الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89881 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فضيلة دنيويّة أو اُخرويّة على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعنى آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر.

ولا أنّ تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافى وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضّل الله النبيّين على سائر العالمين وفضلّ بعضهم على بعض قال تعالى:( وكلّاً فضّلنا على العالمين ) الأنعام - ٨٦ وقال أيضاً:( ولقد فضّلنا بعض النبيّين على بعض ) أسرى - ٥٥.

وأمّا آل عمران فالظاهر أنّ المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات الّتى تذكر قصّة امرأة عمران ومريم ابنت عمران، وقد تكرّر ذكر عمران أبى مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبى موسى حتّى في موضع واحد يتعيّن فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيّد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها السلام، وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام أو هما وزوجة عمران.

وأمّا ما يذكر أنّ النصارى غير معترفين بكون اسم أبى مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى: ( ذرّيّة بعضها من بعض ) الذرّيّة في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثمّ استعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية، وهى منصوبة عطف بيان.

وفي قوله: بعضها من بعض دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها يبتدئ وينتهى من البعض الآخر وإليه. ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته. وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّيّة لا يفترقون في صفات الفضيلة الّتى اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب

١٨١

في الأفعال الإلهيّة، ومنها الاصطفاء الّذى هو منشأ خيرات هامّة في العالم.

قوله تعالى: ( والله سميع عليم ) أي سميع بأقوالهم الدالّة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم كما أنّ قوله: ذرّيّة بعضها من بعض بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة. فالمحصّل من الكلام: أنّ الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنّما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنّهم ذرّيّة متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحقّ. وإنّما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنّه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

( بحث روائي)

في العيون في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون: هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إنّ الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه. فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض، الحديث.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد عن الرضا عن أبى جعفر عليهما السلام: من زعم أنّه فرغ من الأمر فقد كذب لأنّ المشيّة لله في خلقه، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد، قال الله: ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم، آخرها من أوّلها وأوّلها من آخرها فإذا اُخبرتم بشئ منها بعينه أنّه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما اُخبرتم عنه.

أقول: وفيه دلالة على ما تقدّم في البيان السابق من معنى قوله: ذرّيّة بعضها من بعض الآية.

وفيه أيضاً عن الباقر (عليه السلام): أنّه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقيّة تلك العترة.

١٨٢

أقول: قوله (عليه السلام) ونحن بقيّة تلك العترة العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الّذى يعتمد عليه الشئ، ومنه العترة للأولاد والأقارب الأدنين ممّن مضى، وبعبارة اُخرى العمود المحفوظ في العشيرة.ومنه يظهر أنّه (عليه السلام) استفاد من قوله تعالى ذرّيّة بعضها من بعض أنّها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران. ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهى إشارة إلى اتّصال السلسلة في الاصطفاء.

١٨٣

( سورة آل عمران الآيات ٣٥ - ٤١)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٥) فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى‏ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى‏ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ( ٣٦) فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى‏ لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ٣٧) هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَاءِ( ٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمَحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى‏ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ( ٣٩) قَالَ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ( ٤٠) قَالَ رَبّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلّا تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلّا رَمْزَاً وَاذْكُر رَبّكَ كَثِيرَاً وَسَبّحْ بِالعَشِيّ وَالْإِبْكَارِ( ٤١)

( بيان)

قوله تعالى: ( إذ قالت أمرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّى إنّك أنت السميع العليم ) النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب. و التحرير

١٨٤

هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقّيّة وتحرير الكتاب كأنّه إطلاق للمعانى عن محفظة الذهن والفكر والتقبّل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبّل الهديّة وتقبّل الدعاء ونحو ذلك.

وفي قوله: قالت امرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني دلالة على أنّها إنّما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً، وأنّ حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأنّ زوجها عمران لم يكن حيّاً عندئذ وإلّا لم يكن لها أن تستقلّ بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدلّ عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى:( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم الآية ) آل عمران - ٤٤ على ما سيجئ من البيان.

ومن المعلوم أنّ تحرير الأب أو الأمّ للولد ليس تحريراً عن الرقّيّة وإنّما هو تحرير عن قيد الولاية الّتى للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلّط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصّة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، وقد قيل: إنّهم كانوا يحرّرون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتّى يبلغ الحلم ثمّ يخيّر بين الإقامة والرواح فإن أحبّ أن يقيم أقام، وإن أحبّ الرواح ذهب لشأنه.

وفي الكلام دلالة على أنّها كانت تعتقد أنّ ما في بطنها ذكر لا أناث حيث إنّها تناجى ربّها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني محرّراً من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.

وليس تذكير قوله: محرّراً من جهة كونه حالاً عن ما الموصولة الّتى يستوى فيه المذكّر والمؤنّث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو اُنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزّناً وتحسّراً لما وضعتها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى

١٨٥

ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالاُنثى على ما سيجئ بيانه.

وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أنّ اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسيّة الّتى تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكلّ ذلك ظنّ والظنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلّا مع إبطاله. وقد قال تعالى:( الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) الرعد - ٨ وقال تعالى:( عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام ) لقمان - ٣٤ فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختصّ به تعالى وقال تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى ) الجنّ - ٢٧ فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحى فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختصّ علمه بالله سبحانه يدلّ على أنّ علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحى ولذلك لما تبيّنت أنّ الولد اُنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرّيّة ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.

ومفعول قولها: فتقبّل منّى وإن كان محذوفاً محتملاً لأن يكون هو. نذرها من حيث إنّه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرّر لكن قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرّر.

قوله تعالى: ( فلمّا وضعتها قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى ) في وضع الضمير المؤنّث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلمّا وضعت ما في بطنها وتبيّنت أنّه اُنثى قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى وهو خبر اُريد به التحسّر والتحزّن دون الإخبار وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ولا أنّ الثانية مقولة لها والاُولى

١٨٦

مقولة لله.

أمّا الاُولى فهى ظاهرة لكن لمّا كانت قولها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى مسوقاً لإظهار التحسّر كان ظاهر قوله: والله أعلم بما وضعت أنّه مسوق لبيان أنّا نعلم أنّها اُنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمنّاه بأحسن وجه وأرضى طريق. ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها اُنثى لم تتحسّر ولم تحزن ذاك التحسّر والتحزّن والحال أنّ الذكر الّذى كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الاُنثى الّتى وهبناها لها، ويترتّب عليه ما يترتّب على خلق هذه الاُنثى فإنّ غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيّاً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكنّ هذه الاُنثى ستتمّ به كلمة الله وتلد ولداً بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلّم الناس في المهد، ويكون روحاً وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى مقول له تعالى لا لامرأة عمران. ولو كان مقولاً لها لكان حقّ الكلام أن يقال: وليس الاُنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإنّ من كان يرجو شيئاً شريفاً أو مقاماً عالياً ثمّ رزق ما هو أخسّ منه وأردء إنّما يقول عند التحسّر: ليس هذا الّذى وجدته هو الّذى كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالّذى كنت أرجوه. ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الّذى رزقته البتّة، وظهر من ذلك أنّ اللام في الذكر والاُنثى معاً أو في الاُنثى فقط للعهد.

