الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90813 / تحميل: 7152
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

قوله: فيكون طيراً وقوله: واُحيي الموتى بقوله: بإذن الله لكنّ الظاهر من قوله تعالى فيما يحكى قول عيسى (عليه السلام):( ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم ) المائدة - ١١٧ أنّ ذلك كان بأمر من ربّه ووحى منه.

قوله تعالى: ( فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ) لمّا كانت البشارة الّتي بشّر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى (عليه السلام) من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصاً إيجازاً في الكلام وفرّع عليها تتمّة الجملة من قصّته وهو انتخابه حواريّيه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفّيه ورفعه إليه وهو تمام القصّة.

وقد اعتبر في القصّة المقدار الّذي يهمّ إلقاؤه إلى النصارى حين نزول الآيات، وهم نصارى نجران: الوفد الّذين أتوا المدينة للبحث الاحتجاج، ولذلك أسقط منها بعض الخصوصيّات الّتي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنيّة كسورة النساء والمائدة والأنبياء والزخرف والصفّ.

وفي استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمراً قلبيّاً إشعار بظهوره منهم حتّى تعلّق به الإحساس أو أنّهم همّوا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فاحسّ به فقوله: فلمّا أحسّ عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله؟ وإنّما أراد بهذا الاستفهام أن يتميّز عدّة من رجال قومه فيتمحضّوا للحقّ - فتستقرّ فيهم عدّة الدين، وتتمركز فيهم قوّته ثمّ تنتشر من عندهم دعوته، وهذا شأن كلّ قوّة من القوى الطبيعيّة والاجتماعيّة وغيرها، إنّها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبثّ العمل كان من اللازم أنّ تتّخذ لنفسها كانوناً تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمدّ منه ولو لا ذلك لم تستقرّ على عمل، وذهبت سدى لا تجدي نفعاً.

و نظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله صلّى الله عليه وآله ركوز القدرة وتجمّع القوّة ليستقيم به أمر الدعوة.

فلمّا أيقن عيسى (عليه السلام) أنّ دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلّهم أو جلّهم،

٢٢١

وأنّهم كافرون به لا محالة، وأنّهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدّت المحنة مهّد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريّون على ذلك فتميّزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساساً لتميّز الإيمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجّة كما قال تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريّين من أنصاري إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين ) الصفّ - ١٤.

وقد قيّد الأنصار في قوله: من أنصاري بقوله: إلى الله ليتمّ به معنى التشويق والتحريص الّذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى:( من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً ) البقرة - ٢٤٥.

والظرف متعلّق بقوله: أنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله:( إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين ) الصافّات - ٩٩.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعدّ غير الله ناصراً كما يعدّه ناصراً، ولا يساعد عليه أدب عيسى (عليه السلام) اللائح ممّا يحكيه القرآن من قوله على أنّ قوله تعالى: قال الحواريّون نحن أنصار الله أيضاً لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا: نحن أنصارك مع الله فليتأمّل.

قوله تعالى: ( قال الحواريّون نحن أنصار الله آمنّا بالله واشهد بأنّا مسلمون ) حواريّ الإنسان من اختصّ به من الناس، وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض، ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلّا في خواصّ عيسى (عليه السلام) من أصحابه.

وقولهم: آمنّا بالله بمنزل التفسير لقولهم: نحن أنصار الله وهذا ممّا يؤيّد كون قوله: أنصاري إلى الله جارياً مجرى التضمين كما مرّ فإنّه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله، والإيمان طريق.

٢٢٢

وهل هذا أوّل إيمانهم بعيسى (عليه السلام)؟ ربّما استفيد من قوله تعالى:( كما قال عيسى بن مريم للحواريّين من أنصاري إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله فآمنت طائفة ) الصفّ - ١٤ أنّه إيمان بعد إيمان، ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان والإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.

بل ربّما دلّ قوله تعالى:( وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنّا وأشهد بأنّنا مسلمون ) المائدة - ١١١ أنّ إجابتهم إنّما كانت بوحي من الله تعالى إليهم، وأنّهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الّذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان.

على أنّ قولهم: وأشهد بأنّنا مسلمون ربّنا آمنّا بما أنزلت وأتّبعنا الرسول - وهذا الإسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم - يدلّ أيضاً على ذلك فإنّ هذا الإسلام لا يتأتّى إلّا من خلّص المؤمنين لا من كلّ من شهد بالتوحيد والنبوّة مجرّد شهادة. بيان ذلك أنّه قد مرّ في البحث عن مراتب الإيمان والإسلام: أنّ كلّ مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدلّ عليه قولهم: آمنّا بالله وأشهد بأنّا مسلمون حيث أتوا في الإيمان بالفعل وفي الإسلام بالصفة فأوّل مراتب الإسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالاً ويتلوه الإذعان القلبيّ بهذه الشهادة الصوريّة في الجملة، ويتلوه (وهو المرتبة الثانية من الإسلام) التسليم القلبيّ لمعنى الإيمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطنيّ بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتّباع العمليّ في الدين، ويتلوه (وهو المرتبة الثانية من الإيمان) خلوص العمل واستقرار وصف العبوديّة في جميع الأعمال والأفعال ويتلوه (وهو المرتبة الثالثة من الإسلام) التسليم لمحبّة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئاً إلّا بالله ولا يقع هناك إلّا ما أحبّه الله وأراده ولا خبر عن محبّة العبد وإرادته في نفسه، ويتلوه (وهو المرتبة الثالثة من الإيمان) شيوع هذا التسليم العبوديّ في جميع الأعمال.

فإذا تذكّرت هذا الّذي ذكرناه، وتأمّلت في قوله (عليه السلام) فيما نقل من دعوته: فاتّقوا الله وأطيعون إنّ ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية وجدت

٢٢٣

أنّه (عليه السلام) أمر أوّلاً بتقوى الله وإطاعة نفسه ثمّ علل ذلك بقوله: إنّ الله ربّي وربّكم، أي إنّ الله ربّكم معشر الامّة وربّ رسوله الّذي أرسله إليكم فيجب عليكم أن تتّقوه بالإيمان وأن تطيعوني بالاتّباع، وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الإيمان والاتّباع. فهذا هو المستفاد من هذا الكلام، ولذا بدّل التقوى والإطاعة في التعليل من قوله: فاعبدوه وإنّما فعل ذلك ليتّضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبوديّة ثمّ ذكر أنّ هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلاً ينتهى بسالكه إلى الله سبحانه.

ثمّ لمّا أحسّ منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامّتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصاراً لسلوك هذا الصراط المستقيم الّذي كان يندب إليه، وهو العبوديّة أعني التقوى والإطاعة فأجابه الحواريّون بعين ما طلبه فقالوا: نحن أنصار الله ثمّ ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا: آمنّا بالله وأشهد بأنّا مسلمون ومرادهم بالإسلام إطاعته وتبعيّته ولذا لمّا خاطبوا ربّهم خطاب تذلّل والتجاء، وذكروا له ما وعدوا به عيسى (عليه السلام) قالوا: ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فبدّلوا الإسلام من الاتّباع، ووسّعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله.

فأفاد ذلك أنّهم آمنوا بجميع ما أنزل الله ممّا علّمه عيسى بن مريم من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل واتّبعوا الرسول في ذلك، وهذا كما ترى ليس أوّل درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته وأسماها.

وإنّما استشهدوا عيسى (عليه السلام) في إسلامهم واتّباعهم ولم يقولوا: آمنّا بالله وإنّا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجّة في عرضهم حالهم على ربّهم إذ قالوا: ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فكأنّهم قالوا: ربّنا حالنا هذا الحال، ويشهد بذلك رسولك.

قوله تعالى: ( ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول ) فاكتبنا مع الشاهدين مقول قول الحواريّين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم، وقد مرّ بيانه. وقد سألوا ربّهم أن يكتبهم من

٢٢٤

الشاهدين، وفرّعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعاً لأنّ تبليغ الرسول رسالته إنّما يتحقّق ببيانه ما أنزله الله عليه قولاً وفعلاً أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها فالشهادة على التبليغ إنّما يكون بتعلّمها من الرسول واتّباعه عملاً حتّى يشاهد أنّه عامل بما يدعو إليه لا يتخطّاه ولا يتعدّاه.

