الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89877 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أنّ آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثه أيّام فلمّا أمسك لسانه ولم يتكلّم علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الله وذلك قول الله ربّ اجعل لي آية.

اقول: وروى قريباً منه القمّيّ في تفسيره وقد عرفت فيما تقدّم أنّ سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.

وبعض المفسّرين شدّد النكير على ما تضمّنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها، وكون سؤال زكريّا للآية للتمييز فقال: إنّ هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها، ولا رسوله قالها، ولا هي ممّا يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتدّ به، وليس هناك إلّا روايات إسرائيليّة وغير إسرائيليّة، ولا موجب للتكلّف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.

وهو منه كلام من غير حجّة، والروايات وإن كانت آحاداً غير خالية عن ضعف الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها، والاحتجاج بما فيها لكنّ التدبّر في الآيات يقرّب الذهن منها، والّذي نقل منها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.

نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسّرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة: أنّ الشيطان جاء إلى زكريّا وشكّكه في كون البشارة من الله تعالى، وقال: لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوّز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أنّ جبرئيل قال لزكريّا( وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الّذي يكون فيه هذا لأنّك لم تصدّق كلامي الّذي سيتمّ في وقته) إنجيل لوقا ١ – ٢٠

٢٠١

( بحث روائي آخر)

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام): ما من قلب إلّا وله اُذنان على إحداهما ملك مرشد، وعلى الأخرى شيطان مفتّن: هذا يأمره وهذا يزجره الشيطان يأمره بالمعاصى، والملك يزجره عنها، وذلك قول الله عزّوجلّ: ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد عن اليمين وعن الشمال قعيد.

أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها. وتطبيقه (عليه السلام) الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إيّاها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيّئات في رواية اُخرى فإنّ الآية لا تدلّ على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلّم به، وأنّه متعدّد عن يمين الإنسان وشماله، وأمّا أنّه من الملائكة محضاً أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كلّ من المحتملين.

وفيه أيضاً عن زرارة قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الرسول وعن النبيّ وعن المحدّث. قال: الرسول الّذى يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول: يأمرك كذا وكذا، والرسول يكون نبيّاً مع الرسالة، والنبيّ لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه. قلت: فما علمه أنّ الّذي في منامه حقّ؟ قال: يبيّنه الله حتّى يعلم أنّ ذلك حقّ، ولا يعاين الملك، الحديث.

اقول: قوله: والرسول يكون نبيّاً إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد تقدّم الكلام في معنى الرسالة والنبوّة في تفسير قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله الآية ) البقرة - ٢١٣.

وقوله: فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام، وأنّ معناه الغيبة عن الحسّ دون المنام المعروف. وقوله: يبيّنه الله الخ إشارة إلى التمييز بين الإلقاء الملكىّ والشيطانىّ بما بيّنه الله من الحقّ.

٢٠٢

وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول والنبىّ والمحدّث؟ قال الرسول الّذي يظهر الملك فيكلّمه، والنبيّ يرى في المنام، وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد، والمحدّث الّذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة. قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أنّ الّذي رأى في المنام هو الحقّ وأنّه من الملك؟ قال: يوفّق لذلك حتّى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيّكم الأنبياء، الحديث.

اقول: وهو في مساق الحديث السابق، وبيانه (عليه السلام) واف بتمييز المحدّث ما يسمعه من صوت الهاتف، وفي قوله: لقد ختم الله الخ إشارة إلى ذلك، وسيأتي الكلام في المحدّث في ذيل الآيات التالية.

٢٠٣

( سورة آل عمران الآيات ٤٢ - ٦٠)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى‏ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ( ٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ( ٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الْدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ( ٤٥) وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ( ٤٦) قَالَتْ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى‏ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( ٤٧) وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ( ٤٨) وَرَسُولاً إِلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ أَنّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( ٤٩) وَمُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُم بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ فَاتّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ( ٥٠) إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ( ٥١) فَلَمّا أَحَسّ عِيسَى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إَلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ( ٥٢) رَبّنَا

٢٠٤

آمَنّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ( ٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( ٥٤) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى‏ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( ٥٥) فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٥٦) وَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ( ٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ( ٥٨) إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ( ٥٩) الْحَقّ مِن رَبّكَ فَلاَ تَكُن مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٦٠)

( بيان)

قوله تعالى: ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله أصطفاك وطهّرك ) الجملة معطوفة على قوله: إذ قالت امرأة عمران فتكون شرحاً مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى: إنّ الله اصطفى الآية.

وفي الآية دليل على كون مريم محدّثة تكلّمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدلّ عليه أيضاً قوله في سورة مريم: فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً إلى آخر الآيات، وسيأتي الكلام في المحدّث.

وقد تقدّم في قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن الآية: أنّ ذلك بيان لاستجابة دعوة أمّ مريم: وإنّي سمّيتها مريم: وإنّي اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم، الآية وأنّ قول الملائكة لمريم: إنّ الله اصطفاك وطهّرك إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.

٢٠٥

فاصطفاؤها تقبّلها لعبادة الله، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة، وربّما قيل: إنّ المراد من تطهيرها جعلها بتولاً لا تحيض فيتهيّأ لها بذلك أن لا تضطرّ إلى الخروج من الكنيسة، ولا بأس به غير أنّ الّذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.

قوله تعالى: ( واصطفاك على نساء العالمين ) قد تقدّم في قوله تعالى: إنّ الله اصطفى إلى قوله: على العالمين أنّ الاصطفاء المتعدّي بعلى يفيد معنى التقدّم، وأنّه غير الاصطفاء المطلق الّذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهنّ.

وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك الآية وقوله تعالى:( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١ وقوله تعالى:( ومريم ابنة عمران الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) التحريم - ١٢ حيث لم تشتمل ممّا تختصّ بها من بين النساء إلّا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أنّ هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.

وأمّا ما اشتملت عليه الآيات في قصّتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه، والقنوت وكونها محدّثة فهي اُمور لا تختصّ بها بل يوجد في غيرها، وأمّا ما قيل: إنّها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.

قوله تعالى: ( يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ) القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل. والسجدة معروفة. والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلّل.

ولمّا كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى (اسم مفعول) وتوجيه فهمه نحو المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إنّ لك عندنا نبأ

٢٠٦

بعد نبإ فاستمعي لهما وأصغي اليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله والثاني ما يلزمك من وظيفة العبوديّة بالمحاذاة، وهو ما لله سبحانه عندك فيكون هذا إيفائاً للعبوديّة وشكراً للمنزلة فيؤل معنى الكلام إلى كون قوله: يا مريم اقنتي الخ بمنزلة التفريع لقوله: يا مريم إنّ الله اصطفيك الخ أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين. ولا يبعد أن يكون كلّ واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعاً لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمّل.

قوله تعالى: ( ذلك من أنبآء الغيب ) نوحيه إليك عدّه من أنباء الغيب نظير ما عدّت قصّة يوسف (عليه السلام) من أنباء الغيب الّتي توحي إلى رسول الله قال تعالى:( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) يوسف - ١٠٢ وأمّا ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرّفين كما أنّ كثيراً من الخصوصيّات المقتصّة في قصص زكريّا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.

ويؤيّد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: وما كنت لديهم إذ يلقون الخ.

على أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقومه كانوا اُمّيّين غير عالمين بهذه القصص ولا أنّهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصّة نوح:( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) هود - ٤٩ والوجه الأوّل أوفق بسياق الآية.

قوله تعالى: ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم ) الخ القلم بفتحتين القدح الّذي يضرب به القرعة، ويسمّى سهماً أيضاً، وجمعه أقلام. فقوله: يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعيّنوا بالقرعة أيّهم يكفل مريم.