وقد أخذ أكثر المفسّرين قوله: وليس الذكر كالاُنثى تتمّة قول امرأة عمران، وتكلّفوا في توجيه تقديم الذكر على الاُنثى بما لا يرجع إلى محصّل. من أراده فليرجع إلى كتبهم.

قوله تعالى: ( وإنّى سمّيتها مريم وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم ) معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل. ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنّها لمّا أيست من كون الولد ذكراً محرّراً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدّتها

١٨٧

بالتسمية للعبادة والخدمة. فقولها: وإنّى سمّيتها مريم بمنزلة أن تقول: إنّى جعلت ما وضعتها محرّرة لك. والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً الآية.

ثمّ أعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمّى.

والكلام في قولها: وذرّيّتها من حيث أنّه قول مطلق من شرط وقيد لا يصحّ التفوّه به في حضرة التخاطب ممّن لا علم له به مع أنّ مستقبل حال الإنسان من الغيب الّذى لا يعلمه إلّا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها: ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً على ما تقدّم بيانه فليس إلّا أنّها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثمّ لمّا حملت وتوفّى عمران لم تشكّ أنّ ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ثمّ لمّا وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنّها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحوّلت نذرها من الابن إلى البنت وسمّتها مريم (العابدة، الخادمة) وأعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبّر في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ) القبول إذا قيّد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبّل الّذى معناه القبول عن الرضا فالكلام في معنى قولنا: فتقبّلها ربّها تقبّلاً فإنّما حلّل التقبّل إلى القبول الحسن ليدلّ على أنّ حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.

وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعنى قوله: فتقبّلها إلى قوله: حسناً الجملتان في قولها: وإنّى سمّيتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: فتقبّلها ربّها بقبول حسن قبولاً لقولها وإنّى سمّيتها مريم، وقوله: وأنبتها نباتاً حسناً قبولاً وإجابة لقولها: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم،

١٨٨

فالمراد بتقبّلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرّب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الاُخروي لعملها فإنّ القبول إنّما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنّها مسمّاة بمريم ومحرّرة فيعود معناه إلى اصطفائها (وقد مرّ أنّ معنى الاصطفاء هو التسليم التامّ لله سبحانه) فافهم ذلك.

والمراد بإنباتها نباتاً حسناً أعطاء الرشد والزكاة لها ولذرّيّتها وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرّيّة حياة لا يمسّها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة.

وهذان أعنى القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما الّذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز.

فقد تبيّن أنّ اصطفاء مريم وتطهيرها إنّما هما استجابة لدعوة اُمّها كما أنّ اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: وليس الذكر كالاُنثى.

قوله تعالى: ( وكفّلها زكريّا ) وإنّما كفّلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفّلها ثمّ تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريّا كما يدلّ عليه قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون الآية.

قوله تعالى: ( كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً ) الخ المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت قال الراغب: ومحراب المسجد، قيل: سمّى بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمّى بذلك لكون حقّ إنسان فيه أن يكون حريباً (أي سليباً) من أشغال الدنيا ومن توزّع الخاطر. وقيل الأصل فيه أنّ محراب البيت صدر المجلس ثمّ اتّخذت المساجد فسمّى صدره به وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خصّ به صدر المجلس فسمّى صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد، وكأنّ هذا أصحّ، قال عزّوجلّ: يعملون له ما يشاء من محاريب

١٨٩

وتماثيل. انتهى.

وذكر بعضهم أنّ المحراب هنا هو ما يعبّر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلّم ذى درجات قليلة، ويكون من فيه محجوباً عمّن في المعبد.

أقول: واليه ينتهى اتّخاذ المقصورة في الإسلام.

وفي تنكير قوله: رزقاً إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل: إنّه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف، في الشتاء، ويؤيّده أنّه لو كان من الرزق المعهود وكان تنكيره يفيد أنّه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريّا بقولها: هو من عند الله إنّ الله يرزق الخ في جواب قوله: يا مريم أنّى لك هذا لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممّن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيّئ.

على أنّ قوله تعالى: هنالك دعا زكريّا ربّه الخ يدلّ على أنّ زكريّا تلقّى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهيّة خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرّيّة طيّبة فقد كان الرزق رزقاً يدلّ بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة. وممّا يشعر بذلك قوله تعالى: قال يا مريم الخ على ما سيجئ من البيان.

وقوله: قال يا مريم أنّى لك الخ فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: وجد عندها رزقاً يدلّ على أنّه (عليه السلام) إنّما قال لها ذلك مرّة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أنّ ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربّه ذرّيّة طيّبة.

قوله تعالى: ( هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة ) الخ طيب الشئ ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيّب ما يلائم حياة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك قال تعالى:( والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه ) الأعراف - ٥٨. والعيشة الطيّبة والحياة الطيّبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكيّ فالذرّيّة الطيّبة هو الولد

١٩٠

الصالح لأبيه مثلاً الّذى يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والاُمنيّة فقول زكريّا (عليه السلام) ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة لمّا كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة. فكون ذرّيّته طيّبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصيّة في نفسها ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليهما السلام، وأجمع الناس لما عند عيسى واُمّه مريم الصدّيقة من صفات الكمال والكرامة، ومن هنا ما سمّاه تعالى بيحيى وجعله مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين، وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى ) إلى آخر الآية ضمائر الغيبة والخطاب لزكريّا والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.

وقوله: أنّ الله يبشّرك بيحيى دليل على أنّ تسميته بيحيى إنّما هو من جانب الله سبحانه كما تدلّ عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم قال تعالى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً ) مريم - ٧.

وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشّر به زكريّا قبل تولّد يحيى وخلقه يؤيّد ما ذكرناه آنفاً: أنّ الّذى طلبه زكريّا من ربّه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية واحدة كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

فروعي في يحيى ما روعى فيهما من عند الله سبحانه. وقد روعى في عيسى كمال ما روعى في مريم فالمرعىّ في يحيى هو الشبه التامّ والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كلّه التقدّم التامّ لأنّ وجوده كان مقدّراً قبل استجابة دعوة زكريّا في حقّ يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولى

١٩١

العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنّهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكر الله تعالى من قصّتهما في سورة مريم فقال في يحيى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً - إلى أن قال -يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبيّاً وحناناً من لدنّا وزكاة وكان تقيّاً وبرّاً بوالديه ولم يكن جبّاراً عصيّاً وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً ) مريم - ١٥، وقال في عيسى (عليه السلام):( فأرسلنا إليها روحنا - إلى أن قال -إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً - إلى أن قال -قال ربّك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا - إلى أن قال -فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا قال إنّى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً ) مريم - ٣٣. ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة الّتى نحن فيها عند التطبيق.

