الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89873 / تحميل: 7009
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

إنّما هو معنى متوهّم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجيّة لم يكن يمكننا البلوغ إليها لولا فرض هذا المعنى الموهوم وتقديره وهي قهر المتغلّبين واُولي السطوة والقوّة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء والخاملين ووضع كلّ من الأفراد في مقامه الّذي له وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وغير ذلك.

لكن لمّا كان حقيقة معنى الملك واسمه باقياً ما دامت هذه الآثار الخارجيّة باقية مترتّبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجيّة إلى عللها الخارجيّة هو عين استناد الملك إليه وكذلك القول في العزّة الاعتباريّة وآثارها الخارجيّة واستنادها إلى عللها الحقيقيّة وكذلك الأمر في غيرها كالأمر والنهي والحكم والوضع ونحو ذلك.

ومن هنا يتبيّن: أنّ لها جميعاً استناداً إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه وعزّه.

١٦١

( سورة آل عمران الآيات ٢٨ - ٣٢)

لاَ يَتّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْ‏ءٍ إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ( ٢٨) قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السّماواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ( ٣٠) قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ فَإِن تَوَلّوا فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ( ٣٢)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدّمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة: أنّ المقام مقام التعرّض لحال أهل الكتاب والمشركين والتعريض لهم فالمراد بالكافرين إن كان يعمّ أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن تولّيهم والامتزاج الروحيّ بالمشركين وبهم جميعاً وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرّضة لهم ودعوة إلى تركهم والاتّصال بحزب الله وحبّ الله وطاعة رسوله.

قوله تعالى: ( لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) الأولياء جمع الوليّ من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشئ فوليّ الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الّذي يملك تدبير اُمورهم واُمور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليّهم

١٦٢

ثمّ استعمل وكثر استعماله في مورد الحبّ لكونه يستلزم غالباً تصرّف كلّ من المتحابّين فط اُمور الآخر لإفضائه إلى التقرّب والتأثّر عن إرادة المحبوب وسائر شؤونه الروحيّة فلا يخلو الحبّ عن تصرّف المحبوب في اُمور المحبّ في حياته.

فاتّخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحيّ بهم بحيث يؤدّي إلى مطاوعتهم والتأثّر منهم في الأخلاق وسائر شؤون الحياة وتصرّفهم في ذلك ويدلّ على ذلك تقييد هذا النهي بقوله: من دون المؤمنين فإنّ فيه دلالة على إيثار حبّهم على حبّ المؤمنين وإلقاء أزمّة الحياة إليهم دون المؤمنين وفيه الركون إليهم والاتّصال بهم والانفصال عن المؤمنين.

وقد تكرّر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولّي الكافرين واليهود والنصارى واتّخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسّر معنى التولّي المنهيّ عنه ويعرّف كيفيّة الولاية المنهيّ عنها كاشتمال هذه الاية على قوله: من دون المؤمنين بعد قوله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء واشتمال قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء الاية ) المائدة - ٥١ على قوله: بعضهم أولياء بعض وتعقب قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء الاية ) الممتحنة - ١ بقوله: لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآيات.

وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين للدلاله على سبب الحكم وعلّته وهو أنّ صفتي الكفر والإيمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتّصف بهما فيفرّق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحياة لا يلائم حالهما مع الولاية فإنّ الولاية يوجب الاتّحاد والامتزاج وهاتان الصفتان توجبان التفرّق والبينونة وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواصّ الإيمان وآثاره ثمّ فساد أصله ولذلك عقّبه بقوله: ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ثمّ عقّبه أيضاً بقوله: إلاّ أن تتّقوا منهم تقية فاستثنى التقيّة فإنّ التقيّة

١٦٣

إنّما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.

ودون في قوله: من دون المؤمنين كأنّه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور والمعنى: مبتدئاً من مكان دون مكان المؤمنين فإنّهم أعلى مكاناً.

والظاهر أنّ ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنوّ مع خصوصيّة الانخفاض فقولهم: دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك واخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثمّ استعمل بمعنى غير كقوله:( إلهين من دون الله ) المائدة - ١١٦ وقوله:( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء - ٤٨ أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيداً أي الزمه. كلّ ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظيّ.