والظاهر أنّ هذه الشهادة هي الّتي يومي إليها قوله تعالى:( فلنسألنّ الّذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين ) الأعراف - ٦ وهي الشهادة على التبليغ، وأمّا قوله تعالى:( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين ) المائدة - ٨٣ فهو شهادة على حقّيّة رسالة الرسول دون التبليغ، والله أعلم.

وربّما أمكن أن يستفاد من قولهم: فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أنّ المسئول: أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك ممّا حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:( ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا اُمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا ) البقرة - ١٢٨. وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية.

قوله تعالى: ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ، الماكرون هم بنو إسرائيل بقرينة قوله: فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر وقد مرّ الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله:( وما يضلّ به إلّا الفاسقين ) البقرة - ٢٦.

قوله تعالى: ( إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفّيك ) التوفّى أخذ الشئ أخذاً تامّاً، ولذا يستعمل في الموت لأنّ الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى:( توفّته رسلنا ) الأنعام - ٦١ أي أماتته وقال تعالى:( وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنّا لفي خلق جديد - إلى أن قال -قل يتوفّاكم ملك الموت الّذي وكلّ بكم ) السجدة - ١١ وقال تعالى:( الله يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموت ويرسل الاُخرى ) الزمر - ٤٢. والتأمّل في الآيتين الأخيرتين يعطي أنّ التوفّي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ والحفظ،

٢٢٥

وبعبارة اُخرى إنّما استعمل التوفّي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أنّ نفس الإنسان لا يبطل ولا يفني بالموت الّذي يظنّ الجاهل أنّه فناء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتّى يبعثها للرجوع إليه، وإلّا فهو سبحانه يعبّر في الموارد الّتي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفّي كما في قوله تعالى:( وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) آل عمران - ١٤٤ وقوله تعالى:( لا يقضى عليهم فيموتوا ) الفاطر - ٣٦ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدّاً حتّى ما ورد في عيسى (عليه السلام) بنفسه كقوله:( والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً ) مريم - ٣٣ وقوله:( وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩ فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفّي في الموت.

على أنّ قوله تعالى في ردّ دعوى اليهود:( وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩ يؤيّد ذلك فإنّ اليهود كانت تدّعى أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) وكذلك كانت تظنّ النصارى: أنّ اليهود قتلت عيسى بن مريم (عليه السلام) بالصلب غير أنّهم كانوا يزعمون أنّ الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، والآيات كما ترى تكذّب قصّة القتل والصلب صريحاً.

والّذي يعطيه ظاهر قوله: وإن من أهل الكتاب الآية أنّه حيّ عند الله ولن يموت حتّى يؤمن به أهل الكتاب. عليهذا فيكون توفّيه (عليه السلام) أخذه من بين اليهود لكنّ الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنّما هو الظهور، وسيجئ تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.

قوله تعالى: ( ورافعك إلىّ ومطهّرك من الّذين كفروا ) الرفع خلاف الوضع،

٢٢٦

والطهارة خلاف القذارة. وقد مرّ الكلام في معنى الطهارة.

وحيث قيّد الرفع بقوله: إلىّ أفاد ذلك أنّ المراد بالرفع الرفع المعنويّ دون الرفع الصوريّ إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانيّة الّتي تتعاورها الأجسام والجسمانيّات بالحلول فيها، والقرب والبعد منها. فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: ثمّ إلىّ مرجعكم وخاصّة لو كان المراد بالتوفّي هو القبض لظهور أنّ المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه نظير ما ذكره تعالى في حقّ المقتولين في سبيله:( أحياء عند ربّهم ) آل عمران - ١٦٩ وما ذكره في حقّ إدريس (عليه السلام):( ورفعناه مكاناً عليّاً ) مريم - ٥٧.

وربّما يقال: إنّ المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيّاً إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أنّ السماء أي الجسمانيّة هي مقام القرب من الله سبحانه ومحلّ نزول البركات، ومسكن الملائكة المكرّمين. ولعلّنا نوفّق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إنشاء الله تعالى.

والتطهير من الكافرين حيث اُتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنويّ دون الظاهريّ الصوريّ فهو إبعاده من الكفّار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذّر بقذارة الكفر والجحود.

قوله تعالى: ( وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة ) وعد منه تعالى له (عليه السلام) أنّه سيفوّق متّبعي عيسى (عليه السلام) على مخالفيه الكافرين بنبوّته، وأنّ تفوّقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنّما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أنّ الفائقين هم الّذين اتّبعوه وأنّ غيرهم هم الّذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى (عليه السلام) أو غير ذلك.

غير أنّه تعالى لمّا أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أنّ المراد باتّباعه هو الاتّباع على الحقّ أعني الاتّباع المرضيّ لله سبحانه فيكون الّذين اتّبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام ونسخه دين عيسى، والمسلمون بعد ظهور

٢٢٧

الإسلام فإنّهم هم أتباعه على الحقّ، وعلى هذا فالمراد بالتفوّق هو التفوّق بحسب الحجّة دون السلطنة والسيطرة. فمحصّل معنى الجملة: أنّ متّبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجّتهم على حجّة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة. هذا ما ذكره وارتضاه المفسّرون في معنى الآية.

والّذي أراه أنّ الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإنّ ظاهر قوله: إنّي متوفّيك ورافعك إلىّ ومطهّرك من الّذين كفروا وجاعل الّذين اتّبعوك أنّه إخبار عن المستقبل وأنّه سيتحقّق فيما يستقبل حال التكلّم توفّ ورفع وتطهير وجعل على أنّ قوله: وجاعل الّذين اتّبعوك وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلّا في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حجّة متّبعي عيسى (عليه السلام) إلّا حجّة عيسى نفسه، وهي الّتي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه (عليه السلام) أقطع لعذر الكفّار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم. فما معنى وعده (عليه السلام) أنّه ستفوق حجّة متّبعيه على حجّة مخالفيه؟ ثمّ ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوّق بقوله: إلى يوم القيامة مع أنّ الحجّة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أنّ تفوّق الحجّة على الحجّة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.

فإن قلت: لعلّ المراد من تفوّق الحجّة تفوّقها من جهة المقبوليّة بأن يكون الناس أسمع لحجّة المتّبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعاً وأوثق ركناً وأشدّ قوّة.

قلت: مرجع ذلك إمّا إلى تفوّق متّبعيه الحقيقيّين من حيث السلطنة والقوّة والواقع خلافه، واحتمال أن يكون إخباراً عن ظهور للمتّبعين وتفوّق منهم سيتحقّق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية. وإمّا إلى كثرة العدد بأن يراد أنّ متّبعيه (عليه السلام) سيفوقون الكافرين أي يكون، أهل الحقّ بعد عيسى أكثر جمعاً من أهل الباطل.

٢٢٨

ففيه مضافاً إلى أنّ الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحقّ من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرناً أنّ لفظ الآية لا يساعد عليه فإنّ الفوقيّة في الآية وخاصّة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهيّ على اليهود وشمول الغضب عليهم إنّما يناسب القهر والاستعلاء: إمّا من حيث الحجّة البالغة أو من حيث السلطة والقوّة، وأمّا من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ الّذي أخذ في الآية معرّفاً للفرقتين هو قوله: الّذين اتّبعوك وقوله: الّذين كفروا والفعل إنّما يدلّ على التحقّق والحدوث دون التلبّس الّذي يدلّ عليه الوصف كالمتّبعين و الكافرين، ومجرّد صدور فعل من بعض أفراد أمّة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم كما أنّ القرآن يؤنّب اليهود ويوبخّهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب، وغير ذلك.

وعلي هذا صحّ أن يراد بالّذين كفروا اليهود، وبالّذين اتّبعوا النصارى لما صدر من صدرهم وسلفهم من الإيمان بعيسى (عليه السلام) واتّباعه - وقد كان إيماناً مرضيّاً واتّباعاً حقّاً - وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتّباعهم له (عليه السلام) بعد ظهور الإسلام، ولا اتّباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلاميّة.

فالمراد جعل النصارى - وهم الّذين اتّبع أسلافهم عيسى (عليه السلام) - فوق اليهود وهم الّذين كفروا بعيسى (عليه السلام) ومكروا به، والغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهيّ على اليهود، وحلول المكر بهم، وتشديد العذاب على اُمّتهم، ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتّباع هو الاتّباع على الحقّ كما استظهرناه في أوّل الكلام كما لا يخفى.

