الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 86137
تحميل: 6278


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86137 / تحميل: 6278
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أنّ آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثه أيّام فلمّا أمسك لسانه ولم يتكلّم علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الله وذلك قول الله ربّ اجعل لي آية.

اقول: وروى قريباً منه القمّيّ في تفسيره وقد عرفت فيما تقدّم أنّ سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.

وبعض المفسّرين شدّد النكير على ما تضمّنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها، وكون سؤال زكريّا للآية للتمييز فقال: إنّ هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها، ولا رسوله قالها، ولا هي ممّا يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتدّ به، وليس هناك إلّا روايات إسرائيليّة وغير إسرائيليّة، ولا موجب للتكلّف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.

وهو منه كلام من غير حجّة، والروايات وإن كانت آحاداً غير خالية عن ضعف الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها، والاحتجاج بما فيها لكنّ التدبّر في الآيات يقرّب الذهن منها، والّذي نقل منها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.

نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسّرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة: أنّ الشيطان جاء إلى زكريّا وشكّكه في كون البشارة من الله تعالى، وقال: لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوّز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أنّ جبرئيل قال لزكريّا( وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الّذي يكون فيه هذا لأنّك لم تصدّق كلامي الّذي سيتمّ في وقته) إنجيل لوقا ١ – ٢٠

٢٠١

( بحث روائي آخر)

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام): ما من قلب إلّا وله اُذنان على إحداهما ملك مرشد، وعلى الأخرى شيطان مفتّن: هذا يأمره وهذا يزجره الشيطان يأمره بالمعاصى، والملك يزجره عنها، وذلك قول الله عزّوجلّ: ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد عن اليمين وعن الشمال قعيد.

أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها. وتطبيقه (عليه السلام) الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إيّاها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيّئات في رواية اُخرى فإنّ الآية لا تدلّ على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلّم به، وأنّه متعدّد عن يمين الإنسان وشماله، وأمّا أنّه من الملائكة محضاً أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كلّ من المحتملين.

وفيه أيضاً عن زرارة قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الرسول وعن النبيّ وعن المحدّث. قال: الرسول الّذى يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول: يأمرك كذا وكذا، والرسول يكون نبيّاً مع الرسالة، والنبيّ لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه. قلت: فما علمه أنّ الّذي في منامه حقّ؟ قال: يبيّنه الله حتّى يعلم أنّ ذلك حقّ، ولا يعاين الملك، الحديث.

اقول: قوله: والرسول يكون نبيّاً إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد تقدّم الكلام في معنى الرسالة والنبوّة في تفسير قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله الآية ) البقرة - ٢١٣.

وقوله: فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام، وأنّ معناه الغيبة عن الحسّ دون المنام المعروف. وقوله: يبيّنه الله الخ إشارة إلى التمييز بين الإلقاء الملكىّ والشيطانىّ بما بيّنه الله من الحقّ.

٢٠٢

وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول والنبىّ والمحدّث؟ قال الرسول الّذي يظهر الملك فيكلّمه، والنبيّ يرى في المنام، وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد، والمحدّث الّذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة. قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أنّ الّذي رأى في المنام هو الحقّ وأنّه من الملك؟ قال: يوفّق لذلك حتّى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيّكم الأنبياء، الحديث.

اقول: وهو في مساق الحديث السابق، وبيانه (عليه السلام) واف بتمييز المحدّث ما يسمعه من صوت الهاتف، وفي قوله: لقد ختم الله الخ إشارة إلى ذلك، وسيأتي الكلام في المحدّث في ذيل الآيات التالية.

٢٠٣

( سورة آل عمران الآيات ٤٢ - ٦٠)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى‏ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ( ٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ( ٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الْدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ( ٤٥) وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ( ٤٦) قَالَتْ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى‏ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( ٤٧) وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ( ٤٨) وَرَسُولاً إِلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ أَنّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( ٤٩) وَمُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُم بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ فَاتّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ( ٥٠) إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ( ٥١) فَلَمّا أَحَسّ عِيسَى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إَلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ( ٥٢) رَبّنَا

٢٠٤

آمَنّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ( ٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( ٥٤) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى‏ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( ٥٥) فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٥٦) وَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ( ٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ( ٥٨) إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ( ٥٩) الْحَقّ مِن رَبّكَ فَلاَ تَكُن مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٦٠)

( بيان)

قوله تعالى: ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله أصطفاك وطهّرك ) الجملة معطوفة على قوله: إذ قالت امرأة عمران فتكون شرحاً مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى: إنّ الله اصطفى الآية.

