الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89874 / تحميل: 7009
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وفيها دلالة على المدلول: إمّا مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حقّ المراد بالضرورة وإلّا بطلت الدلالة كما عرفت وهذا المعنى الواحد الّذى هو حقّ المراد لا محالة لا يكون أجنبيّاً عن الاُصول المسلّمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعيّن المراد الحقّ من بين المداليل المتعدّدة المحتملة فالقرآن بعضه يبيّن بعضاً وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.

ثمّ إنّ هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى: منه آيات محكمات هن اُمّ الكتاب واُخر متشابهات لم يشكّ في أنّ المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمّنة للاُصول المسلّمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات الّتي تتعيّن وتتّضح معانيها بتلك الاُصول.

فإن قلت: رجوع الفروع إلى الأصول ممّا لا ريب فيه فيما كان هناك اُصول متعرّقة وفروع متفرّقة سواء فيه المعارف القرآنيّة وغيرها لكنّ ذلك لا يستوجب حصول التشابه فما وجه ذلك ؟

قلت: وجهه أحد أمرين فإنّ المعارف الّتي يُلقّيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحسّ والمادّة والأفهام العاديّة لا تلبث دون أن تتردّد فيها بين الحكم الجسمانيّ الحسّيّ وبين غيره كقوله تعالى:( إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ١٤ وقوله تعالى:( وجاء ربّك ) الفجر - ٢٢. فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معان هي من أوصاف الأجسام وخواصّها وتزول بالرجوع إلى الاُصول الّتي تشتمل على نفي حكم المادّة والجسم عن المورد وهذا ممّا يطّرد في جميع المعارف والأبحاث غير المادّيّة والغائبة عن الحواسّ ولا يختصّ بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماويّة بما تشتمل عليه من المعارف العاليه من غير تحريف ويوجد أيضاً في المباحث الإلهيّة من الفلسفة وهو الّذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى:( أنزل من السماء ماءاً فسالت

٢١

أودية بقدرها الآية ) الرعد - ١٧ وقوله:( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم ) الزخرف - ٤.

ومنها ما يتعلّق بالنواميس الاجتماعيّة والأحكام الفرعيّة واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغيّر المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ونزول القرآن نجوماً من جهة اُخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها، ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم، والمنسوخ إلى الناسخ.

قوله تعالى: ( فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) الزيغ هو الميل عن الاستقامة ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا فإنّ الآية تصف حال الناس بالنسبذ إلى تلقّي القرآن بمحكمه ومتشابهه وأنّ منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتّبع المتشابه ابتغاءً للفتنه والتأويل ومنهم من هو راسخ العلم مستقرّ القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتّبعه ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.

ومن هنا يظهر: أنّ المراد باتّباع المتشابه اتّباعه عملاً لا إيماناً وأنّ هذا الاتّباع المذموم اتّباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم إذ على هذا التقدير يصير الاتّباع اتّباعاً للمحكم ولا ذمّ فيه.

والمراد بابتغاء الفتنه طلب إضلال الناس فإنّ الفتنة تقارب الإضلال في المعنى يقول تعالى: يريدون باتّباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه وأمراً آخر هو أعظم من ذلك وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتّى يستغنوا عن اتّباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.

والتأويل من الأوّل وهو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الّذي يرجع إليه وتأويل القرآن هو المأخذ الّذي يأخذ منه معارفه.

وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه:( ولقد

٢٢

جئناهم بكتاب فصّلناه على علم هدىً ورحمةً لقوم يؤمنون هل ينظرون إلّا تأويله يوم يأتي تأويله ويقول الّذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربّنا بالحق ) الأعراف - ٥٣ أي بالحقّ فيما أخبروا به وأنبأوا أنّ الله هو مولاهم الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ النبوّة حقّ وأنّ الدين حقّ وأنّ الله يبعث من في القبور وبالجملة كلّ ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوّة وأخبارها.