ويؤيّد هذا المعنى تغيير الاُسلوب في الآية الآتية أعني قوله: وأمّا الّذين آمنوا

٢٢٩

وعملوا الصالحات إذ لو كان المراد بالّذين اتّبعوا هم أهل الحقّ والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: وأمّا الّذين اتّبعوك فيوفّيهم اُجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.

وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالّذين اتّبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتّباع عيسى إلى يوم القيامة، والتقريب عين التقريب. وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبّر.

قوله تعالى: ( ثمّ إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الّذين اتّبعوه والّذين كفروا به. وهذا مآل أمرهم يوم القيامة، وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبإه.

قوله تعالى: ( فأمّا الّذين كفروا فاُعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ) ظاهره أنّه متفرّع على قوله: فأحكم بينكم تفرّع التفصيل على الإجمال فيكون بياناً للحكم الإلهيّ في يوم القيامة بالعذاب لليهود الّذين كفروا وتوفية الأجر للمؤمنين.

لكن اشتمال التفريع على قوله: في الدنيا يدلّ على كونه متفرّعاً على مجموع قوله: وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا ثمّ إلىّ مرجعكم الخ فيدلّ على أنّ نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الّذين فوّقهم الله تعالى عليهم، وفي الآخرة بالنار، وما لهم في ذلك من ناصرين.

وهذا أحد الشواهد على أنّ المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوّة دون التأييد بالحجّة.

وفي قوله: وما لهم من ناصرين دلالة على نفى الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، وهو حتم القضاء كما تقدّم.

٢٣٠

قوله تعالى: ( وأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم اُجورهم ) وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للّذين اتّبعوا إلّا أنّ مجرّد صدق الاتّباع لمّا لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأنّ الاتّباع كما عرفت وصف صادق على الاُمّة بمجرّد تحقّقه وصدوره عن عدّة من أفرادها وحينئذ إنّما يؤثّر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبّس به شخصاً دون من انتسب إليه اسماً فلذلك بدلّ الّذين اتّبعوك من مثل قوله: الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستقيم المعنى فإنّ السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدلّ عليه قوله تعالى:( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) البقرة - ٦٢.

فهذا أجر الّذين آمنوا وعملوا الصالحات من الّذين اتّبعوا عيسى (عليه السلام) أنّ الله يوفّيهم أجورهم، وأمّا غيرهم فليس لهم من ذلك شئ، وقد اُشير إلى ذلك في الآية بقوله: والله لا يحبّ الظالمين.

ومن هنا يظهر السرّ في ختم الآية - وهي آية الرحمة والجنّة - بمثل قوله: والله لا يحبّ الظالمين مع أنّ المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقّه الآية نظير قوله تعالى:( وكلّاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) الحديد - ١٠ وقوله تعالى:( إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ) التغابن - ١٧ وقوله تعالى:( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئآته ويدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) التغابن - ٩ وقوله تعالى:( فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربّهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين ) الجاثيه - ٣٠ إلى غير ذلك من الآيات.

٢٣١

فقوله: والله لا يحبّ الظالمين مسوق لبيان حال الطائفة الاُخرى ممّن انتسب إلى عيسى (عليه السلام) بالاتّباع وهم غير الّذين آمنوا وعملوا الصالحات.

قوله تعالى: ( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) إشارة إلى اختتام القصّة والمراد بالذكر الحكيم القرآن الّذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته، لا يدخله باطل، ولا يلج فيه هزل.

قوله تعالى: ( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون ) تلخيص لموضع الحاجة ممّا ذكره من قصّة عيسى في تولّده تفصيلاً والإيجاز بعد الإطناب - وخاصّة في مورد الاحتجاج والاستدلال - من مزايا الكلام، والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرّضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصّته ليدلّ على أنّ كيفيّة ولادته لا تدلّ على أزيد من كونه بشراً مخلوقاً نظير آدم عليهما السلام فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم ممّا قيل في آدم، وهو أنّه بشر خلقه الله من غير أب.

فمعنى الآية: أنّ مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفيّة خلق عيسى الجاري بيده أنّ كيفيّة خلقه يضاهي كيفيّة خلق آدم وكيفيّة خلقه أنّه جمع أجزائه من تراب ثمّ قال له كن فتكوّن تكوّناً بشريّاً من غير أب.

فالبيان بحسب الحقيقة منحلّ إلى حجّتين تفي كلّ واحدة منهما على وحدتها بنفي الاُلوهيّة عن المسيح (عليه السلام).

إحداهما: أنّ عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه الله ولا يضلّ في علمه - خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا ربّاً.

وثانيهما: أنّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال باُلوهيّته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضاً لمكان المماثلة.

٢٣٢

ويظهر من الآية أنّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعيّة كونيّة وإن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد.

والظاهر أنّ قوله: فيكون اُريد به حكاية الحال الماضية، ولا ينافي ذلك دلالة قوله: ثمّ قال له كن على انتفاء التدريج فإنّ النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعمّ من التدريجيّ الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الّذي هو كلمة كن كما قال تعالى:( إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) يس - ٨٢ وكثير منها تدريجيّة الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجيّة وأمّا إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى:( وما أمرنا إلّا واحدة كلمح بالبصر ) القمر - ٥٠ وسيجئ زيادة توضيح لهذا المعنى إنشاء الله تعالى في محلّه المناسب له.

على أنّ عمدة ما سيق لبيانه قوله: ثمّ قال له كن إنّه تعالى لا يحتاج في خلق شئ إلى الأسباب حتّى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان والاستحالة، والهوان والعسر، والقرب والبعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن كان، من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.

قوله تعالى: ( الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين ) تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأنّ ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصّة بقوله: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم الآية، وفيه تطييب لنفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّه على الحقّ، وتشجيع له في المحاجّة.

وهذا أعنى قوله: الحقّ من ربّك من أبدع البيانات القرآنيّة حيث قيّد الحقّ بمن الدالّة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحقّ مع ربّك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.

وذلك أنّ هذه الأقاويل الحقّة والقضايا النفس الأمريّة الثابتة كائنة ما كانت وإن كانت ضروريّة غير ممكنة التغيّر عمّا هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، والواحد

٢٣٣

نصف الإثنين، ونحو ذلك إلّا أنّ الإنسان إنّما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كلّه منه تعالى فالحقّ كلّه منه تعالى كما أنّ الخير كلّه منه، ولذلك كان تعالى لا يسئل عمّا يفعل وهم يسألون فإنّ فعل غيره إنّما يصاحب الحقّ إذا كان حقّاً وأمّا فعله تعالى فهو الوجود الّذي ليس الحقّ إلّا صورته العلميّة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى: يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين قال: قال (عليه السلام): اصطفاها مرّتين: أمّا الاُولى فاصطفاها أي اختارها. وأمّا الثانية فإنّها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين.

وفي المجمع قال أبوجعفر (عليه السلام) معنى الآية اصطفاك لذرّيّة الأنبياء، وطهّرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل.

اقول: معنى قوله: اصطفاك لذرّيّة الأنبياء اختارك لتكوني ذرّيّة صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء. ومعنى قوله: وطهّرك من السفاح أعطاك العصمة منه، وهو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها وتطهيرها فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر وقد مرّ دلالة الآية على ذلك.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد والترمذيّ وصحّحه وابن المنذر وابن حبّان والحاكم عن أنس: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآسية امرأة فرعون. قال السيوطيّ وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً.

وفيه أخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون.

٢٣٤

وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسن قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضى الله عنها قالت: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنت سيّدة نساء أهل الجنّة لا مريم البتول.

وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): سيّدة نساء أهل الجنّة مريم بنت عمران ثمّ فاطمة ثمّ خديجة ثمّ آسية امرأة فرعون.

وفيه أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحّاك عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: أربع نسوة سادات عالمهنّ: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأفضلهنّ عالماً فاطمة.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاطمة سيّدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة ابنة خويلد.

وفي الخصال بإسناده عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: خطّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أربع خطوط ثمّ قال: خير نساء الجنّة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

وفيه أيضاً بإسناده عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله عزّوجلّ اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة، الخبر.

