الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89871 / تحميل: 7007
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فضيلة دنيويّة أو اُخرويّة على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعنى آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر.

ولا أنّ تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافى وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضّل الله النبيّين على سائر العالمين وفضلّ بعضهم على بعض قال تعالى:( وكلّاً فضّلنا على العالمين ) الأنعام - ٨٦ وقال أيضاً:( ولقد فضّلنا بعض النبيّين على بعض ) أسرى - ٥٥.

وأمّا آل عمران فالظاهر أنّ المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات الّتى تذكر قصّة امرأة عمران ومريم ابنت عمران، وقد تكرّر ذكر عمران أبى مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبى موسى حتّى في موضع واحد يتعيّن فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيّد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها السلام، وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام أو هما وزوجة عمران.

وأمّا ما يذكر أنّ النصارى غير معترفين بكون اسم أبى مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى: ( ذرّيّة بعضها من بعض ) الذرّيّة في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثمّ استعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية، وهى منصوبة عطف بيان.

وفي قوله: بعضها من بعض دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها يبتدئ وينتهى من البعض الآخر وإليه. ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته. وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّيّة لا يفترقون في صفات الفضيلة الّتى اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب

١٨١

في الأفعال الإلهيّة، ومنها الاصطفاء الّذى هو منشأ خيرات هامّة في العالم.

قوله تعالى: ( والله سميع عليم ) أي سميع بأقوالهم الدالّة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم كما أنّ قوله: ذرّيّة بعضها من بعض بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة. فالمحصّل من الكلام: أنّ الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنّما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنّهم ذرّيّة متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحقّ. وإنّما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنّه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

( بحث روائي)

في العيون في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون: هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إنّ الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه. فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض، الحديث.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد عن الرضا عن أبى جعفر عليهما السلام: من زعم أنّه فرغ من الأمر فقد كذب لأنّ المشيّة لله في خلقه، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد، قال الله: ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم، آخرها من أوّلها وأوّلها من آخرها فإذا اُخبرتم بشئ منها بعينه أنّه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما اُخبرتم عنه.

أقول: وفيه دلالة على ما تقدّم في البيان السابق من معنى قوله: ذرّيّة بعضها من بعض الآية.

وفيه أيضاً عن الباقر (عليه السلام): أنّه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقيّة تلك العترة.

١٨٢

أقول: قوله (عليه السلام) ونحن بقيّة تلك العترة العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الّذى يعتمد عليه الشئ، ومنه العترة للأولاد والأقارب الأدنين ممّن مضى، وبعبارة اُخرى العمود المحفوظ في العشيرة.ومنه يظهر أنّه (عليه السلام) استفاد من قوله تعالى ذرّيّة بعضها من بعض أنّها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران. ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهى إشارة إلى اتّصال السلسلة في الاصطفاء.

١٨٣

( سورة آل عمران الآيات ٣٥ - ٤١)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٥) فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى‏ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى‏ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ( ٣٦) فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى‏ لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ٣٧) هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَاءِ( ٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمَحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى‏ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ( ٣٩) قَالَ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ( ٤٠) قَالَ رَبّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلّا تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلّا رَمْزَاً وَاذْكُر رَبّكَ كَثِيرَاً وَسَبّحْ بِالعَشِيّ وَالْإِبْكَارِ( ٤١)

( بيان)

قوله تعالى: ( إذ قالت أمرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّى إنّك أنت السميع العليم ) النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب. و التحرير

١٨٤

هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقّيّة وتحرير الكتاب كأنّه إطلاق للمعانى عن محفظة الذهن والفكر والتقبّل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبّل الهديّة وتقبّل الدعاء ونحو ذلك.

وفي قوله: قالت امرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني دلالة على أنّها إنّما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً، وأنّ حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأنّ زوجها عمران لم يكن حيّاً عندئذ وإلّا لم يكن لها أن تستقلّ بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدلّ عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى:( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم الآية ) آل عمران - ٤٤ على ما سيجئ من البيان.

ومن المعلوم أنّ تحرير الأب أو الأمّ للولد ليس تحريراً عن الرقّيّة وإنّما هو تحرير عن قيد الولاية الّتى للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلّط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصّة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، وقد قيل: إنّهم كانوا يحرّرون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتّى يبلغ الحلم ثمّ يخيّر بين الإقامة والرواح فإن أحبّ أن يقيم أقام، وإن أحبّ الرواح ذهب لشأنه.

وفي الكلام دلالة على أنّها كانت تعتقد أنّ ما في بطنها ذكر لا أناث حيث إنّها تناجى ربّها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني محرّراً من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.

وليس تذكير قوله: محرّراً من جهة كونه حالاً عن ما الموصولة الّتى يستوى فيه المذكّر والمؤنّث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو اُنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزّناً وتحسّراً لما وضعتها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى

١٨٥

ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالاُنثى على ما سيجئ بيانه.

وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أنّ اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسيّة الّتى تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكلّ ذلك ظنّ والظنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلّا مع إبطاله. وقد قال تعالى:( الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) الرعد - ٨ وقال تعالى:( عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام ) لقمان - ٣٤ فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختصّ به تعالى وقال تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى ) الجنّ - ٢٧ فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحى فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختصّ علمه بالله سبحانه يدلّ على أنّ علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحى ولذلك لما تبيّنت أنّ الولد اُنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرّيّة ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.

ومفعول قولها: فتقبّل منّى وإن كان محذوفاً محتملاً لأن يكون هو. نذرها من حيث إنّه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرّر لكن قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرّر.

قوله تعالى: ( فلمّا وضعتها قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى ) في وضع الضمير المؤنّث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلمّا وضعت ما في بطنها وتبيّنت أنّه اُنثى قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى وهو خبر اُريد به التحسّر والتحزّن دون الإخبار وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ولا أنّ الثانية مقولة لها والاُولى

١٨٦

مقولة لله.

أمّا الاُولى فهى ظاهرة لكن لمّا كانت قولها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى مسوقاً لإظهار التحسّر كان ظاهر قوله: والله أعلم بما وضعت أنّه مسوق لبيان أنّا نعلم أنّها اُنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمنّاه بأحسن وجه وأرضى طريق. ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها اُنثى لم تتحسّر ولم تحزن ذاك التحسّر والتحزّن والحال أنّ الذكر الّذى كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الاُنثى الّتى وهبناها لها، ويترتّب عليه ما يترتّب على خلق هذه الاُنثى فإنّ غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيّاً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكنّ هذه الاُنثى ستتمّ به كلمة الله وتلد ولداً بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلّم الناس في المهد، ويكون روحاً وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى مقول له تعالى لا لامرأة عمران. ولو كان مقولاً لها لكان حقّ الكلام أن يقال: وليس الاُنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإنّ من كان يرجو شيئاً شريفاً أو مقاماً عالياً ثمّ رزق ما هو أخسّ منه وأردء إنّما يقول عند التحسّر: ليس هذا الّذى وجدته هو الّذى كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالّذى كنت أرجوه. ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الّذى رزقته البتّة، وظهر من ذلك أنّ اللام في الذكر والاُنثى معاً أو في الاُنثى فقط للعهد.