ومن هنا ما قيل: إنّ التأويل في الآية هو الخارج الّذي يطابقه الخبر الصادق كالاُمور المشهودة يوم القيامة الّتي هي مطابقات (اسم مفعول) أخبار الأنبياء والرسل والكتب.

ويردّه: أنّ التأويل على هذا يختصّ بالآيات المخبرة عن الصفات وبعض الأفعال وعن ما سيقع يوم القيامة وأمّا الآيات المتضمّنة لتشريع الأحكام فإنّها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها. وكذا ما دلّ منها على ما يحكم به صريح العقل كعدّة من أحكام الأخلاق فإنّ تأويلها معها. وكذا ما دلّ على قصص الأنبياء والاُمم الماضية فإنّ تأويلها على هذا المعنى يتقدّمها من غير أن يتأخّر إلى يوم القيامة مع أنّ ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كلّه لا إلى قسم خاصّ من آياته.

ومثلها قوله تعالى:( وما كان هذا القرآن أن يفتري - إلى أن قال -أم يقولون افتراه - إلى أن قال -بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله كذلك كذّب الّذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبه الظالمين ) يونس - ٣٩، والآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.

ولذلك ذكر بعضهم: أنّ التأويل هو الأمر العينيّ الخارجيّ الّذي يعتمد عليه الكلام وهو في مورد الإخبار المخبر به الواقع في الخارج إمّا سابقاً كقصص الأنبياء والاُمم الماضية وإمّا لاحقاً كما في الآيات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكلّ ما سيظهر يوم القيامة وفي مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحقّقة في الخارج كما في قوله تعالى:( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس

٢٣

المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً ) أسرى - ٣٥. فإنّ تأويل إيفاء الكيل وإقامه الوزن هو المصلحة المترتّبة عليهما في المجتمع وهو استقامه أمر الاجتماع الإنسانيّ.

وفيهأوّلا: أنّ ظاهر هذه الآية: أنّ التأويل أمر خارجيّ وأثر عينيّ مترتّب على فعلهم الخارجيّ الّذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الأمر التشريعيّ الّذي يتضمّنه قوله: وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا الآية، فالتأويل أمر خارجيّ هو مرجع ومآل لأمر خارجيّ آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها عن معان خارجيّة (كما في الإخبار) أو تعلّقها بأفعال أو اُمور خارجيّة (كما في الإنشاء) لها تأويل فالوصف وصف بحال متعلّق الشئ لا بحال نفس الشئ.

وثانياً: أنّ التأويل وإن كان هو المرجع الّذي يرجع ويؤل إليه الشئ لكنّه رجوع خاصّ لا كلّ رجوع فإنّ المرئوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له فلا محالة هو مرجع بنحو خاصّ لا مطلقاً. يدلّ على ذلك قوله تعالى: في قصّة موسى والخضر (عليهما السلام):( سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً ) الكهف - ٧٨، وقوله تعالى:( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ) الكهف - ٨٢، والّذي نبّأه لموسى صور وعناوين لما فعله (عليه السلام) في موارد ثلاث كان موسى (عليه السلام) قد غفل عن تلك الصور والعناوين وتلقّى بدلها صوراً وعناوين اُخرى أوجبت اعتراضه بها عليه فالموارد الثلاث: هي قوله تعالى:( حتّى إذا ركبا في السفينة خرقها ) الكهف - ٧١ وقوله تعالى:( حتّى إذا لقيا غلاماً فقتله ) الكهف - ٧٤ وقوله تعالى:( حتّى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه ) الكهف - ٧٧.

والّذي تلقّاه موسى (عليه السلام) من صور هذه القضايا وعناوينها قوله:( أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً ) الكهف - ٧١ وقوله:( أقتلت نفساً زكيّة بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً ) الكهف - ٧٤ وقوله:( لو شئت لتّخذت عليه أجراً ) الكهف - ٧٧.