أقول: والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة، وكون هؤلاء سيّدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهنّ أنفسهنّ كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدرّ المنثور وأخبار اُخرى، وقد مرّ نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى:( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً الآية ) آل عمران - ٣٣.

وممّا ينبغي أن يتنبّه له أنّ الواقع في الآية هو الاصطفاء، وقد مرّ أنّه الاختيار،

٢٣٥

والّذي وقع في الأخبار هو السيادة، وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الأوّل.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم، عن الباقر (عليه السلام): يقرعون بها حين ايتمت من أبيها.

وفي تفسير القمّيّ: وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين قال: اصطفاها مرّتين: أمّا الاُولى فاصطفاها أي اختارها. وأمّا الثانية فإنّها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين - إلى أن قال القمّيّ - ثمّ قال الله لنبيّه: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك يا محمّد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال لمّا ولدت اختصموا آل عمران فيها وكلّهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريّا. الخبر.

أقول: وقد مرّ من البيان ما يؤيّد هذا الخبر وما قبلها.

واعلم أنّ هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى (عليه السلام) ودعوته ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهمّ من البحث التفسيريّ، ولذلك تركنا ذكرها إلّا ما يهمّ ذكره منها.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: واُنبّئكم بما تأكلون الآية عن الباقر (عليه السلام) أنّ عيسى كان يقول لبني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم، وإنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله واُبرء الأكمه والأبرص والأكمه هو الأعمى: قالوا: ما نرى الّذي تصنع إلّا سحراً فأرنا آية نعلم أنّك صادق قال: أرأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم - يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادّخرتم بالليل - تعلمون أنّي صادق ؟ قالوا: نعم فكان يقول: أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا فمنهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من يكفر، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.

٢٣٦

اقول: وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره (عليه السلام) من الآيات أوّلاً وآخراً يؤيّد هذه الرواية، وقد مرّت الإشارة إليه.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: ومصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ولاُحلّ لكم الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة، وكانت شريعة عيسى أنّه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى، وأنزل عليه الإنجيل، وأخذ عليه الميثاق الّذي اُخذ على النبيّين، وشرّع له في الكتاب: إقام الصلاة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال، واُنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص، ولا أحكام حدود، ولا فرض مواريث، وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، وهو قول الله في الّذي قال عيسى لبني إسرائيل: ولاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم، وأمر عيسى من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل.

اقول: وروى الرواية في قصص الأنبياء مفصّلة عن الصادق (عليه السلام) وفيها: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة وثمانون سنة، ولا يوافق شيئ منهما تاريخ أهل الكتاب.

وفي العيون عن الرضا (عليه السلام): أنّه سئل لم سمّي الحواريّون الحواريّين ؟ قال: أمّا عند الناس فإنّهم سمّوا حواريّين لأنّهم كانوا قصّارين يخلّصون الثياب من الوسخ بالغسل، وهو اسم مشتقّ من الخبز الحوار. وأمّا عندنا فسمّي الحواريّون الحواريّين لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلّصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير.

وفي التوحيد عنه (عليه السلام): إنّهم كانوا اثنا عشر رجلاً، وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وفي الاكمال عن الصادق (عليه السلام) في حديث: بعث الله عيسى بن مريم، واستودعه

٢٣٧

النور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله، وزاده الإنجيل، وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته، والى الإيمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم إلّا طغياناً وكفراً، فلمّا لم يؤمنوا دعا ربّه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلّا طغياناً وكفراً فأتى بيت المقدّس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتّى طلبته اليهود، وادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حيّاً وادّعى بعضهم أنّهم قتلوه وصلبوه وما كان الله ليجعل لهم سلطاناً عليه وإنّما شبّه لهم، وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيباً لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفّاه.

أقول: قوله (عليه السلام): فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعاً من شرارهم.

وقوله (عليه السلام): فمكث يدعوهم الخ لعلّه إشارة إلى مدّة عمره على ما هو المشهور فإنّه (عليه السلام) كان يكلّمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبيّاً من صباه على ما يدلّ عليه قوله على ما حكاه الله عنه:( فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً ) مريم - ٣٠.

وقوله (عليه السلام): لكان تكذيباً لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفّاه نقل بالمعنى لقوله تعالى: ولكن رفعه الله الآية. وقوله تعالى: إنّي متوفّيك ورافعك إليّ الآية وقد استفاد من تقديم التوفّي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.

وفي تفسير القمّيّ عن الباقر (عليه السلام) قال: إنّ عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلاً فأدخلهم بيتاً ثمّ خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال: إنّ الله أوحى إليّ أنّه رافعي إليه الساعة، ومطهّري من اليهود فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟ فقال شابّ منهم أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا فقال لهم عيسى: أمّا إنّ منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. فقال رجل منهم: أنا هو يا نبيّ الله! فقال له عيسى: أتحسّ بذلك في نفسك ؟ فلتكن هو. ثمّ قال لهم عيسى: أمّا إنّكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين على الله في النار، وفرقة تتبع شمعون صادقة

٢٣٨

على الله في الجنّة ثمّ رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.

ثمّ قال: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الّذي قال له عيسى: إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشابّ الّذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل وصلب، وكفر الّذي قال له عيسى: يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.

اقول: وروي قريب منه عن ابن عبّاس وقتادة وغيرهما، وقال بعضهم: إنّ الّذي اُلقي عليه شبح عيسى هو الّذي دلّهم ليقبضوا عليه ويقتلوه، وقيل غير ذلك، والقرآن ساكت عن ذلك، وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى:( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم الآية ) النساء - ١٥٧.

وفي العيون عن الرضا (عليه السلام) قال: إنّه ما شبّه أمر أحد من أنبياء الله وحججه على الناس إلّا أمر عيسى وحده لأنّه رفع من الأرض حيّاً وقبض روحه بين السماء والأرض ثمّ رفع إلى السماء، ورّد عليه روحه، وذلك قوله عزّوجلّ: إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك، وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة: وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شئ شهيد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلمّا انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

اقول: وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إنشاء الله تعالى.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: إنّ مثل عيسى عند الله الآية أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا: أنّ سيّدي أهل نجران واُسقفيهم السيّد والعاقب لقيا نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسألاه عن عيسى فقالا: كلّ آدميّ له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية: إنّ مثل عيسى عند الله الآية.

٢٣٩

اقول: وروي ما يقرب منه عن السدّيّ وعكرمة وغيرهما، وروي القمّيّ في تفسيره أيضاً نزول الآية في المورد.

( بحث روائي آخر في معنى المحدّث)

في البصائر عن زرارة قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الرسول وعن النبيّ وعن المحدّث قال: الرسول الّذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول: يأمرك كذا وكذا، والرسول يكون نبيّاً مع الرسالة.

والنبيّ لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أنّ الّذي رأى في منامه حقّ ؟ قال يبيّنه الله حتّى يعلم أنّ ذلك حقّ ولا يعاين الملك. والمحدّث الّذي يسمع الصوت ولا يرى شاهداً.

اقول: ورواه في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام). قوله: شاهداً أي صائتاً حاضراً. ويمكن أن يكون حالاً من فاعل لا يرى.

وفيه أيضاً عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: فما الرسول والنبيّ والمحدّث ؟ قال: الرسول الّذي يظهر الملك فيكلّمه، والنبيّ يرى في المنام، وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد، والمحدّث الّذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم أنّ الّذي رأى في المنام هو الحقّ وأنّه من الملك ؟ قال: يوفّق لذلك حتّى يعرفه، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيّكم الأنبياء، الحديث.

وفيه عن محمّد بن مسلم قال: ذكرت المحدّث عند أبي عبدالله (عليه السلام) قال: فقال: إنّه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت: أصلحك الله كيف يعلم أنّه كلام الملك ؟ قال: إنّه يعطى السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك.

وفيه أيضاً عن أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: كان عليّ محدّثاً وكان سلمان محدّثاً. قال:

٢٤٠

قلت: فما آية المحدّث ؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت وكيت.