وفي هذه الجملة دلالة على أنّ الاختصام الّذي يدلّ عليه قوله: وما كنت

٢٠٧

لديهم إذ يختصمون إنّما هو اختصامهم وتشاحّهم في كفالة مريم، وأنّهم لم يتناهوا حتّى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريّا فكفّلها بدليل قوله: فكفّلها زكريّا الآية.

وربّما احتمل بعضهم أنّ هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريّا عن كفالتها. وكأنّ منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصّة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريّا في أثنائها. فيكونان واقعتين اثنتين.

وفيه أنّه لا ضير في إعادة بعض خصوصيّات القصّة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصّة يوسف حيث قال تعالى - بعد تمام القصّة -:( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) يوسف - ١٠٢ يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصّة:( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة - إلى أن قال -لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجبّ يلتقطه بعض السيّارة إن كنتم فاعلين ) يوسف - ١٠.

قوله تعالى: ( إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك ) إلخ الظاهر أنّ هذه البشارة هي الّتى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً قالت إنّى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً الآيات ) مريم - ١٩ فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.

وقد قيل في وجهه أنّ المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبّر بالجمع عن الواحد تعظيماً لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدوابّ وركب السفن، وإنّما ركب دابّة واحدة وسفينة واحدة، ويقال: قال له الناس كذا، وإنّما قاله واحد وهكذا ونظير الآية قوله في قصّة زكريّا السابقة: فنادته الملائكة ثمّ قوله: قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية.

وربّما قيل: إنّ جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.

٢٠٨

والّذى يعطيه التدبّر في الآيات الّتى تذكر شأن الملائكة أنّ بين الملائكة تقدّماً وتأخّراً من حيث مقام القرب، وأنّ للمتأخّر التبعيّة المحضة لأوامر المتقدّم بحيث يكون فعل المتأخّر رتبة، عين فعل المتقدّم وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدّد فيه تقول: رأته عيناى وسمعته أذناى، ورأيته وسمعته، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدى ورسمته أناملي وفعلته أنا وكتبته أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، وقوله قولهم من غير اختلاف، وبالعكس كما أنّ فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله. كما قال تعالى:( الله يتوفّى الأنفس حين موتها ) الزمر - ٤٢ فنسب التوفّى إلى نفسه وقال:( قل يتوفّيكم ملك الموت الّذى وكلّ بكم ) السجدة - ١١ فنسبه إلى ملك الموت وقال:( حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفّته رسلنا ) الأنعام - ٦١ فنسبه إلى جمع من الملائكة.

ونظيره قوله تعالى:( إنّا أوحينا إليك ) النساء - ١٦٣ وقوله:( نزل به الروح الأمين على قلبك ) الشعراء - ١٩٤ وقوله:( من كان عدوّاً لجبريل فإنّه نزّله على قلبك ) البقرة - ٩٧ وقوله:( كلّا إنّها تذكرة فمن شاه ذكره في صحف مكرّمة مرفوعة مطهّرة بأيدى سفرة كرام بررة ) عبس - ١٦.

فظهر أنّ بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقرّبيهم على ما يدلّ عليه قوله تعالى:( إنّه لقول رسول كريم ذى قوّة عند ذى العرش مكين مطاع ثمّ أمين ) التكوير - ٢١ وسيأتى زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إنشاء الله تعالى.

ويؤيّد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: قال كذلك الله يفعل ما يشاء فإنّ ظاهره أنّ القائل هو الله سبحانه مع أنّه نسب هذا القول في سورة مريم في القصّة إلى الروح قال تعالى:( قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً قالت أنّي يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً قال كذلك قال ربّك هو

٢٠٩

علىّ هيّن الآيات ) مريم - ٢١.

وفي تكلّم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدّثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصّة بعينها:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً ) مريم - ١٧ يدلّ على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، وسيجئ تمام الكلام في المعنى في البحث الروائيّ الّتي إنشاء الله.

قوله تعالى: ( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ) قد مرّ البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله:( تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض ) البقرة - ٢٥٣.

والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدالّ على المعنى، وعلى الجملة سواء صحّ السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصحّ مثل إن كان زيد قائماً هذا بحسب اللغة. وأمّا بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الّذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشئ أراده: كن، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.

وأمّا المراد بالكلمة فقد قيل: إنّ المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أنّ من سبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشّروا به بعنوان أنّه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد: هذه كلمتي الّتي كنت أقولها. ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى عليه السللام:( وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) الأعراف - ١٣٧. وفيه أنّ ذلك وإن كان ربّما ساعده كتب العهدين لكنّ القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعدّ عيسى بن مريم مبشّراً لا مبشّراً به. على أنّ سياق قوله: اسمه المسيح لا يناسبه فإنّ الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلاً لا نفس عيسى، وظاهر قوله: اسمه المسيح أنّ المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدّمت في حقّه الكلمة.

وربّما قيل: إنّ المراد به عيسى (عليه السلام) لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، وبيانه

٢١٠

تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل:( ولاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه ) الزخرف - ٦٣ وفيه أنّه نكتة تصحّح هذا التعبير لكنّها خالية عمّا يساعدها من القرائن.

وربّما قيل: إنّ المراد بكلمة منه: البشارة نفسها، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله: يبشّرك بكلمة منه: يبشّرك ببشارة هي أنّك ستلدين عيسى من غير مسّ بشر. وفيه أنّ سياق الّذيل أعني قوله: اسمه المسيح لا يلائمه وهو ظاهر.

وربّما قيل: إنّ المراد به عيسى (عليه السلام) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن وإنّما اختصّ عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كلّ إنسان بل كلّ شئ موجوداً بكلمة كن التكوينيّة لأنّ سائر الأفراد من الإنسان يجرى ولادتهم على مجرى الأسباب العاديّة المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، وعمل العوامل المقارنة في ذلك، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسبّبات إلى أسبابها، ولمّا لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العاديّة التدريجيّة كان وجوده بمجرّد كلمة التكوين من غير تخلّل الأسباب العاديّة فكان نفس الكلمة كما يؤيّده قوله تعالى:( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) النساء - ١٧١ وقوله تعالى في آخر هذه الآيات:( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون الآية ) وهذا أحسن الوجوه.

والمسيح هو الممسوح سمّي به عيسى (عليه السلام) لأنّه كان مسيحاً باليمن والبركه أو لأنّه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون به أو لأنّ جبرئيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنّه كان يمسح رؤس اليتامى، أو لأنّه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنّه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلّا برء. فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.

لكن الّذي يمكن أن يعوّل عليه أنّ هذا اللفظ كان واقعاً في ضمن البشارة

٢١١

الّتي بشّر بها جبرئيل مريم (عليه السلام) على ما يحكيه تعالى بقوله:( إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ) وهذا اللفظ بعينه معرّب( مشيحا) الواقع في كتب العهدين.

والّذى يستفاد منها أنّ بني إسرائيل كان من دأبهم أنّ الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدّس ليبارك له في ملكه فكان يسمّى مشيحا فمعناه: إمّا الملك وإمّا المبارك.

وقد يظهر من كتبهم أنّه (عليه السلام) إنّما سمّي مشيحا من جهة كون بشارته متضمّناً لملكه، وأنّه سيظهر في بني إسرائيل ملكاً عليهم منجياً لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال:( فلمّا دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الربّ معك مباركة أنت في النساء. فلمّا رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما هذا السلام. فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله. وأنت تحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العليّ يدعى ويعطيه الربّ له كرسيّ داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء) لوقا ١ - ٣٤.