وفي الآية دليل على كون مريم محدّثة تكلّمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدلّ عليه أيضاً قوله في سورة مريم: فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً إلى آخر الآيات، وسيأتي الكلام في المحدّث.

وقد تقدّم في قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن الآية: أنّ ذلك بيان لاستجابة دعوة أمّ مريم: وإنّي سمّيتها مريم: وإنّي اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم، الآية وأنّ قول الملائكة لمريم: إنّ الله اصطفاك وطهّرك إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.

٢٠٥

فاصطفاؤها تقبّلها لعبادة الله، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة، وربّما قيل: إنّ المراد من تطهيرها جعلها بتولاً لا تحيض فيتهيّأ لها بذلك أن لا تضطرّ إلى الخروج من الكنيسة، ولا بأس به غير أنّ الّذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.

قوله تعالى: ( واصطفاك على نساء العالمين ) قد تقدّم في قوله تعالى: إنّ الله اصطفى إلى قوله: على العالمين أنّ الاصطفاء المتعدّي بعلى يفيد معنى التقدّم، وأنّه غير الاصطفاء المطلق الّذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهنّ.

وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك الآية وقوله تعالى:( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١ وقوله تعالى:( ومريم ابنة عمران الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) التحريم - ١٢ حيث لم تشتمل ممّا تختصّ بها من بين النساء إلّا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أنّ هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.

وأمّا ما اشتملت عليه الآيات في قصّتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه، والقنوت وكونها محدّثة فهي اُمور لا تختصّ بها بل يوجد في غيرها، وأمّا ما قيل: إنّها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.

قوله تعالى: ( يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ) القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل. والسجدة معروفة. والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلّل.

ولمّا كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى (اسم مفعول) وتوجيه فهمه نحو المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إنّ لك عندنا نبأ

٢٠٦

بعد نبإ فاستمعي لهما وأصغي اليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله والثاني ما يلزمك من وظيفة العبوديّة بالمحاذاة، وهو ما لله سبحانه عندك فيكون هذا إيفائاً للعبوديّة وشكراً للمنزلة فيؤل معنى الكلام إلى كون قوله: يا مريم اقنتي الخ بمنزلة التفريع لقوله: يا مريم إنّ الله اصطفيك الخ أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين. ولا يبعد أن يكون كلّ واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعاً لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمّل.

قوله تعالى: ( ذلك من أنبآء الغيب ) نوحيه إليك عدّه من أنباء الغيب نظير ما عدّت قصّة يوسف (عليه السلام) من أنباء الغيب الّتي توحي إلى رسول الله قال تعالى:( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) يوسف - ١٠٢ وأمّا ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرّفين كما أنّ كثيراً من الخصوصيّات المقتصّة في قصص زكريّا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.

ويؤيّد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: وما كنت لديهم إذ يلقون الخ.

على أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقومه كانوا اُمّيّين غير عالمين بهذه القصص ولا أنّهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصّة نوح:( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) هود - ٤٩ والوجه الأوّل أوفق بسياق الآية.

قوله تعالى: ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم ) الخ القلم بفتحتين القدح الّذي يضرب به القرعة، ويسمّى سهماً أيضاً، وجمعه أقلام. فقوله: يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعيّنوا بالقرعة أيّهم يكفل مريم.

وفي هذه الجملة دلالة على أنّ الاختصام الّذي يدلّ عليه قوله: وما كنت

٢٠٧

لديهم إذ يختصمون إنّما هو اختصامهم وتشاحّهم في كفالة مريم، وأنّهم لم يتناهوا حتّى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريّا فكفّلها بدليل قوله: فكفّلها زكريّا الآية.