وقد أخذ أكثر المفسّرين قوله: وليس الذكر كالاُنثى تتمّة قول امرأة عمران، وتكلّفوا في توجيه تقديم الذكر على الاُنثى بما لا يرجع إلى محصّل. من أراده فليرجع إلى كتبهم.

قوله تعالى: ( وإنّى سمّيتها مريم وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم ) معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل. ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنّها لمّا أيست من كون الولد ذكراً محرّراً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدّتها

١٨٧

بالتسمية للعبادة والخدمة. فقولها: وإنّى سمّيتها مريم بمنزلة أن تقول: إنّى جعلت ما وضعتها محرّرة لك. والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً الآية.

ثمّ أعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمّى.

والكلام في قولها: وذرّيّتها من حيث أنّه قول مطلق من شرط وقيد لا يصحّ التفوّه به في حضرة التخاطب ممّن لا علم له به مع أنّ مستقبل حال الإنسان من الغيب الّذى لا يعلمه إلّا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها: ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً على ما تقدّم بيانه فليس إلّا أنّها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثمّ لمّا حملت وتوفّى عمران لم تشكّ أنّ ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ثمّ لمّا وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنّها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحوّلت نذرها من الابن إلى البنت وسمّتها مريم (العابدة، الخادمة) وأعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبّر في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ) القبول إذا قيّد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبّل الّذى معناه القبول عن الرضا فالكلام في معنى قولنا: فتقبّلها ربّها تقبّلاً فإنّما حلّل التقبّل إلى القبول الحسن ليدلّ على أنّ حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.

وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعنى قوله: فتقبّلها إلى قوله: حسناً الجملتان في قولها: وإنّى سمّيتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: فتقبّلها ربّها بقبول حسن قبولاً لقولها وإنّى سمّيتها مريم، وقوله: وأنبتها نباتاً حسناً قبولاً وإجابة لقولها: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم،

١٨٨

فالمراد بتقبّلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرّب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الاُخروي لعملها فإنّ القبول إنّما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنّها مسمّاة بمريم ومحرّرة فيعود معناه إلى اصطفائها (وقد مرّ أنّ معنى الاصطفاء هو التسليم التامّ لله سبحانه) فافهم ذلك.

والمراد بإنباتها نباتاً حسناً أعطاء الرشد والزكاة لها ولذرّيّتها وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرّيّة حياة لا يمسّها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة.

وهذان أعنى القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما الّذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز.

فقد تبيّن أنّ اصطفاء مريم وتطهيرها إنّما هما استجابة لدعوة اُمّها كما أنّ اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: وليس الذكر كالاُنثى.

قوله تعالى: ( وكفّلها زكريّا ) وإنّما كفّلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفّلها ثمّ تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريّا كما يدلّ عليه قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون الآية.

قوله تعالى: ( كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً ) الخ المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت قال الراغب: ومحراب المسجد، قيل: سمّى بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمّى بذلك لكون حقّ إنسان فيه أن يكون حريباً (أي سليباً) من أشغال الدنيا ومن توزّع الخاطر. وقيل الأصل فيه أنّ محراب البيت صدر المجلس ثمّ اتّخذت المساجد فسمّى صدره به وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خصّ به صدر المجلس فسمّى صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد، وكأنّ هذا أصحّ، قال عزّوجلّ: يعملون له ما يشاء من محاريب

١٨٩

وتماثيل. انتهى.

وذكر بعضهم أنّ المحراب هنا هو ما يعبّر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلّم ذى درجات قليلة، ويكون من فيه محجوباً عمّن في المعبد.

أقول: واليه ينتهى اتّخاذ المقصورة في الإسلام.

وفي تنكير قوله: رزقاً إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل: إنّه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف، في الشتاء، ويؤيّده أنّه لو كان من الرزق المعهود وكان تنكيره يفيد أنّه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريّا بقولها: هو من عند الله إنّ الله يرزق الخ في جواب قوله: يا مريم أنّى لك هذا لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممّن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيّئ.

على أنّ قوله تعالى: هنالك دعا زكريّا ربّه الخ يدلّ على أنّ زكريّا تلقّى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهيّة خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرّيّة طيّبة فقد كان الرزق رزقاً يدلّ بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة. وممّا يشعر بذلك قوله تعالى: قال يا مريم الخ على ما سيجئ من البيان.

وقوله: قال يا مريم أنّى لك الخ فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: وجد عندها رزقاً يدلّ على أنّه (عليه السلام) إنّما قال لها ذلك مرّة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أنّ ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربّه ذرّيّة طيّبة.

قوله تعالى: ( هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة ) الخ طيب الشئ ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيّب ما يلائم حياة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك قال تعالى:( والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه ) الأعراف - ٥٨. والعيشة الطيّبة والحياة الطيّبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكيّ فالذرّيّة الطيّبة هو الولد

١٩٠

الصالح لأبيه مثلاً الّذى يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والاُمنيّة فقول زكريّا (عليه السلام) ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة لمّا كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة. فكون ذرّيّته طيّبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصيّة في نفسها ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليهما السلام، وأجمع الناس لما عند عيسى واُمّه مريم الصدّيقة من صفات الكمال والكرامة، ومن هنا ما سمّاه تعالى بيحيى وجعله مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين، وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى ) إلى آخر الآية ضمائر الغيبة والخطاب لزكريّا والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.

وقوله: أنّ الله يبشّرك بيحيى دليل على أنّ تسميته بيحيى إنّما هو من جانب الله سبحانه كما تدلّ عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم قال تعالى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً ) مريم - ٧.

وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشّر به زكريّا قبل تولّد يحيى وخلقه يؤيّد ما ذكرناه آنفاً: أنّ الّذى طلبه زكريّا من ربّه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية واحدة كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

فروعي في يحيى ما روعى فيهما من عند الله سبحانه. وقد روعى في عيسى كمال ما روعى في مريم فالمرعىّ في يحيى هو الشبه التامّ والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كلّه التقدّم التامّ لأنّ وجوده كان مقدّراً قبل استجابة دعوة زكريّا في حقّ يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولى

١٩١

العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنّهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكر الله تعالى من قصّتهما في سورة مريم فقال في يحيى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً - إلى أن قال -يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبيّاً وحناناً من لدنّا وزكاة وكان تقيّاً وبرّاً بوالديه ولم يكن جبّاراً عصيّاً وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً ) مريم - ١٥، وقال في عيسى (عليه السلام):( فأرسلنا إليها روحنا - إلى أن قال -إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً - إلى أن قال -قال ربّك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا - إلى أن قال -فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا قال إنّى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً ) مريم - ٣٣. ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة الّتى نحن فيها عند التطبيق.