ولذلك تتعلّل اليهود عن قبول نبوّته بأنّ البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) لأنّه لم ينل الملك أيّام دعوته وفي حياته. ولذلك أيضاً ربّما وجّهته النصارى وتبعه بعض المفسّرين من المسلمين بأنّ المراد بملكه الملك المعنويّ دون الصوريّ.

أقول: وليس من البعيد أن يقال: إنّ تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركاً فإنّ التدهين عندهم إنّما كان للتبريك، ويؤيّده قوله تعالى:( قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت ) مريم - ٣١.

وعيسى أصله يشوع فسّروه بالمخلّص وهو المنجي، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريّا بيحيى على ما مرّ من المشابهة التامّة بين هذين النبيّين.

٢١٢

وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنّه مخلوق من غير أب، ويكون معروفاً بهذا النعت، وأنّ مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

قوله تعالى: ( وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ) الوجاهة هي المقبوليّة، وكونه (عليه السلام) مقبولاً في الدنيا ممّا لا خفاء فيه، وكذا في الآخرة بنصّ القرآن.

ومعنى المقرّبين ظاهر فهو مقرّب عند الله داخل في صفّ الأولياء والمقرّبين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله:( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدالله ولا الملائكة المقرّبون ) النساء - ١٧٢. وقد عرّف تعالى معنى التقريب بقوله:( إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال -وكنتم أزواجاً ثلاثة - إلى أن قال -والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون ) الواقعة - ١١ والآية كما ترى تدلّ على أنّ هذا التقرّب وهو تقرّب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الّذي سلوكه مكتوب على كلّ إنسان بل كلّ شئ قال تعالى:( يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه ) الانشقاق - ٦ وقال تعالى:( ألا إلى الله تصير الأمور ) الشورى - ٥٣.

وأنت إذا تأمّلت كون المقرّبين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنّه لا يلزم أن يكون مقاماً اكتسابيّاً فإنّ الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعلّه مقام تناله المقرّبون من الملائكة بهبة إلهيّه والمقرّبون من الإنسان بالعمل.

وقوله وجيهاً في الدنيا والآخرة حال، وكذا ما عطف عليه من قوله: ومن المقرّبين، ويكلّم، ومن الصالحين، ويكلّمه، رسولاً.

قوله تعالى: ( ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ) ، المهد ما يهيّأ للصبيّ من الفراش والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلاً تامّاً قويّاً، ولذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، وربّما قيل: إنّ الكهل من بلغ أربعاً وثلاثين.

٢١٣

وكيف كان ففيه دلالة على أنّه سيعيش حتّى يبلغ سنّ الكهولة ففيه بشارة اُخرى لمريم.

وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنّه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه، ولذا ربّما قيل: إنّ تكليمه للناس كهلاً إنّما هو بعد نزوله من السماء فإنّه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سنّ الكهولة. وربّما قيل: إنّ الّذي يعطيه التاريخ بعد التثبّت أنّ عيسى (عليه السلام) عاش نحواً من أربع وستّين سنه خلافاً لما يظهر من الأناجيل.

والّذي يظهر من سياق قوله: في المهد وكهلاً أنّه لا يبلغ سنّ الشيخوخة، وإنّما ينتهي إلى سنّ الكهولة، وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبي والكهولة.

والمعهود من وضع الصبيّ في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالباً. وهو سنّ الكلام فكلام الصبيّ في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنّه يكلّم الناس في المهد كلاماً تامّاً يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، وبعبارة أخرى يكلّمهم في المهد كما يكلّمهم كهلاً، والكلام من الصبيّ بهذه الصفة آية خارقة.

على أنّ القصّة في سورة مريم تبيّن أن تكليمه الناس إنّما كان لأوّل ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبيّ لأوّل يوم ولادته آية خارقة لا محالة قال تعالى:( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت اُمّك بغيّاً فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت الآيات ) مريم - ٣١.

قوله تعالى: ( قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) خطابها لربّها

٢١٤

مع كون المكلّم إيّاها الروح المتمثّل بنائاً على ما تقدّم أنّ خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أنّ الّذي يكلّمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجّهاً إليها من جهة الروح المتمثّل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربّها.

ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى:( قال ربّ ارجعون ) المؤمنون - ٩٩ فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.

قوله سبحانه: ( قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون ) قد مرّت الإشارة إلى أنّ تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١ يفيد أن يكون قوله هيهنا كذلك كلاماً تامّاً تقديره: الأمر كذلك ومعناه أنّ الّذي بشّرت به أمر مقضيّ لا مردّ له.

وأمّا التعجّب من هذا الأمر فإنّما يصحّ لو كان هذا الأمر ممّا لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشقّ: أمّا القدرة فإنّ قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء، وأمّا صعوبته ومشقّته فإنّ العسر والصعوبة إنّما يتصوّر إذا كان الأمر ممّا يتوسّل إليه بالأسباب فكلّما كثرت المقدّمات والأسباب وعزّت وبعد منالها اشتدّ الأمر صعوبة، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

فقد ظهر أنّ قوله: كذلك كلام تامّ أريد به رفع اضطراب مريم وتردّد نفسها وقوله: الله يخلق ما يشاء رفع العجز الّذي يوهمه التعجّب، وقوله: إذا قضى رفع لتوهّم العسر والصعوبة.

قوله تعالى: ( ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) اللام في الكتاب والحكمة للجنس. وقد مرّ أنّ الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلّقة بالاعتقاد أو العمل، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد

٢١٥

بعد الجنس لأهمّيّة في اختصاصه بالذكر. وليست لاُمّ الكتاب للاستغراق لقوله تعالى:( ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال قد جئتكم بالحكمة ولاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه فاتّقوا الله وأطيعون ) الزخرف - ٦٣ وقد مرّ بيانه.

وأمّا التوراة فالّذي يريده القرآن منها هو الّذي نزّله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصّه الله سبحانه في سورة الأعراف، وأمّا الّذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتّصال السند ما بين بختنصّر من ملوك بابل وكورش من ملوك الفرس، غير أنّ القرآن يصدّق أنّ التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلّيّة وإن لعبت بها يد التحريف، ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

وأمّا الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدلّ على أنّه كان كتاباً واحداً نازلاً على عيسى فهو الوحي المختصّ به قال تعالى:( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس ) آل عمران - ٤ وأمّا هذه الأناجيل المنسوبة إلى متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا فهي كتب مؤلّفة بعده (عليه السلام).

ويدلّ أيضاً على أنّ الأحكام إنّما هي في التوراة وأنّ الإنجيل لا تشتمل إلّا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ولأحّل لكم بعض الّذي حرّم عليكم الآية وقوله:( وآتيناه الإنجيل فيه هدىً ونور ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة للمتّقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) المائدة - ٤٧ ولا يبعد أن يستفاد من الآية أنّ فيه بعض الأحكام الإثباتيّة.

ويدلّ أيضاً على أنّ الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالتوراة. قال تعالى:( الّذين يتّبعون الرسول النبيّ الاُمّيّ الّذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ) الأعراف - ١٥٧.

٢١٦

قوله تعالى: ( ورسولاً إلى بني إسرائيل) ظاهره أنّه (عليه السلام) كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصّة كما هو اللائح من الآيات في حقّ موسى (عليه السلام) وقد مرّ في الكلام على النبوّة في ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله النبيّين الآية ) البقرة - ٢١٣ أنّ عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافّة.

لكنّ العقدة تنحلّ بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبيّ أنّ النبوّة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصّة الّتي تستتبع الحكم والقضاء بالحقّ بين الناس، إمّا بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى:( ولكلّ اُمّة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط ) يونس - ٤٧.

