الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89869 / تحميل: 7007
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجزء الثّالث

من كتاب

الميزان في تفسير القرآن

للمولفة

اللأستاذ العلّامة

السّيّد محمّد حسين الطّباطبائي

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة آل عمران مدنية وهي مأتا آية)

( سورة آل عمران الآيات ١ - ٦)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الم( ١) اللّهُ لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ الحَيّ الْقَيّومُ( ٢) نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ( ٣) مِن قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ( ٤) إِنّ اللّهَ لاَ يَخْفَى‏ عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السّماءِ( ٥) هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ٦)

( بيان)

غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين، والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقّة الموقف لمواجهتهم أعداءاً كاليهود والنصارى والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم.

ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإنّ آياتها - وهى مأتا آية - ظاهرة الاتّساق والانتظام من أوّلها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها.

ولذلك كان ممّا يترجّح في النظر أن تكون السورة إنّما نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد استقرّ له الأمر بعض الاستقرار ولمّا يتمّ استقراره فإنّ فيها ذكر غزوة اُحد وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران وذكراً من أمر اليهود وحثّاً على المشركين ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وجميع ذلك يؤيّد أنّ السورة نزلت أيّام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامّة قواهم وجميع أركانهم فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الّذين يدبّان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود والنصارى،

٣

ويحاجّونهم ويجاوبونهم ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين، ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الأمن فقد كان الإسلام في هذه الأيّام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركى العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم.

والله سبحانه يذكّر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الّذى هداهم به ما يطيب به نفوسهم ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانيّة وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم ويبيّن لهم: أنّ الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه، ولم يعجزه خلقه، وإنّما اختار دينه وهدى جمعاً من عباده إليه على طريقه العادة الجارية والسنّة الدائمة وهى سنّة العلل والأسباب فالمؤمن والكافر جاريان على سنّة الأسباب فيوم للكافر ويوم للمؤمن فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل والجزاء غداً.

قوله تعالى: ( الله لا إله إلّا هو الحىّ القيّوم ) قد مرّ الكلام فيه في تفسير آية الكرسيّ وتحصّل من هناك أنّ المراد به بيان قيامه تعالى أتمّ القيام على أمر الإيجاد و التدبير فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرّد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعيّة الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم والقدرة فالعلم الإلهىّ نافذ فيها لا يخفى عليه شيئ منها والقدرة مهيمنه عليها لا يقع منها إلّا ما شاء وقوعه وأذن فيه. ولذلك عقّبه بقوله بعد آيتين: إنّ الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء هو الّذى يصوّركم في الأرحام كيف يشاء.

ولمّا كانت هذه الآيات الستّ في أوّل السورة على طريق براعه الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل - وقد مرّ ذكر غرض السورة - كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلّىّ الّذى يستنتج به الغرض كما أنّ الآيتين الأخيرتين أعنى قوله: إنّ الله لا يخفى عليه الخ بمنزلة التعليل بعد البيان. وعلي هذا فالكلام الّتى يتمّ به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسّطتان أعنى قوله:

نزّل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام وعلي هذا فيعود المعنى إلى أنّه يجب على المؤمنين أن يتذكّروا أنّ الله الّذى آمنوا به واحد في اُلوهيّته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة، لا يغلب في ملكه ولا يكون إلّا ما شاء وأذن فيه. فإنّهم إذا تذكّروا ذلك

٤

علموا أنّه هو المنزل للكتاب الهادى إلى الحقّ والفرقان المميّز بين الحقّ والباطل وأنّه إنّما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب وظرف الاختيار فمن آمن فله أجره ومن كفر فإنّ الله سيجزيه لأنّه عزيز ذو انتقام، وذلك أنّه الله الّذى لا إله غيره حتّى يحكم في هذه الجهات ولا يخفى عليه أمرهم، ولا يخرج عن إرادته ومشيّته فعالهم وكفرهم.