و بالجملة فقد سمّاه الله سبحانه يحيى وسمّى ابن مريم عيسى وهو بمعنى (يعيش) على ما قيل وجعله مصدّقاً بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى:( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ) وآتاه الحكم وعلّمه الكتاب صبيّاً كما فعل بعيسى، وعدّه حناناً من لدنه وزكاة وبرّاً بوالديه غير جبّار كما كان عيسى كذلك، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى، وعدّه سيّداً كما جعل عيسى وجيهاً عنده، وجعله حصوراً ونبيّاً ومن الصالحين مثل عيسى، كلّ ذلك استجابة لمسألة زكريّا ودعوته حيث سأل ذرّيّة طيّبة ووليّاً رضيّاً عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مرّ بيانه.

وفي قوله: مصدّقاً بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.

١٩٢

والسيّد هو الّذى يتولّى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حياتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثمّ غلب استعماله في شريف القوم لما أنّ التولّى المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة اُخرى.

والحصور هو الّذى لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهداً.

قوله تعالى: ( قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر ) استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأنّ الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنّه ذكر هذين الوصفين اللّذين جعلهما منشأ للتعجّب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال:( ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً وإنّى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لى من لدنك وليّاً ) مريم - ٥.

لكنّ المقام يمثّل معنى آخر فكأنّه (عليه السلام) لمّا انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكّر انقطاع عقبه لم يشعر إلّا وقد سأل ربّه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثّره وتحزّنه وهو بلوغ الكبر، وكون امرأته عاقراً فلمّا استجيبت دعوته وبشّر بالولد كأنّه صحا وأفاق ممّا كان عليه من الحال، وأخذ يتعجّب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيّره إلى نظرة التعجّب المشوب بالسرور.

على أنّ ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفيّة رفع واحد واحد منها إنّما هو طلب تفهّم خصوصيّات الإفاضة والأنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرّيّة قال تعالى:( ونبّئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنّا منكم وجلون قالوا لا توجل إنّا نبشّرك بغلام عليم قال أبشّرتموني على أن مسّني الكبر فبم تبشّرون قالوا بشّرناك بالحقّ فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالّون ) الحجر - ٥٦

١٩٣

فذكر في جواب نهى الملائكة إيّاه عن القنوط أنّ استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضالّ والقنوط ضلالة بل السيّد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والاُنس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذّذه من كلّ حديث وتمتّعه في كلّ باب.

وفي قوله: وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنّه كناية عن أنّه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً فإنّ ذلك ظاهر قوله: وكانت امرأتي عاقراً ولم يقل: وامرأتي عاقر.

قوله تعالى: ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الّذين كانوا ينادونه فالقول على أيّ حال قوله تعالى لكنّ الظاهر أنّه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنّه بأمره والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصّة:( قال كذلك قال ربّك هو علي هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ) مريم - ٩.

ومنه يظهرأوّلا: أنّه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أوّلاًوثانياً: أنّ قوله: كذلك خبر لمبتدء محذوف والتقدير: الأمر كذلك أي الّذي بشّرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الّذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن - إلى أن قال -وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١وثالثاً: أنّ قوله: الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك.

قوله تعالى: ( قال ربّ اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزاً ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الرمز الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء

١٩٤

بالحاجب والعين واليد، والأوّل أغلب، انتهى. والعشيّ الطرف المؤخّر من النهار وكأنّه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة. والإبكار صدر النهار والطرف المقدّم منه، والأصل في معناه الاستعجال.

ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنّها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولّده:( فإمّا تريّن من البشر أحداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً ) مريم - ٢٦.

وسؤاله (عليه السلام) من ربّه أن يجعل له آية - والآية هي العلامة الدالّة على الشئ - هل هو ليستدلّ به على أنّ البشارة إنّما هي من قبل ربّه، وبعبارة اُخرى هو خطاب رحمانيّ ملكيّ لا شيطانيّ ؟ أو لأنّه أراد أن يستدلّ بها على حمل امرأته، ويعلم وقت الحمل ؟ خلاف بين المفسّرين.

والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصّة لكن الّذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أوّل الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أنّ الخطاب رحمانيّ هو ما ذكروه: أنّ الأنبياء لعصمتهم لا بدّ أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتّى يختلط عليهم طريق الإفهام.

وهو كلام حقّ لكن يجب أن يعلم أنّ تعرّفهم إنّما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرّف زكريّا من ربّه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأيّ محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعاؤه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محلّه.

على أنّ خصوصيّة نفس الآية - وهي عدم التكليم ثلاثة أيّام - تؤيّد بل تدلّ على ذلك فإنّ الشيطان وإن أمكن أن يمسّ الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف

١٩٥

أعداء الدين كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وأذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسنّي الشيطان بنصب وعذاب ) ص - ٤١، وقوله تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في اُمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمّ يحكم الله آياته الآية ) الحجّ - ٥٢، وقوله تعالى:( فإنّي نسيت الحوت وما إنسانيّه إلّا الشيطان ) الكهف - ٦٣.

لكنّ هذه وأمثالها من مسّ الشيطان وتعرّضه لا تنتج إلّا إيذاء النبيّ وأمّا مسّه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك وقد مرّ في ما تقدّم من المباحث إثبات عصمتهم عليهم السلام.

والّذي جعله الله تعالى آيه لزكريّا على ما يدلّ عليه قوله: آيتك أن لا تكلّم الناس ثلثه أيّام إلّا رمزاً واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشي والإبكار هو أنّه كان لا يقدر ثلثه أيّام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلّا بذكر الله وتسبيحه، وهذه آية واقعة على نفس النبيّ ولسانه وتصرّف خاصّ فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلّا رحمانيّاً. وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأوّل دون الوجه الثاني.

فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله: قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإنّ ظاهره أنّه خاطب ربّه وسأله ما سأل ثمّ اُجيب بما اُجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكّاً في أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكّاً عندئذ فما معنى سؤال التمييز ؟

قلت: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنّت نفسه على كون النداء رحمانيّاً من جانب الله ثمّ يسأل ربّه من كيفيّة الولادة الّتي كانت تتعجّب منه نفسه الشريفة كما مرّ فيجاب بنداء آخر ملكيّ تطمئنّ إليه نفسه ثمّ يسأل ربّه آية توجب اليقين بأنّه كان رحمانيّاً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة.

وممّا يؤيّد ذلك قوله تعالى: فنادته الملائكة فإنّ النداء إنّما يكون من

١٩٦

بعيد ولذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريّا:( إذ نادى ربّه ندائاً خفيّاً ) مريم - ٣ فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلّل. زكريّا وتواضعه قبال تعزّز الله سبحانه وترفّعه وتعاليه ثمّ وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريّا لم ير الملك نفسه، وإنّما سمع صوتاً يهتف به هاتف.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيّام، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه. قال: الصواب أنّ زكريّا أحبّ بمقتضى الطبيعة البشريّة أن يتعيّن لديه الزمن الّذي ينال به تلك المنحة الإلهيّة ليطمئنّ قلبه ويبشّر أهله فسأل عن الكيفيّة، ولمّا اُجيب بما اُجيب به سأل ربّه أن يخصّه بعبادة يتعجّل بها شكره، ويكون إتمامه إيّاها آية وعلامة على حصول المقصود فأمره بأن لا يكلّم الناس ثلاثه أيّام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مدّة ثلاثه أيّام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضيّ الثلاث الليال. انتهى.