و بالجملة فقد سمّاه الله سبحانه يحيى وسمّى ابن مريم عيسى وهو بمعنى (يعيش) على ما قيل وجعله مصدّقاً بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى:( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ) وآتاه الحكم وعلّمه الكتاب صبيّاً كما فعل بعيسى، وعدّه حناناً من لدنه وزكاة وبرّاً بوالديه غير جبّار كما كان عيسى كذلك، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى، وعدّه سيّداً كما جعل عيسى وجيهاً عنده، وجعله حصوراً ونبيّاً ومن الصالحين مثل عيسى، كلّ ذلك استجابة لمسألة زكريّا ودعوته حيث سأل ذرّيّة طيّبة ووليّاً رضيّاً عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مرّ بيانه.

وفي قوله: مصدّقاً بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.

١٩٢

والسيّد هو الّذى يتولّى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حياتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثمّ غلب استعماله في شريف القوم لما أنّ التولّى المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة اُخرى.

والحصور هو الّذى لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهداً.

قوله تعالى: ( قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر ) استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأنّ الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنّه ذكر هذين الوصفين اللّذين جعلهما منشأ للتعجّب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال:( ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً وإنّى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لى من لدنك وليّاً ) مريم - ٥.

لكنّ المقام يمثّل معنى آخر فكأنّه (عليه السلام) لمّا انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكّر انقطاع عقبه لم يشعر إلّا وقد سأل ربّه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثّره وتحزّنه وهو بلوغ الكبر، وكون امرأته عاقراً فلمّا استجيبت دعوته وبشّر بالولد كأنّه صحا وأفاق ممّا كان عليه من الحال، وأخذ يتعجّب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيّره إلى نظرة التعجّب المشوب بالسرور.

على أنّ ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفيّة رفع واحد واحد منها إنّما هو طلب تفهّم خصوصيّات الإفاضة والأنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرّيّة قال تعالى:( ونبّئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنّا منكم وجلون قالوا لا توجل إنّا نبشّرك بغلام عليم قال أبشّرتموني على أن مسّني الكبر فبم تبشّرون قالوا بشّرناك بالحقّ فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالّون ) الحجر - ٥٦

١٩٣

فذكر في جواب نهى الملائكة إيّاه عن القنوط أنّ استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضالّ والقنوط ضلالة بل السيّد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والاُنس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذّذه من كلّ حديث وتمتّعه في كلّ باب.

وفي قوله: وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنّه كناية عن أنّه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً فإنّ ذلك ظاهر قوله: وكانت امرأتي عاقراً ولم يقل: وامرأتي عاقر.

قوله تعالى: ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الّذين كانوا ينادونه فالقول على أيّ حال قوله تعالى لكنّ الظاهر أنّه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنّه بأمره والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصّة:( قال كذلك قال ربّك هو علي هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ) مريم - ٩.

ومنه يظهرأوّلا: أنّه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أوّلاًوثانياً: أنّ قوله: كذلك خبر لمبتدء محذوف والتقدير: الأمر كذلك أي الّذي بشّرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الّذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن - إلى أن قال -وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١وثالثاً: أنّ قوله: الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك.

قوله تعالى: ( قال ربّ اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزاً ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الرمز الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء

١٩٤

بالحاجب والعين واليد، والأوّل أغلب، انتهى. والعشيّ الطرف المؤخّر من النهار وكأنّه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة. والإبكار صدر النهار والطرف المقدّم منه، والأصل في معناه الاستعجال.

ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنّها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولّده:( فإمّا تريّن من البشر أحداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً ) مريم - ٢٦.

وسؤاله (عليه السلام) من ربّه أن يجعل له آية - والآية هي العلامة الدالّة على الشئ - هل هو ليستدلّ به على أنّ البشارة إنّما هي من قبل ربّه، وبعبارة اُخرى هو خطاب رحمانيّ ملكيّ لا شيطانيّ ؟ أو لأنّه أراد أن يستدلّ بها على حمل امرأته، ويعلم وقت الحمل ؟ خلاف بين المفسّرين.

والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصّة لكن الّذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أوّل الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أنّ الخطاب رحمانيّ هو ما ذكروه: أنّ الأنبياء لعصمتهم لا بدّ أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتّى يختلط عليهم طريق الإفهام.

وهو كلام حقّ لكن يجب أن يعلم أنّ تعرّفهم إنّما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرّف زكريّا من ربّه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأيّ محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعاؤه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محلّه.

على أنّ خصوصيّة نفس الآية - وهي عدم التكليم ثلاثة أيّام - تؤيّد بل تدلّ على ذلك فإنّ الشيطان وإن أمكن أن يمسّ الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف

١٩٥

أعداء الدين كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وأذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسنّي الشيطان بنصب وعذاب ) ص - ٤١، وقوله تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في اُمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمّ يحكم الله آياته الآية ) الحجّ - ٥٢، وقوله تعالى:( فإنّي نسيت الحوت وما إنسانيّه إلّا الشيطان ) الكهف - ٦٣.

لكنّ هذه وأمثالها من مسّ الشيطان وتعرّضه لا تنتج إلّا إيذاء النبيّ وأمّا مسّه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك وقد مرّ في ما تقدّم من المباحث إثبات عصمتهم عليهم السلام.

والّذي جعله الله تعالى آيه لزكريّا على ما يدلّ عليه قوله: آيتك أن لا تكلّم الناس ثلثه أيّام إلّا رمزاً واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشي والإبكار هو أنّه كان لا يقدر ثلثه أيّام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلّا بذكر الله وتسبيحه، وهذه آية واقعة على نفس النبيّ ولسانه وتصرّف خاصّ فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلّا رحمانيّاً. وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأوّل دون الوجه الثاني.

فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله: قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإنّ ظاهره أنّه خاطب ربّه وسأله ما سأل ثمّ اُجيب بما اُجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكّاً في أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكّاً عندئذ فما معنى سؤال التمييز ؟

قلت: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنّت نفسه على كون النداء رحمانيّاً من جانب الله ثمّ يسأل ربّه من كيفيّة الولادة الّتي كانت تتعجّب منه نفسه الشريفة كما مرّ فيجاب بنداء آخر ملكيّ تطمئنّ إليه نفسه ثمّ يسأل ربّه آية توجب اليقين بأنّه كان رحمانيّاً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة.