وبعبارة اُخرى النبيّ هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، والرسول هو المبعوث لادّاء بيان خاصّ يستتبع ردّه الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيّده بل يدلّ عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم عليهم السلام.

وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاصّ البعثة إليهم، وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاصّ نبيّاً مبعوثاً إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى عليهم السلام.

وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون قال تعالى:( اذهب إلى فرعون إنّه طغى ) طه - ٢٤ وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل. قال تعالى:( قالوا آمنّا بربّ هارون وموسى ) طه - ٧٠ ودعوة قوم فرعون قال تعالى:( ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم ) الدخان - ١٧. ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه السلام) قبل بعثة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الروم وأمم عظيمة من الغربيّين كالإفرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيّين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل،

٢١٧

والقرآن لم يخصّ - فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصّة بالذكر بل يعمّم مدحه أو ذمّه الجميع.

قوله تعالى: ( أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين - إلى قوله -واُحيي الموتى بإذن الله ) الخلق جمع أجزاء الشئ وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:( فتبارك الله أحسن الخالقين ) المؤمنون - ١٤.

والأكمه هو الّذي يولد مطموس العين، وقد يقال لمن تذهب عينه. قال: كمهت عيناه حتّى ابيضّتا، قاله الراغب. والأبرص من كان به برص وهو مرض جلدىّ معروف.

وفي قوله: واُحيي الموتى حيث علّق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقلّ من الإشعار بالكثرة والتعدّد.

وكذا قوله: بإذن الله سيق للدلالة على أنّ صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقلّ عيسى (عليه السلام) بشئ من ذلك، وإنّما كرّر تكراراً يشعر بالإصرار لما كان من المترقّب أن يضلّ فيه الناس فيعتقدوا باُلوهيّته استدلالاً بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام) ولذا كان يقيّد كلّ آية يخبر بها عن نفسه ممّا يمكن أن يضلّوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثمّ ختم الكلام بقوله: إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.

وظاهر قوله: أنّي أخلق لكم الخ أنّ هذه الآيات كانت تصدر عنه صدوراً خارجيّاً لا أنّ الكلام مسوق لمجرّد الاحتجاج والتحدّي، ولو كان مجرّد قول لقطع العذر وإتمام الحجّة لكان من حقّ الكلام أن يقيّد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.

على أنّ ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدلّ على وقوع هذه الآيات أتمّ الدلالة قال:( إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك - إلى أن قال -وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون

٢١٨

طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى الآية ) المائدة - ١١٠.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ قصارى ما تدلّ عليه الآية أنّ الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السرّ، وأنّه احتجّ على الناس بذلك، وأتمّ الحجّة عليهم بحيث لو سألوه شيئاً من ذلك لآتى به أمّا أنّ كلّها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.

قوله تعالى: ( وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ) وهذا إخبار بالغيب المختصّ بالله تعالى ومن خصّه من رسله بالوحي، وهو آية اُخرى وإخبار بغيب صريح التحقّق لا يتطرّق إليه الشكّ والريب فإنّ الإنسان لا يشكّ عادة فيما أكله ولا فيما ادّخره في بيته.

وإنّما لم يقيّد هذه الآية بإذن الله مع أنّ الآية لا تتحقّق إلّا بإذن منه تعالى كما قال:( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّا بإذن الله ) المؤمن - ٧٨ لأنّ هذه الآية عبّر عنها بالإنباء وهو كلام قائم بعيسى (عليه السلام) يعدّ فعلاً له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والإحياء فإنّها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلّا بإذنه.

على أنّ الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإنّ الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه في الإنباء فإنّ القلوب الساذجة تقبل اُلوهيّة خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف اُلوهيّة من يخبر بالمغيّبات فإنّها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمراً مبتذلاً جايز النيل لكلّ مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيّد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، وكذا الإبراء فيكفي فيها مجرّد ذكر أنّها آية من الله، وخاصّة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدّعون أنّهم مؤمنون، ولذلك ذيل الكلام بقوله: إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.

٢١٩

قوله تعالى: ( ومصدّقاً لما بين يدىّ من التوراة ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم ) عطف على قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل، وكون المعطوف مبنيّاً على التكلّم مع كون المعطوف عليه مبنيّاً على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام) في قوله: ومصدّقاً لما بين يديّ متكلّماً وفي قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل غائباً ليس ممّا يضرّ بالعطف بعد تفسير قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل بقول عيسى: أنّي قد جئتكم فإنّ وجه الكلام يتبدّل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.

وتصديقه للتوراة الّتي بين يديه إنّما هو تصديق لما علّمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى عليهما السلام فلا دلالة لكونه مصدّقاً للتوراة الّتي في زمانه على كونها غير محرّفة كما لا دلالة لتصديق نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للتوراة الّتي بين يديه على كونها غير محرّفة.

قوله تعالى: ( ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم ) فإنّ الله تعالى كان حرّم عليهم بعض الطيّبات. قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠.

والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلّا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقّة المكتوبة على اليهود، ولذا قيل: إنّ الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، وقوله: ولاُحلّ معطوف على قوله: بآية من ربّكم واللام للغاية. والمعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرّمة المكتوبة عليكم.

قوله تعالى: ( وجئتكم بآية من ربّكم ) الظاهر أنّه لبيان أنّ قوله: فاتّقوا الله وأطيعون متفرّع على إتيان الآية لا على إحلال المحرّمات فهو لدفع الوهم، ويمكن أن يكون هو مراد من قال: إنّ إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرّد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.

قوله تعالى: ( إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه ) فيه قطع لعذر من اعتقد اُلوهيّته لتفرّسه (عليه السلام) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد

٢٢٠

قوله: فيكون طيراً وقوله: واُحيي الموتى بقوله: بإذن الله لكنّ الظاهر من قوله تعالى فيما يحكى قول عيسى (عليه السلام):( ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم ) المائدة - ١١٧ أنّ ذلك كان بأمر من ربّه ووحى منه.

قوله تعالى: ( فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ) لمّا كانت البشارة الّتي بشّر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى (عليه السلام) من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصاً إيجازاً في الكلام وفرّع عليها تتمّة الجملة من قصّته وهو انتخابه حواريّيه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفّيه ورفعه إليه وهو تمام القصّة.

وقد اعتبر في القصّة المقدار الّذي يهمّ إلقاؤه إلى النصارى حين نزول الآيات، وهم نصارى نجران: الوفد الّذين أتوا المدينة للبحث الاحتجاج، ولذلك أسقط منها بعض الخصوصيّات الّتي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنيّة كسورة النساء والمائدة والأنبياء والزخرف والصفّ.

وفي استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمراً قلبيّاً إشعار بظهوره منهم حتّى تعلّق به الإحساس أو أنّهم همّوا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فاحسّ به فقوله: فلمّا أحسّ عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله؟ وإنّما أراد بهذا الاستفهام أن يتميّز عدّة من رجال قومه فيتمحضّوا للحقّ - فتستقرّ فيهم عدّة الدين، وتتمركز فيهم قوّته ثمّ تنتشر من عندهم دعوته، وهذا شأن كلّ قوّة من القوى الطبيعيّة والاجتماعيّة وغيرها، إنّها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبثّ العمل كان من اللازم أنّ تتّخذ لنفسها كانوناً تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمدّ منه ولو لا ذلك لم تستقرّ على عمل، وذهبت سدى لا تجدي نفعاً.

و نظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله صلّى الله عليه وآله ركوز القدرة وتجمّع القوّة ليستقيم به أمر الدعوة.

فلمّا أيقن عيسى (عليه السلام) أنّ دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلّهم أو جلّهم،

٢٢١

وأنّهم كافرون به لا محالة، وأنّهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدّت المحنة مهّد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريّون على ذلك فتميّزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساساً لتميّز الإيمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجّة كما قال تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريّين من أنصاري إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين ) الصفّ - ١٤.