قوله تعالى: ( نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه ) ، قد مرّ أنّ التنزيل يدلّ على التدريج كما أنّ الإنزال يدلّ على الدفعة.

وربّما ينقض ذلك بقوله:( لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة ) الفرقان - ٣٢ وبقوله تعالى:( أن ينزّل علينا مائدة ) المائدة - ١١٢ وقوله تعالى:( لو لا نزّل عليه آية ) الأنعام - ٣٧ وقوله تعالى:( قل إنّ الله قادر على أن ينزّل آية ) الأنعام - ٣٧ ولذلك ذكر بعض المفسّرين أنّ الأولى أن يقال: إنّ معنى نزّل عليك الكتاب: أنزله إنزالاً بعد إنزال دفعاً للنقض.

والجواب: أنّ المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلّل زمان معتدّ به بين نزول كلّ جزء من أجزاء الشئ وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركّبة الّتى توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء وبذلك يصير الشئ أمراً واحداً غير منقسم والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى:( أنزل من السماء مائاً ) الرعد - ١٧ وهو الغيث ونسبة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد سواء تخلّل بينهما زمان معتدّ به أو لم يتخلّل وهو التدريج والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى:( وهو الّذى ينزّل الغيث ) الشورى - ٢٨.

ومن هنا يظهر: أنّ الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإنّ المراد بقوله لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة الآية: أن ينزّل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متّصل واحد من غير تخلّل زمان معتدّ به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة. وبذلك يظهر الجواب عن بقيّة الآيات المذكورة.

٥

وأمّا ما ذكره البعض المزبور فهو على أنّه استحسان غير جائز في اللّغة البتّة لا يدفع شيئاً من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر.

وقد جرى كلامه تعالى أن يعبّر عن إفاضة الكتاب على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالتنزيل والنزول والنزول يستلزم مقاماً أو مكاناً عالياً رفيعاً يخرج منه الشيئ نوعاً من الخروج ويقصد مقاماً أو مكاناً آخر أسفل فيستقرّ فيه وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلوّ ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنّه من عنده قال تعالى:( إنّه علىّ حكيم ) الشورى - ٥١ وقال تعالى:( ولمّا جائهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم ) البقرة - ٨٩ فصحّ بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحى في قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد ذكروا أنّ الحقّ هو الخبر من حيث إنّ بحذائه خارجاً ثابتاً كما أنّ الصدق هو الخبر من حيث إنّه مطابق للخارج وعلى هذا فإطلاق الحقّ على الأعيان الخارجيّة والاُمور الواقعيّة كما يطلق على الله سبحانه: أنّه حقّ، وعلى الحقائق الخارجيّة أنّها حقّة إنّما هو من جهة أنّ كلّاً منها حقّ من جهة الخبر عنها. وكيف كان فالمراد بالحقّ في الآية: الأمر الثابت الّذى لا يقبل البطلان.

والظاهر أنّ الباء في قوله: بالحقّ للمصاحبة والمعنى: نزّل عليك الكتاب تنزيلاً يصاحب الحقّ ولا يفارقه فيوجب مصاحبة الحقّ أن لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ففى قوله: نزل عليك الكتاب بالحقّ استعارة بالكناية. وقد قيل في معنى الباء وجوه اُخر لا يخلو عن سقم.

والتصديق من الصدق يقال: صدقت مقالاً كذا أي قرّرته على الصدق واعترفت بكونه صدقاً وصدقت فلاناً أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.

والمراد ممّا بين يديه التوراة والانجيل كما قال تعالى:( إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى - إلى أن قال -وآتيناه الإنجيل فيه هدى - إلى أن قال -وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب الآية ) المائدة - ٤٨. والكلام لا يخلو عن دلالة على أنّ ما بأيدى اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى (عليهما السلام) وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف فإنّ الدائر بينهم في عصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو التوراة الموجودة اليوم والأناجيل الأربعة المشهورة

٦

فالقرآن يصدّق التوراة والإنجيل الموجودين لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات الناطقة بالتحريف والسقط فيهما. قال تعالى:( ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل - إلى أن قال -وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذكّروا به - إلى أن قال -ومن الّذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً ممّا ذكروا به الآية ) المائدة - ١٤.