وربّما احتمل بعضهم أنّ هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريّا عن كفالتها. وكأنّ منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصّة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريّا في أثنائها. فيكونان واقعتين اثنتين.

وفيه أنّه لا ضير في إعادة بعض خصوصيّات القصّة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصّة يوسف حيث قال تعالى - بعد تمام القصّة -:( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) يوسف - ١٠٢ يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصّة:( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة - إلى أن قال -لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجبّ يلتقطه بعض السيّارة إن كنتم فاعلين ) يوسف - ١٠.

قوله تعالى: ( إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك ) إلخ الظاهر أنّ هذه البشارة هي الّتى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً قالت إنّى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً الآيات ) مريم - ١٩ فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.

وقد قيل في وجهه أنّ المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبّر بالجمع عن الواحد تعظيماً لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدوابّ وركب السفن، وإنّما ركب دابّة واحدة وسفينة واحدة، ويقال: قال له الناس كذا، وإنّما قاله واحد وهكذا ونظير الآية قوله في قصّة زكريّا السابقة: فنادته الملائكة ثمّ قوله: قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية.

وربّما قيل: إنّ جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.

٢٠٨

والّذى يعطيه التدبّر في الآيات الّتى تذكر شأن الملائكة أنّ بين الملائكة تقدّماً وتأخّراً من حيث مقام القرب، وأنّ للمتأخّر التبعيّة المحضة لأوامر المتقدّم بحيث يكون فعل المتأخّر رتبة، عين فعل المتقدّم وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدّد فيه تقول: رأته عيناى وسمعته أذناى، ورأيته وسمعته، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدى ورسمته أناملي وفعلته أنا وكتبته أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، وقوله قولهم من غير اختلاف، وبالعكس كما أنّ فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله. كما قال تعالى:( الله يتوفّى الأنفس حين موتها ) الزمر - ٤٢ فنسب التوفّى إلى نفسه وقال:( قل يتوفّيكم ملك الموت الّذى وكلّ بكم ) السجدة - ١١ فنسبه إلى ملك الموت وقال:( حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفّته رسلنا ) الأنعام - ٦١ فنسبه إلى جمع من الملائكة.

ونظيره قوله تعالى:( إنّا أوحينا إليك ) النساء - ١٦٣ وقوله:( نزل به الروح الأمين على قلبك ) الشعراء - ١٩٤ وقوله:( من كان عدوّاً لجبريل فإنّه نزّله على قلبك ) البقرة - ٩٧ وقوله:( كلّا إنّها تذكرة فمن شاه ذكره في صحف مكرّمة مرفوعة مطهّرة بأيدى سفرة كرام بررة ) عبس - ١٦.

فظهر أنّ بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقرّبيهم على ما يدلّ عليه قوله تعالى:( إنّه لقول رسول كريم ذى قوّة عند ذى العرش مكين مطاع ثمّ أمين ) التكوير - ٢١ وسيأتى زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إنشاء الله تعالى.

ويؤيّد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: قال كذلك الله يفعل ما يشاء فإنّ ظاهره أنّ القائل هو الله سبحانه مع أنّه نسب هذا القول في سورة مريم في القصّة إلى الروح قال تعالى:( قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً قالت أنّي يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً قال كذلك قال ربّك هو

٢٠٩

علىّ هيّن الآيات ) مريم - ٢١.

وفي تكلّم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدّثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصّة بعينها:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً ) مريم - ١٧ يدلّ على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، وسيجئ تمام الكلام في المعنى في البحث الروائيّ الّتي إنشاء الله.

قوله تعالى: ( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ) قد مرّ البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله:( تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض ) البقرة - ٢٥٣.

والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدالّ على المعنى، وعلى الجملة سواء صحّ السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصحّ مثل إن كان زيد قائماً هذا بحسب اللغة. وأمّا بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الّذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشئ أراده: كن، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.