وممّا يؤيّد ذلك قوله تعالى: فنادته الملائكة فإنّ النداء إنّما يكون من

١٩٦

بعيد ولذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريّا:( إذ نادى ربّه ندائاً خفيّاً ) مريم - ٣ فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلّل. زكريّا وتواضعه قبال تعزّز الله سبحانه وترفّعه وتعاليه ثمّ وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريّا لم ير الملك نفسه، وإنّما سمع صوتاً يهتف به هاتف.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيّام، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه. قال: الصواب أنّ زكريّا أحبّ بمقتضى الطبيعة البشريّة أن يتعيّن لديه الزمن الّذي ينال به تلك المنحة الإلهيّة ليطمئنّ قلبه ويبشّر أهله فسأل عن الكيفيّة، ولمّا اُجيب بما اُجيب به سأل ربّه أن يخصّه بعبادة يتعجّل بها شكره، ويكون إتمامه إيّاها آية وعلامة على حصول المقصود فأمره بأن لا يكلّم الناس ثلاثه أيّام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مدّة ثلاثه أيّام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضيّ الثلاث الليال. انتهى.

وأنت خبير بأنّه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة، وانتهائها إلى حصول المقصود، وكون انتهائها هو الآية، وكون قوله: أن لا تكلّم مسوقاً للنهي التشريعيّ وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.

( كلام في الخواطر الملكيّة والشيطانيّة وما يلحق بها من التكليم)

قد مرّ كراراً أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، وأنّ القول أو الكلام مثلاً إنّما يسمّى به الصوت لإفادته معنى مقصوداً يصحّ السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعدّدةً مؤلّفةً أو غير صوت كالإيماء والرمز، والناس لا يتوقّفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامّة كلاماً وإن لم يخرج عن شقّ فم، وكذلك في تسمية الإيماء

١٩٧

قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.

والقرآن أيضاً يسمّي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان:( ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ) النساء - ١١٩ وقال:( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ) الحشر - ١٦ وقال:( يوسوس في صدور الناس ) الناس - ٥ وقال:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) الأنعام - ١١٢ وقال أيضاً حكاية عن إبليس:( إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم ) إبراهيم - ٢٢ وقال:( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) البقرة - ٢٦٩. ومن الواضح أنّ هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، وسمّيت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شقّ فم ولا تحريك لسان.

ومن هنا يعلم: أنّ ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكيّ في قبال الوسوسة من الشيطان، وقد سمّاه تعالى الحكمة، ومثلها قوله تعالى:( ويجعل لكم نوراً تمشون به ) الحديد - ٢٨ وقوله:( هو الّذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض ) الفتح - ٤ وقد مرّ بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى:( فيه سكينة من ربّكم ) البقرة - ٢٤٨، وكذا قوله:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كإنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الأنعام - ١٢٥. وقد سمّى الوسوسة رجزاً فقال:( رجز الشيطان ) الأنفال - ١١ فمن جميع ذلك يظهر أنّ الشياطين والملائكة يكلّمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.

وهنا قسم آخر من التكليم يختصّ به تعالى كما ذكره بقوله:( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب الآية ) الشورى - ٥١ فسمّاه تكليماً وقسمّه إلى الوحي، وهو الّذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلّم، وإلى التكليم

١٩٨

من وراء حجاب. هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.

أمّا كلام الله سبحانه المسمّى بالوحي فهو متميّز متعيّن بذاته فإنّ الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربّه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر. وأمّا غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.

وأمّا الكلام الملكي والشيطانيّ فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإنّ الخاطر الملكيّ يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل، وينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبيّن في كتابه وسنّة نبيّه، والخاطر الشيطانيّ يلازم تضيّق الصدر وشحّ النفس ويدعو إلى متابعة الهوى، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء وبالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنّة، ويخالف الفطرة.

ثمّ إنّ الأنبياء ومن يتلوهم ربّما تيسّر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميّز، وأمّا مع عدم المشاهدة فلا بدّ من استعماله كسائر المؤمنين، وينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكراً سويّاً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل. فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك وهي اُمّ مريم فلمّا حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى، وليس الذكر كالاُنثى لا تكون البنت رسولاً. يقول الله: والله أعلم بما وضعت فلمّا وهب الله لمريم عيسى كان هو الّذي بشّر به

١٩٩

عمران ووعده إيّاه فإذا قلنا في الرجل منّا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

أقول: وروى قريباً منه في الكافي عنه (عليه السلام) وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر (عليه السلام).

وفي تفسير العيّاشيّ في الآية عن الصادق (عليه السلام): أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى وليس الذكر كالاُنثى إنّ الاُنثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرّر لا يخرج من المسجد.

وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العبّاد، وليس الذكر كالاُنثى في الخدمة. قال: فشبّت وكانت تخدمهم وتناولهم حتّى بلغت فأمر زكريّا أن تتّخذ لها حجاباً دون العبّاد.

أقول: والروايات كما ترى تنطبق على ما قدّمناه في البيان السابق إلّا أنّ ظاهرها: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى، ويبقى عليه وجه تقديم الذكر على الاُنثى في الجملة، مع أنّ مقتضى القواعد العربيّة خلافه. وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، وقد مرّ أنّه في معنى التحرير إلّا أن يفرّق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمّل.

وفي الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيّاً يوحي إليه، ويدلّ عليه ما في البحار عن أبي بصير قال سألت أباجعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبيّاً ؟ فقال نعم كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه، الحديث.

وتدلّ الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران: حنّة، وهو المشهور، وفي بعض الروايات: مرثار. ولا يهمّنا البحث عن ذلك.

وفي تفسير القمّيّ في ذيل الرواية السابقة: فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب، وأرخت على نفسها ستراً، وكان لا يراها أحد، وكان يدخل عليها زكريّا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: أنّى لك هذا فتقول: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

٢٠٠

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أنّ آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثه أيّام فلمّا أمسك لسانه ولم يتكلّم علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الله وذلك قول الله ربّ اجعل لي آية.

اقول: وروى قريباً منه القمّيّ في تفسيره وقد عرفت فيما تقدّم أنّ سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.

وبعض المفسّرين شدّد النكير على ما تضمّنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها، وكون سؤال زكريّا للآية للتمييز فقال: إنّ هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها، ولا رسوله قالها، ولا هي ممّا يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتدّ به، وليس هناك إلّا روايات إسرائيليّة وغير إسرائيليّة، ولا موجب للتكلّف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.

وهو منه كلام من غير حجّة، والروايات وإن كانت آحاداً غير خالية عن ضعف الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها، والاحتجاج بما فيها لكنّ التدبّر في الآيات يقرّب الذهن منها، والّذي نقل منها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.

نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسّرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة: أنّ الشيطان جاء إلى زكريّا وشكّكه في كون البشارة من الله تعالى، وقال: لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوّز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أنّ جبرئيل قال لزكريّا( وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الّذي يكون فيه هذا لأنّك لم تصدّق كلامي الّذي سيتمّ في وقته) إنجيل لوقا ١ – ٢٠

٢٠١

( بحث روائي آخر)

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام): ما من قلب إلّا وله اُذنان على إحداهما ملك مرشد، وعلى الأخرى شيطان مفتّن: هذا يأمره وهذا يزجره الشيطان يأمره بالمعاصى، والملك يزجره عنها، وذلك قول الله عزّوجلّ: ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد عن اليمين وعن الشمال قعيد.

أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها. وتطبيقه (عليه السلام) الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إيّاها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيّئات في رواية اُخرى فإنّ الآية لا تدلّ على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلّم به، وأنّه متعدّد عن يمين الإنسان وشماله، وأمّا أنّه من الملائكة محضاً أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كلّ من المحتملين.

وفيه أيضاً عن زرارة قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الرسول وعن النبيّ وعن المحدّث. قال: الرسول الّذى يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول: يأمرك كذا وكذا، والرسول يكون نبيّاً مع الرسالة، والنبيّ لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه. قلت: فما علمه أنّ الّذي في منامه حقّ؟ قال: يبيّنه الله حتّى يعلم أنّ ذلك حقّ، ولا يعاين الملك، الحديث.

اقول: قوله: والرسول يكون نبيّاً إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد تقدّم الكلام في معنى الرسالة والنبوّة في تفسير قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله الآية ) البقرة - ٢١٣.

وقوله: فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام، وأنّ معناه الغيبة عن الحسّ دون المنام المعروف. وقوله: يبيّنه الله الخ إشارة إلى التمييز بين الإلقاء الملكىّ والشيطانىّ بما بيّنه الله من الحقّ.

٢٠٢

وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول والنبىّ والمحدّث؟ قال الرسول الّذي يظهر الملك فيكلّمه، والنبيّ يرى في المنام، وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد، والمحدّث الّذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة. قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أنّ الّذي رأى في المنام هو الحقّ وأنّه من الملك؟ قال: يوفّق لذلك حتّى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيّكم الأنبياء، الحديث.

اقول: وهو في مساق الحديث السابق، وبيانه (عليه السلام) واف بتمييز المحدّث ما يسمعه من صوت الهاتف، وفي قوله: لقد ختم الله الخ إشارة إلى ذلك، وسيأتي الكلام في المحدّث في ذيل الآيات التالية.

٢٠٣

( سورة آل عمران الآيات ٤٢ - ٦٠)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى‏ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ( ٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ( ٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الْدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ( ٤٥) وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ( ٤٦) قَالَتْ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى‏ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( ٤٧) وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ( ٤٨) وَرَسُولاً إِلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ أَنّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( ٤٩) وَمُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُم بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ فَاتّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ( ٥٠) إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ( ٥١) فَلَمّا أَحَسّ عِيسَى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إَلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ( ٥٢) رَبّنَا

٢٠٤

آمَنّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ( ٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( ٥٤) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى‏ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( ٥٥) فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٥٦) وَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ( ٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ( ٥٨) إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ( ٥٩) الْحَقّ مِن رَبّكَ فَلاَ تَكُن مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٦٠)

( بيان)

قوله تعالى: ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله أصطفاك وطهّرك ) الجملة معطوفة على قوله: إذ قالت امرأة عمران فتكون شرحاً مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى: إنّ الله اصطفى الآية.

وفي الآية دليل على كون مريم محدّثة تكلّمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدلّ عليه أيضاً قوله في سورة مريم: فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً إلى آخر الآيات، وسيأتي الكلام في المحدّث.

وقد تقدّم في قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن الآية: أنّ ذلك بيان لاستجابة دعوة أمّ مريم: وإنّي سمّيتها مريم: وإنّي اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم، الآية وأنّ قول الملائكة لمريم: إنّ الله اصطفاك وطهّرك إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.

٢٠٥

فاصطفاؤها تقبّلها لعبادة الله، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة، وربّما قيل: إنّ المراد من تطهيرها جعلها بتولاً لا تحيض فيتهيّأ لها بذلك أن لا تضطرّ إلى الخروج من الكنيسة، ولا بأس به غير أنّ الّذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.

قوله تعالى: ( واصطفاك على نساء العالمين ) قد تقدّم في قوله تعالى: إنّ الله اصطفى إلى قوله: على العالمين أنّ الاصطفاء المتعدّي بعلى يفيد معنى التقدّم، وأنّه غير الاصطفاء المطلق الّذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهنّ.

وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك الآية وقوله تعالى:( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١ وقوله تعالى:( ومريم ابنة عمران الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) التحريم - ١٢ حيث لم تشتمل ممّا تختصّ بها من بين النساء إلّا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أنّ هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.

وأمّا ما اشتملت عليه الآيات في قصّتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه، والقنوت وكونها محدّثة فهي اُمور لا تختصّ بها بل يوجد في غيرها، وأمّا ما قيل: إنّها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.

قوله تعالى: ( يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ) القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل. والسجدة معروفة. والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلّل.

ولمّا كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى (اسم مفعول) وتوجيه فهمه نحو المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إنّ لك عندنا نبأ

٢٠٦

بعد نبإ فاستمعي لهما وأصغي اليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله والثاني ما يلزمك من وظيفة العبوديّة بالمحاذاة، وهو ما لله سبحانه عندك فيكون هذا إيفائاً للعبوديّة وشكراً للمنزلة فيؤل معنى الكلام إلى كون قوله: يا مريم اقنتي الخ بمنزلة التفريع لقوله: يا مريم إنّ الله اصطفيك الخ أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين. ولا يبعد أن يكون كلّ واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعاً لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمّل.

قوله تعالى: ( ذلك من أنبآء الغيب ) نوحيه إليك عدّه من أنباء الغيب نظير ما عدّت قصّة يوسف (عليه السلام) من أنباء الغيب الّتي توحي إلى رسول الله قال تعالى:( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) يوسف - ١٠٢ وأمّا ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرّفين كما أنّ كثيراً من الخصوصيّات المقتصّة في قصص زكريّا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.

ويؤيّد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: وما كنت لديهم إذ يلقون الخ.

على أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقومه كانوا اُمّيّين غير عالمين بهذه القصص ولا أنّهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصّة نوح:( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) هود - ٤٩ والوجه الأوّل أوفق بسياق الآية.

قوله تعالى: ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم ) الخ القلم بفتحتين القدح الّذي يضرب به القرعة، ويسمّى سهماً أيضاً، وجمعه أقلام. فقوله: يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعيّنوا بالقرعة أيّهم يكفل مريم.

وفي هذه الجملة دلالة على أنّ الاختصام الّذي يدلّ عليه قوله: وما كنت

٢٠٧

لديهم إذ يختصمون إنّما هو اختصامهم وتشاحّهم في كفالة مريم، وأنّهم لم يتناهوا حتّى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريّا فكفّلها بدليل قوله: فكفّلها زكريّا الآية.

