها تناجى ربّها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني محرّراً من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.

وليس تذكير قوله: محرّراً من جهة كونه حالاً عن ما الموصولة الّتى يستوى فيه المذكّر والمؤنّث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو اُنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزّناً وتحسّراً لما وضعتها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى

١٨٥

ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالاُنثى على ما سيجئ بيانه.

وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أنّ اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسيّة الّتى تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكلّ ذلك ظنّ والظنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلّا مع إبطاله. وقد قال تعالى:( الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) الرعد - ٨ وقال تعالى:( عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام ) لقمان - ٣٤ فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختصّ به تعالى وقال تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى ) الجنّ - ٢٧ فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحى فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختصّ علمه بالله سبحانه يدلّ على أنّ علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحى ولذلك لما تبيّنت أنّ الولد اُنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرّيّة ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.

ومفعول قولها: فتقبّل منّى وإن كان محذوفاً محتملاً لأن يكون هو. نذرها من حيث إنّه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرّر لكن قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرّر.

قوله تعالى: ( فلمّا وضعتها قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى ) في وضع الضمير المؤنّث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلمّا وضعت ما في بطنها وتبيّنت أنّه اُنثى قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى وهو خبر اُريد به التحسّر والتحزّن دون الإخبار وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ولا أنّ الثانية مقولة لها والاُولى

١٨٦

مقولة لله.

أمّا الاُولى فهى ظاهرة لكن لمّا كانت قولها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى مسوقاً لإظهار التحسّر كان ظاهر قوله: والله أعلم بما وضعت أنّه مسوق لبيان أنّا نعلم أنّها اُنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمنّاه بأحسن وجه وأرضى طريق. ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها اُنثى لم تتحسّر ولم تحزن ذاك التحسّر والتحزّن والحال أنّ الذكر الّذى كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الاُنثى الّتى وهبناها لها، ويترتّب عليه ما يترتّب على خلق هذه الاُنثى فإنّ غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيّاً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكنّ هذه الاُنثى ستتمّ به كلمة الله وتلد ولداً بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلّم الناس في المهد، ويكون روحاً وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى مقول له تعالى لا لامرأة عمران. ولو كان مقولاً لها لكان حقّ الكلام أن يقال: وليس الاُنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإنّ من كان يرجو شيئاً شريفاً أو مقاماً عالياً ثمّ رزق ما هو أخسّ منه وأردء إنّما يقول عند التحسّر: ليس هذا الّذى وجدته هو الّذى كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالّذى كنت أرجوه. ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الّذى رزقته البتّة، وظهر من ذلك أنّ اللام في الذكر والاُنثى معاً أو في الاُنثى فقط للعهد.

وقد أخذ أكثر المفسّرين قوله: وليس الذكر كالاُنثى تتمّة قول امرأة عمران، وتكلّفوا في توجيه تقديم الذكر على الاُنثى بما لا يرجع إلى محصّل. من أراده فليرجع إلى كتبهم.

قوله تعالى: ( وإنّى سمّيتها مريم وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم ) معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل. ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنّها لمّا أيست من كون الولد ذكراً محرّراً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدّتها

١٨٧

بالتسمية للعبادة والخدمة. فقولها: وإنّى سمّيتها مريم بمنزلة أن تقول: إنّى جعلت ما وضعتها محرّرة لك. والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً الآية.

ثمّ أعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمّى.

والكلام في قولها: وذرّيّتها من حيث أنّه قول مطلق من شرط وقيد لا يصحّ التفوّه به في حضرة التخاطب ممّن لا علم له به مع أنّ مستقبل حال الإنسان من الغيب الّذى لا يعلمه إلّا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها: ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً على ما تقدّم بيانه فليس إلّا أنّها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثمّ لمّا حملت وتوفّى عمران لم تشكّ أنّ ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ثمّ لمّا وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنّها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحوّلت نذرها من الابن إلى البنت وسمّتها مريم (العابدة، الخادمة) وأعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبّر في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ) القبول إذا قيّد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبّل الّذى معناه القبول عن الرضا فالكلام في معنى قولنا: فتقبّلها ربّها تقبّلاً فإنّما حلّل التقبّل إلى القبول الحسن ليدلّ على أنّ حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.

وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعنى قوله: فتقبّلها إلى قوله: حسناً الجملتان في قولها: وإنّى سمّيتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: فتقبّلها ربّها بقبول حسن قبولاً لقولها وإنّى سمّيتها مريم، وقوله: وأنبتها نباتاً حسناً قبولاً وإجابة لقولها: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم،

١٨٨

فالمراد بتقبّلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرّب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الاُخروي لعملها فإنّ القبول إنّما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنّها مسمّاة بمريم ومحرّرة فيعود معناه إلى اصطفائها (وقد مرّ أنّ معنى الاصطفاء هو التسليم التامّ لله سبحانه) فافهم ذلك.

والمراد بإنباتها نباتاً حسناً أعطاء الرشد والزكاة لها ولذرّيّتها وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرّيّة حياة لا يمسّها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة.

وهذان أعنى القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما الّذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز.

فقد تبيّن أنّ اصطفاء مريم وتطهيرها إنّما هما استجابة لدعوة اُمّها كما أنّ اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: وليس الذكر كالاُنثى.

قوله تعالى: ( وكفّلها زكريّا ) وإنّما كفّلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفّلها ثمّ تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريّا كما يدلّ عليه قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون الآية.

قوله تعالى: ( كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً ) الخ المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت قال الراغب: ومحراب المسجد، قيل: سمّى بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمّى بذلك لكون حقّ إنسان فيه أن يكون حريباً (أي سليباً) من أشغال الدنيا ومن توزّع الخاطر. وقيل الأصل فيه أنّ محراب البيت صدر المجلس ثمّ اتّخذت المساجد فسمّى صدره به وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خصّ به صدر المجلس فسمّى صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد، وكأنّ هذا أصحّ، قال عزّوجلّ: يعملون له ما يشاء من محاريب

١٨٩

وتماثيل. انتهى.

وذكر بعضهم أنّ المحراب هنا هو ما يعبّر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلّم ذى درجات قليلة، ويكون من فيه محجوباً عمّن في المعبد.

أقول: واليه ينتهى اتّخاذ المقصورة في الإسلام.

وفي تنكير قوله: رزقاً إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل: إنّه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف، في الشتاء، ويؤيّده أنّه لو كان من الرزق المعهود وكان تنكيره يفيد أنّه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريّا بقولها: هو من عند الله إنّ الله يرزق الخ في جواب قوله: يا مريم أنّى لك هذا لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممّن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيّئ.

على أنّ قوله تعالى: هنالك دعا زكريّا ربّه الخ يدلّ على أنّ زكريّا تلقّى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهيّة خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرّيّة طيّبة فقد كان الرزق رزقاً يدلّ بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة. وممّا يشعر بذلك قوله تعالى: قال يا مريم الخ على ما سيجئ من البيان.

وقوله: قال يا مريم أنّى لك الخ فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: وجد عندها رزقاً يدلّ على أنّه (عليه السلام) إنّما قال لها ذلك مرّة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أنّ ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربّه ذرّيّة طيّبة.

قوله تعالى: ( هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة ) الخ طيب الشئ ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيّب ما يلائم حياة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك قال تعالى:( والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه ) الأعراف - ٥٨. والعيشة الطيّبة والحياة الطيّبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكيّ فالذرّيّة الطيّبة هو الولد

١٩٠

الصالح لأبيه مثلاً الّذى يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والاُمنيّة فقول زكريّا (عليه السلام) ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة لمّا كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة. فكون ذرّيّته طيّبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصيّة في نفسها ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليهما السلام، وأجمع الناس لما عند عيسى واُمّه مريم الصدّيقة من صفات الكمال والكرامة، ومن هنا ما سمّاه تعالى بيحيى وجعله مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين، وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى ) إلى آخر الآية ضمائر الغيبة والخطاب لزكريّا والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.

وقوله: أنّ الله يبشّرك بيحيى دليل على أنّ تسميته بيحيى إنّما هو من جانب الله سبحانه كما تدلّ عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم قال تعالى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً ) مريم - ٧.

وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشّر به زكريّا قبل تولّد يحيى وخلقه يؤيّد ما ذكرناه آنفاً: أنّ الّذى طلبه زكريّا من ربّه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية واحدة كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

فروعي في يحيى ما روعى فيهما من عند الله سبحانه. وقد روعى في عيسى كمال ما روعى في مريم فالمرعىّ في يحيى هو الشبه التامّ والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كلّه التقدّم التامّ لأنّ وجوده كان مقدّراً قبل استجابة دعوة زكريّا في حقّ يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولى

١٩١

العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنّهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكر الله تعالى من قصّتهما في سورة مريم فقال في يحيى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً - إلى أن قال -يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبيّاً وحناناً من لدنّا وزكاة وكان تقيّاً وبرّاً بوالديه ولم يكن جبّاراً عصيّاً وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً ) مريم - ١٥، وقال في عيسى (عليه السلام):( فأرسلنا إليها روحنا - إلى أن قال -إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً - إلى أن قال -قال ربّك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا - إلى أن قال -فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا قال إنّى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً ) مريم - ٣٣. ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة الّتى نحن فيها عند التطبيق.

و بالجملة فقد سمّاه الله سبحانه يحيى وسمّى ابن مريم عيسى وهو بمعنى (يعيش) على ما قيل وجعله مصدّقاً بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى:( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ) وآتاه الحكم وعلّمه الكتاب صبيّاً كما فعل بعيسى، وعدّه حناناً من لدنه وزكاة وبرّاً بوالديه غير جبّار كما كان عيسى كذلك، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى، وعدّه سيّداً كما جعل عيسى وجيهاً عنده، وجعله حصوراً ونبيّاً ومن الصالحين مثل عيسى، كلّ ذلك استجابة لمسألة زكريّا ودعوته حيث سأل ذرّيّة طيّبة ووليّاً رضيّاً عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مرّ بيانه.

وفي قوله: مصدّقاً بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.

١٩٢

والسيّد هو الّذى يتولّى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حياتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثمّ غلب استعماله في شريف القوم لما أنّ التولّى المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة اُخرى.

والحصور هو الّذى لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهداً.

قوله تعالى: ( قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر ) استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأنّ الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنّه ذكر هذين الوصفين اللّذين جعلهما منشأ للتعجّب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال:( ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً وإنّى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لى من لدنك وليّاً ) مريم - ٥.

لكنّ المقام يمثّل معنى آخر فكأنّه (عليه السلام) لمّا انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكّر انقطاع عقبه لم يشعر إلّا وقد سأل ربّه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثّره وتحزّنه وهو بلوغ الكبر، وكون امرأته عاقراً فلمّا استجيبت دعوته وبشّر بالولد كأنّه صحا وأفاق ممّا كان عليه من الحال، وأخذ يتعجّب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيّره إلى نظرة التعجّب المشوب بالسرور.

على أنّ ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفيّة رفع واحد واحد منها إنّما هو طلب تفهّم خصوصيّات الإفاضة والأنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرّيّة قال تعالى:( ونبّئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنّا منكم وجلون قالوا لا توجل إنّا نبشّرك بغلام عليم قال أبشّرتموني على أن مسّني الكبر فبم تبشّرون قالوا بشّرناك بالحقّ فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالّون ) الحجر - ٥٦

١٩٣

فذكر في جواب نهى الملائكة إيّاه عن القنوط أنّ استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضالّ والقنوط ضلالة بل السيّد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والاُنس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذّذه من كلّ حديث وتمتّعه في كلّ باب.

وفي قوله: وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنّه كناية عن أنّه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً فإنّ ذلك ظاهر قوله: وكانت امرأتي عاقراً ولم يقل: وامرأتي عاقر.

قوله تعالى: ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الّذين كانوا ينادونه فالقول على أيّ حال قوله تعالى لكنّ الظاهر أنّه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنّه بأمره والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصّة:( قال كذلك قال ربّك هو علي هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ) مريم - ٩.

ومنه يظهرأوّلا: أنّه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أوّلاًوثانياً: أنّ قوله: كذلك خبر لمبتدء محذوف والتقدير: الأمر كذلك أي الّذي بشّرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الّذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن - إلى أن قال -وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١وثالثاً: أنّ قوله: الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك.

قوله تعالى: ( قال ربّ اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزاً ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الرمز الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء

١٩٤

بالحاجب والعين واليد، والأوّل أغلب، انتهى. والعشيّ الطرف المؤخّر من النهار وكأنّه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة. والإبكار صدر النهار والطرف المقدّم منه، والأصل في معناه الاستعجال.

ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنّها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولّده:( فإمّا تريّن من البشر أحداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً ) مريم - ٢٦.