والّذي نبّأ به الخضر من التأويل قوله:( أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصباً وأمّا الغلام فكان

٢٤

أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربّك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربّك ) الكهف - ٨٢. ثمّ أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (عليه السلام) جملة بقوله:( وما فعلته عن أمري ) الكهف - ٨٢ فالّذي اُريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشئ إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجئ زيد في الخارج.

ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدّة مواضع من قصّة يوسف (عليه السلام) كقوله تعالى:( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) يوسف - ٤ وقوله تعالى:( ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّي حقّاً ) يوسف - ١٠٠. فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعاً لكنّه من قبيل رجوع المثال إلى الممثّل وكذا قوله تعالى:( وقال الملك إنّي أرى سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات يا أيّها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الّذي نجا منهما وادّكر بعد اُمّة أنا اُنبّئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيّها الصدّيق أفتنا - إلى أن قال -قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلّا قليلاً ممّا تأكلون ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهن إلّا قليلاً ممّا تحصنون ) يوسف - ٤٨.

وكذا قوله تعالى:( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إنّي أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين - إلى أن قال -يا صاحبي السجن أمّا أحدكما فيسقي ربّه خمراً وأمّا الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الّذي فيه تستفتيان ) يوسف - ٤١.

وكذا قوله تعالى:( ويعلّمك من تأويل الأحاديث ) يوسف - ٦ وقوله تعالى:( ولنعلّمه من تأويل الأحاديث ) يوسف - ٢١ وقوله تعالى:( وعلّمتني من تأويل

٢٥

الاحاديث ) يوسف - ١٠١. فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصّة يوسف (عليه السلام) فيما يرجع إليه الرويا من الحوادث وهو الّذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة والمثال فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته الّتي يظهر بها والحقيقة المتمثّلة إلى مثالها الّذي تتمثّل به كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصّة موسى والخضر (عليهما السلام) وكذا في قوله تعالى:( وأوفوا الكيل إذا كلتم إلى قوله: وأحسن تأويلاً الآية ) أسرى - ٣٥.

والتدبّر في آيات القيامة يعطي أنّ المراد هو ذلك أيضاً في لفظة التأويل في قوله تعالى: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله الآية وقوله تعالى:( هل ينظرون إلّا تأويله يوم يأتي تأويله الآية ) فإنّ أمثال قوله تعالى:( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد ) ق - ٢٢ تدلّ على أنّ مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسّيّة الّتي نعهدها في الدنيا كما أنّ نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه وسيجئ مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوّة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقّق مضامينها في المستقبل.

فقد تبيّن بما مرّ:أوّلا: أنّ كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.

وثانياً: أنّ التأويل لا يختصّ بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أنّ للمتشابهة تأويلاً.

وثالثاً: أنّ التأويل ليس من المفاهيم الّتي هي مداليل للألفاظ بل هو من الاُمور الخارجيّة العينيّة واتّصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلّق وأمّا إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ فاستعمال مولّد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى: وابتغاء تأويله

٢٦

وما يعلم تأويله إلّا الله الآية كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل ممّا سننقله عن قريب.

قوله تعالى: ( وما يعلم تأويله إلّا الله ) ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه لقربه كما هو الظاهر أيضاً في قوله: وابتغاء تأويله وقد عرفت أنّ ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة. ومن الممكن أيضاً رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله: ما تشابه منه.

وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصوراً عليه سبحانه وأمّا قوله: والراسخون في العلم فظاهر الكلام أنّ الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفاً للترديد الّذي يدلّ عليه قوله في صدر الآية فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ والمعنى: أنّ الناس في الأخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتّبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شئ منه: آمنّا به كلّ من عند ربّنا وإنّما اختلفا لاختلافهم من جهه زيغ القلب ورسوخ العلم.