قوله تعالى: ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ) أي ومن يتّخذهم أولياء من دون المؤمنين وإنّما بدّل من لفظ عامّ للإشعار بنهاية نفرة المتكلّم منه حتّى أنّه لا يتلفّظ به إلّا بلفظ عامّ كالتكنية عن القبائح وهو شائع في اللسان ولذلك أيضاً لم يقل: ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأنّ فيه صوناً للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل.

ومن في قوله: من الله للابتداء ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزّب أي ليس من حزب الله في شئ كما قال تعالى:( ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون ) المائدة - ٥٦ وكما فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله:( فمن تبعني فإنّه منّي ) إبراهيم - ٣٦ أي من حزبي وكيف كان فالمعنى والله أعلم: ليس من حزب الله مستقرّاً في شئ من الأحوال والآثار.

قوله تعالى: ( إلّا أن تتّقوا منهم تقية ) الاتّقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثمّ ربّما استعمل بمعنى الخوف استعمالاً للمسبّب في مورد السبب ولعلّ التقيّة في المورد من هذا القبيل.

والاستثناء منقطع فإنّ التقرّب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولّي ظاهراً من غير عقد القلب على الحبّ والولاية ليس من التولّي في شئ لأنّ الخوف و

١٦٤

الحبّ أمران قلبيّان متبائنان ومتنافيان أثراً في القلب فكيف يمكن اتّحادهما ؟ فاستثناء الاتّقاء استثناء منقطع.

وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقيّة على ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام كما تدلّ عليه الآية النازلة في قصّة عمّار وأبويه ياسر وسميّة وهي قوله تعالى:( من كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) النحل - ١٠٦.

وبالجملة الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقليّ يؤكدّه إذ لا بغية للدين ولا همّ لشارعه إلّا ظهور الحقّ وحياته وربّما يترتّب على التقيّة والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحقّ من حفظ مصلحة الدين وحياة الحقّ ما لا يترتّب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسّف وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائيّ التالي وفي الكلام على قوله تعالى:( من كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من اُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) النحل - ١٠٦.

قوله تعالى: ( ويحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير ) التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذّر الله عباده من عذابه كما قال تعالى:( إنّ عذاب ربّك كان محذوراً ) أسرى - ٥٧، وحذرّ من المنافقين وفتنة الكفّار فقال:( هم العدوّ فاحذرهم ) المنافقين - ٤، وقال:( واحذرهم أن يفتنوك ) المائدة - ٤٩، وحذّرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين وليس ذلك إلّا للدلالة على أنّ الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز فيهذه المعصية أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شئ مخوف آخر حتّى يتّقى عنه بشئ أو يتحصّن منه بحصن وإنّما هو الله الّذي لا عاصم منه ولا أنّ بينه وبين الله سبحانه أمر مرجوّ في دفع الشرّ عنه من وليّ ولا شفيع ففي الكلام أشدّ التهديد ويزيد في اشتداده تكراره مرّتين في مقام واحد ويؤكّده تذييله أوّلاً بقوله: وإلى الله المصير وثانياً بقوله: و الله رؤوف بالعباد على ما سيجئ من بيانه.

ومن جهة اُخرى: يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن

١٦٥

اتّخاذ غير المؤمنين أولياء أنّه خروج عن زي العبوديّة ورفض لولاية الله سبحانه ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الّذي هو أشدّ وأضرّ بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإنّ العدوّ الظاهر عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتّقاء والحذر وأمّا الصديق والحميم إذا استأنس مع الأعداء ودبّ فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلّا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون وهو الهلاك الّذي لا رجاء للحياة والبقاء معه.

وبالجملة هو طغيان وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه قال تعالى:( أ لم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الّذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصّب عليهم ربّك سوط عذاب إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ١٤ فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكاً يورده المرصاد الّذي ليس به ألّا الله جلّت عظمته فيصّب عليه سوط عذاب ولا مانع.

ومن هنا يظهر: أنّ التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: ويحذّركم الله نفسه لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده.

ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى:( فاستقم كما اُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تنصرون ) هود - ١١٣ وهذه آية ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنّها شيّبته - على ما في الرواية - فإنّ الآيتين - كما هو ظاهر للمتدبّر - ظاهرتان في أنّ الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مسّ النار استتباعاً لا ناصر معه، وهو الانتقام الإلهيّ لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدّم بيانه.

ومن هنا يظهر أيضاً: أنّ في قوله: ويحذّركم الله نفسه دلالة على أنّ التهديد إنّما هو بعذاب مقضيّ قضائاً حتماً من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدالّ على عدم حائل يحول في البين ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعيّة

١٦٦

الوقوع كما يدلّ على مثله قوله في آيتي سورة هود: فتمسّكم النار وما لكم من ناصرين.

وفي قوله: وإلى الله المصير دلالة على أن لا مفرّ لكم منه ولا صارف له ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.

و الآيات أعني قوله تعالى: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن وسيجئ بيانه إنشاء الله في سورة المائدة.

قوله تعالى: ( قل إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يعلمه الله ) الآيه نظيرة قوله تعالى:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) البقرة - ٢٨٤ غير أنّه لمّا كان الأنسب بحال العلم أن يتعلّق بالمخفيّ بخلاف الحساب فإنّ الأنسب له أن يتعلّق بالبادي الظاهر قدّم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.

وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة - وهو علمه بما تخفيه صدوركم أو تبديه - من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام وليس ذلك إلّا ترفّعاً عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنّه سيخالف ما وصّاه كما مرّ ما يشبه ذلك في قوله: ومن يفعل ذلك.

وفي قوله تعالى: ويعلم ما في السماوات والأرض والله على كلّ شئ قدير مضاهاة لما مرّ من آية البقرة وقد مرّ الكلام فيه.

قوله تعالى: ( يوم تجد كلّ نفس ما علمت من خير محضراً وما علمت من سوء ) الظاهر من اتّصال السياق أنّه من تتمّة القول في الآية السابقة الّذي أمر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والظرف متعلّق بمقدّر أي واذكر يوم تجد أو متعلّق بقوله: يعلمه الله ويعلم ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإنّ هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة إلى تحقّقه منه تعالى وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوّته في اليوم قال تعالى:( يوم هم بارزون لا

١٦٧

يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار ) المؤمن - ١٦ وقال:( لا عاصم اليوم من الله ) هود - ٤٣ وقال:( ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله جميعاً ) البقرة - ١٦٥ وقال:( والأمر يومئذ لله ) الانفطار - ١٩ إذ من المعلوم أنّ الله سبحانه له كلّ الملك والقدرة والقوّة والأمر دائماً - قبل القيامة وفيها وبعدها - وإنّما اختصّ يوم القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهوراً لا ريب فيه.

ومن ذلك يظهر أنّ تعلّق الظرف بقوله: يعلمه الله لا يفيد تأخّر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شرّ إلى يوم القيامة.

على أنّ في قوله تعالى: محضراً دون أن يقول: حاضراً دلالة على ذلك فإنّ الإحضار إنّما يتمّ فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ولا حافظ لها إلّا الله سبحانه قال تعالى:( وربّك على كلّ شئ حفيظ ) سبأ - ٢١ وقال:( وعندنا كتاب حفيظ ) ق - ٤.

وقوله: تجد من الوجدان خلاف الفقدان. ومن في قوله: من خير ومن سوء للبيان، والتنكير للتعميم أي تجد كلّ ما عملت من الخير وإنّ قلّ وكذا من السوء. وقوله: وما عملت من سوء معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق. والآية من الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال وقد مرّ البحث عنها في سورة البقرة.

قوله تعالى: ( تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ) الظاهر أنّه خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى النفس. ولو للتمنّي وقد كثر دخوله في القرآن على أنّ المفتوحة المشدّدة فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.

والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانيّة قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد والأبد يتقاربان لكنّ الأبد عبارة عن مدّة الزمان الّتي ليس لها حدّ محدود ولا يتقيّد لا يقال: أبد كذا. والأمد مدّة لها حدّ مجهول إذا اُطلق وقد ينحصر نحو أن

١٦٨

يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الزمان والأمد أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عامّ في المبدء والغاية، ولذا قال بعضهم: الأمد والمدى يتقاربان، انتهى.

