الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89892 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فضيلة دنيويّة أو اُخرويّة على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعنى آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر.

ولا أنّ تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافى وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضّل الله النبيّين على سائر العالمين وفضلّ بعضهم على بعض قال تعالى:( وكلّاً فضّلنا على العالمين ) الأنعام - ٨٦ وقال أيضاً:( ولقد فضّلنا بعض النبيّين على بعض ) أسرى - ٥٥.

وأمّا آل عمران فالظاهر أنّ المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات الّتى تذكر قصّة امرأة عمران ومريم ابنت عمران، وقد تكرّر ذكر عمران أبى مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبى موسى حتّى في موضع واحد يتعيّن فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيّد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها السلام، وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام أو هما وزوجة عمران.

وأمّا ما يذكر أنّ النصارى غير معترفين بكون اسم أبى مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى: ( ذرّيّة بعضها من بعض ) الذرّيّة في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثمّ استعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية، وهى منصوبة عطف بيان.

وفي قوله: بعضها من بعض دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها يبتدئ وينتهى من البعض الآخر وإليه. ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته. وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّيّة لا يفترقون في صفات الفضيلة الّتى اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب

١٨١

في الأفعال الإلهيّة، ومنها الاصطفاء الّذى هو منشأ خيرات هامّة في العالم.

قوله تعالى: ( والله سميع عليم ) أي سميع بأقوالهم الدالّة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم كما أنّ قوله: ذرّيّة بعضها من بعض بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة. فالمحصّل من الكلام: أنّ الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنّما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنّهم ذرّيّة متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحقّ. وإنّما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنّه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

( بحث روائي)

في العيون في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون: هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إنّ الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه. فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض، الحديث.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد عن الرضا عن أبى جعفر عليهما السلام: من زعم أنّه فرغ من الأمر فقد كذب لأنّ المشيّة لله في خلقه، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد، قال الله: ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم، آخرها من أوّلها وأوّلها من آخرها فإذا اُخبرتم بشئ منها بعينه أنّه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما اُخبرتم عنه.

أقول: وفيه دلالة على ما تقدّم في البيان السابق من معنى قوله: ذرّيّة بعضها من بعض الآية.

وفيه أيضاً عن الباقر (عليه السلام): أنّه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقيّة تلك العترة.

١٨٢

أقول: قوله (عليه السلام) ونحن بقيّة تلك العترة العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الّذى يعتمد عليه الشئ، ومنه العترة للأولاد والأقارب الأدنين ممّن مضى، وبعبارة اُخرى العمود المحفوظ في العشيرة.ومنه يظهر أنّه (عليه السلام) استفاد من قوله تعالى ذرّيّة بعضها من بعض أنّها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران. ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهى إشارة إلى اتّصال السلسلة في الاصطفاء.

١٨٣

( سورة آل عمران الآيات ٣٥ - ٤١)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٥) فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى‏ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى‏ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ( ٣٦) فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى‏ لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ٣٧) هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَاءِ( ٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمَحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى‏ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ( ٣٩) قَالَ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ( ٤٠) قَالَ رَبّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلّا تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلّا رَمْزَاً وَاذْكُر رَبّكَ كَثِيرَاً وَسَبّحْ بِالعَشِيّ وَالْإِبْكَارِ( ٤١)

( بيان)

قوله تعالى: ( إذ قالت أمرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّى إنّك أنت السميع العليم ) النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب. و التحرير

١٨٤

هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقّيّة وتحرير الكتاب كأنّه إطلاق للمعانى عن محفظة الذهن والفكر والتقبّل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبّل الهديّة وتقبّل الدعاء ونحو ذلك.

وفي قوله: قالت امرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني دلالة على أنّها إنّما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً، وأنّ حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأنّ زوجها عمران لم يكن حيّاً عندئذ وإلّا لم يكن لها أن تستقلّ بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدلّ عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى:( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم الآية ) آل عمران - ٤٤ على ما سيجئ من البيان.

ومن المعلوم أنّ تحرير الأب أو الأمّ للولد ليس تحريراً عن الرقّيّة وإنّما هو تحرير عن قيد الولاية الّتى للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلّط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصّة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، وقد قيل: إنّهم كانوا يحرّرون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتّى يبلغ الحلم ثمّ يخيّر بين الإقامة والرواح فإن أحبّ أن يقيم أقام، وإن أحبّ الرواح ذهب لشأنه.