قوله تعالى: ( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ) التوراة كلمة عبرانيّة بمعنى الشريعة والإنجيل لفظ يونانىّ وقيل فارسيّ الأصل معناه البشارة وسيجئ استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى:( إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور الآيات ) المائدة - ٤٤.

وممّا أصرّ عليه القرآن تسمية كتاب عيسى (عليه السلام) بالإنجيل بصيغة الإفراد والقول بأنّه نازل من عند الله سبحانه مع أنّ الأناجيل كثيرة والمعروفة منها أعنى الأناجيل الأربعة كانت موجودة قبل نزول القرآن وفي عهده وهى الّتى ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتّى ويوحنّا ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والإسقاط وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والإنجيل في هذه الآية وفي أوّل السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولّد عيسى ونبوّته ورفعه.

قوله تعالى: ( وأنزل الفرقان ) الفرقان ما يفرّق به بين الحقّ والباطل على ما في الصحاح واللفظ بمادّته يدلّ على الأعمّ من ذلك وهو كلّ ما يفرّق به بين شئ وشئ. قال تعالى:( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) الأنفال - ٤١ وقال تعالى:( يجعل لكم فرقاناً ) الأنفال - ٢٩ وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحقّ والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصليّة والفرعيّة الّتى أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحى أعمّ من الكتاب وغيره. قال تعالى:( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ) الأنبياء - ٤٨ وقال

٧

تعالى:( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان ) البقرة - ٥٣ وقال تعالى:( تبارك الّذى نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) الفرقان - ١.

وقد عبّر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله:( لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) الحديد - ٢٥ وهو في وزان قوله:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) البقره - ٢١٣ فالميزان كالفرقان هو الدين الّذى يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضمّ إليه من المعارف ووظائف العبوديّة والله أعلم.

وقيل: المراد بالفرقان القرآن. وقيل: الدلالة الفاصلة بين الحقّ والباطل وقيل: الحجّة القاطعة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على من حاجه في أمر عيسى. وقيل: النصر. وقيل: العقل. والوجه ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بآيات الله إلى قوله ذو انتقام ) الانتقام ما قيل مجازاة المسئ على إساءته وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفّي فإنّ ذلك من لوازم الانتقامات الّتى بيننا حيث إنّ إساءة المسيئ يوجب منقصة وضرراً في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة الّتى توجب تشفّى قلوبنا وأمّا هو تعالى فأعزّ ساحة من أن ينتفع أو يتضرّر بشئ من أعمال عباده لكنّه وعد - وله الوعد الحقّ - أن سيقضى بين عباده بالحقّ إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً. قال تعالى:( والله يقضى بالحقّ ) المؤمن - ٢٠ وقال تعالى:( ليجزى الّذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الّذين أحسنوا بالحسنى ) النجم - ٣١. كيف وهو عزيز على الاطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه. وقد قيل إنّ الأصل في معنى العزّة الامتناع.

وقوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ) من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيامة ربّما تضمّن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة. وهذا من الحقائق القرآنيّة الّتى ربّما قصّر الباحثون في استيفاء البحث عنه وليس ذلك إلّا لكوننا لا نعدّ شيئاً عذاباً إلّا إذا اشتمل على شئ من الآلام

٨

الجسمانيّة أو نقص أو فساد في النعم المادّيّة كذهاب الأموال وموت الأعزّة ونقاهة الأبدان مع أنّ الّذى يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك.

( كلام في معنى العذاب في القرآن)

القرآن يعدّ معيشة الناسي لربّه ضنكاً وإن اتّسعت في أعيننا كلّ الاتّساع. قال تعالى:( من أعرض عن ذكرى فإنّ له معيشة ضنكاً ) طه - ١٢٤ ويعدّ الأموال والأولاد عذاباً وإن كنّا نعدّها نعمه هنيئة. قال تعالى:( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنّما يريد الله أن يعذّبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) التوبة - ٨٥.