وأمّا المراد بالكلمة فقد قيل: إنّ المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أنّ من سبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشّروا به بعنوان أنّه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد: هذه كلمتي الّتي كنت أقولها. ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى عليه السللام:( وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) الأعراف - ١٣٧. وفيه أنّ ذلك وإن كان ربّما ساعده كتب العهدين لكنّ القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعدّ عيسى بن مريم مبشّراً لا مبشّراً به. على أنّ سياق قوله: اسمه المسيح لا يناسبه فإنّ الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلاً لا نفس عيسى، وظاهر قوله: اسمه المسيح أنّ المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدّمت في حقّه الكلمة.

وربّما قيل: إنّ المراد به عيسى (عليه السلام) لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، وبيانه

٢١٠

تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل:( ولاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه ) الزخرف - ٦٣ وفيه أنّه نكتة تصحّح هذا التعبير لكنّها خالية عمّا يساعدها من القرائن.

وربّما قيل: إنّ المراد بكلمة منه: البشارة نفسها، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله: يبشّرك بكلمة منه: يبشّرك ببشارة هي أنّك ستلدين عيسى من غير مسّ بشر. وفيه أنّ سياق الّذيل أعني قوله: اسمه المسيح لا يلائمه وهو ظاهر.

وربّما قيل: إنّ المراد به عيسى (عليه السلام) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن وإنّما اختصّ عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كلّ إنسان بل كلّ شئ موجوداً بكلمة كن التكوينيّة لأنّ سائر الأفراد من الإنسان يجرى ولادتهم على مجرى الأسباب العاديّة المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، وعمل العوامل المقارنة في ذلك، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسبّبات إلى أسبابها، ولمّا لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العاديّة التدريجيّة كان وجوده بمجرّد كلمة التكوين من غير تخلّل الأسباب العاديّة فكان نفس الكلمة كما يؤيّده قوله تعالى:( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) النساء - ١٧١ وقوله تعالى في آخر هذه الآيات:( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون الآية ) وهذا أحسن الوجوه.

والمسيح هو الممسوح سمّي به عيسى (عليه السلام) لأنّه كان مسيحاً باليمن والبركه أو لأنّه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون به أو لأنّ جبرئيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنّه كان يمسح رؤس اليتامى، أو لأنّه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنّه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلّا برء. فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.

لكن الّذي يمكن أن يعوّل عليه أنّ هذا اللفظ كان واقعاً في ضمن البشارة

٢١١

الّتي بشّر بها جبرئيل مريم (عليه السلام) على ما يحكيه تعالى بقوله:( إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ) وهذا اللفظ بعينه معرّب( مشيحا) الواقع في كتب العهدين.

والّذى يستفاد منها أنّ بني إسرائيل كان من دأبهم أنّ الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدّس ليبارك له في ملكه فكان يسمّى مشيحا فمعناه: إمّا الملك وإمّا المبارك.

وقد يظهر من كتبهم أنّه (عليه السلام) إنّما سمّي مشيحا من جهة كون بشارته متضمّناً لملكه، وأنّه سيظهر في بني إسرائيل ملكاً عليهم منجياً لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال:( فلمّا دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الربّ معك مباركة أنت في النساء. فلمّا رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما هذا السلام. فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله. وأنت تحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العليّ يدعى ويعطيه الربّ له كرسيّ داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء) لوقا ١ - ٣٤.

ولذلك تتعلّل اليهود عن قبول نبوّته بأنّ البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) لأنّه لم ينل الملك أيّام دعوته وفي حياته. ولذلك أيضاً ربّما وجّهته النصارى وتبعه بعض المفسّرين من المسلمين بأنّ المراد بملكه الملك المعنويّ دون الصوريّ.

أقول: وليس من البعيد أن يقال: إنّ تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركاً فإنّ التدهين عندهم إنّما كان للتبريك، ويؤيّده قوله تعالى:( قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت ) مريم - ٣١.

وعيسى أصله يشوع فسّروه بالمخلّص وهو المنجي، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريّا بيحيى على ما مرّ من المشابهة التامّة بين هذين النبيّين.

٢١٢

وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنّه مخلوق من غير أب، ويكون معروفاً بهذا النعت، وأنّ مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

قوله تعالى: ( وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ) الوجاهة هي المقبوليّة، وكونه (عليه السلام) مقبولاً في الدنيا ممّا لا خفاء فيه، وكذا في الآخرة بنصّ القرآن.