على أنّه لو كان الواو للعطف وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو أفضلهم وكيف يتصوّر أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدرى ما اُريد به ومن دأب القرآن إذا ذكر الاُمّة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يفرده بالذكر أوّلاً ويميّزه بالشخص تشريفاً له وتعظيماً لأمره ثمّ يذكرهم جميعاً كقوله تعالى:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقره - ٢٨٥ وقوله تعالى:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبه - ٢٦ وقوله تعالى:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه ) التوبه - ٨٨ وقوله تعالى:( وهذا النبيّ والّذين آمنوا ) آل عمران - ٦٨ وقوله تعالى:( لا يخزي الله النبيّ والّذين آمنوا معه ) التحريم - ٨ إلى غير ذلك. فلو كان المراد بقوله: والراسخون في العلم أنّهم عالمون بالتأويل - ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منهم قطعاً - كان حقّ الكلام كما عرفت أن يقال: وما يعلم تأويله إلّا الله ورسوله والراسخون في العلم هذا. وإن أمكن أن يقال: إنّ قوله في صدر الآية: هو الّذي أنزل عليك الكتاب إلخ يدلّ على كون

٢٧

النبيّ عالماً بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانياً!

فالظاهر أنّ العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أنّ الآيات دالّة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى من رسول ) الجنّ - ٢٧، ولا ينافيه أيضاً: كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم إذ لا منافاة بين أن تدلّ هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلباً وبين أن تدلّ آيات اُخر على أنّهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا ) الرسوخ هو أشدّ الثبات ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الّذين في قلوبهم زيغ ثمّ توصيفهم بأنّهم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا يدلّ على تمام تعريفهم، وهو أنّ لهم علماً بالله وبآياته لا يدخله ريب وشكّ فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل وهم يؤمنون به ويتّبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقّفوا عن اتّباعها عملاً.

وفي قولهم: آمنّا به كلّ من عند ربّنا ذكر الدليل والنتيجة معاً فإنّ كون المحكم والمتشابه جميعاً من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكلّ: محكمه ومتشابهه ووضوح المراد في المحكم يوجب اتّباعه عملاً والتوقّف في المتشابه من غير ردّه لأنّه من عند الله ولا يجوز اتّباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتّبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم. وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله: كلّ من عند ربّنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعاً أعني: الإيمان والعمل في المحكم والإيمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم.

قوله تعالى: ( وما يذكّر إلّا اُولوا الألباب ) التذكّر هو الانتقال إلى دليل الشئ لاستنتاجه ولمّا كان قولهم: كلّ من عند ربّنا كما مرّ استدلالاً منهم وانتقالاً

٢٨

لما يدلّ على فعلهم سمّاه الله تعالى تذكّراً ومدحهم به.

والألباب جمع لبّ وهو العقل الزكيّ الخالص من الشوائب وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه وعرّفهم بأنّهم أهل الإيمان بالله والإنابه إليه واتّباع أحسن القول ثمّ وصفهم بأنّهم على ذكر من ربّهم دائماً فأعقب ذلك أنّهم أهل التذكّر أي الانتقال إلى المعارف الحقّة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة قال تعالى:( والّذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه اُولئك الّذين هداهم الله واُولئك هم اُولوا الألباب ) الزمر - ١٨ وقال تعالى:( إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاُولي الألباب الّذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) آل عمران - ١٩١ وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلّل والخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكّرهم بآيات الله وانتقالهم إلى المعارف الحقّة كما قال تعالى:( وما يتذكّر إلّا من ينيب ) الغافر - ١٣ وقد قال:( وما يذكّر إلّا اُولوا الألباب ) البقره - ٢٦٩، آل عمران - ٧.

قوله تعالى: ( ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب ) وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنّهم لمّا علموا بمقام ربّهم وعقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أنّ الملك لله وحده وأنّهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا إلى ربّهم وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم وأن يهب لهم من لدنه رحمه تبقى لهم هذه النعمة ويعينهم على السير في صراط الهداية والسلوك في مراتب القرب.

وأمّا سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأنّ عدم إزاغة القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالإزاغة بل في حال الجهل والاستضعاف وهم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلّا الله سبحانه وهم مستشعرون بحاجتهم هذه. والدليل عليه قولهم بعد: ربّنا إنّك

٢٩

جامع الناس ليوم لا ريب فيه.