وحقيقة الأمر كما مرّ إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى:( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة ) البقرة - ٣٥ أنّ سرور الإنسان وغمّه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذّبه وتنعّمه كلّ ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة هذا أوّلاً. وأنّ النعمة والعذاب وما يقاربهما من الاُمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة وكذا للحيوان منهما شيئ وللإنسان منهما شئ وهكذا وهذا ثانياً. والإنسان المادّىّ الدنيويّ الّذى لم يتخلّق بأخلاق الله تعالى ولم يتأدّب بأدبه يرى السعادة المادّيّة هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهى السعادة المعنويّة فيتولّع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة. وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الّذى ناله لكنّه ما كان يريد إلّا الخالص من التنعّم واللذّة على ما صوّرته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذّة محفوفاً بالاُلوف من الألم. فما دام لم ينل ما يريده كان اُمنيّة وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب الّتى ركن إليها ولم يتعلّق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كلّ فائتة فكان أيضاً حسرة فلا يزال فيما وجده متألّماً به معرضاً عنه طالباً لما هو خير منه لعلّه يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلّباً بين الآلام والحسرات. فهذا حاله فيما وجده، وذاك حاله فيما فقده.

وأمّا القرآن فإنّه يرى أنّ الإنسان أمر مؤلّف من روح خالد وبدن مادّىّ

٩

متحوّل متغيّر وهو على هذا الحال حتّى يرجع إلى ربّه فيتمّ له الخلود من غير زوال فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله وموجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضاً من سعادته ونعمت السعادة. وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلّق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضاً من سعادته بمنزلة التحمّل لمرّ الدواء ساعة لحيازة الصحّة دهراً.

وأمّا ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له والقرآن يسمّى سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى:( لا يغرّنّك تقلّب الّذين كفروا في البلاد متاع قليل ثمّ مأويهم جهنّم وبئس المهاد ) آل عمران - ١٩٦، ١٩٧.

وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعدّه القرآن عذاباً كما يعدّونه عذاباً لكن وجه النظر مختلف فإنّه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم وذلك كأنواع العذاب النازلة على الاُمم السالفة. قال تعالى:( ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الّذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ٦، ١٤.

والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقوّمان بالشعور والإدراك فإنّا لا نعدّ الأمر اللذيذ الّذى نلناه ولم نحسّ به سعادة لأنفسنا كما لا نعدّ الأمر المولم غير المشعور به شقاءً ومن هنا يظهر أنّ هذا التعليم القرآنيّ الّذى يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادّة والإنسان المولع بالمادّة لا بدّ من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقيّة الّتي يشخّصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقيّة شقاوة وهو كذلك فإنّه يلقّن على أهله: أن لا يتعلّق قلوبهم بغير الله ويروا أنّ ربّهم هو المالك الّذي يملك كلّ شئ فلا يستقلّ شئ إلّا به ولا يقصد شئ إلّا له.

وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلّا السعادة: بين ما كان فيه سعادة روحه

١٠

وجسمه، وما كان فيه سعادة روحه محضاً وأمّا ما دون ذلك فإنّه يراه عذاباً ونكالاً وأمّا الإنسان المتعلّق بهوى النفس ومادّة الدنيا فإنّه وإن كان ربّما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيراً ولذّة فإنّه سوف يطّلع على خبطه في مشيه وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه. قال تعالى:( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتّى يلاقوا يومهم الّذى يوعدون ) المعارج - ٤٢ وقال تعالى:( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد ) ق - ٢٢، وقال تعالى:( فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلّا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ) النجم - ٢٩، على أنّهم لا يصفو لهم عيش إلّا وهو منغّص بما يربو عليه من الغمّ والهمّ.