وقد قيّد الأنصار في قوله: من أنصاري بقوله: إلى الله ليتمّ به معنى التشويق والتحريص الّذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى:( من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً ) البقرة - ٢٤٥.

والظرف متعلّق بقوله: أنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله:( إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين ) الصافّات - ٩٩.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعدّ غير الله ناصراً كما يعدّه ناصراً، ولا يساعد عليه أدب عيسى (عليه السلام) اللائح ممّا يحكيه القرآن من قوله على أنّ قوله تعالى: قال الحواريّون نحن أنصار الله أيضاً لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا: نحن أنصارك مع الله فليتأمّل.

قوله تعالى: ( قال الحواريّون نحن أنصار الله آمنّا بالله واشهد بأنّا مسلمون ) حواريّ الإنسان من اختصّ به من الناس، وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض، ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلّا في خواصّ عيسى (عليه السلام) من أصحابه.

وقولهم: آمنّا بالله بمنزل التفسير لقولهم: نحن أنصار الله وهذا ممّا يؤيّد كون قوله: أنصاري إلى الله جارياً مجرى التضمين كما مرّ فإنّه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله، والإيمان طريق.

٢٢٢

وهل هذا أوّل إيمانهم بعيسى (عليه السلام)؟ ربّما استفيد من قوله تعالى:( كما قال عيسى بن مريم للحواريّين من أنصاري إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله فآمنت طائفة ) الصفّ - ١٤ أنّه إيمان بعد إيمان، ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان والإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.

بل ربّما دلّ قوله تعالى:( وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنّا وأشهد بأنّنا مسلمون ) المائدة - ١١١ أنّ إجابتهم إنّما كانت بوحي من الله تعالى إليهم، وأنّهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الّذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان.

على أنّ قولهم: وأشهد بأنّنا مسلمون ربّنا آمنّا بما أنزلت وأتّبعنا الرسول - وهذا الإسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم - يدلّ أيضاً على ذلك فإنّ هذا الإسلام لا يتأتّى إلّا من خلّص المؤمنين لا من كلّ من شهد بالتوحيد والنبوّة مجرّد شهادة. بيان ذلك أنّه قد مرّ في البحث عن مراتب الإيمان والإسلام: أنّ كلّ مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدلّ عليه قولهم: آمنّا بالله وأشهد بأنّا مسلمون حيث أتوا في الإيمان بالفعل وفي الإسلام بالصفة فأوّل مراتب الإسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالاً ويتلوه الإذعان القلبيّ بهذه الشهادة الصوريّة في الجملة، ويتلوه (وهو المرتبة الثانية من الإسلام) التسليم القلبيّ لمعنى الإيمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطنيّ بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتّباع العمليّ في الدين، ويتلوه (وهو المرتبة الثانية من الإيمان) خلوص العمل واستقرار وصف العبوديّة في جميع الأعمال والأفعال ويتلوه (وهو المرتبة الثالثة من الإسلام) التسليم لمحبّة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئاً إلّا بالله ولا يقع هناك إلّا ما أحبّه الله وأراده ولا خبر عن محبّة العبد وإرادته في نفسه، ويتلوه (وهو المرتبة الثالثة من الإيمان) شيوع هذا التسليم العبوديّ في جميع الأعمال.

فإذا تذكّرت هذا الّذي ذكرناه، وتأمّلت في قوله (عليه السلام) فيما نقل من دعوته: فاتّقوا الله وأطيعون إنّ ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية وجدت

٢٢٣

أنّه (عليه السلام) أمر أوّلاً بتقوى الله وإطاعة نفسه ثمّ علل ذلك بقوله: إنّ الله ربّي وربّكم، أي إنّ الله ربّكم معشر الامّة وربّ رسوله الّذي أرسله إليكم فيجب عليكم أن تتّقوه بالإيمان وأن تطيعوني بالاتّباع، وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الإيمان والاتّباع. فهذا هو المستفاد من هذا الكلام، ولذا بدّل التقوى والإطاعة في التعليل من قوله: فاعبدوه وإنّما فعل ذلك ليتّضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبوديّة ثمّ ذكر أنّ هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلاً ينتهى بسالكه إلى الله سبحانه.

ثمّ لمّا أحسّ منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامّتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصاراً لسلوك هذا الصراط المستقيم الّذي كان يندب إليه، وهو العبوديّة أعني التقوى والإطاعة فأجابه الحواريّون بعين ما طلبه فقالوا: نحن أنصار الله ثمّ ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا: آمنّا بالله وأشهد بأنّا مسلمون ومرادهم بالإسلام إطاعته وتبعيّته ولذا لمّا خاطبوا ربّهم خطاب تذلّل والتجاء، وذكروا له ما وعدوا به عيسى (عليه السلام) قالوا: ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فبدّلوا الإسلام من الاتّباع، ووسّعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله.

فأفاد ذلك أنّهم آمنوا بجميع ما أنزل الله ممّا علّمه عيسى بن مريم من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل واتّبعوا الرسول في ذلك، وهذا كما ترى ليس أوّل درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته وأسماها.

وإنّما استشهدوا عيسى (عليه السلام) في إسلامهم واتّباعهم ولم يقولوا: آمنّا بالله وإنّا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجّة في عرضهم حالهم على ربّهم إذ قالوا: ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فكأنّهم قالوا: ربّنا حالنا هذا الحال، ويشهد بذلك رسولك.

قوله تعالى: ( ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول ) فاكتبنا مع الشاهدين مقول قول الحواريّين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم، وقد مرّ بيانه. وقد سألوا ربّهم أن يكتبهم من

٢٢٤

الشاهدين، وفرّعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعاً لأنّ تبليغ الرسول رسالته إنّما يتحقّق ببيانه ما أنزله الله عليه قولاً وفعلاً أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها فالشهادة على التبليغ إنّما يكون بتعلّمها من الرسول واتّباعه عملاً حتّى يشاهد أنّه عامل بما يدعو إليه لا يتخطّاه ولا يتعدّاه.

والظاهر أنّ هذه الشهادة هي الّتي يومي إليها قوله تعالى:( فلنسألنّ الّذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين ) الأعراف - ٦ وهي الشهادة على التبليغ، وأمّا قوله تعالى:( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين ) المائدة - ٨٣ فهو شهادة على حقّيّة رسالة الرسول دون التبليغ، والله أعلم.

وربّما أمكن أن يستفاد من قولهم: فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أنّ المسئول: أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك ممّا حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:( ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا اُمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا ) البقرة - ١٢٨. وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية.

قوله تعالى: ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ، الماكرون هم بنو إسرائيل بقرينة قوله: فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر وقد مرّ الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله:( وما يضلّ به إلّا الفاسقين ) البقرة - ٢٦.

قوله تعالى: ( إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفّيك ) التوفّى أخذ الشئ أخذاً تامّاً، ولذا يستعمل في الموت لأنّ الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى:( توفّته رسلنا ) الأنعام - ٦١ أي أماتته وقال تعالى:( وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنّا لفي خلق جديد - إلى أن قال -قل يتوفّاكم ملك الموت الّذي وكلّ بكم ) السجدة - ١١ وقال تعالى:( الله يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموت ويرسل الاُخرى ) الزمر - ٤٢. والتأمّل في الآيتين الأخيرتين يعطي أنّ التوفّي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ والحفظ،

٢٢٥

وبعبارة اُخرى إنّما استعمل التوفّي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أنّ نفس الإنسان لا يبطل ولا يفني بالموت الّذي يظنّ الجاهل أنّه فناء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتّى يبعثها للرجوع إليه، وإلّا فهو سبحانه يعبّر في الموارد الّتي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفّي كما في قوله تعالى:( وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) آل عمران - ١٤٤ وقوله تعالى:( لا يقضى عليهم فيموتوا ) الفاطر - ٣٦ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدّاً حتّى ما ورد في عيسى (عليه السلام) بنفسه كقوله:( والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً ) مريم - ٣٣ وقوله:( وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩ فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفّي في الموت.