ومعنى المقرّبين ظاهر فهو مقرّب عند الله داخل في صفّ الأولياء والمقرّبين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله:( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدالله ولا الملائكة المقرّبون ) النساء - ١٧٢. وقد عرّف تعالى معنى التقريب بقوله:( إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال -وكنتم أزواجاً ثلاثة - إلى أن قال -والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون ) الواقعة - ١١ والآية كما ترى تدلّ على أنّ هذا التقرّب وهو تقرّب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الّذي سلوكه مكتوب على كلّ إنسان بل كلّ شئ قال تعالى:( يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه ) الانشقاق - ٦ وقال تعالى:( ألا إلى الله تصير الأمور ) الشورى - ٥٣.

وأنت إذا تأمّلت كون المقرّبين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنّه لا يلزم أن يكون مقاماً اكتسابيّاً فإنّ الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعلّه مقام تناله المقرّبون من الملائكة بهبة إلهيّه والمقرّبون من الإنسان بالعمل.

وقوله وجيهاً في الدنيا والآخرة حال، وكذا ما عطف عليه من قوله: ومن المقرّبين، ويكلّم، ومن الصالحين، ويكلّمه، رسولاً.

قوله تعالى: ( ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ) ، المهد ما يهيّأ للصبيّ من الفراش والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلاً تامّاً قويّاً، ولذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، وربّما قيل: إنّ الكهل من بلغ أربعاً وثلاثين.

٢١٣

وكيف كان ففيه دلالة على أنّه سيعيش حتّى يبلغ سنّ الكهولة ففيه بشارة اُخرى لمريم.

وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنّه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه، ولذا ربّما قيل: إنّ تكليمه للناس كهلاً إنّما هو بعد نزوله من السماء فإنّه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سنّ الكهولة. وربّما قيل: إنّ الّذي يعطيه التاريخ بعد التثبّت أنّ عيسى (عليه السلام) عاش نحواً من أربع وستّين سنه خلافاً لما يظهر من الأناجيل.

والّذي يظهر من سياق قوله: في المهد وكهلاً أنّه لا يبلغ سنّ الشيخوخة، وإنّما ينتهي إلى سنّ الكهولة، وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبي والكهولة.

والمعهود من وضع الصبيّ في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالباً. وهو سنّ الكلام فكلام الصبيّ في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنّه يكلّم الناس في المهد كلاماً تامّاً يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، وبعبارة أخرى يكلّمهم في المهد كما يكلّمهم كهلاً، والكلام من الصبيّ بهذه الصفة آية خارقة.

على أنّ القصّة في سورة مريم تبيّن أن تكليمه الناس إنّما كان لأوّل ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبيّ لأوّل يوم ولادته آية خارقة لا محالة قال تعالى:( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت اُمّك بغيّاً فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت الآيات ) مريم - ٣١.

قوله تعالى: ( قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) خطابها لربّها

٢١٤

مع كون المكلّم إيّاها الروح المتمثّل بنائاً على ما تقدّم أنّ خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أنّ الّذي يكلّمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجّهاً إليها من جهة الروح المتمثّل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربّها.

ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى:( قال ربّ ارجعون ) المؤمنون - ٩٩ فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.

قوله سبحانه: ( قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون ) قد مرّت الإشارة إلى أنّ تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١ يفيد أن يكون قوله هيهنا كذلك كلاماً تامّاً تقديره: الأمر كذلك ومعناه أنّ الّذي بشّرت به أمر مقضيّ لا مردّ له.

وأمّا التعجّب من هذا الأمر فإنّما يصحّ لو كان هذا الأمر ممّا لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشقّ: أمّا القدرة فإنّ قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء، وأمّا صعوبته ومشقّته فإنّ العسر والصعوبة إنّما يتصوّر إذا كان الأمر ممّا يتوسّل إليه بالأسباب فكلّما كثرت المقدّمات والأسباب وعزّت وبعد منالها اشتدّ الأمر صعوبة، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

فقد ظهر أنّ قوله: كذلك كلام تامّ أريد به رفع اضطراب مريم وتردّد نفسها وقوله: الله يخلق ما يشاء رفع العجز الّذي يوهمه التعجّب، وقوله: إذا قضى رفع لتوهّم العسر والصعوبة.