ومن هنا يظهر: أنّ الإدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصّة القرآن غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعاً من نوع واحد هو الإنسان وبين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممّن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيّين.

فهذا ما يتحصّل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسمانيّ عذاباً لكن نهايته أنّه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح. قال تعالى: حكاية عن أيّوب (عليه السلام):( أنّى مسنّي الشيطان بنصب وعذاب ) ص - ٤١ وقال تعالى:( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتّلون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفى ذلكم بلاء من ربّكم عظيم ) الأعراف - ١٤١. فسمّى ما يصنعون بهم بلاءً وامتحاناً من الله وعذاباً في نفسه لا منه سبحانه.

قوله تعالى: ( إنّ الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ) إلخ قد علّل تعالى عذاب الّذين كفروا بآياته بأنّه عزيز ذو انتقام لكن لمّا كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضمّ إليه ليتمّ المطلوب فإنّ العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفي عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام فعقّب لذلك الكلام بقوله: إنّ الله لا يخفى عليه فبيّن أنّه عزيز لا يخفى عليه شئ ظاهر على الحواسّ ولا غائب عنها. ومن الممكن أن يكون المراد ممّا في الأرض وما في السماء الأعمال الظاهرة القائمة بالجوارح والخفيّة الكامنة في القلوب على حدّ ما نبّهنا عليه في قوله تعالى:( لله ما في

١١

السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية) البقرة - ٢٨٤.

قوله تعالى: ( هو الّذى يصوّركم في الأرحام كيف يشاء ) التصوير إلقاء الصورة على الشئ و الصورة تعمّ ما له ظلّ كالتمثال وما لا ظلّ له والأرحام جمع رحم وهو مستقرّ الجنين من الإناث.

وهذه الآية في معنى الترقّي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين فإنّ محصّل الآيتين: أنّ الله تعالى يعذّب الّذين كفروا بآياته لأنّه العزيز المنتقم العالم بالسرّ والعلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب. ومحصّل هذه الآية أنّ الأمر أعظم من ذلك ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذلّ وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى ويبطل النظام الأحسن الّذى نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربّه بل الله سبحانه هو أذن له في ذلك بمعنى أنّه نظم الاُمور نوع نظم يؤدّي إلى وجود الاختيار في الإنسان وهو الوصف الّذى يمكنه به ركوب صراط الإيمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ليتمّ بذلك أمر الفتنة والامتحان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وما يشاؤون إلّا أن يشاء الله ربّ العالمين.

فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلّا عن تقدير وهو نظم الأشياء على نحو يتيسّر لكلّ شئ ما يتوجّه إليه من مقاصده الّتى سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصّة الّتي تمهّد له السلوك إلى ما يسلك إليه. فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه يظنّ الإنسان أنّه يفعل ما يشاء ويتصرّف فيما يريد، ويقطع بذلك النظم المتّصل الّذى نظمه الله في الكون فيسبق التقدير، وهذا بعينه من القدر.

وهذا هو المراد بقوله: يصوّركم في الأرحام كيف يشاء أي ينظّم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدّي إلى ما يشاءه في ختمه مشيّة إذن لا مشيّة حتم.

وإنّما خصّ الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان ولم يذكر التقدير العامّ الجاري

١٢

في العالم كلّه لينطبق على المورد ولما مرّ أنّ في الآيات تعريضاً للنصارى في قولهم في المسيح (عليه السلام) والآيات منتهية إلى ما هو الحقّ من أمره فإنّ النصارى لا ينكرون كينونته (عليه السلام) في الرحم وأنّه لم يكوّن نفسه.

والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعنى قوله: يصوّركم بعد قوله: نزّل عليك للدلاله على أنّ إيمان المؤمنين أيضاً ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهيّة في حقّ أنفسهم ويتسلّوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.

قوله تعالى: ( لا إله إلّا هو العزيز الحكيم ) فيه عود إلى ما بدئ به الكلام في الآيات من التوحيد، وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.