وفي قوله: تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً دلالة على أنّ حضور سيّئ العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأنّ حضور خير العمل يسرّها وإنّما تودّ الفاصلة الزمانيّة بينها وبينه دون أن تودّ أنّه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها إلّا أن تحبّ بعده وعدم حضوره في أشقّ الأحوال وعند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك قال تعالى:( نقيّض له شيطاناً فهو له قرين - إلى أن قال -حتّى إذ جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ) الزخرف - ٣٨.

قوله تعالى: ( ويحذّركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ) ذكر التحذير ثانياً يعطي من أهمّيّة المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظراً إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية والتحذير الأوّل ناظراً إلى وبالها في الدنيا أو في الأعمّ من الدنيا والآخرة.

وأمّا قوله: والله رؤوف بالعباد فهو - على كونه حاكياً عن رأفته وحنانه تعالى المتعلّق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبوديّة والرقّيّة - دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنّما يؤتى بها لتثبيت التخويف وإيجاد الإذعان بأنّ المتكلّم ناصح لا يريد إلّا الخير والصلاح تقول: إيّاك أن تتعرّض لي في أمر كذا فإنّي آليت أن لا اُسامح مع من تعرّض لي فيه، إنّما اُخبرك بهذا رأفة بك وشفقة.

فيؤل المعنى - والله أعلم - إلى مثل أن يقال: إنّ الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلاً أن يتعرّضوا لمثل هذه المعصية الّتي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثّر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع.

قوله تعالى: ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ) قد تقدّم كلام

١٦٩

في معنى الحبّ وأنّه يتعلّق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلّق بغيره في تفسير قوله تعالى:( والّذين آمنوا أشدّ حبّاً لله الآية ) البقرة - ١٦٥.

ونزيد عليه هيهنا: أنّه لا ريب أنّ الله سبحانه - على ما ينادي به كلامه - إنّما يدعو عبده إلى الإيمان به وعبادته بالإخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى:( ألا لله الدين الخالص ) الزمر - ٣ وقال تعالى:( وما اُمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) البيّنة - ٥ وقال تعالى:( فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) المؤمن - ١٤ إلى غير ذلك من الآيات.

ولا شكّ أنّ الاخلاص في الدين إنّما يتمّ على الحقيقة إذا لم يتعلّق قلب الإنسان - الّذي لا يريد شيئاً ولا يقصد أمراً إلّا عن حبّ نفسيّ وتعلّق قلبيّ - بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ندّ أو غاية دنيويّة بل ولا مطلوب اُخرويّ كفوز بالجنّة أو خلاص من النار وإنّما يكون متعلّق قلبه هو الله تعالى في معبوديّته فالإخلاص لله في دينه إنّما يكون بحبّه تعالى.

ثمّ الحبّ الّذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كلّ طالب بمطلوبه وكلّ مريد بمراده إنّما يجذب المحبّ إلى محبوبه ليجده ويتمّ بالمحبوب ما للمحبّ من النقص ولا بشرى للمحبّ أعظم من أن يبشّر أنّ محبوبه يحبّه وعند ذلك يتلاقى حبّان ويتعاكس دلالان.

فالإنسان إنّما يحبّ الغذاء وينجذب ليجده ويتمّ به ما يجده في نفسه من النقص الّذي آتيه الجوع، وكذا يحبّ النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الّذي علامته الشبق وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الأنس وله يضيق صدره، وكذا العبد يحبّ مولاه والخادم ربّما يتولّه لمخدومه ليكون مولى له حقّ المولويّة، ومخدوماً له حقّ المخدوميّة. ولو تأمّلت موارد التعلّق والحبّ أو قرأت قصص العشّاق والمتولّهين على اختلافهم لم تشكّ في صدق ما ذكرناه.