على أنّ قوله تعالى في ردّ دعوى اليهود:( وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩ يؤيّد ذلك فإنّ اليهود كانت تدّعى أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) وكذلك كانت تظنّ النصارى: أنّ اليهود قتلت عيسى بن مريم (عليه السلام) بالصلب غير أنّهم كانوا يزعمون أنّ الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، والآيات كما ترى تكذّب قصّة القتل والصلب صريحاً.

والّذي يعطيه ظاهر قوله: وإن من أهل الكتاب الآية أنّه حيّ عند الله ولن يموت حتّى يؤمن به أهل الكتاب. عليهذا فيكون توفّيه (عليه السلام) أخذه من بين اليهود لكنّ الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنّما هو الظهور، وسيجئ تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.

قوله تعالى: ( ورافعك إلىّ ومطهّرك من الّذين كفروا ) الرفع خلاف الوضع،

٢٢٦

والطهارة خلاف القذارة. وقد مرّ الكلام في معنى الطهارة.

وحيث قيّد الرفع بقوله: إلىّ أفاد ذلك أنّ المراد بالرفع الرفع المعنويّ دون الرفع الصوريّ إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانيّة الّتي تتعاورها الأجسام والجسمانيّات بالحلول فيها، والقرب والبعد منها. فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: ثمّ إلىّ مرجعكم وخاصّة لو كان المراد بالتوفّي هو القبض لظهور أنّ المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه نظير ما ذكره تعالى في حقّ المقتولين في سبيله:( أحياء عند ربّهم ) آل عمران - ١٦٩ وما ذكره في حقّ إدريس (عليه السلام):( ورفعناه مكاناً عليّاً ) مريم - ٥٧.

وربّما يقال: إنّ المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيّاً إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أنّ السماء أي الجسمانيّة هي مقام القرب من الله سبحانه ومحلّ نزول البركات، ومسكن الملائكة المكرّمين. ولعلّنا نوفّق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إنشاء الله تعالى.

والتطهير من الكافرين حيث اُتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنويّ دون الظاهريّ الصوريّ فهو إبعاده من الكفّار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذّر بقذارة الكفر والجحود.

قوله تعالى: ( وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة ) وعد منه تعالى له (عليه السلام) أنّه سيفوّق متّبعي عيسى (عليه السلام) على مخالفيه الكافرين بنبوّته، وأنّ تفوّقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنّما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أنّ الفائقين هم الّذين اتّبعوه وأنّ غيرهم هم الّذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى (عليه السلام) أو غير ذلك.

غير أنّه تعالى لمّا أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أنّ المراد باتّباعه هو الاتّباع على الحقّ أعني الاتّباع المرضيّ لله سبحانه فيكون الّذين اتّبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام ونسخه دين عيسى، والمسلمون بعد ظهور

٢٢٧

الإسلام فإنّهم هم أتباعه على الحقّ، وعلى هذا فالمراد بالتفوّق هو التفوّق بحسب الحجّة دون السلطنة والسيطرة. فمحصّل معنى الجملة: أنّ متّبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجّتهم على حجّة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة. هذا ما ذكره وارتضاه المفسّرون في معنى الآية.

والّذي أراه أنّ الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإنّ ظاهر قوله: إنّي متوفّيك ورافعك إلىّ ومطهّرك من الّذين كفروا وجاعل الّذين اتّبعوك أنّه إخبار عن المستقبل وأنّه سيتحقّق فيما يستقبل حال التكلّم توفّ ورفع وتطهير وجعل على أنّ قوله: وجاعل الّذين اتّبعوك وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلّا في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حجّة متّبعي عيسى (عليه السلام) إلّا حجّة عيسى نفسه، وهي الّتي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه (عليه السلام) أقطع لعذر الكفّار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم. فما معنى وعده (عليه السلام) أنّه ستفوق حجّة متّبعيه على حجّة مخالفيه؟ ثمّ ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوّق بقوله: إلى يوم القيامة مع أنّ الحجّة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أنّ تفوّق الحجّة على الحجّة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.

فإن قلت: لعلّ المراد من تفوّق الحجّة تفوّقها من جهة المقبوليّة بأن يكون الناس أسمع لحجّة المتّبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعاً وأوثق ركناً وأشدّ قوّة.

قلت: مرجع ذلك إمّا إلى تفوّق متّبعيه الحقيقيّين من حيث السلطنة والقوّة والواقع خلافه، واحتمال أن يكون إخباراً عن ظهور للمتّبعين وتفوّق منهم سيتحقّق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية. وإمّا إلى كثرة العدد بأن يراد أنّ متّبعيه (عليه السلام) سيفوقون الكافرين أي يكون، أهل الحقّ بعد عيسى أكثر جمعاً من أهل الباطل.

٢٢٨

ففيه مضافاً إلى أنّ الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحقّ من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرناً أنّ لفظ الآية لا يساعد عليه فإنّ الفوقيّة في الآية وخاصّة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهيّ على اليهود وشمول الغضب عليهم إنّما يناسب القهر والاستعلاء: إمّا من حيث الحجّة البالغة أو من حيث السلطة والقوّة، وأمّا من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ الّذي أخذ في الآية معرّفاً للفرقتين هو قوله: الّذين اتّبعوك وقوله: الّذين كفروا والفعل إنّما يدلّ على التحقّق والحدوث دون التلبّس الّذي يدلّ عليه الوصف كالمتّبعين و الكافرين، ومجرّد صدور فعل من بعض أفراد أمّة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم كما أنّ القرآن يؤنّب اليهود ويوبخّهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب، وغير ذلك.

وعلي هذا صحّ أن يراد بالّذين كفروا اليهود، وبالّذين اتّبعوا النصارى لما صدر من صدرهم وسلفهم من الإيمان بعيسى (عليه السلام) واتّباعه - وقد كان إيماناً مرضيّاً واتّباعاً حقّاً - وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتّباعهم له (عليه السلام) بعد ظهور الإسلام، ولا اتّباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلاميّة.

فالمراد جعل النصارى - وهم الّذين اتّبع أسلافهم عيسى (عليه السلام) - فوق اليهود وهم الّذين كفروا بعيسى (عليه السلام) ومكروا به، والغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهيّ على اليهود، وحلول المكر بهم، وتشديد العذاب على اُمّتهم، ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتّباع هو الاتّباع على الحقّ كما استظهرناه في أوّل الكلام كما لا يخفى.

ويؤيّد هذا المعنى تغيير الاُسلوب في الآية الآتية أعني قوله: وأمّا الّذين آمنوا

٢٢٩

وعملوا الصالحات إذ لو كان المراد بالّذين اتّبعوا هم أهل الحقّ والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: وأمّا الّذين اتّبعوك فيوفّيهم اُجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.

وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالّذين اتّبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتّباع عيسى إلى يوم القيامة، والتقريب عين التقريب. وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبّر.

قوله تعالى: ( ثمّ إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الّذين اتّبعوه والّذين كفروا به. وهذا مآل أمرهم يوم القيامة، وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبإه.