فقولهم: ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا استعاذه من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الّذى فيها وقولهم: وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب استمطار لسحاب الرحمة حتّى تدوم بها حياة قلوبهم وتنكير الرحمة وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة وأنّها كيف ينبغي أن تكون غير أنّهم يعلمون أنّه لولا رحمة من ربّهم ولولا كونها من لدنه لم يتمّ لهم أمر.

وفي الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضاً واستيهاب الرحمة من لدنه محضاً دلالة على أنّهم يرون تمام الملك لله محضاً من غير توجّه إلى أمر الأسباب.

قوله تعالى: ( ربّنا إنّك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد ) هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة وذلك لعلمهم بأنّ إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الإنسان في مسير وجوده كلّ ذلك مقدّمة لجمعهم إلى يوم القيامة الّذي لا يغني فيه ولا ينصر أحد إلّا بالرحمة كما قال تعالى:( إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم الله ) الدخان - ٤٢ ولذلك سألوا رحمة من ربّهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.

وقد وصفوا هذا اليوم بأنّه لا ريب فيه ليتّجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء وعلّلوا هذا التوصيف أيضاً بقولهم: إنّ الله لا يخلف الميعاد لأنّ شأنهم الرسوخ في العلم ولا يرسخ العلم بشئ ولا يستقرّ تصديق إلّا مع العلم بعلّته المنتجة وعلّة عدم ارتيابهم في تحقّق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.

ونظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم: وهب لنا من لدنك رحمة بقولهم: إنّك أنت الوهّاب فكونه تعالى وهّاباً يعلّل به سؤالهم الرحمة وإتيانهم بلفظة أنت وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلّل به قولهم: من لدنك الدالّ على الاختصاص وكذا يجري مثل الوجه في قولهم: ربّنا لا تزغ قلوبنا حيث عقّبوه بما يجري مجرى العلّة بالنسبة إليه وهو قولهم: بعد إذ هديتنا وقد مرّ آنفاً أنّ قولهم:

٣٠

آمنّا به من حيث تعقيبه بقولهم: كلّ من عند ربّنا من هذا القبيل أيضاً.

فهؤلاء رجال آمنوا بربّهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه وكمّل عقولهم فلا يقولون إلّا عن علم ولا يفعلون إلّا عن علم فسمّاهم الله تعالى راسخين في العلم وكنّى عنهم باُولي الألباب وأنت إذا تدبّرت ما عرّف الله به اُولى الألباب وجدته منطبقاً على ما ذكره من شانهم في هذه الآيات. قال تعالى:( والّذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه اُولئك الّذين هداهم الله واُولئك هم اُولوا الألباب ) الزمر - ١٨ فوصفهم بالإيمان واتّباع أحسن القول والإنابة إلى الله سبحانه وقد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.

وأمّا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: إنّ الله لا يخلف الميعاد فلأنّ هذا الميعاد لا يختصّ بهم بل يعمّهم وغيرهم فكان الأولى تبديل قولهم: ربّنا إلى لفظة الجلالة لأنّ حكم الاُلوهيّة عامّ شامل لكلّ شئ.

( كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل)

هذا الّذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مرّ هو الّذي يتحصّل من تدبّر كلامه سبحانه ويستفاد من المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) سيجئ في البحث الروائيّ.

لكنّ القوم اختلفوا في المقام وقد شاع الخلاف واشتدّ الانحراف بينهم وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأوّل من مفسّري الصحابة والتابعين وقلّما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب ممّا مرّ من البيان فضلاً عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق.

والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل فأوجب ذلك اختلالاً عجيباً في عقد المسألة وكيفيّة البحث والنتيجة المأخوذة منه ونحن نورد تفصيل القول في كلّ واحد من أطراف هذه الأبحاث وما

٣١

قيل فيها وما هو المختار من الحقّ مع تمييز مورد البحث بما تيسّر في ضمن فصول:

١ - المحكم والمتشابه

الإحكام والتشابه من الألفاظ المبيّنة المفاهيم في اللغة وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى:( كتاب اُحكمت آياته ) هود - ١ وقوله تعالى:( كتاباً متشابهاً مثاني ) الزمر - ٢٣ ولم يتّصف بهما إلّا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان والإحكام.

لكن قوله تعالى: هو الّذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات الآية لمّا اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أنّ المراد بالإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتّصف به تمام الكتاب وكان من الحريّ البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات وفيه أقوال ربّما تجاوزت العشرة:

أحدها: أنّ المحكمات هو قوله تعالى: في سورة الأنعام:( قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً إلى آخر الآيات الثلاث ) الأنعام - ١٥٢ و المتشابهات هي الّتى تشابهت على اليهود وهى الحروف المقطّعة النازلة في أوائل عدّة من السور القرآنيّة مثل ألم وألر وحم وذلك أنّ اليهود أوّلوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدّة بقاء هذه الاُمّة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر. نسب إلى ابن عبّاس من الصحابة.

وفيه: أنّه قول من غير دليل ولو سلّم فلا دليل على انحصارهما فيهما. على أنّ لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أنّ ظاهر الآية يدفعه.

لكنّ الحقّ أنّ النسبة في غير محلّها والّذي نقل عن ابن عبّاس: أنّه قال: إنّ الآيات الثلاث من المحكمات لا أنّ المحكمات هي الآيات الثلاث ففي الدرّ المنثور: أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه وابن مردويه عن عبد الله بن

٣٢

قيس سمعت ابن عبّاس يقول في قوله منه آيات محكمات قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: قل تعالوا والآيتان بعدها.

ويؤيّد ذلك ما رواه عنه أيضاً في قوله: آيات محكمات قال: من ههنا: قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات، ومن ههنا: وقضى ربّك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه إلى آخر ثلاث آيات. فالروايتان تشهدان أنّه إنّما ذكر هذه الآيات مثالاً لسائر المحكمات لا أنّه قصرها فيها.

وثانيها: عكس الأوّل وهو أنّ المحكمات هي الحروف المقطّعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها. نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى: هنّ اُمّ الكتاب أنهنّ فواتح السور منها يستخرج القرآن: ألم ذلك الكتاب منها استخرجت البقره وألم الله لا إله إلّا هو الحىّ القيّوم، منها استخرجت آل عمران. وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله: هنّ اُمّ الكتاب قال: أصل الكتاب لأنّهنّ مكتوبات في جميع الكتب، انتهى. ويدلّ ذلك على أنّهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أنّ المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أنّ الكتاب الّذى نزل عليكم هو هذه الحروف المقطّعة الّتى تتألّف منها الكلمات والجمل كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.

وفيه: مضافاً إلى أنّه مبنىّ على ما لا دليل عليه أصلاً أعنى تفسير الحروف المقطّعة في فواتح السور بما عرفت أنّه لا ينطبق على نفس الآية فإنّ جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه وقد ذمّ الله سبحانه اتّباع المتشابه وعدّه من زيغ القلب مع أنّه تعالى مدح اتّباع القرآن بل عدّه من أوجب الواجبات كقوله تعالى:( واتّبعوا النور الّذى اُنزل معه ) الأعراف - ١٥٧ وغيره من الآيات.

وثالثها: أنّ المتشابه هو ما يسمّى مجملاً والمحكم هو المبيّن.

وفيه أنّ ما بيّن من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبيّن. بيان ذلك: أنّ إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها ويوجب ذلك تحيّر المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتّبعوا ما هذا

٣٣

شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبيّن يبيّن هذا المجمل فيصير بذلك مبيّناً فيتّبع فهذا حال المجمل مع مبيّنه فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبيّن بعينهما كان المتّبع هو المتشابه إذا ردّ إلى المحكم دون نفس المحكم وكان هذا الاتّباع ممّا لا يجوّزه قريحة التكلّم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتّباع المتشابه أمراً يلحقه الذمّ ويوجب زيغ القلب.