وسؤاله (عليه السلام) من ربّه أن يجعل له آية - والآية هي العلامة الدالّة على الشئ - هل هو ليستدلّ به على أنّ البشارة إنّما هي من قبل ربّه، وبعبارة اُخرى هو خطاب رحمانيّ ملكيّ لا شيطانيّ ؟ أو لأنّه أراد أن يستدلّ بها على حمل امرأته، ويعلم وقت الحمل ؟ خلاف بين المفسّرين.

والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصّة لكن الّذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أوّل الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أنّ الخطاب رحمانيّ هو ما ذكروه: أنّ الأنبياء لعصمتهم لا بدّ أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتّى يختلط عليهم طريق الإفهام.

وهو كلام حقّ لكن يجب أن يعلم أنّ تعرّفهم إنّما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرّف زكريّا من ربّه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأيّ محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعاؤه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محلّه.

على أنّ خصوصيّة نفس الآية - وهي عدم التكليم ثلاثة أيّام - تؤيّد بل تدلّ على ذلك فإنّ الشيطان وإن أمكن أن يمسّ الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف

١٩٥

أعداء الدين كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وأذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسنّي الشيطان بنصب وعذاب ) ص - ٤١، وقوله تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في اُمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمّ يحكم الله آياته الآية ) الحجّ - ٥٢، وقوله تعالى:( فإنّي نسيت الحوت وما إنسانيّه إلّا الشيطان ) الكهف - ٦٣.

لكنّ هذه وأمثالها من مسّ الشيطان وتعرّضه لا تنتج إلّا إيذاء النبيّ وأمّا مسّه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك وقد مرّ في ما تقدّم من المباحث إثبات عصمتهم عليهم السلام.

والّذي جعله الله تعالى آيه لزكريّا على ما يدلّ عليه قوله: آيتك أن لا تكلّم الناس ثلثه أيّام إلّا رمزاً واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشي والإبكار هو أنّه كان لا يقدر ثلثه أيّام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلّا بذكر الله وتسبيحه، وهذه آية واقعة على نفس النبيّ ولسانه وتصرّف خاصّ فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلّا رحمانيّاً. وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأوّل دون الوجه الثاني.

فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله: قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإنّ ظاهره أنّه خاطب ربّه وسأله ما سأل ثمّ اُجيب بما اُجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكّاً في أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكّاً عندئذ فما معنى سؤال التمييز ؟

قلت: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنّت نفسه على كون النداء رحمانيّاً من جانب الله ثمّ يسأل ربّه من كيفيّة الولادة الّتي كانت تتعجّب منه نفسه الشريفة كما مرّ فيجاب بنداء آخر ملكيّ تطمئنّ إليه نفسه ثمّ يسأل ربّه آية توجب اليقين بأنّه كان رحمانيّاً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة.

وممّا يؤيّد ذلك قوله تعالى: فنادته الملائكة فإنّ النداء إنّما يكون من

١٩٦

بعيد ولذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريّا:( إذ نادى ربّه ندائاً خفيّاً ) مريم - ٣ فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلّل. زكريّا وتواضعه قبال تعزّز الله سبحانه وترفّعه وتعاليه ثمّ وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريّا لم ير الملك نفسه، وإنّما سمع صوتاً يهتف به هاتف.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيّام، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه. قال: الصواب أنّ زكريّا أحبّ بمقتضى الطبيعة البشريّة أن يتعيّن لديه الزمن الّذي ينال به تلك المنحة الإلهيّة ليطمئنّ قلبه ويبشّر أهله فسأل عن الكيفيّة، ولمّا اُجيب بما اُجيب به سأل ربّه أن يخصّه بعبادة يتعجّل بها شكره، ويكون إتمامه إيّاها آية وعلامة على حصول المقصود فأمره بأن لا يكلّم الناس ثلاثه أيّام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مدّة ثلاثه أيّام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضيّ الثلاث الليال. انتهى.

وأنت خبير بأنّه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة، وانتهائها إلى حصول المقصود، وكون انتهائها هو الآية، وكون قوله: أن لا تكلّم مسوقاً للنهي التشريعيّ وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.