قوله تعالى: ( فأمّا الّذين كفروا فاُعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ) ظاهره أنّه متفرّع على قوله: فأحكم بينكم تفرّع التفصيل على الإجمال فيكون بياناً للحكم الإلهيّ في يوم القيامة بالعذاب لليهود الّذين كفروا وتوفية الأجر للمؤمنين.

لكن اشتمال التفريع على قوله: في الدنيا يدلّ على كونه متفرّعاً على مجموع قوله: وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا ثمّ إلىّ مرجعكم الخ فيدلّ على أنّ نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الّذين فوّقهم الله تعالى عليهم، وفي الآخرة بالنار، وما لهم في ذلك من ناصرين.

وهذا أحد الشواهد على أنّ المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوّة دون التأييد بالحجّة.

وفي قوله: وما لهم من ناصرين دلالة على نفى الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، وهو حتم القضاء كما تقدّم.

٢٣٠

قوله تعالى: ( وأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم اُجورهم ) وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للّذين اتّبعوا إلّا أنّ مجرّد صدق الاتّباع لمّا لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأنّ الاتّباع كما عرفت وصف صادق على الاُمّة بمجرّد تحقّقه وصدوره عن عدّة من أفرادها وحينئذ إنّما يؤثّر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبّس به شخصاً دون من انتسب إليه اسماً فلذلك بدلّ الّذين اتّبعوك من مثل قوله: الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستقيم المعنى فإنّ السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدلّ عليه قوله تعالى:( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) البقرة - ٦٢.

فهذا أجر الّذين آمنوا وعملوا الصالحات من الّذين اتّبعوا عيسى (عليه السلام) أنّ الله يوفّيهم أجورهم، وأمّا غيرهم فليس لهم من ذلك شئ، وقد اُشير إلى ذلك في الآية بقوله: والله لا يحبّ الظالمين.

ومن هنا يظهر السرّ في ختم الآية - وهي آية الرحمة والجنّة - بمثل قوله: والله لا يحبّ الظالمين مع أنّ المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقّه الآية نظير قوله تعالى:( وكلّاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) الحديد - ١٠ وقوله تعالى:( إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ) التغابن - ١٧ وقوله تعالى:( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئآته ويدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) التغابن - ٩ وقوله تعالى:( فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربّهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين ) الجاثيه - ٣٠ إلى غير ذلك من الآيات.

٢٣١

فقوله: والله لا يحبّ الظالمين مسوق لبيان حال الطائفة الاُخرى ممّن انتسب إلى عيسى (عليه السلام) بالاتّباع وهم غير الّذين آمنوا وعملوا الصالحات.

قوله تعالى: ( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) إشارة إلى اختتام القصّة والمراد بالذكر الحكيم القرآن الّذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته، لا يدخله باطل، ولا يلج فيه هزل.

قوله تعالى: ( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون ) تلخيص لموضع الحاجة ممّا ذكره من قصّة عيسى في تولّده تفصيلاً والإيجاز بعد الإطناب - وخاصّة في مورد الاحتجاج والاستدلال - من مزايا الكلام، والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرّضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصّته ليدلّ على أنّ كيفيّة ولادته لا تدلّ على أزيد من كونه بشراً مخلوقاً نظير آدم عليهما السلام فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم ممّا قيل في آدم، وهو أنّه بشر خلقه الله من غير أب.

فمعنى الآية: أنّ مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفيّة خلق عيسى الجاري بيده أنّ كيفيّة خلقه يضاهي كيفيّة خلق آدم وكيفيّة خلقه أنّه جمع أجزائه من تراب ثمّ قال له كن فتكوّن تكوّناً بشريّاً من غير أب.

فالبيان بحسب الحقيقة منحلّ إلى حجّتين تفي كلّ واحدة منهما على وحدتها بنفي الاُلوهيّة عن المسيح (عليه السلام).

إحداهما: أنّ عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه الله ولا يضلّ في علمه - خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا ربّاً.

وثانيهما: أنّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال باُلوهيّته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضاً لمكان المماثلة.

٢٣٢

ويظهر من الآية أنّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعيّة كونيّة وإن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد.

والظاهر أنّ قوله: فيكون اُريد به حكاية الحال الماضية، ولا ينافي ذلك دلالة قوله: ثمّ قال له كن على انتفاء التدريج فإنّ النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعمّ من التدريجيّ الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الّذي هو كلمة كن كما قال تعالى:( إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) يس - ٨٢ وكثير منها تدريجيّة الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجيّة وأمّا إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى:( وما أمرنا إلّا واحدة كلمح بالبصر ) القمر - ٥٠ وسيجئ زيادة توضيح لهذا المعنى إنشاء الله تعالى في محلّه المناسب له.

على أنّ عمدة ما سيق لبيانه قوله: ثمّ قال له كن إنّه تعالى لا يحتاج في خلق شئ إلى الأسباب حتّى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان والاستحالة، والهوان والعسر، والقرب والبعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن كان، من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.

قوله تعالى: ( الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين ) تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأنّ ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصّة بقوله: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم الآية، وفيه تطييب لنفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّه على الحقّ، وتشجيع له في المحاجّة.

وهذا أعنى قوله: الحقّ من ربّك من أبدع البيانات القرآنيّة حيث قيّد الحقّ بمن الدالّة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحقّ مع ربّك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.

وذلك أنّ هذه الأقاويل الحقّة والقضايا النفس الأمريّة الثابتة كائنة ما كانت وإن كانت ضروريّة غير ممكنة التغيّر عمّا هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، والواحد

٢٣٣

نصف الإثنين، ونحو ذلك إلّا أنّ الإنسان إنّما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كلّه منه تعالى فالحقّ كلّه منه تعالى كما أنّ الخير كلّه منه، ولذلك كان تعالى لا يسئل عمّا يفعل وهم يسألون فإنّ فعل غيره إنّما يصاحب الحقّ إذا كان حقّاً وأمّا فعله تعالى فهو الوجود الّذي ليس الحقّ إلّا صورته العلميّة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى: يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين قال: قال (عليه السلام): اصطفاها مرّتين: أمّا الاُولى فاصطفاها أي اختارها. وأمّا الثانية فإنّها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين.

وفي المجمع قال أبوجعفر (عليه السلام) معنى الآية اصطفاك لذرّيّة الأنبياء، وطهّرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل.

اقول: معنى قوله: اصطفاك لذرّيّة الأنبياء اختارك لتكوني ذرّيّة صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء. ومعنى قوله: وطهّرك من السفاح أعطاك العصمة منه، وهو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها وتطهيرها فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر وقد مرّ دلالة الآية على ذلك.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد والترمذيّ وصحّحه وابن المنذر وابن حبّان والحاكم عن أنس: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآسية امرأة فرعون. قال السيوطيّ وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً.

وفيه أخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون.

٢٣٤

وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسن قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضى الله عنها قالت: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنت سيّدة نساء أهل الجنّة لا مريم البتول.

وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): سيّدة نساء أهل الجنّة مريم بنت عمران ثمّ فاطمة ثمّ خديجة ثمّ آسية امرأة فرعون.

وفيه أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحّاك عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: أربع نسوة سادات عالمهنّ: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأفضلهنّ عالماً فاطمة.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاطمة سيّدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة ابنة خويلد.

وفي الخصال بإسناده عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: خطّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أربع خطوط ثمّ قال: خير نساء الجنّة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

وفيه أيضاً بإسناده عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله عزّوجلّ اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة، الخبر.

أقول: والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة، وكون هؤلاء سيّدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهنّ أنفسهنّ كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدرّ المنثور وأخبار اُخرى، وقد مرّ نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى:( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً الآية ) آل عمران - ٣٣.