وأنت خبير بأنّه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة، وانتهائها إلى حصول المقصود، وكون انتهائها هو الآية، وكون قوله: أن لا تكلّم مسوقاً للنهي التشريعيّ وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.

( كلام في الخواطر الملكيّة والشيطانيّة وما يلحق بها من التكليم)

قد مرّ كراراً أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، وأنّ القول أو الكلام مثلاً إنّما يسمّى به الصوت لإفادته معنى مقصوداً يصحّ السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعدّدةً مؤلّفةً أو غير صوت كالإيماء والرمز، والناس لا يتوقّفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامّة كلاماً وإن لم يخرج عن شقّ فم، وكذلك في تسمية الإيماء

١٩٧

قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.

والقرآن أيضاً يسمّي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان:( ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ) النساء - ١١٩ وقال:( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ) الحشر - ١٦ وقال:( يوسوس في صدور الناس ) الناس - ٥ وقال:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) الأنعام - ١١٢ وقال أيضاً حكاية عن إبليس:( إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم ) إبراهيم - ٢٢ وقال:( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) البقرة - ٢٦٩. ومن الواضح أنّ هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، وسمّيت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شقّ فم ولا تحريك لسان.

ومن هنا يعلم: أنّ ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكيّ في قبال الوسوسة من الشيطان، وقد سمّاه تعالى الحكمة، ومثلها قوله تعالى:( ويجعل لكم نوراً تمشون به ) الحديد - ٢٨ وقوله:( هو الّذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض ) الفتح - ٤ وقد مرّ بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى:( فيه سكينة من ربّكم ) البقرة - ٢٤٨، وكذا قوله:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كإنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الأنعام - ١٢٥. وقد سمّى الوسوسة رجزاً فقال:( رجز الشيطان ) الأنفال - ١١ فمن جميع ذلك يظهر أنّ الشياطين والملائكة يكلّمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.

وهنا قسم آخر من التكليم يختصّ به تعالى كما ذكره بقوله:( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب الآية ) الشورى - ٥١ فسمّاه تكليماً وقسمّه إلى الوحي، وهو الّذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلّم، وإلى التكليم

١٩٨

من وراء حجاب. هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.

أمّا كلام الله سبحانه المسمّى بالوحي فهو متميّز متعيّن بذاته فإنّ الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربّه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر. وأمّا غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.

وأمّا الكلام الملكي والشيطانيّ فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإنّ الخاطر الملكيّ يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل، وينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبيّن في كتابه وسنّة نبيّه، والخاطر الشيطانيّ يلازم تضيّق الصدر وشحّ النفس ويدعو إلى متابعة الهوى، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء وبالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنّة، ويخالف الفطرة.

ثمّ إنّ الأنبياء ومن يتلوهم ربّما تيسّر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميّز، وأمّا مع عدم المشاهدة فلا بدّ من استعماله كسائر المؤمنين، وينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكراً سويّاً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل. فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك وهي اُمّ مريم فلمّا حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى، وليس الذكر كالاُنثى لا تكون البنت رسولاً. يقول الله: والله أعلم بما وضعت فلمّا وهب الله لمريم عيسى كان هو الّذي بشّر به

١٩٩

عمران ووعده إيّاه فإذا قلنا في الرجل منّا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

أقول: وروى قريباً منه في الكافي عنه (عليه السلام) وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر (عليه السلام).

وفي تفسير العيّاشيّ في الآية عن الصادق (عليه السلام): أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى وليس الذكر كالاُنثى إنّ الاُنثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرّر لا يخرج من المسجد.

وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العبّاد، وليس الذكر كالاُنثى في الخدمة. قال: فشبّت وكانت تخدمهم وتناولهم حتّى بلغت فأمر زكريّا أن تتّخذ لها حجاباً دون العبّاد.

أقول: والروايات كما ترى تنطبق على ما قدّمناه في البيان السابق إلّا أنّ ظاهرها: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى، ويبقى عليه وجه تقديم الذكر على الاُنثى في الجملة، مع أنّ مقتضى القواعد العربيّة خلافه. وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، وقد مرّ أنّه في معنى التحرير إلّا أن يفرّق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمّل.

وفي الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيّاً يوحي إليه، ويدلّ عليه ما في البحار عن أبي بصير قال سألت أباجعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبيّاً ؟ فقال نعم كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه، الحديث.

وتدلّ الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران: حنّة، وهو المشهور، وفي بعض الروايات: مرثار. ولا يهمّنا البحث عن ذلك.

وفي تفسير القمّيّ في ذيل الرواية السابقة: فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب، وأرخت على نفسها ستراً، وكان لا يراها أحد، وكان يدخل عليها زكريّا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: أنّى لك هذا فتقول: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤١: -

[ المورد - (٥١) - نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه عن جواب أبى سفيان في احد ]

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزل يوم احد بأصحابه - وهم سبعمائة - في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، ومعهم خمسة عشر امرأة وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان.

وتعبأ الجيشان للقتال، فاستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة، وترك أحدا

٣٦١

خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة وهم خمسون راميا، أمر عليهم عبدالله بن جبير وقال له: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبتوا مكانكم، ان كانت لنا، أو كانت علينا، فانا انما نؤتى من هذا الشعب شعب أحد(١) .

وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ينادي: يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة، ويعجلني سيفه إلى النار ؟

قال ابن الأثير في كامله: فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله فتركه - لما به يخور بدمه حتى هلك - فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: كبش الكتيبة، وكبر المسلمون بتكبيره، وقال لعلي: ما منعك ان تجهز عليه ؟ فقال ناشدني الله والرحم فاستحييت منه. وصمد علي بعده لأصحاب اللواء يحمل عليهم فيقتلهم واحدا بعد واحد.

قال ابن الأثير وغيره: وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء وبقي مطروحا لا يدنو منه أحد، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صواب عبد لبني عبد الدار - كان من أشد الناس قوة - فقتل عليه (قال) وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي بن أبي طالب، قاله أبو رافع.

واقتتل الناس قتالا شديدا. وأمعن حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين وأبلوا بلاء حسنا، وأنزل الله نصره عليهم وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون، فلما نظر بعض الرماة إلى اخوانهم ينهبون، آثروا النهب على البقاء في الشعب، ونسوا ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحضهم عليه. وحين رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم، وشد

____________________

(١) الشعب بالكسر ما انفرج بين الجبلين (منه قدس) (*).