وربّما احتمل بعضهم أنّ هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريّا عن كفالتها. وكأنّ منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصّة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريّا في أثنائها. فيكونان واقعتين اثنتين.

وفيه أنّه لا ضير في إعادة بعض خصوصيّات القصّة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصّة يوسف حيث قال تعالى - بعد تمام القصّة -:( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) يوسف - ١٠٢ يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصّة:( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة - إلى أن قال -لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجبّ يلتقطه بعض السيّارة إن كنتم فاعلين ) يوسف - ١٠.

قوله تعالى: ( إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك ) إلخ الظاهر أنّ هذه البشارة هي الّتى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً قالت إنّى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً الآيات ) مريم - ١٩ فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.

وقد قيل في وجهه أنّ المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبّر بالجمع عن الواحد تعظيماً لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدوابّ وركب السفن، وإنّما ركب دابّة واحدة وسفينة واحدة، ويقال: قال له الناس كذا، وإنّما قاله واحد وهكذا ونظير الآية قوله في قصّة زكريّا السابقة: فنادته الملائكة ثمّ قوله: قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية.

وربّما قيل: إنّ جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.

٢٠٨

والّذى يعطيه التدبّر في الآيات الّتى تذكر شأن الملائكة أنّ بين الملائكة تقدّماً وتأخّراً من حيث مقام القرب، وأنّ للمتأخّر التبعيّة المحضة لأوامر المتقدّم بحيث يكون فعل المتأخّر رتبة، عين فعل المتقدّم وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدّد فيه تقول: رأته عيناى وسمعته أذناى، ورأيته وسمعته، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدى ورسمته أناملي وفعلته أنا وكتبته أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، وقوله قولهم من غير اختلاف، وبالعكس كما أنّ فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله. كما قال تعالى:( الله يتوفّى الأنفس حين موتها ) الزمر - ٤٢ فنسب التوفّى إلى نفسه وقال:( قل يتوفّيكم ملك الموت الّذى وكلّ بكم ) السجدة - ١١ فنسبه إلى ملك الموت وقال:( حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفّته رسلنا ) الأنعام - ٦١ فنسبه إلى جمع من الملائكة.

ونظيره قوله تعالى:( إنّا أوحينا إليك ) النساء - ١٦٣ وقوله:( نزل به الروح الأمين على قلبك ) الشعراء - ١٩٤ وقوله:( من كان عدوّاً لجبريل فإنّه نزّله على قلبك ) البقرة - ٩٧ وقوله:( كلّا إنّها تذكرة فمن شاه ذكره في صحف مكرّمة مرفوعة مطهّرة بأيدى سفرة كرام بررة ) عبس - ١٦.

فظهر أنّ بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقرّبيهم على ما يدلّ عليه قوله تعالى:( إنّه لقول رسول كريم ذى قوّة عند ذى العرش مكين مطاع ثمّ أمين ) التكوير - ٢١ وسيأتى زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إنشاء الله تعالى.

ويؤيّد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: قال كذلك الله يفعل ما يشاء فإنّ ظاهره أنّ القائل هو الله سبحانه مع أنّه نسب هذا القول في سورة مريم في القصّة إلى الروح قال تعالى:( قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً قالت أنّي يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً قال كذلك قال ربّك هو

٢٠٩

علىّ هيّن الآيات ) مريم - ٢١.

وفي تكلّم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدّثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصّة بعينها:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً ) مريم - ١٧ يدلّ على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، وسيجئ تمام الكلام في المعنى في البحث الروائيّ الّتي إنشاء الله.

قوله تعالى: ( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ) قد مرّ البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله:( تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض ) البقرة - ٢٥٣.

والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدالّ على المعنى، وعلى الجملة سواء صحّ السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصحّ مثل إن كان زيد قائماً هذا بحسب اللغة. وأمّا بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الّذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشئ أراده: كن، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.

وأمّا المراد بالكلمة فقد قيل: إنّ المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أنّ من سبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشّروا به بعنوان أنّه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد: هذه كلمتي الّتي كنت أقولها. ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى عليه السللام:( وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) الأعراف - ١٣٧. وفيه أنّ ذلك وإن كان ربّما ساعده كتب العهدين لكنّ القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعدّ عيسى بن مريم مبشّراً لا مبشّراً به. على أنّ سياق قوله: اسمه المسيح لا يناسبه فإنّ الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلاً لا نفس عيسى، وظاهر قوله: اسمه المسيح أنّ المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدّمت في حقّه الكلمة.

وربّما قيل: إنّ المراد به عيسى (عليه السلام) لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، وبيانه

٢١٠

تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل:( ولاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه ) الزخرف - ٦٣ وفيه أنّه نكتة تصحّح هذا التعبير لكنّها خالية عمّا يساعدها من القرائن.

وربّما قيل: إنّ المراد بكلمة منه: البشارة نفسها، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله: يبشّرك بكلمة منه: يبشّرك ببشارة هي أنّك ستلدين عيسى من غير مسّ بشر. وفيه أنّ سياق الّذيل أعني قوله: اسمه المسيح لا يلائمه وهو ظاهر.

وربّما قيل: إنّ المراد به عيسى (عليه السلام) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن وإنّما اختصّ عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كلّ إنسان بل كلّ شئ موجوداً بكلمة كن التكوينيّة لأنّ سائر الأفراد من الإنسان يجرى ولادتهم على مجرى الأسباب العاديّة المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، وعمل العوامل المقارنة في ذلك، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسبّبات إلى أسبابها، ولمّا لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العاديّة التدريجيّة كان وجوده بمجرّد كلمة التكوين من غير تخلّل الأسباب العاديّة فكان نفس الكلمة كما يؤيّده قوله تعالى:( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) النساء - ١٧١ وقوله تعالى في آخر هذه الآيات:( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون الآية ) وهذا أحسن الوجوه.

والمسيح هو الممسوح سمّي به عيسى (عليه السلام) لأنّه كان مسيحاً باليمن والبركه أو لأنّه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون به أو لأنّ جبرئيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنّه كان يمسح رؤس اليتامى، أو لأنّه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنّه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلّا برء. فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.

لكن الّذي يمكن أن يعوّل عليه أنّ هذا اللفظ كان واقعاً في ضمن البشارة

٢١١

الّتي بشّر بها جبرئيل مريم (عليه السلام) على ما يحكيه تعالى بقوله:( إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ) وهذا اللفظ بعينه معرّب( مشيحا) الواقع في كتب العهدين.

والّذى يستفاد منها أنّ بني إسرائيل كان من دأبهم أنّ الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدّس ليبارك له في ملكه فكان يسمّى مشيحا فمعناه: إمّا الملك وإمّا المبارك.