وفيه عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبوجعفر عليهما السلام: أنّ عليّاً كان محدّثاً فقال أصحابنا: ما صنعت شيئاً إلّا سألته من يحدّثه ؟ فقضي أنّي لقيت أباجعفر فقلت: ألست أخبرتني: أنّ عليّاً كان محدّثاً ؟ قال: بلى قلت: من كان يحدّثه ؟ قال ملك. قلت: فأقول: إنّه نبيّ أو رسول ؟ قال: لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان وصاحب موسى، ومثله مثل ذي القرنين. أما سمعت أنّ عليّاً سئل عن ذي القرنين أنبيّاً كان ؟ قال لا ولكن كان عبداً أحبّ الله فأحبّه، وناصح الله فنصحه فهذا مثله.

اقول: والروايات في معنى المحدّث عن أئمّة أهل البيت كثيرة جدّاً رواها في البصائر والكافي والكنز والاختصاص وغيرها، ويوجد في روايات أهل السنّة أيضاً.

وأمّا الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبيّ والرسول والمحدّث فقد مرّ الكلام في الفرق بين الرسول والنبيّ وأن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده فهو يوجب العلم اليقينيّ بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجّة فمثله في الإلقاءآت الإلهيّة مثل العلوم البديهيّة الّتي لا تحتاج في حصولها للإنسان إلى سبب تصديقيّ كالقياس ونحوه.

وأمّا المنام فالروايات كما ترى تفسّره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الإنسان في النوم العاديّ العارض له في يومه وليلته بل هو حال يشبه الإغماء تسكن فيه حواسّ الإنسان النبيّ فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثمّ يسدّده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنّه من جانب الله سبحانه لا من تصرّف الشيطان.

وأمّا التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنّه بسمع القلب دون سمع الحسّ وليس من قبيل الخطور الذهنيّ الّذي لا يسمّى سمع صوت إلّا بنحو من المجاز البعيد ولذلك ترى أنّ الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب، وتسمّيه مع ذلك تحديثاً وتكليماً فالمحدّث يسمع صوت الملك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير

٢٤١

ما نسمعه ويسمعه من الكلام المعتاد والأصوات المسموعة في عالم المادّة غير أنّه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره ولذا كان أمراً قلبيّاً.

وأمّا علمه بأنّ ما حدّث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه وتسديد كما يشير إليه ما في رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة: أنّه يعطي السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك وذلك أنّ النزغة الشيطانيّة إمّا باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن فظاهر أنّه ليس من حديث الملائكة المكرمين الّذين لا يعصون الله، وأمّا باطل في صورة حقّ وسيستتبع باطلاً فالنور الإلهيّ الّذي يلازم العبد المؤمن يبيّن حاله. قال تعالى:( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس ) الأنعام - ١٢٢. والنزغة والوسوسة مع ذلك كلّه لا تخلو عن اضطراب في النفس وتزلزل في القلب كما أنّ ذكر الله وحديثه لا ينفكّ عن الوقار وطمأنينة الباطن. قال تعالى:( ذلكم الشيطان يخوّف أوليائه ) آل عمران - ١٧٥ وقال:( ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ) الرعد - ٢٨ وقال:( إنّ الّذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون ) الأعراف - ٢٠١ فالسكينة والطمأنينة عندما يلقى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقائاً رحمانيّاً كما أنّ الاضطراب والقلق دليل على كونه إلقاءً شيطانيّاً ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفّة ونحوها.

وأمّا ما في الروايات من أنّ المحدّث يسمع الصوت ولا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أنّ الملاك في كون الإنسان محدّثاً أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتّفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنّه محدّث وذلك لأنّ الآيات صريحة في رؤية بعض المحدّثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً الآيات ) مريم - ١٩ وقوله تعالى - في زوجة إبراهيم في قصّة البشارة -:( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام - إلى أن قال -وامرأته قائمة فضحكت فبشّرناها

٢٤٢

بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد ) هود - ٧٣.

وهيهنا وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفيّة معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الّذي يتمثّل به فإنّ الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر.

وهيهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم: وهو أنّ المنفيّ من المعاينة الوحي التشريعيّ بأن يظهر للمحدّث فيلقي إليه حكماً شرعيّاً وذلك صون من الله لمقام المشرّعين من أنبيائه ورسله. ولا يخلو عن بعد.

٢٤٣

( سورة آل عمران الآيات ٦١ - ٦٣)

فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ( ٦١) إِنّ هذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلّا اللّهُ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ٦٢) فَإِن تَوَلّوْا فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ( ٦٣)

( بيان)

قوله تعالى: ( فمن حاجّك فيه من بعد ما جائك من العلم ) الفاء للتفريع، وهو تفريع المباهلة على التعليم الإلهيّ بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم عليهماالسلام مع ما أكّده في ختمه بقوله: الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين. والضمير في قوله: فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحقّ المذكور في الآية السابقة.

وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بياناً إلهيّاً لا يرتاب فيه مشتملاً على البرهان الساطع الّذي يدلّ عليه قوله: إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضاً ولذلك كان يشمل أثره رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وغيره من كلّ سامع فلو فرض تردّد من نفس السامع المحاجّ من جهة كون البيان وحياً إلهيّاً لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهاناً يناله العقل السليم، ولعلّه لذلك قيل: من بعد ما جائك من العلم ولم يقل: من بعد ما بيّناه لهم.

وهيهنا نكتة اُخرى وهي أنّ في تذكيره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالعلم تطييباً لنفسه الشريفة أنّه غالب بإذن الله، وأنّ ربّه ناصره وغير خاذله البتّة.

٢٤٤

قوله تعالى: ( فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ) المتكلّم مع الغير في قوله: ندع غيره في قوله: أبنائنا ونسائنا وأنفسنا فإنّه في الأوّل مجموع المتخاصّمين من جانب الإسلام والنصرانيّة، وفي الثاني وما يلحق به من جانب الإسلام، ولذا كان الكلام في معنى قولنا: ندع الأبناء والنساء والأنفس فندعو نحن أبنائنا و نسائنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ففي الكلام إيجاز لطيف.

والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجّة بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين رجال النصارى لكن عمّمت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدلّ على اطمينان الداعي بصدق دعواه وكونه على الحقّ لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبّتهم والشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم، وفي سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذبّ عنهم. ولذلك بعينه قدّم الأبناء على النساء لأنّ محبّة الإنسان بالنسبة إليهم أشدّ وأدوم.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بقوله: ندع أبنائنا وأبنائكم إلخ ندع نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم، وتدعوا أنتم أبنائنا ونسائنا وأنفسنا وذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء والنساء في المباهلة.

وفي تفصيل التعداد دلالة اُخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحقّ، كأنّه يقول: ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتّى يشمل اللعن والعذاب الأبناء والنساء والأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين، وينبتّ أصل المبطلين.

وبذلك يظهر أنّ الكلام لا يتوقّف في صدقه على كثرة الأبناء ولا على كثرة النساء ولا على كثرة الأنفس فإنّ المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير وكبير وذكور واُناث. وقد أطبق المفسّرون واتّفقت الرواية وأيّده التاريخ: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلّا علىّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام فلم يحضر لها إلّا نفسان وابنان ومرأة واحدة وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها.

٢٤٥

على أنّ المراد من لفظ الآية أمر، والمصداق الّذي ينطبق عليه الحكم بحسب الخارج أمر آخر، وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة ومصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى:( الّذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهنّ اُمّهاتهم الآية ) المجادلة - ٢ وقوله تعالى:( والّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا ) المجادلة - ٣ و قوله تعالى:( لقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء ) آل عمران - ١٨١ وقوله تعالى:( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) البقرة - ٢١٩ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي وردت بلفظ الجمع ومصداقها بحسب شأن النزول مفرد.

قوله تعالى: ( ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) الابتهال من البهلة بالفتح والضمّ وهي اللعنة، هذا أصله ثمّ كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح.

وقوله: فنجعل لعنة الله كلبيان للابتهال، وقد قيل: فنجعل ولم يقل: فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحقّ من الباطل على طريق التوقّف والابتناء.

وقوله: الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كلّ كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجّة الواقعة بينه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين النصارى حيث قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله لا إله غيره وإنّ عيسى عبده ورسوله، وقالوا: إنّ عيسى هو الله أو إنّه ابن الله أو إنّ الله ثالث ثلاثة.

وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفرداً والطرف الآخر جمعاً كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معاً كقولنا: فنجعل لعنة الله على من كان كاذباً فالكلام يدلّ على تحقّق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجّة والمباهلة على أيّ حال: إمّا في جانب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإمّا في جانب النصارى، وهذا

٢٤٦

يعطى أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإنّ الكذب لا يكون إلّا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم علىّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهذا من أفضل المناقب الّتي خصّ الله به أهل بيت نبيّه عليهم السلام كما خصّهم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بين رجال الاُمّة ونسائهم وأبنائهم.

فإن قلت: قد مرّ أنّ القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد وأنّ إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهنّ للمباهلة منحصرة في فاطمة عليها السلام فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو؟

قلت: إنّ بين المقامين فارقاً وهو أنّ إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنّما هو لكون الحقيقة الّتي تبيّنها أمراً جائز التحقّق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم، وأمّا فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية ممّا لا يتعدّاه الحكم ولا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى:( وإذ تقول للّذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّق الله ) الأحزاب - ٣٧ وقوله تعالى:( لسان الّذي يلحدون إليه أعجمىّ وهذا لسان عربيّ مبين ) النحل - ١٠٣ وقوله تعالى:( إنّا أحللنا لك أزواجك اللّاتى آتيت اُجورهنّ - إلى أن قال -وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ إن أراد النبيّ أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) الأحزاب - ٥٠.

وأمر المباهلة في الآية ممّا لا يتعدّى مورده وهو مباهلة النبيّ مع النصارى فلو لم يتحقّق في المورد مدّعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله: الكاذبين بصيغة الجمع البتّة.

فإن قلت: كما أنّ النصارى الوافدين على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصحاب دعوى وهي أنّ المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلاً ولا بين نسائهم وبين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى الّتي كانت في جانب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي أنّ

٢٤٧

الله لا إله إلّا هو وأنّ عيسى بن مريم عبده ورسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتّى بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحضر من أحضر منهم على سبيل الانموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء والنساء والأنفس. على أنّ الدعوى غير الدعوة وقد ذكرت أنّهم شركاء في الدعوة.

قلت: لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الانموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقلّ رجلين ونسوة وأبناءً ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلّا للانحصار وهو المصحّح لصدق الامتثال بمعنى أنّه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلّا من أتى به وهو رجل وامرأة وابنان.

وإنّك لو تأمّلت القصّة وجدت أنّ وفد نجران من النصارى إنّما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويحاجّوه في أمر عيسى بن مريم فإنّ دعوى أنّه عبدالله ورسوله إنّما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الّذي كان يدّعيه لنفسه، وأمّا الّذين اتّبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل، ولا لهم في لقائهم هوىً كما يدلّ على ذلك قوله تعالى في صدر الآية: فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل، وكذا قوله تعالى - قبل عدّة آيات -: فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن.

ومن هنا يظهر: أنّ إتيان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتياناً بنحو الانموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرّد إيمانهم في هذه المحاجّة والمباهلة حتّى يعرضوا للعن والعذاب المتردّد بينهم وبين خصمهم. وإنّما أتى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمن أتى به من جهة أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان طرف المحاجّة والمداعاة فكان من حقّه أن يعرض نفسه للبلاء المترقّب على تقدير الكذب فلو لا أنّ الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء والنساء والأنفس بهم لا من

٢٤٨

جهة الإتيان بالانموذج فقد صحّ أنّ الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.

ثمّ إنّ النصارى إنّما قصدوه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا لمجرّد أنّه كان يرى أنّ عيسى ابن مريم (عليه السلام) عبدالله ورسوله ويعتقد ذلك بل لأنّه كان يدّعيه ويدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة الّتي بعثهم على الوفود والمحاجّة فحضوره وحضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معاً فقد كانوا شركائه في الدعوة الدينيّة كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه.

فإن قلت: هب إنّ إتيانه بهم لكونهم منه، وانحصار هذا الوصف بهم لكنّ الظاهر - كما تعطيه العادة الجارية - أنّ إحضار الإنسان أحبّائه وأفلاذ كبده من النساء والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية و الوقاية فلا يدلّ إتيانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهم على أزيد من ذلك، وأمّا كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدلّ عليه فعله.

قلت: نعم صدر الآية لا يدلّ على أزيد ممّا ذكر لكنّك قد عرفت أن ذيلها أعنى قوله: على الكاذبين يدلّ على تحقّق كاذبين في أحد طرفي المحاجّة والمباهلة البتّة، ولا يتمّ ذلك إلّا بأن يكون في كلّ واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إمّا صادقة أو كاذبة فالّذين أتى بهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة كما تقدّم فقد ثبت أنّ الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى ودعوة معه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشركاء في ذلك.

فإن قلت: لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوّة.

قلت: كلّا فقد تبيّن(١) فيما أسلفناه من مباحث النبوّة أنّ الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوّة والبعثة وإن كانا من شؤونها ولوازمها، ومن المناصب والمقامات الإلهيّة الّتي يتقلّدها غير النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر خاصّ من الله تعالى. وكذا تبيّن ممّا تقدّم(٢) من مبحث الإمامة أيضاً أنّهما ليسا بعين الإمامة وإن كانا من لوازمها بوجه.

____________________

(١) في تفسير آية ٢١٣ من سورة البقرة من المجلد الثاني.

(٢) في تفسير آية ١٢٤ من سورة البقرة من المجلد الاول.

٢٤٩

قوله تعالى: ( إنّ هذا لهو القصص الحقّ وما من إله إلّا الله ) هذا إشارة إلى ما تقدّم من قصص عيسى (عليه السلام) والكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحقّ دون ما تدّعيه النصارى من أمر عيسى.

وفي الإتيان بإنّ واللام وضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه وبصيرته ووثوقه بالوحي الّذي أنزله الله سبحانه إليه، ويتعقّبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها وهو قوله: وما من إله إلّا الله فإنّ هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقّاً.

قوله تعالى: ( وإنّ الله لهو العزيز الحكيم ) معطوف على أوّل الآية وهو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر وتشجيع لنفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ الله لا يعجز عن نصرة الحقّ وتأييده ولا أنّه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنّه هو العزيز (فلا يعجز عمّا أراده) الحكيم (فلا يجهل ولا يهمل) لا ما عملته أوهام خصماء الحقّ من إله غير الله سبحانه.

ومن هنا يظهر وجه الإيتان بالاسمين: العزيز الحكيم، وأنّ الكلام مسوق لنصر القلب أو الإفراد.

قوله تعالى: ( فإنّ الله عليم بالمفسدين ) لمّا كان الغرض من المحاجّة وكذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحقّ لم يكن يعقل التولّى عن الطريق لمريد الغرض والمقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحقّ وهم يعلمون أنّ الله سبحانه ولىّ الحقّ لا يرضى بزهوقه ودحوضه لم يتولّوا عنها فإن تولّوا فإنّما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجّة ظهور الحقّ بل الغلبة الظاهريّة والاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع، والسنّة الّتي استحكمت عليه عادتهم، فهم إنّما يريدون ما تزيّنه لهم أهواؤهم وهوساتهم من شكل الحياة، لا الحياة الصالحة الّتي تنطبق على الحقّ والسعادة فهم لا يريدون إصلاحاً بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولّوا فإنّما هو لأنّهم مفسدون.

ومن هنا يظهر أنّ الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبّب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحقّ.

٢٥٠

وقد ضمّن الجزاء وصف العلم حيث قيل: فإنّ الله عليم ثمّ اُكّد بإنّ ليدلّ على أنّ هذه الصفة متحقّقة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنّهم سيتولّون عن المباهلة لا محالة وقد فعلوا وصدّقوا قول الله بفعلهم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ عن الصادق (عليه السلام): أنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال: دعوهم فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو ؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّي رسول الله، وأنّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث. قالوا: فمن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح ؟ فسألهم النبيّ. فقالوا نعم: قال فمن أبوه ؟ فبهتوا فأنزل الله: إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية وقوله: فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم - إلى قوله - فنجعل لعنه الله على الكاذبين فقال رسول الله: فباهلوني فإن كنت صادقاً اُنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً اُنزلت عليّ فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيّد والعاقب والأهتم إن باهلنا بقومه باهلناه فإنّه ليس نبيّاً وإن باهلنا باهل بيته خاصّة لم نباهله فإنّه لا يقدم إلى أهل بيته إلّا وهو صادق فلمّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعه أميرالمؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال النصارى: من هؤلاء ؟ فقيل لهم هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه عليّ بن أبي طالب، وهذا ابنته فاطمة، وهذا ابناه الحسن والحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على الجزية وانصرفوا.