وفي الكلام دلالة على أنّها كانت تعتقد أنّ ما في بطنها ذكر لا أناث حيث إنّها تناجى ربّها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني محرّراً من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.

وليس تذكير قوله: محرّراً من جهة كونه حالاً عن ما الموصولة الّتى يستوى فيه المذكّر والمؤنّث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو اُنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزّناً وتحسّراً لما وضعتها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى

١٨٥

ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالاُنثى على ما سيجئ بيانه.

وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أنّ اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسيّة الّتى تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكلّ ذلك ظنّ والظنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلّا مع إبطاله. وقد قال تعالى:( الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) الرعد - ٨ وقال تعالى:( عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام ) لقمان - ٣٤ فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختصّ به تعالى وقال تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى ) الجنّ - ٢٧ فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحى فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختصّ علمه بالله سبحانه يدلّ على أنّ علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحى ولذلك لما تبيّنت أنّ الولد اُنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرّيّة ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.

ومفعول قولها: فتقبّل منّى وإن كان محذوفاً محتملاً لأن يكون هو. نذرها من حيث إنّه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرّر لكن قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرّر.

قوله تعالى: ( فلمّا وضعتها قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى ) في وضع الضمير المؤنّث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلمّا وضعت ما في بطنها وتبيّنت أنّه اُنثى قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى وهو خبر اُريد به التحسّر والتحزّن دون الإخبار وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ولا أنّ الثانية مقولة لها والاُولى

١٨٦

مقولة لله.

أمّا الاُولى فهى ظاهرة لكن لمّا كانت قولها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى مسوقاً لإظهار التحسّر كان ظاهر قوله: والله أعلم بما وضعت أنّه مسوق لبيان أنّا نعلم أنّها اُنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمنّاه بأحسن وجه وأرضى طريق. ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها اُنثى لم تتحسّر ولم تحزن ذاك التحسّر والتحزّن والحال أنّ الذكر الّذى كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الاُنثى الّتى وهبناها لها، ويترتّب عليه ما يترتّب على خلق هذه الاُنثى فإنّ غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيّاً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكنّ هذه الاُنثى ستتمّ به كلمة الله وتلد ولداً بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلّم الناس في المهد، ويكون روحاً وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى مقول له تعالى لا لامرأة عمران. ولو كان مقولاً لها لكان حقّ الكلام أن يقال: وليس الاُنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإنّ من كان يرجو شيئاً شريفاً أو مقاماً عالياً ثمّ رزق ما هو أخسّ منه وأردء إنّما يقول عند التحسّر: ليس هذا الّذى وجدته هو الّذى كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالّذى كنت أرجوه. ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الّذى رزقته البتّة، وظهر من ذلك أنّ اللام في الذكر والاُنثى معاً أو في الاُنثى فقط للعهد.

وقد أخذ أكثر المفسّرين قوله: وليس الذكر كالاُنثى تتمّة قول امرأة عمران، وتكلّفوا في توجيه تقديم الذكر على الاُنثى بما لا يرجع إلى محصّل. من أراده فليرجع إلى كتبهم.

قوله تعالى: ( وإنّى سمّيتها مريم وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم ) معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل. ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنّها لمّا أيست من كون الولد ذكراً محرّراً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدّتها

١٨٧

بالتسمية للعبادة والخدمة. فقولها: وإنّى سمّيتها مريم بمنزلة أن تقول: إنّى جعلت ما وضعتها محرّرة لك. والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً الآية.

ثمّ أعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمّى.

والكلام في قولها: وذرّيّتها من حيث أنّه قول مطلق من شرط وقيد لا يصحّ التفوّه به في حضرة التخاطب ممّن لا علم له به مع أنّ مستقبل حال الإنسان من الغيب الّذى لا يعلمه إلّا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها: ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً على ما تقدّم بيانه فليس إلّا أنّها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثمّ لمّا حملت وتوفّى عمران لم تشكّ أنّ ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ثمّ لمّا وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنّها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحوّلت نذرها من الابن إلى البنت وسمّتها مريم (العابدة، الخادمة) وأعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبّر في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ) القبول إذا قيّد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبّل الّذى معناه القبول عن الرضا فالكلام في معنى قولنا: فتقبّلها ربّها تقبّلاً فإنّما حلّل التقبّل إلى القبول الحسن ليدلّ على أنّ حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.

وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعنى قوله: فتقبّلها إلى قوله: حسناً الجملتان في قولها: وإنّى سمّيتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: فتقبّلها ربّها بقبول حسن قبولاً لقولها وإنّى سمّيتها مريم، وقوله: وأنبتها نباتاً حسناً قبولاً وإجابة لقولها: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم،

١٨٨

فالمراد بتقبّلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرّب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الاُخروي لعملها فإنّ القبول إنّما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنّها مسمّاة بمريم ومحرّرة فيعود معناه إلى اصطفائها (وقد مرّ أنّ معنى الاصطفاء هو التسليم التامّ لله سبحانه) فافهم ذلك.

والمراد بإنباتها نباتاً حسناً أعطاء الرشد والزكاة لها ولذرّيّتها وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرّيّة حياة لا يمسّها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة.

وهذان أعنى القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما الّذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز.

فقد تبيّن أنّ اصطفاء مريم وتطهيرها إنّما هما استجابة لدعوة اُمّها كما أنّ اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: وليس الذكر كالاُنثى.

قوله تعالى: ( وكفّلها زكريّا ) وإنّما كفّلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفّلها ثمّ تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريّا كما يدلّ عليه قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون الآية.

قوله تعالى: ( كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً ) الخ المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت قال الراغب: ومحراب المسجد، قيل: سمّى بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمّى بذلك لكون حقّ إنسان فيه أن يكون حريباً (أي سليباً) من أشغال الدنيا ومن توزّع الخاطر. وقيل الأصل فيه أنّ محراب البيت صدر المجلس ثمّ اتّخذت المساجد فسمّى صدره به وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خصّ به صدر المجلس فسمّى صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد، وكأنّ هذا أصحّ، قال عزّوجلّ: يعملون له ما يشاء من محاريب

١٨٩

وتماثيل. انتهى.

وذكر بعضهم أنّ المحراب هنا هو ما يعبّر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلّم ذى درجات قليلة، ويكون من فيه محجوباً عمّن في المعبد.

أقول: واليه ينتهى اتّخاذ المقصورة في الإسلام.

وفي تنكير قوله: رزقاً إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل: إنّه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف، في الشتاء، ويؤيّده أنّه لو كان من الرزق المعهود وكان تنكيره يفيد أنّه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريّا بقولها: هو من عند الله إنّ الله يرزق الخ في جواب قوله: يا مريم أنّى لك هذا لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممّن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيّئ.

على أنّ قوله تعالى: هنالك دعا زكريّا ربّه الخ يدلّ على أنّ زكريّا تلقّى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهيّة خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرّيّة طيّبة فقد كان الرزق رزقاً يدلّ بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة. وممّا يشعر بذلك قوله تعالى: قال يا مريم الخ على ما سيجئ من البيان.

وقوله: قال يا مريم أنّى لك الخ فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: وجد عندها رزقاً يدلّ على أنّه (عليه السلام) إنّما قال لها ذلك مرّة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أنّ ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربّه ذرّيّة طيّبة.

قوله تعالى: ( هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة ) الخ طيب الشئ ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيّب ما يلائم حياة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك قال تعالى:( والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه ) الأعراف - ٥٨. والعيشة الطيّبة والحياة الطيّبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكيّ فالذرّيّة الطيّبة هو الولد

١٩٠

الصالح لأبيه مثلاً الّذى يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والاُمنيّة فقول زكريّا (عليه السلام) ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة لمّا كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة. فكون ذرّيّته طيّبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصيّة في نفسها ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليهما السلام، وأجمع الناس لما عند عيسى واُمّه مريم الصدّيقة من صفات الكمال والكرامة، ومن هنا ما سمّاه تعالى بيحيى وجعله مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين، وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى ) إلى آخر الآية ضمائر الغيبة والخطاب لزكريّا والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.

وقوله: أنّ الله يبشّرك بيحيى دليل على أنّ تسميته بيحيى إنّما هو من جانب الله سبحانه كما تدلّ عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم قال تعالى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً ) مريم - ٧.

وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشّر به زكريّا قبل تولّد يحيى وخلقه يؤيّد ما ذكرناه آنفاً: أنّ الّذى طلبه زكريّا من ربّه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية واحدة كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

فروعي في يحيى ما روعى فيهما من عند الله سبحانه. وقد روعى في عيسى كمال ما روعى في مريم فالمرعىّ في يحيى هو الشبه التامّ والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كلّه التقدّم التامّ لأنّ وجوده كان مقدّراً قبل استجابة دعوة زكريّا في حقّ يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولى

١٩١

العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنّهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكر الله تعالى من قصّتهما في سورة مريم فقال في يحيى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً - إلى أن قال -يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبيّاً وحناناً من لدنّا وزكاة وكان تقيّاً وبرّاً بوالديه ولم يكن جبّاراً عصيّاً وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً ) مريم - ١٥، وقال في عيسى (عليه السلام):( فأرسلنا إليها روحنا - إلى أن قال -إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً - إلى أن قال -قال ربّك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا - إلى أن قال -فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا قال إنّى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً ) مريم - ٣٣. ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة الّتى نحن فيها عند التطبيق.

و بالجملة فقد سمّاه الله سبحانه يحيى وسمّى ابن مريم عيسى وهو بمعنى (يعيش) على ما قيل وجعله مصدّقاً بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى:( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ) وآتاه الحكم وعلّمه الكتاب صبيّاً كما فعل بعيسى، وعدّه حناناً من لدنه وزكاة وبرّاً بوالديه غير جبّار كما كان عيسى كذلك، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى، وعدّه سيّداً كما جعل عيسى وجيهاً عنده، وجعله حصوراً ونبيّاً ومن الصالحين مثل عيسى، كلّ ذلك استجابة لمسألة زكريّا ودعوته حيث سأل ذرّيّة طيّبة ووليّاً رضيّاً عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مرّ بيانه.

وفي قوله: مصدّقاً بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.

١٩٢

والسيّد هو الّذى يتولّى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حياتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثمّ غلب استعماله في شريف القوم لما أنّ التولّى المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة اُخرى.

والحصور هو الّذى لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهداً.

قوله تعالى: ( قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر ) استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأنّ الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنّه ذكر هذين الوصفين اللّذين جعلهما منشأ للتعجّب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال:( ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً وإنّى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لى من لدنك وليّاً ) مريم - ٥.

لكنّ المقام يمثّل معنى آخر فكأنّه (عليه السلام) لمّا انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكّر انقطاع عقبه لم يشعر إلّا وقد سأل ربّه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثّره وتحزّنه وهو بلوغ الكبر، وكون امرأته عاقراً فلمّا استجيبت دعوته وبشّر بالولد كأنّه صحا وأفاق ممّا كان عليه من الحال، وأخذ يتعجّب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيّره إلى نظرة التعجّب المشوب بالسرور.

على أنّ ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفيّة رفع واحد واحد منها إنّما هو طلب تفهّم خصوصيّات الإفاضة والأنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرّيّة قال تعالى:( ونبّئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنّا منكم وجلون قالوا لا توجل إنّا نبشّرك بغلام عليم قال أبشّرتموني على أن مسّني الكبر فبم تبشّرون قالوا بشّرناك بالحقّ فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالّون ) الحجر - ٥٦

١٩٣

فذكر في جواب نهى الملائكة إيّاه عن القنوط أنّ استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضالّ والقنوط ضلالة بل السيّد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والاُنس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذّذه من كلّ حديث وتمتّعه في كلّ باب.

وفي قوله: وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنّه كناية عن أنّه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً فإنّ ذلك ظاهر قوله: وكانت امرأتي عاقراً ولم يقل: وامرأتي عاقر.

قوله تعالى: ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الّذين كانوا ينادونه فالقول على أيّ حال قوله تعالى لكنّ الظاهر أنّه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنّه بأمره والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصّة:( قال كذلك قال ربّك هو علي هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ) مريم - ٩.

ومنه يظهرأوّلا: أنّه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أوّلاًوثانياً: أنّ قوله: كذلك خبر لمبتدء محذوف والتقدير: الأمر كذلك أي الّذي بشّرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الّذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن - إلى أن قال -وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١وثالثاً: أنّ قوله: الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك.

قوله تعالى: ( قال ربّ اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزاً ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الرمز الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء

١٩٤

بالحاجب والعين واليد، والأوّل أغلب، انتهى. والعشيّ الطرف المؤخّر من النهار وكأنّه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة. والإبكار صدر النهار والطرف المقدّم منه، والأصل في معناه الاستعجال.

ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنّها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولّده:( فإمّا تريّن من البشر أحداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً ) مريم - ٢٦.

وسؤاله (عليه السلام) من ربّه أن يجعل له آية - والآية هي العلامة الدالّة على الشئ - هل هو ليستدلّ به على أنّ البشارة إنّما هي من قبل ربّه، وبعبارة اُخرى هو خطاب رحمانيّ ملكيّ لا شيطانيّ ؟ أو لأنّه أراد أن يستدلّ بها على حمل امرأته، ويعلم وقت الحمل ؟ خلاف بين المفسّرين.

والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصّة لكن الّذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أوّل الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أنّ الخطاب رحمانيّ هو ما ذكروه: أنّ الأنبياء لعصمتهم لا بدّ أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتّى يختلط عليهم طريق الإفهام.

وهو كلام حقّ لكن يجب أن يعلم أنّ تعرّفهم إنّما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرّف زكريّا من ربّه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأيّ محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعاؤه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محلّه.

على أنّ خصوصيّة نفس الآية - وهي عدم التكليم ثلاثة أيّام - تؤيّد بل تدلّ على ذلك فإنّ الشيطان وإن أمكن أن يمسّ الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف

١٩٥

أعداء الدين كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وأذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسنّي الشيطان بنصب وعذاب ) ص - ٤١، وقوله تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في اُمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمّ يحكم الله آياته الآية ) الحجّ - ٥٢، وقوله تعالى:( فإنّي نسيت الحوت وما إنسانيّه إلّا الشيطان ) الكهف - ٦٣.

لكنّ هذه وأمثالها من مسّ الشيطان وتعرّضه لا تنتج إلّا إيذاء النبيّ وأمّا مسّه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك وقد مرّ في ما تقدّم من المباحث إثبات عصمتهم عليهم السلام.

والّذي جعله الله تعالى آيه لزكريّا على ما يدلّ عليه قوله: آيتك أن لا تكلّم الناس ثلثه أيّام إلّا رمزاً واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشي والإبكار هو أنّه كان لا يقدر ثلثه أيّام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلّا بذكر الله وتسبيحه، وهذه آية واقعة على نفس النبيّ ولسانه وتصرّف خاصّ فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلّا رحمانيّاً. وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأوّل دون الوجه الثاني.

فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله: قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإنّ ظاهره أنّه خاطب ربّه وسأله ما سأل ثمّ اُجيب بما اُجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكّاً في أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكّاً عندئذ فما معنى سؤال التمييز ؟

قلت: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنّت نفسه على كون النداء رحمانيّاً من جانب الله ثمّ يسأل ربّه من كيفيّة الولادة الّتي كانت تتعجّب منه نفسه الشريفة كما مرّ فيجاب بنداء آخر ملكيّ تطمئنّ إليه نفسه ثمّ يسأل ربّه آية توجب اليقين بأنّه كان رحمانيّاً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة.

وممّا يؤيّد ذلك قوله تعالى: فنادته الملائكة فإنّ النداء إنّما يكون من

١٩٦

بعيد ولذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريّا:( إذ نادى ربّه ندائاً خفيّاً ) مريم - ٣ فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلّل. زكريّا وتواضعه قبال تعزّز الله سبحانه وترفّعه وتعاليه ثمّ وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريّا لم ير الملك نفسه، وإنّما سمع صوتاً يهتف به هاتف.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيّام، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه. قال: الصواب أنّ زكريّا أحبّ بمقتضى الطبيعة البشريّة أن يتعيّن لديه الزمن الّذي ينال به تلك المنحة الإلهيّة ليطمئنّ قلبه ويبشّر أهله فسأل عن الكيفيّة، ولمّا اُجيب بما اُجيب به سأل ربّه أن يخصّه بعبادة يتعجّل بها شكره، ويكون إتمامه إيّاها آية وعلامة على حصول المقصود فأمره بأن لا يكلّم الناس ثلاثه أيّام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مدّة ثلاثه أيّام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضيّ الثلاث الليال. انتهى.

وأنت خبير بأنّه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة، وانتهائها إلى حصول المقصود، وكون انتهائها هو الآية، وكون قوله: أن لا تكلّم مسوقاً للنهي التشريعيّ وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.