قوله تعالى: ( ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) اللام في الكتاب والحكمة للجنس. وقد مرّ أنّ الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلّقة بالاعتقاد أو العمل، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد

٢١٥

بعد الجنس لأهمّيّة في اختصاصه بالذكر. وليست لاُمّ الكتاب للاستغراق لقوله تعالى:( ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال قد جئتكم بالحكمة ولاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه فاتّقوا الله وأطيعون ) الزخرف - ٦٣ وقد مرّ بيانه.

وأمّا التوراة فالّذي يريده القرآن منها هو الّذي نزّله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصّه الله سبحانه في سورة الأعراف، وأمّا الّذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتّصال السند ما بين بختنصّر من ملوك بابل وكورش من ملوك الفرس، غير أنّ القرآن يصدّق أنّ التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلّيّة وإن لعبت بها يد التحريف، ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

وأمّا الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدلّ على أنّه كان كتاباً واحداً نازلاً على عيسى فهو الوحي المختصّ به قال تعالى:( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس ) آل عمران - ٤ وأمّا هذه الأناجيل المنسوبة إلى متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا فهي كتب مؤلّفة بعده (عليه السلام).

ويدلّ أيضاً على أنّ الأحكام إنّما هي في التوراة وأنّ الإنجيل لا تشتمل إلّا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ولأحّل لكم بعض الّذي حرّم عليكم الآية وقوله:( وآتيناه الإنجيل فيه هدىً ونور ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة للمتّقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) المائدة - ٤٧ ولا يبعد أن يستفاد من الآية أنّ فيه بعض الأحكام الإثباتيّة.

ويدلّ أيضاً على أنّ الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالتوراة. قال تعالى:( الّذين يتّبعون الرسول النبيّ الاُمّيّ الّذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ) الأعراف - ١٥٧.

٢١٦

قوله تعالى: ( ورسولاً إلى بني إسرائيل) ظاهره أنّه (عليه السلام) كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصّة كما هو اللائح من الآيات في حقّ موسى (عليه السلام) وقد مرّ في الكلام على النبوّة في ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله النبيّين الآية ) البقرة - ٢١٣ أنّ عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافّة.

لكنّ العقدة تنحلّ بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبيّ أنّ النبوّة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصّة الّتي تستتبع الحكم والقضاء بالحقّ بين الناس، إمّا بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى:( ولكلّ اُمّة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط ) يونس - ٤٧.

وبعبارة اُخرى النبيّ هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، والرسول هو المبعوث لادّاء بيان خاصّ يستتبع ردّه الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيّده بل يدلّ عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم عليهم السلام.

وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاصّ البعثة إليهم، وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاصّ نبيّاً مبعوثاً إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى عليهم السلام.

وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون قال تعالى:( اذهب إلى فرعون إنّه طغى ) طه - ٢٤ وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل. قال تعالى:( قالوا آمنّا بربّ هارون وموسى ) طه - ٧٠ ودعوة قوم فرعون قال تعالى:( ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم ) الدخان - ١٧. ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه السلام) قبل بعثة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الروم وأمم عظيمة من الغربيّين كالإفرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيّين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل،

٢١٧

والقرآن لم يخصّ - فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصّة بالذكر بل يعمّم مدحه أو ذمّه الجميع.

قوله تعالى: ( أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين - إلى قوله -واُحيي الموتى بإذن الله ) الخلق جمع أجزاء الشئ وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:( فتبارك الله أحسن الخالقين ) المؤمنون - ١٤.

والأكمه هو الّذي يولد مطموس العين، وقد يقال لمن تذهب عينه. قال: كمهت عيناه حتّى ابيضّتا، قاله الراغب. والأبرص من كان به برص وهو مرض جلدىّ معروف.

وفي قوله: واُحيي الموتى حيث علّق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقلّ من الإشعار بالكثرة والتعدّد.