٣٦٢

بمن معه على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلفهم، وتبادر المنهزمون من المشركين حينئذ بنشاط مستأنف لقتال المسلمين حتى هزموهم بعد أن قتلوا سبعين من أبطالهم، فيهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبدالمطلب وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر في جبهته وكسرت رباعيته السفلى، وشقت - بأبي هو وأمي - شفته، وعلاه ابن قمئة بالسيف.

وقاتل دونه علي، ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي ‌الله‌ عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمدا، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله حي لم يقتل فأشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن أنصت(١) .

وحينئذ نهض علي بمن كان معه حتى خلصوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشعب، فتحصن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به، وهم يحوطونه مدافعين عنه.

قال ابن جرير وابن الأثير في تاريخيهما وسائر أهل الأخبار: فأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - أي وهو في الشعب - جماعة من المشركين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرقهم وقتل منهم، ثم أبصر جماعة أخرى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكفنيهم يا علي فحمل عليهم وفرقهم وقتل منهم. فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه مني وأنا منه. فقال

____________________

(١) مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليه (منه قدس) (*).

٣٦٣

جبرائيل: وأنا منكما. (قالوا) وسمع صوت :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي(٤٨٥)

وجعل علي ينقل الماء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس يغسل به جرح النبي فلم ينقطع الدم(١) .

ووقعت هند وصواحباتها على الشهداء يمثلن بهم، فاتخذت من آذان الرجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد، وكانت أعطت وحشيا معاضدها وقلائدها جزاء قتلة حمزة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها(٤٨٦) .

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين، فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : لا تجيبوه(٣) فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا

____________________

(٤٨٥)

لا سيف الا ذو الفقار

ولا فتى الا على

راجع: فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج ١ / ٢٥٧ ح ١٩٨، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ١ / ١٤٨ ح ٢١٥، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٠٧، مناقب على بن أبى طالب لابن المغازلي ص ١٩٧، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٢٦، المناقب للخوارزمي ص ٢١٣ ط الحيدرية، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ١٠٦، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٤ / ٢٥١ وقد نقل تصحيحه عن شيخه عبد الوهاب ابن سكينة.

(١) حتى أحرقت سيدة نساء العالمين بعد ذلك حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم، وقد شهدت الواقعةعليها‌السلام فكانت تعانقه وهو مجروح وتبكي (منه قدس).

(٤٨٦) الكامل في التاريخ ج ٢ / ١١١، الدرجات الرفيعة ص ٦٦ - ٦٩، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ٩٦ - ٩٧، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٦.

(٢) كما في غزوة احد من تاريخي ابن جرير وابن الأثير وطبقات ابن سعد والسيرتين الحلبية والدحلانية وكتاب البداية والنهاية لأبي الفداء وسائر الكتب المشتملة على غزوة أحد (منه قدس).

(٣) كأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن آمنا من أبى سفيان وأصحابه أن يشدوا عليه =>

٣٦٤

محمدا ؟ قال عمر: اللهم لا وانه ليسمع كلامك(٤٨٧) .

قلت: هذا محل الشاهد من هذه الحكاية إذ آثر رأيه في جواب أبي سفيان على نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم عن جوابه كما ترى.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٦: -

[ المورد - (٥٢) -: التجسس مع النهى عنه ]

قال الله عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) (٤٨٨) .

وفي الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم والظن، فان الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسد، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله اخوانا. الحديث(٤٨٩) .

لكن عمر رأى في أيام خلافته ان بالتجسس نفعا للأمة وصلاحا للدولة، فكان يعس ليلا، ويتجسس نهارا، حتى سمع هو يعس في المدينة صوت

____________________

=> إذا علموا ببقائه حيا، ولذلك نهاهم عن جوابه، وكأن عمر إذ أجابه لم يكن خائفا ولم يكن يرى لهذا الاحتياط وجها (منه قدس).

(٤٨٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٤٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١١١، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٥.

(٤٨٨) سورة الحجرات: ١٢.

(٤٨٩) مجمع البيان ج ٩ / ١٣٧، صحيح مسلم ج ٨ / ١٠ ط العامرة، صحيح الترمذي ج ١ / ٣٥٩، صحيح البخاري ج ٣ / ٤٣١ وج ٤ / ١٢٨، مسند أحمد ج ٢ / ٢٤٥ و ٢٨٧ و ٢٦٥ و ٥١٧، الجامع الصغير ح ٢٩٠١، وصحيح الجامع الصغير ح ٢٦٧٦، أسنى المطالب ص ٩٨، الفتح الكبير ج ١ / ٤٩٠ (*).

٣٦٥

رجل يتغنى في بيته فسور عليه فوجد عنده امرأة وزقا من خمر، فقال: أي عدو الله ظننت ان الله يسترك وأنت على معصية، فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين ان كنت اخطأت في واحدة، فقد اخطأت انت في ثلاث. قال الله تعالى:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) فقد تجسست وقال:( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وقد تسورت وقال:( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) وما سلمت. فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟. قال نعم. فعفا عنه وخرج(٤٩٠) .

وعن السدي قال: خرج عمر بن الخطاب فإذا هو بضوء نار ومعه عبدالله بن مسعود واتبع الضوء حتى دخل الدار، فإذا سراج في بيت، فدخل وحده وترك ابن مسعود في الدار، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال: ما رأيت منظرا أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع الشيخ رأسه فقال: بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني، إذ تجسست وقد نهى الله عن التجسس، ودخلت بغير إذن، فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه يبكي.

وقال: ثكلت عمر أمه، إلى أن قال: وهجر الشيخ مجلس عمر حينا، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال: علي بهذا، فقيل له: أجب فقام وهو يرى ان عمر سيسوئه بما رأى منه. فقال عمر: ادن مني فلا زال يدنيه حتى

____________________

(٤٩٠) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٦ من أحاديث الكنز في ص ١٦٧ من جزئه الثاني، وأورده ابن أبى الحديد في ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة، وذكره الغزالي في ص ١٣٧ من كتابه إحياء العلوم (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، الرياض النضرة ج ٢ / ٤٦ ط ١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ (*).

٣٦٦

أجلسه بجنبه، فقال: ادن مني اذنك فالتقم أذنه فقال له. والذي بعث محمدا بالحق ما أخبرت أحدا من الناس بما رأيت منك، ولا ابن مسعود فانه كان معي. (الحديث)(٤٩١) .

وعن الشعبي: ان عمر فقد رجلا من أصحابه، فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله أياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الإناء ؟. فقال عمر: أتخاف ان يكون هذا تجسسا ؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا ؟. قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره !. (الحديث)(٤٩٢) .

وعن المسور بن مخرمة، عن عبدالرحمن بن عوف: انه حرس المدينة مع عمر بن الخطاب ليلة فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه فإذا باب مجاف - مغلق - على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فأخذ عمر بيد عبدالرحمن بن عوف فقال له: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن يشربون الخمر فما ترى ؟. قال أرى انا قد أتينا ما نهى الله عنه إذ تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم !(٤٩٣) .

____________________

(٤٩١) أخرجه أبو الشيخ في كتاب القطع والسرقة، ونقله صاحب كنز العمال في ص ١٤١ من جزئه الثاني وهو الحديث ٣٣٥٤ (منه قدس).