فإنّ هذه الأمور المذكورة أعني: هداية الخلق بعد إيجادهم، وإنزال الكتاب والفرقان، وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين اُمور لا بدّ أن تستند إلى إله يدبّرها وإذ لا إله إلّا الله تعالى شأنه فهو الّذى يهدي الناس وهو الّذى ينزّل الكتاب والفرقان، وهو يعذّب الكافرين بآياته، وإنّما يفعل ما يفعل من الهداية والإنزال والانتقام والتقدير بعزّته وحكمته

( بحث روائي)

في المجمع عن الكلبيّ ومحمّد بن إسحاق والربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيّف وثمانين آية في وفد نجران، وكانوا ستّين راكباً قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤل إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الّذى لا يصدرون إلّا عن رأيه، واسمه عبد المسيح والسيّد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبوحارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه وموّلوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده، فقدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية في جمال

١٣

رجال بلحرث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): دعوهم فصلّوا إلى المشرق، فكلّم السيّد والعاقب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال لهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أسلما. قالا قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً و عبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير. قالا: إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى. فقال لهما النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه ؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حىّ لا يموت وأنّ عيسى يأتيه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شئ ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا: بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم ؟ قالوا: لا. قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته اُمّه كما تحمل المراه ثمّ وضعته كما تضع المرأة ولدها ثمّ غذّي كما يغذّي الصبيّ ثمّ كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

أقول: وروى هذا المعنى السيوطيّ في الدرّ المنثور عن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن محمّد بن جعفر بن الزبير وعن ابن إسحاق عن محمّد بن سهل بن أبي أمامة. أمّا القصة فسيجئ نقلها. وأمّا نزول أوّل السورة في ذلك فكأنّه اجتهاد منهم وقد تقدّم: أنّ ظاهر سياقها نزولها دفعة.

عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الشقيّ من شقى في بطن اُمّه، والسعيد من سعد في بطن اُمّه.

وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام) قال: إنّ الله إذا أراد أن يخلق النطفة الّتي هي ممّا اُخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم حرّك الرجل

١٤

للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتّى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردّد فيه أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، ثمّ تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثمّ يبعث الله ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقّان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثمّ يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لى البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا ربّ ما نكتب ؟ فيوحي الله عزّوجلّ إليهما: أن ارفعا رؤسكما إلى رأس اُمّه، فيرفعان رؤسهما فإذاً اللوح يقرع جبهه اُمّه، فينظران فيه، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقيّاً وجميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان ثمّ يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثمّ يقيمانه قائماً في بطن اُمّه. قال: فربّما عتا فانقلب ولا يكون ذلك إلّا في كلّ عات أو مارد وإذا بلغ أوان خروج الولد تامّاً أو غير تامّ أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتّى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسّهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج، فبعث الله عزّوجلّ إليه ملكاً يقال له: زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة اُخرى فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة.

أقول: قوله: إذا أراد أن يخلق النطفة، أي يجعلها بشراً تامّاً سويّاً وتقييدها بقوله: الّتي هي ممّا اُخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجئ بيانه: أنّ الإنسان الّذي في هذه النشأة الدنيويّة وأحواله مسبوقة الوجود بنشأة اُخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك وهي المسمّاة في لسان الأخبار بعالم الذرّ والميثاق فما اُخذ عليه الميثاق لا بدّ من أن يخلق في هذه النشأة الدنيويّة وما يخلق في هذه النشأة هو ممّا

١٥

اُخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل فذلك من القضاء المحتوم. ولذلك ردّد الكلام بينه وبين قوله: أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه، فلا يتمّ ويعود سقطاً فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا. وقوله ويجعلها في الرحم، عطف على قوله: يخلق النطفة.

قوله (عليه السلام) يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيّده وضع الظاهر موضع المضمر. وعلى ظاهر الحال من كونه من كلام الإمام (عليه السلام) هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم في الجسم، إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلّا العروق ومنها العرق الّذي يدرّ منه دم الحيض فينصبّ في الرحم وليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق وهو ظاهر.