وقد يظهر من كتبهم أنّه (عليه السلام) إنّما سمّي مشيحا من جهة كون بشارته متضمّناً لملكه، وأنّه سيظهر في بني إسرائيل ملكاً عليهم منجياً لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال:( فلمّا دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الربّ معك مباركة أنت في النساء. فلمّا رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما هذا السلام. فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله. وأنت تحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العليّ يدعى ويعطيه الربّ له كرسيّ داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء) لوقا ١ - ٣٤.

ولذلك تتعلّل اليهود عن قبول نبوّته بأنّ البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) لأنّه لم ينل الملك أيّام دعوته وفي حياته. ولذلك أيضاً ربّما وجّهته النصارى وتبعه بعض المفسّرين من المسلمين بأنّ المراد بملكه الملك المعنويّ دون الصوريّ.

أقول: وليس من البعيد أن يقال: إنّ تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركاً فإنّ التدهين عندهم إنّما كان للتبريك، ويؤيّده قوله تعالى:( قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت ) مريم - ٣١.

وعيسى أصله يشوع فسّروه بالمخلّص وهو المنجي، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريّا بيحيى على ما مرّ من المشابهة التامّة بين هذين النبيّين.

٢١٢

وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنّه مخلوق من غير أب، ويكون معروفاً بهذا النعت، وأنّ مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

قوله تعالى: ( وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ) الوجاهة هي المقبوليّة، وكونه (عليه السلام) مقبولاً في الدنيا ممّا لا خفاء فيه، وكذا في الآخرة بنصّ القرآن.

ومعنى المقرّبين ظاهر فهو مقرّب عند الله داخل في صفّ الأولياء والمقرّبين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله:( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدالله ولا الملائكة المقرّبون ) النساء - ١٧٢. وقد عرّف تعالى معنى التقريب بقوله:( إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال -وكنتم أزواجاً ثلاثة - إلى أن قال -والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون ) الواقعة - ١١ والآية كما ترى تدلّ على أنّ هذا التقرّب وهو تقرّب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الّذي سلوكه مكتوب على كلّ إنسان بل كلّ شئ قال تعالى:( يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه ) الانشقاق - ٦ وقال تعالى:( ألا إلى الله تصير الأمور ) الشورى - ٥٣.

وأنت إذا تأمّلت كون المقرّبين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنّه لا يلزم أن يكون مقاماً اكتسابيّاً فإنّ الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعلّه مقام تناله المقرّبون من الملائكة بهبة إلهيّه والمقرّبون من الإنسان بالعمل.

وقوله وجيهاً في الدنيا والآخرة حال، وكذا ما عطف عليه من قوله: ومن المقرّبين، ويكلّم، ومن الصالحين، ويكلّمه، رسولاً.

قوله تعالى: ( ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ) ، المهد ما يهيّأ للصبيّ من الفراش والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلاً تامّاً قويّاً، ولذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، وربّما قيل: إنّ الكهل من بلغ أربعاً وثلاثين.

٢١٣

وكيف كان ففيه دلالة على أنّه سيعيش حتّى يبلغ سنّ الكهولة ففيه بشارة اُخرى لمريم.

وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنّه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه، ولذا ربّما قيل: إنّ تكليمه للناس كهلاً إنّما هو بعد نزوله من السماء فإنّه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سنّ الكهولة. وربّما قيل: إنّ الّذي يعطيه التاريخ بعد التثبّت أنّ عيسى (عليه السلام) عاش نحواً من أربع وستّين سنه خلافاً لما يظهر من الأناجيل.

والّذي يظهر من سياق قوله: في المهد وكهلاً أنّه لا يبلغ سنّ الشيخوخة، وإنّما ينتهي إلى سنّ الكهولة، وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبي والكهولة.

والمعهود من وضع الصبيّ في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالباً. وهو سنّ الكلام فكلام الصبيّ في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنّه يكلّم الناس في المهد كلاماً تامّاً يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، وبعبارة أخرى يكلّمهم في المهد كما يكلّمهم كهلاً، والكلام من الصبيّ بهذه الصفة آية خارقة.

على أنّ القصّة في سورة مريم تبيّن أن تكليمه الناس إنّما كان لأوّل ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبيّ لأوّل يوم ولادته آية خارقة لا محالة قال تعالى:( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت اُمّك بغيّاً فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت الآيات ) مريم - ٣١.

قوله تعالى: ( قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) خطابها لربّها

٢١٤

مع كون المكلّم إيّاها الروح المتمثّل بنائاً على ما تقدّم أنّ خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أنّ الّذي يكلّمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجّهاً إليها من جهة الروح المتمثّل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربّها.

ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى:( قال ربّ ارجعون ) المؤمنون - ٩٩ فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.

قوله سبحانه: ( قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون ) قد مرّت الإشارة إلى أنّ تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١ يفيد أن يكون قوله هيهنا كذلك كلاماً تامّاً تقديره: الأمر كذلك ومعناه أنّ الّذي بشّرت به أمر مقضيّ لا مردّ له.

وأمّا التعجّب من هذا الأمر فإنّما يصحّ لو كان هذا الأمر ممّا لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشقّ: أمّا القدرة فإنّ قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء، وأمّا صعوبته ومشقّته فإنّ العسر والصعوبة إنّما يتصوّر إذا كان الأمر ممّا يتوسّل إليه بالأسباب فكلّما كثرت المقدّمات والأسباب وعزّت وبعد منالها اشتدّ الأمر صعوبة، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

فقد ظهر أنّ قوله: كذلك كلام تامّ أريد به رفع اضطراب مريم وتردّد نفسها وقوله: الله يخلق ما يشاء رفع العجز الّذي يوهمه التعجّب، وقوله: إذا قضى رفع لتوهّم العسر والصعوبة.

قوله تعالى: ( ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) اللام في الكتاب والحكمة للجنس. وقد مرّ أنّ الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلّقة بالاعتقاد أو العمل، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد

٢١٥

بعد الجنس لأهمّيّة في اختصاصه بالذكر. وليست لاُمّ الكتاب للاستغراق لقوله تعالى:( ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال قد جئتكم بالحكمة ولاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه فاتّقوا الله وأطيعون ) الزخرف - ٦٣ وقد مرّ بيانه.

وأمّا التوراة فالّذي يريده القرآن منها هو الّذي نزّله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصّه الله سبحانه في سورة الأعراف، وأمّا الّذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتّصال السند ما بين بختنصّر من ملوك بابل وكورش من ملوك الفرس، غير أنّ القرآن يصدّق أنّ التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلّيّة وإن لعبت بها يد التحريف، ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

وأمّا الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدلّ على أنّه كان كتاباً واحداً نازلاً على عيسى فهو الوحي المختصّ به قال تعالى:( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس ) آل عمران - ٤ وأمّا هذه الأناجيل المنسوبة إلى متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا فهي كتب مؤلّفة بعده (عليه السلام).