وكذا قوله: بإذن الله سيق للدلالة على أنّ صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقلّ عيسى (عليه السلام) بشئ من ذلك، وإنّما كرّر تكراراً يشعر بالإصرار لما كان من المترقّب أن يضلّ فيه الناس فيعتقدوا باُلوهيّته استدلالاً بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام) ولذا كان يقيّد كلّ آية يخبر بها عن نفسه ممّا يمكن أن يضلّوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثمّ ختم الكلام بقوله: إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.

وظاهر قوله: أنّي أخلق لكم الخ أنّ هذه الآيات كانت تصدر عنه صدوراً خارجيّاً لا أنّ الكلام مسوق لمجرّد الاحتجاج والتحدّي، ولو كان مجرّد قول لقطع العذر وإتمام الحجّة لكان من حقّ الكلام أن يقيّد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.

على أنّ ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدلّ على وقوع هذه الآيات أتمّ الدلالة قال:( إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك - إلى أن قال -وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون

٢١٨

طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى الآية ) المائدة - ١١٠.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ قصارى ما تدلّ عليه الآية أنّ الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السرّ، وأنّه احتجّ على الناس بذلك، وأتمّ الحجّة عليهم بحيث لو سألوه شيئاً من ذلك لآتى به أمّا أنّ كلّها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.

قوله تعالى: ( وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ) وهذا إخبار بالغيب المختصّ بالله تعالى ومن خصّه من رسله بالوحي، وهو آية اُخرى وإخبار بغيب صريح التحقّق لا يتطرّق إليه الشكّ والريب فإنّ الإنسان لا يشكّ عادة فيما أكله ولا فيما ادّخره في بيته.

وإنّما لم يقيّد هذه الآية بإذن الله مع أنّ الآية لا تتحقّق إلّا بإذن منه تعالى كما قال:( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّا بإذن الله ) المؤمن - ٧٨ لأنّ هذه الآية عبّر عنها بالإنباء وهو كلام قائم بعيسى (عليه السلام) يعدّ فعلاً له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والإحياء فإنّها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلّا بإذنه.

على أنّ الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإنّ الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه في الإنباء فإنّ القلوب الساذجة تقبل اُلوهيّة خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف اُلوهيّة من يخبر بالمغيّبات فإنّها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمراً مبتذلاً جايز النيل لكلّ مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيّد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، وكذا الإبراء فيكفي فيها مجرّد ذكر أنّها آية من الله، وخاصّة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدّعون أنّهم مؤمنون، ولذلك ذيل الكلام بقوله: إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.

٢١٩

قوله تعالى: ( ومصدّقاً لما بين يدىّ من التوراة ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم ) عطف على قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل، وكون المعطوف مبنيّاً على التكلّم مع كون المعطوف عليه مبنيّاً على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام) في قوله: ومصدّقاً لما بين يديّ متكلّماً وفي قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل غائباً ليس ممّا يضرّ بالعطف بعد تفسير قوله: ورسولاً إلى بني إسرائيل بقول عيسى: أنّي قد جئتكم فإنّ وجه الكلام يتبدّل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.

وتصديقه للتوراة الّتي بين يديه إنّما هو تصديق لما علّمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى عليهما السلام فلا دلالة لكونه مصدّقاً للتوراة الّتي في زمانه على كونها غير محرّفة كما لا دلالة لتصديق نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للتوراة الّتي بين يديه على كونها غير محرّفة.

قوله تعالى: ( ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم ) فإنّ الله تعالى كان حرّم عليهم بعض الطيّبات. قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠.

والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلّا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقّة المكتوبة على اليهود، ولذا قيل: إنّ الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، وقوله: ولاُحلّ معطوف على قوله: بآية من ربّكم واللام للغاية. والمعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرّمة المكتوبة عليكم.

قوله تعالى: ( وجئتكم بآية من ربّكم ) الظاهر أنّه لبيان أنّ قوله: فاتّقوا الله وأطيعون متفرّع على إتيان الآية لا على إحلال المحرّمات فهو لدفع الوهم، ويمكن أن يكون هو مراد من قال: إنّ إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرّد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.

قوله تعالى: ( إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه ) فيه قطع لعذر من اعتقد اُلوهيّته لتفرّسه (عليه السلام) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد

٢٢٠