( كلام في الخواطر الملكيّة والشيطانيّة وما يلحق بها من التكليم)

قد مرّ كراراً أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، وأنّ القول أو الكلام مثلاً إنّما يسمّى به الصوت لإفادته معنى مقصوداً يصحّ السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعدّدةً مؤلّفةً أو غير صوت كالإيماء والرمز، والناس لا يتوقّفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامّة كلاماً وإن لم يخرج عن شقّ فم، وكذلك في تسمية الإيماء

١٩٧

قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.

والقرآن أيضاً يسمّي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان:( ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ) النساء - ١١٩ وقال:( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ) الحشر - ١٦ وقال:( يوسوس في صدور الناس ) الناس - ٥ وقال:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) الأنعام - ١١٢ وقال أيضاً حكاية عن إبليس:( إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم ) إبراهيم - ٢٢ وقال:( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) البقرة - ٢٦٩. ومن الواضح أنّ هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، وسمّيت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شقّ فم ولا تحريك لسان.

ومن هنا يعلم: أنّ ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكيّ في قبال الوسوسة من الشيطان، وقد سمّاه تعالى الحكمة، ومثلها قوله تعالى:( ويجعل لكم نوراً تمشون به ) الحديد - ٢٨ وقوله:( هو الّذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض ) الفتح - ٤ وقد مرّ بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى:( فيه سكينة من ربّكم ) البقرة - ٢٤٨، وكذا قوله:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كإنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الأنعام - ١٢٥. وقد سمّى الوسوسة رجزاً فقال:( رجز الشيطان ) الأنفال - ١١ فمن جميع ذلك يظهر أنّ الشياطين والملائكة يكلّمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.

وهنا قسم آخر من التكليم يختصّ به تعالى كما ذكره بقوله:( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب الآية ) الشورى - ٥١ فسمّاه تكليماً وقسمّه إلى الوحي، وهو الّذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلّم، وإلى التكليم

١٩٨

من وراء حجاب. هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.

أمّا كلام الله سبحانه المسمّى بالوحي فهو متميّز متعيّن بذاته فإنّ الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربّه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر. وأمّا غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.

وأمّا الكلام الملكي والشيطانيّ فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإنّ الخاطر الملكيّ يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل، وينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبيّن في كتابه وسنّة نبيّه، والخاطر الشيطانيّ يلازم تضيّق الصدر وشحّ النفس ويدعو إلى متابعة الهوى، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء وبالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنّة، ويخالف الفطرة.

ثمّ إنّ الأنبياء ومن يتلوهم ربّما تيسّر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميّز، وأمّا مع عدم المشاهدة فلا بدّ من استعماله كسائر المؤمنين، وينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكراً سويّاً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل. فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك وهي اُمّ مريم فلمّا حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى، وليس الذكر كالاُنثى لا تكون البنت رسولاً. يقول الله: والله أعلم بما وضعت فلمّا وهب الله لمريم عيسى كان هو الّذي بشّر به

١٩٩

عمران ووعده إيّاه فإذا قلنا في الرجل منّا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

أقول: وروى قريباً منه في الكافي عنه (عليه السلام) وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر (عليه السلام).

وفي تفسير العيّاشيّ في الآية عن الصادق (عليه السلام): أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى وليس الذكر كالاُنثى إنّ الاُنثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرّر لا يخرج من المسجد.

وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العبّاد، وليس الذكر كالاُنثى في الخدمة. قال: فشبّت وكانت تخدمهم وتناولهم حتّى بلغت فأمر زكريّا أن تتّخذ لها حجاباً دون العبّاد.

أقول: والروايات كما ترى تنطبق على ما قدّمناه في البيان السابق إلّا أنّ ظاهرها: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى، ويبقى عليه وجه تقديم الذكر على الاُنثى في الجملة، مع أنّ مقتضى القواعد العربيّة خلافه. وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، وقد مرّ أنّه في معنى التحرير إلّا أن يفرّق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمّل.

وفي الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيّاً يوحي إليه، ويدلّ عليه ما في البحار عن أبي بصير قال سألت أباجعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبيّاً ؟ فقال نعم كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه، الحديث.

وتدلّ الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران: حنّة، وهو المشهور، وفي بعض الروايات: مرثار. ولا يهمّنا البحث عن ذلك.

وفي تفسير القمّيّ في ذيل الرواية السابقة: فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب، وأرخت على نفسها ستراً، وكان لا يراها أحد، وكان يدخل عليها زكريّا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: أنّى لك هذا فتقول: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432