( كلام في الخواطر الملكيّة والشيطانيّة وما يلحق بها من التكليم)

قد مرّ كراراً أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، وأنّ القول أو الكلام مثلاً إنّما يسمّى به الصوت لإفادته معنى مقصوداً يصحّ السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعدّدةً مؤلّفةً أو غير صوت كالإيماء والرمز، والناس لا يتوقّفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامّة كلاماً وإن لم يخرج عن شقّ فم، وكذلك في تسمية الإيماء

١٩٧

قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.

والقرآن أيضاً يسمّي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان:( ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ) النساء - ١١٩ وقال:( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ) الحشر - ١٦ وقال:( يوسوس في صدور الناس ) الناس - ٥ وقال:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) الأنعام - ١١٢ وقال أيضاً حكاية عن إبليس:( إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم ) إبراهيم - ٢٢ وقال:( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) البقرة - ٢٦٩. ومن الواضح أنّ هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، وسمّيت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شقّ فم ولا تحريك لسان.

ومن هنا يعلم: أنّ ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكيّ في قبال الوسوسة من الشيطان، وقد سمّاه تعالى الحكمة، ومثلها قوله تعالى:( ويجعل لكم نوراً تمشون به ) الحديد - ٢٨ وقوله:( هو الّذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض ) الفتح - ٤ وقد مرّ بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى:( فيه سكينة من ربّكم ) البقرة - ٢٤٨، وكذا قوله:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كإنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الأنعام - ١٢٥. وقد سمّى الوسوسة رجزاً فقال:( رجز الشيطان ) الأنفال - ١١ فمن جميع ذلك يظهر أنّ الشياطين والملائكة يكلّمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.

وهنا قسم آخر من التكليم يختصّ به تعالى كما ذكره بقوله:( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب الآية ) الشورى - ٥١ فسمّاه تكليماً وقسمّه إلى الوحي، وهو الّذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلّم، وإلى التكليم

١٩٨

من وراء حجاب. هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.

أمّا كلام الله سبحانه المسمّى بالوحي فهو متميّز متعيّن بذاته فإنّ الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربّه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر. وأمّا غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.

وأمّا الكلام الملكي والشيطانيّ فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإنّ الخاطر الملكيّ يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل، وينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبيّن في كتابه وسنّة نبيّه، والخاطر الشيطانيّ يلازم تضيّق الصدر وشحّ النفس ويدعو إلى متابعة الهوى، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء وبالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنّة، ويخالف الفطرة.

ثمّ إنّ الأنبياء ومن يتلوهم ربّما تيسّر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميّز، وأمّا مع عدم المشاهدة فلا بدّ من استعماله كسائر المؤمنين، وينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكراً سويّاً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل. فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك وهي اُمّ مريم فلمّا حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى، وليس الذكر كالاُنثى لا تكون البنت رسولاً. يقول الله: والله أعلم بما وضعت فلمّا وهب الله لمريم عيسى كان هو الّذي بشّر به

١٩٩

عمران ووعده إيّاه فإذا قلنا في الرجل منّا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

أقول: وروى قريباً منه في الكافي عنه (عليه السلام) وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر (عليه السلام).

وفي تفسير العيّاشيّ في الآية عن الصادق (عليه السلام): أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى وليس الذكر كالاُنثى إنّ الاُنثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرّر لا يخرج من المسجد.

وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العبّاد، وليس الذكر كالاُنثى في الخدمة. قال: فشبّت وكانت تخدمهم وتناولهم حتّى بلغت فأمر زكريّا أن تتّخذ لها حجاباً دون العبّاد.

أقول: والروايات كما ترى تنطبق على ما قدّمناه في البيان السابق إلّا أنّ ظاهرها: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى، ويبقى عليه وجه تقديم الذكر على الاُنثى في الجملة، مع أنّ مقتضى القواعد العربيّة خلافه. وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، وقد مرّ أنّه في معنى التحرير إلّا أن يفرّق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمّل.

وفي الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيّاً يوحي إليه، ويدلّ عليه ما في البحار عن أبي بصير قال سألت أباجعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبيّاً ؟ فقال نعم كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه، الحديث.

وتدلّ الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران: حنّة، وهو المشهور، وفي بعض الروايات: مرثار. ولا يهمّنا البحث عن ذلك.

وفي تفسير القمّيّ في ذيل الرواية السابقة: فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب، وأرخت على نفسها ستراً، وكان لا يراها أحد، وكان يدخل عليها زكريّا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: أنّى لك هذا فتقول: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432