وفي العيون بإسناده عن الريّان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام) في حديثه مع المأمون

٢٥١

والعلماء في الفرق بين العترة والاُمّة وفضل العترة على الاُمّة وفيه قالت العلماء: هل فسّر الله الاصطفاء في كتابه ؟ فقال الرضا (عليه السلام): فسّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً وذكر المواضع من القرآن، وقال فيها: وأمّا الثالثة حين ميّز الله الطاهرين من خلقه، وأمر نبيّه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عزّوجلّ فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم. قالت العلماء: عنى به نفسه. قال أبوالحسن: غلطتم إنّما عنى به علىّ بن أبي طالب وممّا يدلّ على ذلك قول النبيّ لينتهيّن بنوا وليعة أو لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي يعني علىّ بن أبي طالب، وعني بالأبناء الحسن والحسين، وعني بالنساء فاطمة فهذه خصوصيّة لا يتقدّمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس عليّ كنفسه، الحديث.

وعنه بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث له مع الرشيد قال الرشيد، له: كيف قلتم: إنا ذرّيّة النبيّ، والنبيّ لم يعقّب، وإنّما العقب للذكر لا للاُنثى، وأنتم ولد البنت ولا يكون له عقب. فقلت: أساله بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلّا ما أعفاني عن هذه المسألة. فقال: تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد عليّ وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم. كذا اُنهي إليّ، ولست أعفيك في كلّ ما أسألك عنه حتّى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله، وأنتم تدّعون معشر ولد عليّ أنّه لا يسقط عنكم منه شئ لا ألف ولا واو إلّا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزّوجلّ: ما فرّطنا في الكتاب من شئ، وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت: تأذن لي في الجواب ؟ فقال: هات. قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياس من أبوعيسى يا أميرالمؤمنين ؟ فقال: ليس له أب فقلت: إنّما ألحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم وكذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبيّ من اُمنّا فاطمة. أزيدك يا أميرالمؤمنين ؟ قال: هات. قلت: قول الله عزّوجلّ: فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا

٢٥٢

وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله: أبنائنا الحسن والحسين، ونسائنا فاطمة، وأنفسنا عليّ بن أبي طالب.

وفي سؤالات المأمون عن الرضا (عليه السلام): قال المأمون: ما الدليل على خلافة جدّك عليّ بن أبي طالب ؟ قال: آية أنفسنا قال لولا نسائنا قال لولا أبنائنا.

أقول: قوله: آية أنفسنا يريد أنّ الله جعل نفس عليّ كنفس نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقوله: لو لا نسائنا معناه: أنّ كلمة نسائنا في الآية دليل على أنّ المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ. وقوله: لو لا أبنائنا معناه أنّ وجود أبنائنا فيها يدلّ على خلافه فإنّ المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الأبناء.

وفي تفسير العيّاشيّ بإسناده عن حريز عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) سئل عن فضائله فذكر بعضها ثمّ قالوا له زدنا فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلّما في أمر عيسي فأنزل الله هذه الآية: إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى آخر الآية فدخل رسول الله فأخذ بيد عليّ والحسن والحسين وفاطمة ثمّ خرج ورفع كفّه إلى السماء وفرّج بين أصابعه، ودعاهم إلى المباهلة. قال: وقال أبوجعفر عليهماالسلام وكذلك المباهلة يشبّك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلمّا رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه: والله لئن كان نبيّاً لنهلكنّ وإن كان غير نبيّ كفانا قومه فكفّا وانصرفا.

اقول: وهذا المعنى أو ما يقرب منه مرويّ في روايات اُخر من طرق الشيعة وفي جميعها أنّ الّذين أتى بهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمباهلة هم عليّ وفاطمة والحسنان. فقد رواه الشيخ في أماليه بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه، ورواه أيضاً فيه بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق (عليه السلام) ورواه فيه أيضاً بإسناده عن سالم ابن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذرّ رضوان الله عليه ورواه أيضاً فيه بإسناده عن ربيعة ابن ناجد عن عليّ (عليه السلام). ورواه المفيد في كتاب الاختصاص بإسناده عن محمّد بن الزبرقان عن موسى بن

٢٥٣

جعفر عليهما السلام. ورواه أيضاً فيه عن محمّد بن المنكدر عن أبيه عن جدّه ورواه العيّاشيّ في تفسيره عن محمّد بن سعيد الأردنيّ عن موسى بن محمّد بن الرضا عن أخيه. ورواه أيضاً عن أبي جعفر الأحول عن الصادق (عليه السلام) ورواه أيضاً فيه في رواية اُخرى عن الأحول عنه (عليه السلام) وعن المنذر عن عليّ (عليه السلام). ورواه أيضاً فيه بإسناده عن عامر بن سعد. ورواه الفرات في تفسيره معنعناً عن أبي جعفر وعن أبي رافع والشعبيّ وعلىّ (عليه السلام) وشهر بن حوشب. ورواه في روضة الواعظين وفي إعلام الورى، وفي الخرائج وغيرها.

وفي تفسير الثعلبيّ عن مجاهد والكلبيّ: أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتّى نرجع وننظر فلمّا تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمّداً نبيّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيّاً قطّ فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ فإن أبيتم إلّا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا رسول الله وقد غدا محتضناً بالحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا. فقال أسقف نجران، يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أباالقاسم رأينا أن لا نباهلك. وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم فأبوا. قال: فإنّي اُناجزكم. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدّي إليك كلّ عامّ ألفي حلّة: ألف في صفر، وألف في رجب وثلاثين درعاً عاديّة من حديد فصالحهم على ذلك.

وقال: والّذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتّى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتّى يهلكوا.

٢٥٤

اقول: وروى القصّة: قريباً منه في كتاب المغازي عن ابن إسحاق ورواه أيضاً المالكيّ في الفصول المهمّة عن المفسّرين قريباً منه. ورواه الحمويّ عن ابن جريح قريباً منه.

وقوله: ألف في صفر المراد به المحرّم وهو أوّل السنة عند العرب وقد كان يسمّى صفراً في الجاهليّة فيقال صفر الأوّل وصفر الثاني وقد كانت العرب تنسئ في الصفر الأوّل ثمّ أقرّ الإسلام الحرمة في الصفر الأوّل فسمّي لذلك بشهر الله المحرّم ثمّ اشتهر بالمحرم.

وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب قال أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلن أسبّه، لأن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إلىّ من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول حين خلّفه في بعض مغازيه فقال له عليّ: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هرون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ؟ وسمعته يقول يوم خيبر: لاُعطيّن الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله. قال: فتطاولنا لها. فقال: اُدعوا لي عليّاً فاتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يده. ولمّا نزلت هذه الآية: قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل دعا رسول الله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي.

اقول: ورواه الترمذيّ في صحيحه. ورواه أبو المؤيّد الموفّق بن أحمد في كتاب فضائل عليّ. ورواه أيضاً أبو نعيم في الحلية عن عامر بن سعد عن أبيه. ورواه الحموينيّ في كتاب فرائد السمطين.

وفي حلية الأولياء لأبي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقّاص عن أبيه قال: لمّا نزلت هذه الآية دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي.

وفيه بإسناده عن الشعبيّ عن جابر قال: قدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العاقب والطيّب فدعاهما إلى الإسلام فقالا: أسلمنا يا محمّد فقال: كذبتما إن شئتما

٢٥٥

أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا: فهات إلينا. قال: حبّ الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير. قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخذ بيد عليّ والحسن والحسين وفاطمة فأرسل اليهما فأبيا أن يجيباه وأقرّا له. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والّذي بعثني بالحقّ لو فعلاً لأمطر عليهم الوادي ناراً قال جابر: فيهم نزلت: ندع أبنائنا وأبنائكم قال جابر: أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعليّ، وأبنائنا الحسن والحسين، ونسائنا فاطمة.