فالعبد المخلص لله بالحبّ لا بغية له إلّا أن يحبّه الله سبحانه كما أنّه يحبّ الله ويكون الله له كما يكون هو لله عزّ اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أنّ الله سبحانه لا

١٧٠

يعدّ في كلامه كلّ حبّ له حبّاً (والحبّ في الحقيقة هو العلقة الرابطة الّتي تربط أحد الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحبّ الحاكم في الوجود فإنّ حبّ الشئ يقتضي حبّ جميع ما يتعلّق به ويوجب الخضوع والتسليم لكلّ ما هو في جانبه والله سبحانه هو الله الواحد الأحد الّذي يعتمد عليه كلّ شئ في جميع شئون وجوده ويبتغي إليه الوسيلة ويصير إليه كلّ ما دقّ وجلّ فمن الواجب أن يكون حبّه والإخلاص له بالتديّن له بدين التوحيد وطريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان وشعوره وإنّ الدين عند الله الإسلام وهذا هو الدين الّذي يندب إليه سفراؤه ويدعو إليه أنبياؤه ورسله وخاصّة دين الإسلام الّذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه وهو الدين الفطريّ الّذي يختم به الشرائع وطرق النبوّة كما يختم بصادعه الأنبياء عليهم السلام وهذا الّذى ذكرناه ممّا لا يرتاب فيه المتدبّر في كلامه تعالى.

وقد عرّف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبيله الّذي سلكه بسبيل التوحيد، وطريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال:( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) يوسف - ١٠٨ فذكر أنّ سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص واتّباعه واقتفاء أثره إنّما هو في ذلك فهو صفة من اتّبعه.

ثمّ ذكر الله سبحانه أنّ الشريعة الّتي شرعها له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي الممثّلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال:( ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ) الجاثية - ١٨ وذكر أيضاً أنّه إسلام لله حيث قال:( فإنّ حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن ) آل عمران - ٢٠ ثمّ نسبه إلى نفسه وبيّن أنّه صراطه المستقيم فقال:( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ) الأنعام - ١٥٣ فتبيّن بذلك كلّه أنّ الإسلام (وهو الشريعة المشرّعة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي هو مجموع المعارف الأصليّة والخلقيّة والعمليّة وسيرته في الحياة) هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الّذي يعتمد ويبتني على الحبّ فهو دين الإخلاص وهو دين الحبّ.

ومن جميع ما تقدّم على طوله يظهر معنى الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها،

١٧١

أعني قوله: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله فالمراد - والله أعلم - إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديّتكم بالبناء على الحبّ حقيقة فاتّبعوا هذه الشريعة الّتي هي مبنيّة على الحبّ الّذي ممثّله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الّذي يسلك بسالكه إليه تعالى فإن اتّبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبّكم الله وهو أعظم البشارة للمحبّ وعند ذلك تجدون ما تريدون وهذا هو الّذى يبتغيه محبّ بحبّه. هذا هو الّذى تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.

وأمّا بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتّخاذ الكفّار أولياء وارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعى في تحقّقها تحقّق الحبّ بين الإنسان وبين من يتولّى كما تقدّم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله وأنّهم من حزبه فإنّ ولاية الله لا يتمّ باتّباع الكافرين في أهوائهم (ولا ولاية إلّا باتّباع) وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عزّ ومال بل تحتاج إلى اتّباع نبيّه في دينه كما قال تعالى:( ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الّذين لا يعلمون إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإنّ الظالمين بعضهم أولياء بعض والله وليّ المتّقين ) الجاثية - ١٩ انظر إلى الانتقال من معنى الاتّباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية.

فمن الواجب على من يدّعي ولاية الله بحبّه أن يتّبع الرسول حتّى ينتهى ذلك إلى ولاية الله له بحبّه.

وإنّما ذكر حبّ الله دون ولايته لأنّه الأساس الّذى تبتنى عليه الولاية وإنّما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأنّ ولاية النبيّ والمؤمنين تؤل بالحقيقة إلى ولاية الله.

قوله تعالى: ( ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) الرحمة الواسعة الإلهيّة وما عنده من الفيوضات المعنويّة والصوريّة غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده وأصنافهم، ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، ولا سبيل

١٧٢

يلزمه على الإمساك إلّا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره قال تعالى:( وما كان عطاء ربّك محظوراً ) أسرى - ٢٠.

والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامه القرب والزلفى وجميع الاُمور الّتى هي من توابعها كالجنّة وما فيها. وإزالة رينها عن قلب الإنسان ومغفرتها وسترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة ولذلك عقّب قوله: يحببكم الله بقوله: ويغفر لكم ذنوبكم فإنّ الحبّ كما تقدّم يجذب المحبّ إلى المحبوب وكما كان حبّ العبد لربّه يستدعى منه التقرّب بالإخلاص له وقصر العبوديّة فيه كذلك حبّه تعالى لعبده يستدعى قربه من العبد، وكشفه حجب البعد وسبحات الغيبة، ولا حجاب إلا الذنب فيستدعى ذلك مغفرة الذنوب وأمّا ما بعده من الكرامة والإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدّم آنفاً.

والتأمّل في قوله تعالى:( كلّا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلّا إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون ) المطفّفين - ١٥ مع قوله تعالى فيهذه الآية:( يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) كاف في تأييد ما ذكرناه.

قوله تعالى: ( قل أطيعوا الله والرسول ) الخ لمّا كانت الآية السابقة تدعو إلى اتّباع الرسول، والاتّباع وهو اقتفاء الأثر لا يتمّ إلّا مع كون المتّبع (اسم مفعول) سالك سبيل والسبيل الّذى يسلكه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما هو الصراط المستقيم الّذى هو لله سبحانه وهو الشريعة الّتى شرعها لنبيّه وافترض طاعته فيه كرّر ثانياً في هذه الآية معنى اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قالب الإطاعة إشعاراً بأنّ سبيل الإخلاص الّذى هو سبيل النبيّ هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتّباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرّعة. ولعلّ ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأنّ الأمر واحد وذكر الرسول معه سبحانه لأنّ الكلام في اتّباعه.

ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أنّ المعنى: أطيعوا الله في كتابه والرسول في سنّته.

وذلك أنّه مناف لما يلوح من المقام من أنّ قوله: قل أطيعوا الله والرسول إلخ

١٧٣

كالمبيّن لقوله:( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني ) على أنّ الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة، ولذا لم يكرّر الأمر ولو كان مورد الإطاعة مختلفاً في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في قوله تعالى:( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولى الأمر منكم ) النساء - ٥٩ كما لا يخفى.

واعلم أنّ الكلام فيهذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فإنّ الله لا يحبّ الكافرين ) فيه دلالة على كفر المتولّي عن هذا الأمر كما يدلّ على ذلك سائر آيات النهى عن تولّى الكفّار وفيه أيضاً إشعار بكون هذه الآية كالمبيّنة لسابقتها حيث ختمت بنفى الحبّ عن الكافرين بأمر الإطاعة وقد كانت الآية الاُولى متضمّنة لإثبات الحبّ للمؤمنين المنقادين لأمر الاتّباع فافهم ذلك.

وقد تبيّن من الكلام في هذه الآيات الكريمة اُمور:

أحدها: الرخصة في التقيّه في الجملة.

وثانيها: أنّ مؤاخذة تولّى الكفّار والتمرّد عن النهى فيه لا يتخلّف البتّة، وهى من القضاء الحتم.

وثالثها: أنّ الشريعة الإلهيّة ممثّلة للإخلاص لله والإخلاص له ممثّل لحبّ الله سبحانه، وبعبارة اُخرى الدين الّذى هو مجموع المعارف الإلهيّة والاُمور الخلقيّة والأحكام العمليّة على ما فيها من العرض العريض لا ينتهى بحسب التحليل إلّا إلى الإخلاص فقط، وهو وضع الإنسان ذاته وصفات ذاته (وهي الأخلاق) وأعمال ذاته وأفعاله على أساس أنّها لله الواحد القهّار والإخلاص المذكور لا يحلّل إلّا إلى الحبّ هذا من جهة التحليل. ومن جهة التركيب ينتهي الحبّ إلى الإخلاص والإخلاص إلى مجموع الشريعة. كما أنّ الدين بنظر آخر ينحلّ إلى التسليم والتسليم إلى التوحيد.