(٤٩٢) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وهو الحديث ٣٦٩٤ في ج ٢ من الكنز (منه قدس).

(٤٩٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٣ من أحاديث الكنز في الجزء المتقدم ذكره. وأخرجه الحاكم أيضا وصححه في باب النهى عن التجسس من كتاب الحدود صفحة ٣٧٧ من الجزء الرابع من المستدرك =>

٣٦٧

وعن طاووس: ان عمر خرج ليلة فمر ببيت فين ناس يشربون فناداهم أفسقا ؟ أفسقا ؟ فقال بعضهم: قد نهاك الله عن هذا، فرجع عمر وتركهم !(٤٩٤) .

وعن أبي قلابة: ان عمر حدث ان أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين ان هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، أفسأل عمر زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم فقالا: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر وتركه !(٤٩٥)

قلت: من تتبع ما جاء من الأخبار حول تجسسه رأى من نشاطه في سياسته وعزائمه المبذولة في سبيلها ما هو ماثل بأجلى المظاهر(٤٩٦) .

وكأنه (رض) كان يرى أن الحدود الشرعية تدرأ بخطأ الحاكم في طريق اثباتها، ولذلك لم يقم على واحد من هؤلاء المجرمين حدا، بل لم يؤذ منهم أحدا، وما ندري كيف رضي أن لا يكون لتجسسه أثر، إلا تمرد المجرمين في إجرامهم، بعد أن رأو هذا التسامح من أمامهم ؟ !.

____________________

=> أورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٢، سنن البيهقي ج ٨ / ٣٣٤، الإصابة ج ١ / ٥٣١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٦.

(٤٩٤) (٤٩٥) هذا الحديث وحديث طاووس موجودان في ج ٢ / ١٤١ من كنز العمال (منه قدس). مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥.

(٤٩٦) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥ (*).

٣٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٩: -

[ المورد - (٥٣) - تشريع حد لمهور النساء ]

يجب في المهر أن يكون مما يملكه المسلم، عينا كان أم دينا، أم منفعة، وتقديره راجع إلى الزوجين فيما يتراضيان عليه، كثيرا كان أم قليلا، ما لم يخرج بسبب القلة عن المالية كحبة من طعام مثلا، نعم يستحب في جانب الكثرة أن لا يزيد على مهر السنة وهو خمسمائة درهم(٤٩٧) .

وكان عمر (رض) عزم على النهي عن الغلو في مهور النساء، تسهيلا لأمر التناكح الذي به التناسل، وبه صون الاحداث عن الحرام وأن من تزوج أحرز ثلثي دينه(٤٩٨)

فقام في بعض أيامه خطيبا في هذا المعنى، فكان مما قاله في خطابه: لا يبلغني ان امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الا أرجعت ذلك منها. فقامت إليه امرأة فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، انه يقول:( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (٤٩٩) فعدل عن حكمه قائلا: الا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ؟ ! ناضلت إمامكم فنضلته(٥٠٠) .

وفي رواية(١) انه قال: كل أحد أعلم من عمر، تسمعونني أقول مثل

____________________

(٤٩٧) الوسائل باب - ٢ - من أبواب المهور ح ١، جواهر الكلام ج ٣١ / ٣ و ١٤ و ١٥، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ / ١٦١ ط بيروت.

(٤٩٨) مستدرك الوسائل ك النكاح باب - ١ - من أبواب مقدمات النكاح ح ٢ و ٣، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٥ / ٨٦.

(٤٩٩) سورة النساء آية: ٢٠.

(٥٠٠) رواه بهذه الألفاظ كثير من حفظة السنن وسدنة الآثار، وأرسله ابن أبى الحديد في أحوال عمر ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح النهج - إرسال المسلمات (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، وشرح النهج الحديدي ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١.

(١) ذكرها الزمخشري في تفسير: وآتيتم إحداهن قنطارا من سورة النساء في كشافه (منه قدس) (*).

٣٦٩

هذا القول فلا تنكرونه علي حتى ترد علي امرأة ليست أعلم من نسائكم ؟ !(٥٠١) .

وفي رواية أخرى(١) فقامت امرأة فقالت: يابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن حكمه(٥٠٢) .

قلت: استدلوا بهذه الواقعة وأمثالها على إنصافه واعترافه، وكم له من قضايا مع الخاصة والعامة من رجال ونساء تمثل له الإنصاف والاعتراف و كان إذا أعجبه القول أو الفعل يستفزه العجب، وربما ظهر عليه الطرب.

كما اتفق له مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن أشياء كرهها، فيما أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري إذ قال: سئل النبي عن أشياء كرهها لكونها

____________________

(٥٠١) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٧، الكشاف للزمخشري ج ١ / ٣٥٧ وفى طبع آخر ج ١ / ٥١٤، شرح صحيح البخاري للقسطلاني ج ٨ / ٥٧.

(١) ذكرها الرازي في تفسير الآية آخر ص ١٧٥ من الجزء الثالث من تفسيره الكبير، وله ثمة عثرة لليدين وللفم، إذ قال: وعندي ان الآية لا دلالة فيها على جواز المنالاة. إلى آخر كلامه الملتوي عن الفهم الذي أراد به تخطثه المرأة دفاعا عن عمر وقد زاد في طينته بلة من حيث لا يدرى، فليراجع الباحثون كلامه ليعجبوا من أسفافه، وفى ص ١٥٠ من تاريخ عمر بن الخطاب لأبي الفرج ابن الجوزي حديث عن عبدالله ابن مصعب وآخر عن ابن الاجدع يتضمنان خطاب عمر في نهيه عن الغلو في مهور النساء ورد المرأة عليه بما ألزمه بالرجوع عما نهى عنه معترفا بخطأه وصواب المرأة (منه قدس).

(٥٠٢) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، تفسير القرطبي ج ٥ / ٩٩، تفسير النيسابوري ج ١، تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ وزاد فيه: حتى النساء. وهناك روايات أخرى من أراد الاطلاع عليها مع مصادرها فاليراجعها في الغدير ج ٦ / ٩٥ وما بعدها. (*)

٣٧٠

مما لا يعنى العقلاء بها، ولا هي مما بعث الأنبياء لبيانها، فلما أكثروا عليه غضب لتعنتهم في السؤال، وتكلمهم فيما لا حاجة لهم به، ثم قال للناس. سلوني، كأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم فشلوا أو خجلوا حيث أغضبوه فتبسط لهم بقوله: سلوني، رأفة بهم ورحمة، فقال رجل هو عبدالله بن حذافة: من أبي يا رسول الله ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة، فقام آخر وهو سعد بن سالم فقال: من أبي يا رسول الله ؟. فقال: أبوك سالم مولى أبي شيبة.

وكان سبب هذا السؤال منهما طعن الناس في نسبيهما، فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله من الغضب قال: يا رسول الله انا نتوب إلى الله عزوجل مما يوجب غضبك اه‍. وسره من رسول الله الحاق عبدالله بحذافة، والحاق سعد بسالم تصديقا لاميهما في نسبيهما.

وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك ان عبدالله بن حذافة سأل رسول الله فقال له: من أبي ؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة.

وفي صحيح مسلم: انه كان يدعى لغير أبيه، فلما سمعت أمه سؤاله هذا، قالت: ما سمعت بابن أعق منك أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فبرك عندها عمر على ركبتيه أمام رسول الله فقال معجبا بتصديق النبي لام عبدالله ابن حذافة في نسبه: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.(٥٠٣)

قالها طربا بسترهصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير من الأمهات المفارقات في الجاهلية وقد جب الإسلام ما قبله.

____________________

(٥٠٣) تجد هذا الحديث في باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث، وتجد قبله حديث أبى موسى في أواخر كتاب العلم صفحة ١٩ من الجزء الأول من صحيح البخاري (منه قدس). صحيح مسلم. (*)

٣٧١

[ المورد - (٥٤) - استبدال الحد الشرعي بأمر آخر يختاره الحاكم ]

وذلك ان غلمة الحاطب بن بلتعة، اشتركوا في سرقة ناقة لرجل من مرينة فجي بهم إلى عمر فأقروا، فأمر عمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم، فلما ولي بهم ردهم عمر إليه ثم استدعى ابن مولاهم وهو عبدالرحمن بن حاطب فقال له: أما والله لولا انكم تستعملونهم وتجيعونهم لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل، لاغرمتك غرامة توجعك إلى آخر ما كان من هذه الواقعة فلتراجع في ص ٣٢ والتي بعدها من الجزء الثالث من أعلام الموقعين.

ونقلها عنه العلامة المعاصر أحمد أمين في ص ٢٨٧ من (فجر الإسلام). وأشار إليها ابن حجر العسقلاني في ترجمة عبدالرحمن بن حاطب، حيث أورده في القسم الثاني من الإصابة فقال: وله قضية مع عمر(٥٠٤) .

قلت: لعل ما فعله عمر من درء الحد عن هؤلاء الغلمة وجها، وذلك حيث لا تكون السرقة الا عن مخمصة اضطرتهم إليها بقيا على رمقهم ليكونوا ممن عناهم الله عزوجل بقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥٠٥) .

لكنهم أقروا بالسرقة فثبتت عليهم ولم يدعوا الضرورة الملجئة إليها، ولو فرض انهم ادعوها، لكان على الحاكم ان يطالبهم بما يثبتها، لكنا لم نر منه سوى أنه وسعهم باشفاقه مشتدا على ابن حاطب، وما ندري من أين علم انهم كانوا يجيعونهم هذا الجوع ؟.

____________________

(٥٠٤) وقريب من هذا ما وقع منه مع المغيرة بن شعبة وذلك لما زنى المغيرة بام جميل فدرأ عنه الحد. راجع تفصيل القضية في كتاب الغدير ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤.

(٥٠٥) سورة البقرة آية: ١٧٣ (*).

٣٧٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٣: -

[ المورد - (٥٥) - اخذ الدية حيث لم تشرع ]

وذلك ان أبا خراش الهذلي الصحابي الشاعر، أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجا، فأخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى لهم ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل ان يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا. ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شأنهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبوخراش وهو في الموتى، فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يموت في شعر له :

لقد أهلكت حية بطن واد

على الاخوان ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بصرى

إلى صنعاء يطلبه بذحل

فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال: لولا ان تكون سنة لأمرت ان لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الافاق. ثم كتب إلى عامله باليمن ان يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذاك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم ! ؟(٥٠٦) .

[ المورد -(٥٦) - اقامة حد الزنى حيث لم يثبت مقتضيه ]

وذلك فيما أخرجه ابن سعد في أحوال عمر ص ٢٠٥ من الجزء الثالث

____________________

(٥٠٦) هذه القضية أوردها ابن عبد البر في أحوال أبى خراش الهذلى من كتابه الاستيعاب وأورده الدميري في حياة الحيوان بمادة حية (منه قدس)

٣٧٣

من طبقاته(١) بسند معتبر، أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته، فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدا لك من أخي ثقة ازاري

قلائصنا هداك الله انا

شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقلات

قفا سلع بمختلف البحار

قلائص من بني سعد بن بكر

وأسلم أو جهينة أو غفار

يعقلهن جعدة من سليم

معيدا يبتغي سقط العذار

فقال: ادعوا لي جعدة من سليم. [ قال ] فدعوا به فجلده مائة معقولا ونهاه ان يدخل على امرأة مغيبة. انتهى بلفظ ابن سعد(٥٠٧) .

قلت: لا وجه لإقامة الحد هنا بمجرد هذه الأبيات، إذ لم يعرف قائلها ولا مرسلها، على انها لا تتضمن سوى استعداء الخليفة على جعدة بدعوى انه تجاوز الحد مع فتيات من بني سعد ابن بكر، وسلم، وجهينة، وغفار، فكان يعبث بهن فيعقلهن كما تعقل القلص، يبتغي بذلك سقط عذارهن، أي سقط الحياء والحشمة، هذا كل ما في الأبيات مما نسب إلى جعدة. وهو لو ثبت شرعا لا يوجب بمجرده إقامة الحد، نعم يوجب تربيته وتعزيره.

ولعل ما فعله الخليفة انما كان من هذا الباب. وشتان ما كان منه هنا، وما كان منه مع المغيرة بن شعبة مما ستسمعه قريبا ان شاء الله.

[ المورد - (٥٧) - درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة ]

وذلك حيث فعل المغيرة (مع الإحصان) ما فعل مع أم جميل بنت عمرو

____________________

(١) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه، وذكر جلده ونفيه إلى عمان (منه قدس).

(٥٠٧) الطبقات الكبرى ج ٢ / ٢٨٥ ط دار صادر. (*)

٣٧٤

امرأة من قيس في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب، كانت سنة ١٧ للهجرة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة - وهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية - ونافع بن الحارث - وهو صحابي أيضا - وشبل بن معبد، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنهم رأوه يولجه فيها ايلاج الميل في المكحلة لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع - وهو زياد بن سمية - ليشهد، أفهمه الخليفة رغبته في ان لا يخزي المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها. فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال لا لكن رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد إلى ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا، وسمعت نفسا عاليا. فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود على الثلاثة.

واليكم تفصيل هذه الواقعة بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه - وفيات الأعيان - إذ قال ما هذا لفظه: وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه، فان عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الامير ؟. فيقول: في حاجة. فيقول: ان الأمير يزار ولا يزور.

[ قال ]: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي، ثم ذكر نسبها، ثم روى عن أبا بكرة بينما هو في غرفته مع اخوته، وهم نافع، وزياد، وشبل بن معبد أولاد سمية فهم اخوة لام، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضرب الريح

٣٧٥

باب غرفة أم جميل ففتحه ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة فقال له: ان كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا.