وممّا ينبغي أن يتنبّه له أنّ الواقع في الآية هو الاصطفاء، وقد مرّ أنّه الاختيار،

٢٣٥

والّذي وقع في الأخبار هو السيادة، وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الأوّل.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم، عن الباقر (عليه السلام): يقرعون بها حين ايتمت من أبيها.

وفي تفسير القمّيّ: وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين قال: اصطفاها مرّتين: أمّا الاُولى فاصطفاها أي اختارها. وأمّا الثانية فإنّها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين - إلى أن قال القمّيّ - ثمّ قال الله لنبيّه: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك يا محمّد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال لمّا ولدت اختصموا آل عمران فيها وكلّهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريّا. الخبر.

أقول: وقد مرّ من البيان ما يؤيّد هذا الخبر وما قبلها.

واعلم أنّ هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى (عليه السلام) ودعوته ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهمّ من البحث التفسيريّ، ولذلك تركنا ذكرها إلّا ما يهمّ ذكره منها.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: واُنبّئكم بما تأكلون الآية عن الباقر (عليه السلام) أنّ عيسى كان يقول لبني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم، وإنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله واُبرء الأكمه والأبرص والأكمه هو الأعمى: قالوا: ما نرى الّذي تصنع إلّا سحراً فأرنا آية نعلم أنّك صادق قال: أرأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم - يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادّخرتم بالليل - تعلمون أنّي صادق ؟ قالوا: نعم فكان يقول: أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا فمنهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من يكفر، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.

٢٣٦

اقول: وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره (عليه السلام) من الآيات أوّلاً وآخراً يؤيّد هذه الرواية، وقد مرّت الإشارة إليه.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: ومصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ولاُحلّ لكم الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة، وكانت شريعة عيسى أنّه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى، وأنزل عليه الإنجيل، وأخذ عليه الميثاق الّذي اُخذ على النبيّين، وشرّع له في الكتاب: إقام الصلاة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال، واُنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص، ولا أحكام حدود، ولا فرض مواريث، وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، وهو قول الله في الّذي قال عيسى لبني إسرائيل: ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم، وأمر عيسى من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل.

اقول: وروى الرواية في قصص الأنبياء مفصّلة عن الصادق (عليه السلام) وفيها: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة وثمانون سنة، ولا يوافق شيئ منهما تاريخ أهل الكتاب.

وفي العيون عن الرضا (عليه السلام): أنّه سئل لم سمّي الحواريّون الحواريّين ؟ قال: أمّا عند الناس فإنّهم سمّوا حواريّين لأنّهم كانوا قصّارين يخلّصون الثياب من الوسخ بالغسل، وهو اسم مشتقّ من الخبز الحوار. وأمّا عندنا فسمّي الحواريّون الحواريّين لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلّصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير.

وفي التوحيد عنه (عليه السلام): إنّهم كانوا اثنا عشر رجلاً، وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وفي الاكمال عن الصادق (عليه السلام) في حديث: بعث الله عيسى بن مريم، واستودعه

٢٣٧

النور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله، وزاده الإنجيل، وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته، والى الإيمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم إلّا طغياناً وكفراً، فلمّا لم يؤمنوا دعا ربّه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلّا طغياناً وكفراً فأتى بيت المقدّس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتّى طلبته اليهود، وادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حيّاً وادّعى بعضهم أنّهم قتلوه وصلبوه وما كان الله ليجعل لهم سلطاناً عليه وإنّما شبّه لهم، وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيباً لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفّاه.

أقول: قوله (عليه السلام): فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعاً من شرارهم.

وقوله (عليه السلام): فمكث يدعوهم الخ لعلّه إشارة إلى مدّة عمره على ما هو المشهور فإنّه (عليه السلام) كان يكلّمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبيّاً من صباه على ما يدلّ عليه قوله على ما حكاه الله عنه:( فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً ) مريم - ٣٠.

وقوله (عليه السلام): لكان تكذيباً لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفّاه نقل بالمعنى لقوله تعالى: ولكن رفعه الله الآية. وقوله تعالى: إنّي متوفّيك ورافعك إليّ الآية وقد استفاد من تقديم التوفّي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.

وفي تفسير القمّيّ عن الباقر (عليه السلام) قال: إنّ عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلاً فأدخلهم بيتاً ثمّ خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال: إنّ الله أوحى إليّ أنّه رافعي إليه الساعة، ومطهّري من اليهود فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟ فقال شابّ منهم أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا فقال لهم عيسى: أمّا إنّ منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. فقال رجل منهم: أنا هو يا نبيّ الله! فقال له عيسى: أتحسّ بذلك في نفسك ؟ فلتكن هو. ثمّ قال لهم عيسى: أمّا إنّكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين على الله في النار، وفرقة تتبع شمعون صادقة

٢٣٨

على الله في الجنّة ثمّ رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.

ثمّ قال: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الّذي قال له عيسى: إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشابّ الّذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل وصلب، وكفر الّذي قال له عيسى: يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.

اقول: وروي قريب منه عن ابن عبّاس وقتادة وغيرهما، وقال بعضهم: إنّ الّذي اُلقي عليه شبح عيسى هو الّذي دلّهم ليقبضوا عليه ويقتلوه، وقيل غير ذلك، والقرآن ساكت عن ذلك، وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى:( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم الآية ) النساء - ١٥٧.

وفي العيون عن الرضا (عليه السلام) قال: إنّه ما شبّه أمر أحد من أنبياء الله وحججه على الناس إلّا أمر عيسى وحده لأنّه رفع من الأرض حيّاً وقبض روحه بين السماء والأرض ثمّ رفع إلى السماء، ورّد عليه روحه، وذلك قوله عزّوجلّ: إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك، وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة: وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شئ شهيد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلمّا انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

اقول: وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إنشاء الله تعالى.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: إنّ مثل عيسى عند الله الآية أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا: أنّ سيّدي أهل نجران واُسقفيهم السيّد والعاقب لقيا نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسألاه عن عيسى فقالا: كلّ آدميّ له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية: إنّ مثل عيسى عند الله الآية.

٢٣٩

اقول: وروي ما يقرب منه عن السدّيّ وعكرمة وغيرهما، وروي القمّيّ في تفسيره أيضاً نزول الآية في المورد.

( بحث روائي آخر في معنى المحدّث)

في البصائر عن زرارة قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الرسول وعن النبيّ وعن المحدّث قال: الرسول الّذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول: يأمرك كذا وكذا، والرسول يكون نبيّاً مع الرسالة.

والنبيّ لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أنّ الّذي رأى في منامه حقّ ؟ قال يبيّنه الله حتّى يعلم أنّ ذلك حقّ ولا يعاين الملك. والمحدّث الّذي يسمع الصوت ولا يرى شاهداً.

اقول: ورواه في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام). قوله: شاهداً أي صائتاً حاضراً. ويمكن أن يكون حالاً من فاعل لا يرى.

وفيه أيضاً عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: فما الرسول والنبيّ والمحدّث ؟ قال: الرسول الّذي يظهر الملك فيكلّمه، والنبيّ يرى في المنام، وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد، والمحدّث الّذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم أنّ الّذي رأى في المنام هو الحقّ وأنّه من الملك ؟ قال: يوفّق لذلك حتّى يعرفه، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيّكم الأنبياء، الحديث.

وفيه عن محمّد بن مسلم قال: ذكرت المحدّث عند أبي عبدالله (عليه السلام) قال: فقال: إنّه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت: أصلحك الله كيف يعلم أنّه كلام الملك ؟ قال: إنّه يعطى السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك.

وفيه أيضاً عن أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: كان عليّ محدّثاً وكان سلمان محدّثاً. قال:

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432