ويدلّ أيضاً على أنّ الأحكام إنّما هي في التوراة وأنّ الإنجيل لا تشتمل إلّا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ولأحّل لكم بعض الّذي حرّم عليكم الآية وقوله:( وآتيناه الإنجيل فيه هدىً ونور ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة للمتّقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) المائدة - ٤٧ ولا يبعد أن يستفاد من الآية أنّ فيه بعض الأحكام الإثباتيّة.

ويدلّ أيضاً على أنّ الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالتوراة. قال تعالى:( الّذين يتّبعون الرسول النبيّ الاُمّيّ الّذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ) الأعراف - ١٥٧.

٢١٦

قوله تعالى: ( ورسولاً إلى بني إسرائيل) ظاهره أنّه (عليه السلام) كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصّة كما هو اللائح من الآيات في حقّ موسى (عليه السلام) وقد مرّ في الكلام على النبوّة في ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله النبيّين الآية ) البقرة - ٢١٣ أنّ عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافّة.

لكنّ العقدة تنحلّ بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبيّ أنّ النبوّة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصّة الّتي تستتبع الحكم والقضاء بالحقّ بين الناس، إمّا بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى:( ولكلّ اُمّة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط ) يونس - ٤٧.

وبعبارة اُخرى النبيّ هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، والرسول هو المبعوث لادّاء بيان خاصّ يستتبع ردّه الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيّده بل يدلّ عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم عليهم السلام.

وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاصّ البعثة إليهم، وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاصّ نبيّاً مبعوثاً إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى عليهم السلام.

وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون قال تعالى:( اذهب إلى فرعون إنّه طغى ) طه - ٢٤ وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل. قال تعالى:( قالوا آمنّا بربّ هارون وموسى ) طه - ٧٠ ودعوة قوم فرعون قال تعالى:( ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم ) الدخان - ١٧. ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه السلام) قبل بعثة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الروم وأمم عظيمة من الغربيّين كالإفرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيّين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل،

٢١٧

والقرآن لم يخصّ - فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصّة بالذكر بل يعمّم مدحه أو ذمّه الجميع.

قوله تعالى: ( أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين - إلى قوله -واُحيي الموتى بإذن الله ) الخلق جمع أجزاء الشئ وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:( فتبارك الله أحسن الخالقين ) المؤمنون - ١٤.

والأكمه هو الّذي يولد مطموس العين، وقد يقال لمن تذهب عينه. قال: كمهت عيناه حتّى ابيضّتا، قاله الراغب. والأبرص من كان به برص وهو مرض جلدىّ معروف.

وفي قوله: واُحيي الموتى حيث علّق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقلّ من الإشعار بالكثرة والتعدّد.

وكذا قوله: بإذن الله سيق للدلالة على أنّ صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقلّ عيسى (عليه السلام) بشئ من ذلك، وإنّما كرّر تكراراً يشعر بالإصرار لما كان من المترقّب أن يضلّ فيه الناس فيعتقدوا باُلوهيّته استدلالاً بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام) ولذا كان يقيّد كلّ آية يخبر بها عن نفسه ممّا يمكن أن يضلّوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثمّ ختم الكلام بقوله: إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.

وظاهر قوله: أنّي أخلق لكم الخ أنّ هذه الآيات كانت تصدر عنه صدوراً خارجيّاً لا أنّ الكلام مسوق لمجرّد الاحتجاج والتحدّي، ولو كان مجرّد قول لقطع العذر وإتمام الحجّة لكان من حقّ الكلام أن يقيّد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.

على أنّ ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدلّ على وقوع هذه الآيات أتمّ الدلالة قال:( إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك - إلى أن قال -وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون

٢١٨

طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى الآية ) المائدة - ١١٠.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ قصارى ما تدلّ عليه الآية أنّ الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السرّ، وأنّه احتجّ على الناس بذلك، وأتمّ الحجّة عليهم بحيث لو سألوه شيئاً من ذلك لآتى به أمّا أنّ كلّها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.

قوله تعالى: ( وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ) وهذا إخبار بالغيب المختصّ بالله تعالى ومن خصّه من رسله بالوحي، وهو آية اُخرى وإخبار بغيب صريح التحقّق لا يتطرّق إليه الشكّ والريب فإنّ الإنسان لا يشكّ عادة فيما أكله ولا فيما ادّخره في بيته.

وإنّما لم يقيّد هذه الآية بإذن الله مع أنّ الآية لا تتحقّق إلّا بإذن منه تعالى كما قال:( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّا بإذن الله ) المؤمن - ٧٨ لأنّ هذه الآية عبّر عنها بالإنباء وهو كلام قائم بعيسى (عليه السلام) يعدّ فعلاً له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والإحياء فإنّها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلّا بإذنه.

على أنّ الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإنّ الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه في الإنباء فإنّ القلوب الساذجة تقبل اُلوهيّة خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف اُلوهيّة من يخبر بالمغيّبات فإنّها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمراً مبتذلاً جايز النيل لكلّ مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيّد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، وكذا الإبراء فيكفي فيها مجرّد ذكر أنّها آية من الله، وخاصّة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدّعون أنّهم مؤمنون، ولذلك ذيل الكلام بقوله: إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.

٢١٩

قوله تعالى: ( ومصدّقاً لما بين يدىّ من التوراة ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم ) عطف على قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل، وكون المعطوف مبنيّاً على التكلّم مع كون المعطوف عليه مبنيّاً على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام) في قوله: ومصدّقاً لما بين يديّ متكلّماً وفي قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل غائباً ليس ممّا يضرّ بالعطف بعد تفسير قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل بقول عيسى: أنّي قد جئتكم فإنّ وجه الكلام يتبدّل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.

وتصديقه للتوراة الّتي بين يديه إنّما هو تصديق لما علّمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى عليهما السلام فلا دلالة لكونه مصدّقاً للتوراة الّتي في زمانه على كونها غير محرّفة كما لا دلالة لتصديق نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للتوراة الّتي بين يديه على كونها غير محرّفة.

قوله تعالى: ( ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم ) فإنّ الله تعالى كان حرّم عليهم بعض الطيّبات. قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠.

والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلّا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقّة المكتوبة على اليهود، ولذا قيل: إنّ الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، وقوله: ولاُحلّ معطوف على قوله: بآية من ربّكم واللام للغاية. والمعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرّمة المكتوبة عليكم.

قوله تعالى: ( وجئتكم بآية من ربّكم ) الظاهر أنّه لبيان أنّ قوله: فاتّقوا الله وأطيعون متفرّع على إتيان الآية لا على إحلال المحرّمات فهو لدفع الوهم، ويمكن أن يكون هو مراد من قال: إنّ إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرّد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.

قوله تعالى: ( إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه ) فيه قطع لعذر من اعتقد اُلوهيّته لتفرّسه (عليه السلام) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432