أقول: ورواه ابن المغازليّ في مناقبه بإسناده عن الشعبيّ عن جابر، ورواه أيضاً الحموينيّ في فرائد السمطين بإسناده عنه. ورواه المالكيّ في الفصول المهمّة مرسلاً عنه. ورواه أيضاً عن أبي داود الطيالسيّ عن شعبة الشعبيّ مرسلاً. ورواه في الدرّ المنثور عن الحاكم وصحّحه وعن ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن جابر.

وفي الدرّ المنثور خرج أبونعيم في الدلائل من طريق الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس: أنّ وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم منهم السيّد وهو الكبير، والعاقب وهو الّذي يكون بعده وصاحب رأيهم ثمّ ساق القصّة نحواً ممّا مرّ.

وفيه أيضاً أخرج البيهقيّ في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جدّه: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمّد رسول الله إلى اسقفّ نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام. فلمّا قرأ الأسقفّ الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقرأه فقال له الأسقفّ ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرّيّة إسماعيل من النبوّة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل ؟ ليس لي في النبوّة رأي، لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه، وجهدت

٢٥٦

لك فبعث الأسقفّ إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلّهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة، وعبدالله بن شرحبيل وجبّار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فانطلق الوفد حتّى أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتّى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم ؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما عندي فيه شئ يومى هذا فأقيموا حتّى اُخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد فأنزل الله هذه الآية: إنّ مثل عيسى عندالله كمثل آدم خلقه من تراب - إلى قوله-: فنجعل لعنة الله على الكاذبين، فأبوا أن يقرّوا بذلك فلمّا أصبح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدّة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: إنّي أرى أمراً مقبلاً إن كان هذا الرجل نبيّاً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقى على وجه الأرض منّا شعر ولا ظفر إلّا هلك فقالا له: ما رأيك ؟ فقال: رأيي أن احكّمه فإنّي أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً فقالا له: أنت وذلك، فتلقّى شرحبيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: إنّي قد رأيت خيراً من ملاعنتك. قال: وما هو ؟ قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية.

وفيه أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكريّ قال: لمّا نزلت هذه الآية: قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم الآية أرسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى عليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليلاعنهم، فقال شابّ من اليهود: ويحكم إليس عهدتم بالأمس إخوانكم الّذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا فانتهوا.

أقول: والرواية تؤيّد أن يكون الضمير في قوله تعالى: فمن حاجّك فيه راجعاً إلى الحقّ في قوله: الحقّ من ربّك فيتمّ بذلك حكم المباهلة لغير خصوص

٢٥٧

عيسى بن مريم (عليه السلام) وتكون حينئذ هذه قصّة اُخرى واقعة بعد قصّة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصّه الأخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدّم.

وقال ابن طاوس في كتاب سعد السعود رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبيّ وأهل بيته تأليف محمّد بن العبّاس بن مروان: أنّه روى خبر المباهلة من أحد وخمسين طريقاً عمّن سمّاه من الصحابة وغيرهم وعدّ منهم الحسن بن عليّ عليهما السلام وعثمان بن عفّان وسعد بن أبي وقّاص وبكر بن سمال وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عبّاس وأبا رافع مولى النبيّ وجابر بن عبدالله والبراء بن عازب وأنس بن مالك.

وروى ذلك في المناقب عن عدّة من الرواة والمفسّرين وكذا السيوطيّ في الدرّ المنثور.

ومن عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسّرين حيث قال: إنّ الروايات متّفقة على أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديهما، ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على عليّ فقط. ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّى راجت على كثير من أهل السنّة ولكنّ واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإنّ كلمة نسائنا لا يقولها العربيّ ويريد بها بنته لا سيّما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا عليّ ثمّ إنّ وفد نجران الّذين قالوا: إنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم وكلّ ما يفهم من الآيه أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يدعوا المحاجّين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالاً ونسائاً وأطفالاً ويجمع هو المؤمنين رجالاً ونسائاً وأطفالاً ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.

وهذا الطلب يدلّ على قوّة يقين صاحبه، وثقته بما يقول كما يدلّ امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومما راتهم فيما يقولون، وزلزالهم فيما يعتقدون، وكونهم على غير بيّنة و

٢٥٨

لا يقين، وأنّى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقّين والمبطلين في صعيد واحد متوجّهين إلى الله في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأيّ جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟

قال: أمّا كون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين كانوا على يقين ممّا يعتقدون في عيسى (عليه السلام) فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقاديّة لا يراد به إلّا اليقين، وفي قوله: ندع أبنائنا وأبنائكم إلخ وجهان:

أحدهما: أنّ كلّ فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبنائنا ونحن ندعو أبنائكم، وهكذا الباقي.

وثانيهما: أنّ كلّ فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبنائنا ونسائنا وأنفسنا وأنتم كذلك.

ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، وإنّما الإشكال فيه على قول الشيعة، ومن شايعهم على القول بالتخصيص. انتهى.

اقول: وهذا الكلام - وأحسب أنّ الناظر فيه يكاد يتّهمنا في نسبته إلى مثله، واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلميّة - إنّما أوردناه على وهنه وسقوطه ليعلم أنّ النزعة والعصبيّة إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم وردائة النظر فيهدم كلّ ما بنى عليه ويبني كلّ ما هدمه ولا يبالي، ولأنّ الشرّ يجب أن يعلم ليجتنب عنه.

والكلام في مقامين: أحدهما: دلالة الآية على أفضليّة عليّ (عليه السلام)، وهو بحث كلاميّ خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب، وهو النظر في معاني الآيات القرآنيّة.

وثانيهما: البحث عمّا ذكره هذا القائل من حيث تعلّقه بمدلول آية المباهلة، والروايات الواردة في ما جرى بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين وفد نجران، وهذا بحث تفسيريّ داخل في غرضنا.

وقد عرفت ما تدلّ عليه الآية، وأنّ الّذي نقلناه من الأخبار المتكثّرة

٢٥٩

المتظافرة هو الّذي يطابق مدلول الآية. وبالتأمّل في ذلك يتّضح وجوه الفساد في هذه الحجّة المختلقة والنظر الواهي الّذي لا يرجع إلى محصّل. وهاك تفصيلها:

منها: أنّ قوله: ومصادر هذه الروايات الشيعة - إلى قوله: وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّى راجت على كثير من أهل السنّة بعد قوله: إنّ الروايات متّفقة ليت شعري أيّ روايات يعنى بهذا القول ؟ أمراده هذه الروايات المتظافرة الّتي أجمعت على نقلها وعدم طرحها المحدّثون، وليست بالواحدة والاثنتين والثلاث أطبق على نقلها وتلقّيها بالقبول أهل الحديث، وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم، ومنهم مسلم في صحيحه والترمذيّ في صحيحه وأيّدها أهل التاريخ.

ثمّ أطبق المفسّرون على إيرادها وإيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب، وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ كالطبريّ وأبي الفداء بن كثّير والسيوطيّ وغيرهم.

ثمّ من الّذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات ؟ أيريد بهم الّذين تنتهي إليهم سلاسل الأسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقّاص وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عبّاس وغيرهم من الصحابة ؟ أو التابعين الّذين نقلوا عنهم بالأخذ والرواية كأبي صالح والكلبيّ والسديّ والشعبيّ وغيرهم، وأنّهم تشيّعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء وأمثالهم ونظراؤهم هم الوسائط في نقل السنّة، ومع رفضهم لا تبقى سنّة مذكورة ولا سيرة مأثورة وكيف يسع لمسلم أو باحث حتّى ممّن لا ينتحل بالإسلام أن يبطل السنّة ثمّ يروم أن يطلّع على تفاصيل ما جاء به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تعليم وتشريع والقرآن ناصّ بحجّيّة قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسيرته وناصّ ببقاء الدين على حياته، ولو جاز بطلان السنّة من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لإنزاله ثمر.

أو أنّه يريد أنّ الشيعة دسّوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث وكتب التاريخ فيعود محذور سقوط السنّة وبطلان الشريعة بل يكون البلوى أعمّ والفساد أتمّ.

ومنها: قوله: وحملون كلمة نسائنا على فاطمة، وكلمة أنفسنا على عليّ

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432