(قال) وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر ومضى أبو بكرة. فقال أبو بكرة: لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه فليصل فانه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمررضي‌الله‌عنه ، فكتبوا إليه فأمرهم ان يقدموا عليه جميعا، المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمررضي‌الله‌عنه ، فدعا بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها ؟ قال: نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة ألطف النظر ؟

فقال أبو بكرة: لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به.

فقال عمررضي‌الله‌عنه : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه ايلاج المرود في المكحلة.

فقال: نعم أشهد على ذلك.

فقال: اذهب مغيرة ذهب ربعك. ثم دعا نافعا فقال له: على م تشهد ؟

قال على مثل ما شهد أبو بكرة.

قال: لا حتى تشهد انه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.

قال: نعم حتى بلغ قذذة

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : اذهب مغيرة قد ذهب نصفك.

ثم دعا الثالث فقال له: على م تشهد ؟

فقال: على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر اذهب مغيرة فقد ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد وكان غائبا وقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلا قال: الي أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين، ثم ان عمررضي‌الله‌عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى ؟ فقيل ان المغيرة قام إلى زياد. فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس.

٣٧٦

فقال له المغيرة: يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فان الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي الا ان تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.

قال: فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين أما ان أحق ما حقق القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حيثيا وانتهازا ورأيته مستبطنها.

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة

فقال: لا.

وقيل قال زياد: رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا.

فقال عمررضي‌الله‌عنه . رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة.

فقال لا، فقال عمر: الله اكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقال إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة.

فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا.

فهم عمر ان يضربه حدا ثانيا، فقال له على بن أبي طالب: ان ضربته فارجم صاحبك فتركه واستناب عمر أبا بكرة فقال: انما تستتبني لتقبل شهادتي. فقال: أجل. فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا، فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمررضي‌الله‌عنه : اخزى الله مكانا رأوك فيه.

(قال) وذكر عمر بن شيبة في كتاب أخبار البصرة ان أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره. فكان يقال: ما كان ذاك الا من ضرب شديد.

(قال) وحكى عبدالرحمن بن أبي بكرة: ان أباه حلف لا يكلم زيادا ما

٣٧٧

عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى ان لا يصلى عليه الا أبوبرزة الاسلمي وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بينهما، وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره. ثم ان أم جميل وافت عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟ فقال: نعم هذه أم كلثوم بنت على. فقال عمر: أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب فيما شهد عليك، وما رايتك الا خفت أن أرمي بحجارة من السماء.

(قال) ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهور في كتابه المهذب: وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد.

(قال) وقال زياد: رأيت استأ تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما اذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة.

(قال) قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول عليرضي‌الله‌عنه لعمر: ان ضربته فارجم صاحبك. فقال أبو نصر بن الصباغ: يريد ان هذا القول ان كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وان كان هو الأولى فقد جلدته عليه والله أعلم. انتهت هذه المأساة وما إليها بلفظ القاضي ابن خلكان عينا فراجعه في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من الجزء الثاني من وفيات الأعيان المنتشرة(٥٠٨) .

وأخرج الحاكم هذه القضية في ترجمة المغيرة ص ٤٤٩ والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك، وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك أيضا، وأشار إليها مترجمو كل من المغيرة، وأبي بكرة، ونافع، وشبل بن

____________________

(٥٠٨) وفيات الأعيان ج ٢ / ٤٥٥ (*).

٣٧٨

معبد، ومن أرخ حوادث سنة ١٧ للهجرة من أهل الأخبار(٥٠٩) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٩: -

[ المورد - (٥٨) - تشدده على جبلة بن الايهم ]

وذلك انه وفد عليه في خمسمائة من فرسان عك وجفنة، تخب بهم مطهماتهم العربية، وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة، وفي - مقدمتهم جبلة وعلى رأسه تاجه وفيه قرط جدته مارية فاسلموا جميعا، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا، وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة، فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فلطمه جبلة، فاستعدى الفزاري عمر، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين، وقد نالهم ثمة من الخطوة بهرقل ومن العز والابهة فوق ما يتمنون(٥١٠) وكان جبلة مع هذا كله يبكي أسفا على ما فاته من دين الإسلام.

وهو القائل :

____________________

(٥٠٩) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ج ١٤ / ١٤٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤ و ٢٧٤، فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٥٢، تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٠٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٧٨، البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ / ٨١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٣ / ١٦١ ط ١ وج ١٢ / ٢٣١ - ٢٣٩ ط بتحقيق أبو الفضل، عمدة القاري ج ٦ / ٢٤٠، سنن البيهقي ج ٨ / ٢٣٥.

(٥١٠) كما فصله ابن عبد ربه الأندلسي حيث ذكر وفود جبلة على عمر في كتابه - الجمانة - في الوفود صفحة ١٨٧ من الجزء الأول من عقده الفريد. وتجد أيضا في صفحة ٦٢ من الجزء الأول من كتاب الدروس العربية للمدارس الثانوية المطبوع في مطبعة الكشاف ببيروت نقلا عن الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى (منه قدس). وكذلك تغريبه: ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ثم دخل أرض الروم وارتد. راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٢ (*).

٣٧٩

تنصرت الاشراف من أجل لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة

وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني

رجعت إلى القوم الذي قال لي عمر

ويا ليتني ارعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

قلت: ليت الخليفة لم يحرج هذا الأمير العربي وقومه ولو ببذل كل ما لديه من الوسائل إلى رضا الفزاري من حيث لا يدري ذلك الأمير أو من حيث يدري، وهيهات أن يفعل عمر ذلك. انه أراد أن يقود جبلة في أول بادرة تبدر منه ببرة(١) الصغار، فيجدع أنف عزه، وهذه سيرته مع كل عزيزي الجانب منيعي الحوزة كما يعلمه متتبعو سيرته من أولي الألباب.

وقد مر عليك تشدده على خالد وهو من أخواله. وشتان بين يوميه، يومه مع صاحبه المغيرة إذ درأ عنه حد الزنى محصنا كما سمعته آنفا، ويومه مع خالد إذ أصر على رجمه ولولا أبو بكر لرجم، كما سمعته أيضا، فان قوة شكيمة خالد واعتداده بنفسه أوجبا شدة وطأة عمر عليه، كما ان شمم جبلة وعزة نفسه أوجبا ذلك عليه أيضا، بخلاف المغيرة فانه كان - مع دهائه ومكره وحيله - أطوع لعمر من ظله، وأذل من نعله، ولذلك استبقاه مع فجوره.

وكانت سياسته تقتضي إرهاب الرعية بالتشدد على من كان عزيزا كجبلة وخالد، وربما أرهبهم بالوقيعة بذوي رحمه كما فعله بابنه أبي شحمة وبأم فروة أخت أبي بكر وبمن لا فائدة له به ممن لا يكون في عير السياسة ولا في نفيرها، كما فعله بجعدة السلمي، وضبيع التميمي، ونصر بن حجاج، وابن

____________________

(١) البرة حلقة من صفر أو نحوه توضع في أنف الجمل الشرود، فيربط بها حبل يقاد به ذلك الجمل (منه قدس) (*).

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432