قوله (عليه السلام): وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء كأنّها الروح النباتيّة الّتي هي المبدء للتغذّي والتنمّي.

قوله (عليه السلام): فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة فروح الحياة والبقاء منفوخة في الروح النباتيّة ولو فرض رجوعه إلى المضغة مثلاً كانت منفوخة في المضغة الحيّة بالروح النباتيّة فتصير المضغة النباتيّة منفوخة فيها. وعلى أيّ حال يفيد الكلام أنّ نفخ الروح الإنسانيّ إنّما هو نوع ترقّ للروح النباتيّة بالاشتداد (على ما قتضيه القول بالحركة الجوهريّة).

وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء فالروح متّحد الوجود مع البدن بوجه وهو النطفة وما يمدّها من دم الحيض وهي المتّحدة مع بدنى الأبوين وهما مع النطفة وهلمّ جرّاً فما يجري على الإنسان متعيّن في الجملة في وجود آبائه واُمّهاته مشهود في صور أشخاصهم وهو بوجه كالفهرسّ المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله.

وبه يظهر معنى قوله (عليه السلام): فيوحي الله عزّوجلّ إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رؤسكما إلى رأس اُمّه وذلك أنّ الّذي لأبيه من شرح قضائه وقدره قد انقطع عنه

١٦

بانفصال النطفة فما بقي متّصلاً به إلّا اُمّه وهو قوله (عليه السلام): فإذا اللوح يقرع جبهة اُمّه والجبهة مجتمع حواسّ الإنسان وطليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقيّاً وجميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة بنسبة الفاعل والقابل فيكتبان جميع ما في اللوح.

قوله (عليه السلام): ويشترطان البداء فيما يكتبان وذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة فإنّ الصورة وإن كانت مبدئاً لجميع ما يجرى على الإنسان من أحواله والحوادث المختصّة به لكن ليست بالمبدء كلّه بل للاُمور والحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك ولذلك كان الّذي يترآئى منها من الحوادث غير حتميّ الوقوع فكانت مظنّة للبداء.

وأعلم: أنّ نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل ووحيه إلى الرحم وإرسال الملكين الخلّاقين والملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث ومنها الولادة إلى أسبابها الطبيعيّة فإنّ هذين القبيلين من الأسباب أعنى الأسباب المعنويّة والأسباب المادّيّة واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتّى يبطل أحدهما الآخر أو يتدافعا فيبطلا معاً، أو يعود الأمر إلى تركّب العلّة التامّة من مجموع السببين بل كلّ منهما علّة تامّة لكن في مرتبته.

فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنويّة وسلوكهم إلى مرضاته وهم الأنبياء (عليهم السلام) - والطريق طريق الباطن - فإنّما وظيفته أن يكلّم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن ويذكّرهم مقام ربّهم في جميع بياناته وهو توسيط الملائكة واستناد الحوادث إلى أعمالهم ونسبة السعادة إلى تأييدهم ونسبة الشقاء بخصوصيّاته إلى الشياطين وتسويلهم ونسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وحضرة ربوبيّته ليستنتج من ذلك صور الهداية والضلال والربح والخسران. وبالجملة جميع شؤون الحياة الآخرة. وهم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعيّة ولم يضيّعوا حقّها فإنّها أحد ركني حياة الإنسان والأساس الّذي تستند إليه الحياة الدنيا، ولا بدّ للإنسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بدّ له أن يعرف جملة الأمر في الأسباب المعنويّة حتّى يتمّ له معرفة نفسه فيعرف ربّه.

١٧

( سورة آل عمران الآيات ٧ - ٩)

هُوَ الّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلّا اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلّا أُولُوا الْأَلْبَابِ( ٧) رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ( ٨) رَبّنَا إِنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ٩)

( بيان)

قوله تعالى: ( هو الّذي أنزل عليك الكتاب ) ، عبّر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأنّ المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصّه، وهو أنّه مشتمل على آيات محكمة واُخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبيّن بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمراً واحداً من غير نظر إلى تعدّد وتكثّر، فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل.