١٧٤

ورابعها: أن تولّى الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الاُصول ككفر مانع الزكاة وتارك الصلاة ويمكن أن يكون كفر المتولّي بعناية ما ينجرّ إليه أمر التولّى على ما مرّ بيانه، وسيأتى في سورة المائدة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عبّاس قال: كان الحجّاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف وابن أبى الحقيق وقيس بن زيد وقد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خثيمة لاُولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى اُولئك النفر فأنزل الله: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين إلى قوله: والله على كلّ شئ قدير.

أقول: الظاهر أن الرواية من التطبيق فأن الكافرين في عرف القرآن أعمّ من أهل الكتاب، وأولى بالقصّة أن تكون سبباً لنزول الآيات الناهية عن اتّخاذ اليهود والنصارى أولياء دون هذه الآيات.

وفي الصافىّ في قوله تعالى: إلّا أن تتّقوا منهم تقية الآية عن كتاب الاحتجاج عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في حديث: وأمرك أن تستعمل التقيّة في دينك فإنّ الله: يقول وإيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، وأن تترك التقيّة الّتى أمرتك بها فإنّك شائط بدمك ودماء إخوانك، معرّض لزوال نعمك ونعمهم، مذلّهم في أيدى أعداء دين الله، وقد أمرك الله بإعزازهم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله يقول: لا دين لمن لا تقيّة له، ويقول: قال الله: إلّا أن تتّقوا منهم تقاة.

وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام): التقيّة في كلّ شئ يضطرّ إليه ابن آدم وقد

١٧٥

أحلّ الله له.

اقول: والأخبار في مشروعيّة التقيّة من طرق أئمّة أهل البيت كثيرة جدّاً ربّما بلغت حدّ التواتر، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.

وفي معاني الأخبار عن سعيد بن يسار قال: قال لى أبوعبدالله: هل الدين إلّا الحبّ؟ إنّ الله عزّوجلّ يقول: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله.

اقول: ورواه في الكافي عن الباقر (عليه السلام) وكذا القمّىّ والعيّاشيّ في تفسيريهما عن الحذّاء عنه (عليه السلام): وكذا العيّاشيّ في تفسيره عن بريد عنه (عليه السلام) وعن ربعىّ عن الصادق (عليه السلام). والرواية تؤيّد ما أوضحناه في البيان المتقدّم.

وفي المعاني عن الصادق (عليه السلام) قال: ما أحبّ الله من عصاه ثمّ تمثّل بقوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقـاً لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: ومن سرّه أن يعلم أنّ الله يحبّه، فليعمل بطاعة الله وليتّبعنا، أ لم يسمع قول الله عزّوجلّ لنبيه: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم؟ الحديث.

اقول: وسيأتى بيان كون اتّباعهم اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الكلام على قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولى الأمر منكم الآية ) النساء - ٥٩.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من رغب عن سنّتى فليس منّى ثمّ تلا هذه الآية: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله إلى آخر الآية.

وفيه أيضاً أخرج ابن أبى حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الشرك أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحبّ على شئ من الجور، ويبغض على شئ من العدل، وهل الدين إلّا الحبّ

١٧٦

والبغض في الله؟ قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله.

وفيه أيضاً أخرج أحمد وأبوداود والترمذيّ وابن ماجة وابن حبّان والحاكم عن أبى رافع عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: لا ألقيّن أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندرى، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه.

١٧٧

( سورة آل عمران الآيات ٣٣ - ٣٤)

إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٣٣) ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ٣٤)

( بيان)

افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حقّ القول فيها، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها، وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرّضة لحال أهل الكتاب.

قوله تعالى: ( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً ) إلى آخر الآية، الاصطفاء كما مرّ بيانه في قوله تعالى:( لقد اصطفيناه في الدنيا ) البقرة - ١٣٠ أخذ صفوة الشئ وتخليصه ممّا يكدّره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام وهو جرى العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربّه فيما يرتضيه له.

لكنّ ذلك غير الاصطفاء على العالمين، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختلّ معنى الكلام فالاصطفاء على العالمين نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو اُمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.

ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى:( وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ) آل عمران - ٤٢ حيث فرّق بين الاصطفائين فالاصطفاء غير الاصطفاء.

وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحاً فأمّا آدم فقد اصطفى على العالمين بأنّه أوّل خليفة من هذا النوع الإنسانيّ جعله الله في الأرض قال تعالى:( وإذ قال ربّك للملائكة إنّى جاعل في الأرض خليفة ) البقرة - ٣٠ وأوّل من فتح

١٧٨

به باب التوبة قال تعالى:( ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى ) طه - ١٢٢ وأوّل من شرع له الدين، قال تعالى:( فإمّا يأتينّكم منّى هدى فمن اتّبع هداى فلا يضلّ ولا يشقى الآيات ) طه - ١٢٣. فهذه اُمور لا يشاركه فيها غيره، ويا لها من منقبة له (عليه السلام).

وأمّا نوح فهو أوّل الخمسة اُولى العزم صاحب الكتاب والشريعه كما مرّ بيانه في تفسير قوله تعالى:( كان الناس اُمّه واحدة فبعث الله النبيّين ) البقرة - ٢١٣ وهو الأب الثاني لهذا النوع، وقد سلّم الله تعالى عليه في العالمين قال تعالى:( وجعلنا ذرّيّته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين ) الصافّات - ٧٩.

ثمّ ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين، والآل خاصّة الشيئ قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، ويصغّر على اُهيل إلّا أنّه خصّ بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال: آل فلان ولا يقال: آل رجل وآل زمان كذا أو موضع كذا ولا يقال: آل الخيّاط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل يقال: آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكلّ يقال: أهل الله وأهل الخيّاط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا، وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغّر أويلا، ويستعمل فيمن يختصّ بالإنسان اختصاصاً ذاتيّاً إمّا بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة. فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصّتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.

فأمّا آل إبراهيم فظاهر لفظه أنّهم الطيّبون من ذرّيّته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بنى إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذرّيّته، وسيّدهم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والملحقون بهم في مقامات الولاية إلّا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدلّ على أنّه لم يستعمل على تلك السعة فإنّ عمران هذا إمّا هو أبو مريم أو أبو موسى (عليه السلام) وعلى أيّ تقدير هو من ذرّيّة إبراهيم وكذا آله وقد اُخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذرّيّته الطاهرين لا جميعهم.

وقد قال الله تعالى فيما قال:( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد

١٧٩

آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ) النساء - ٥٤ والآية في مقام الإنكار على بنى إسرائيل وذمّهم كما يتّضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتفّ بها من الآيات. ومن ذلك يظهر أنّ المراد من آل ابراهيم فيها غير بنى إسرائيل أعنى غير إسحاق ويعقوب وذرّيّة يعقوب وهم (أي ذرّيّة يعقوب) بنو إسرائيل فلم يبق لآل ابراهيم إلّا الطاهرون من ذرّيّته من طريق إسماعيل وفيهم النبيّ وآله.

على أنّا سنبيّن إنشاء الله أنّ المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه داخل في آل ابراهيم بدلالة الآية.

على أنّه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات:( إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والّذين آمنوا الآية ) آل عمران - ٦٨ وقوله تعالى:( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا اُمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا - إلى أن قال -ربّنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم الآيات ) البقرة - ١٢٩.

فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذرّيّته من طريق إسماعيل والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافى بين عدم تعرّضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذرّيّته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسموّ شأنهم وعلوّ مقامهم، وهى آيات متكثّرة جدّاً لا حاجة إلى إيرادها. فإنّ إثبات الشئ لا يستلزم نفى ما عداه.

وكذا لا ينافى مثل ما ورد في بنى إسرائيل من قوله تعالى:( ولقد آتينا بنى اسرائيل الكتاب والحكم والنبوّة ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على العالمين ) الجاثية - ١٦ كلّ ذلك ظاهر.

ولا أنّ تفضيلهم على العالمين ينافى تفضيل غيرهم على العالمين، ولا تفضيل غيرهم عليهم فإنّ تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنّما يستلزم تقدّمهم في

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432