قوله تعالى: ( منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات ) ، مادّة حكم تفيد معنى كون الشئ بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعّضه أو يخلّ أمره عليه، ومنه الإحكام والتحكيم، والحكم بمعنى القضاء، والحكمة بمعنى المعرفة التامّة والعلم الجازم النافع والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس ففى الجميع شئ من معنى المنع والإتقان، وربّما قيل: أنّ المادّة تدلّ على معنى المنع مع إصلاح.

والمراد ههنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنّه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الايات في قوله:( كتاب اُحكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيم خبير ) هود - ١، لكن اشتمال

١٨

الآية على ذكر التفصيل بعد الاحكام دليل على أنّ المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزّي والتبعّض بعد بتكثّر الآيات فهو إتقانه قبل وجود التبعّض فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب بخلاف وصف الإحكام والإتقان الّذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد.

وبعبارة اُخرى لمّا كان قوله: منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أنّ المراد بالإحكام غير الإحكام الّذي وصف به جميع الكتاب في قوله: كتاب اُحكمت آياته الآية، وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الّذي وصف به جميع الكتاب في قوله:( كتاباً متشابهاً مثاني ) الزمر - ٢٣.

وقد وصف المحكمات بأنّها اُمّ الكتاب والاُمّ بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشئ وليس إلّا أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات، ومن هنا يظهر: أنّ الإضافة في قوله: اُمّ الكتاب ليست لاميّه كقولنا: اُمّ الأطفال بل هي بمعنى من كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك. فالكتاب يشتمل على آيات هي اُمّ آيات اُخر. وفي إفراد كلمة الاُمّ من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متّفقة مؤتلفة.

وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: واُخر متشابهات والتشابه توافق أشياء مختلفة واتّحادها في بعض الأوصاف والكيفيّات وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن بهذا الوصف حيث قال:( كتاباً متشابهاً مثاني تقشعّر منه جلود الّذين يخشون ربّهم الآية ) الزمر - ٢٣ والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم وإتقان الاُسلوب وبيان الحقائق والحكم والهداية إلى صريح الحقّ كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب وأمّا التشابه المذكور في هذه الآية أعني قوله: واُخر متشابهات، فمقابلته لقوله: منه آيات محكمات هنّ اُمّ

١٩

الكتاب وذكر اتّباع الّذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل كلّ ذلك يدلّ على أنّ المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها بل يتردّد بين معنى ومعنى حتّى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة والآية المحكمة محكمة بنفسها كما أنّ قوله:( الرحمن على العرش استوى ) طه - ٥، يشتبه المراد منه على السامع أوّل ما يسمعه فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى:( ليس كمثله شئ ) الشورى - ١١، استقرّ الذهن على أنّ المراد به التسلّط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكّن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسّم المستحيل على الله سبحانه. وكذا قوله تعالى:( إلى ربّه ناظرة ) القيامة - ٢٣ إذا اُرجع إلى مثل قوله:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) الأنعام - ١٠٣، علم به أنّ المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسّيّ، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبيّن أنّ المراد بها حكم محدود بحدّ الحكم الناسخ وهكذا.

فهذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقّاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: هو الّذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات فإنّ الآية محكمة بلا شكّ ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً.

ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الّذي يدلّ عليه قوله منه آيات إلخ وبطل العلاج الّذي يدلّ عليه قوله: هنّ اُمّ الكتاب ولم يصدق قوله:( كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً ) حم السجدة - ٤ ولم يتمّ الاحتجاج الّذي يشتمل عليه قوله:( أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك.

على أنّ كلّ من يرعى نظره في آيات القرآن من أوّله إلى آخره لا يشكّ في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضلّ في مرادها بل ما من آية إلّا

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432