رابعها: أنّ المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنّها يؤمن بها ولا يعمل بها والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنّها يؤمن بها ويعمل بها ونسب إلى ابن عبّاس وابن مسعود وناس من الصحابة ولذلك كان ابن عبّاس يحسب أنّه يعلم تأويل القرآن.

وفيه: أنّه على تقدير صحّته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإنّ الّذي ذكره تعالى من خواصّ اتّباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال على أنّ لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.

وفيما نقل عن ابن عبّاس ما يدلّ على أنّ مذهبه في المحكم والمتشابه أعمّ ممّا ينطبق على الناسخ والمنسوخ وأنّه إنّما ذكرهما من باب المثال ففي الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ عن ابن عبّاس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به والمتشابهات منسوخه ومقدّمه ومؤخّره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به انتهى.

خامسها: أنّ المحكمات ما كان دليله واضحاً لائحاً كدلائل الوحدانيّة والقدرة والحكمة والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمّل وتدبّر.

وفيه: أنّه إن كان المراد من كون الدليل واضحاً لائحاً أو محتاجاً إلى التأمّل والتدبّر كون مضمون الآية ذا دليل عقليّ قريب من البداهة أو بديهىّ وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقليّ اللائح الواضح وحينئذ يكون اتّباعها مذموماً مع أنّها واجبه الاتّباع وإن كان

٣٤

المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، وكيف لا ؟ وهو كتاب متشابه مثاني ونور ومبين ولازمه كون الجميع محكماً وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النصّ.

سادسها: أنّ المحكم كلّ ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جليّ أو خفيّ والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه.

وفيه: أنّ الإحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنّها آية أي دالّة على معرفة من المعارف الإلهيّة والّذي تدلّ عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل ولا ممتنع الفهم إمّا بنفسه أو بضميمة غيره وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهة اللفظ ؟ مع أنّه وصف كتابه بأنّه هدى وأنّه نور وأنّه مبين وأنّه في معرض فهم الكافرين فضلاً عن المؤمنين حيث قال:( تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ) حم السجدة - ٤ وقال تعالى:( أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ فما تعرّضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم ولا الوقوف عليه مستحيل وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرّض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتّى تسمّى متشابها.

على أنّ في هذا القول خلطاً بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مرّ.

سابعها: أنّ المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها ممّا يصرف بعضها بعضاً نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.

وفيه: أنّ المراد بالصرف الّذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتّى يشمل مثل التخصيص بالمخصّص والتقييد بالمقيّد وسائر القرائن المقاميّة كانت آيات الأحكام أيضاً كغيرها متشابهات وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتّى يتعيّن المراد به بنفسه ويتعيّن المراد

٣٥

بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشئ من معارف القرآن غير الأحكام لأنّ المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ويتبيّن بذلك معانيها.

ثامنها: أنّ المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً كثيرة ونسب إلى الشافعيّ وكأنّ المراد به أنّ المحكم ما لا ظهور له إلّا في معنى واحد كالنصّ والظاهر القوىّ في ظهوره والمتشابه خلافه.

وفيه: أنّه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئاً فقد بدّل لفظ المحكم بما ليس له إلّا معنى واحد والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة على أنّه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنّه خطاء ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء.

تاسعها: أنّ المحكم ما اُحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع اُممهم والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعدّدة ولازم هذا القوم اختصاص التقسيم بآيات القصص.

وفيه: أنّه لا دليل على هذا التخصيص أصلاً على أنّ الّذى ذكره تعالى من خواصّ المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتّباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه فإنّ هذه الخاصّة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها وتوجد في القصّة الواحدة كقصّة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكرّرة.

عاشرها: أنّ المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه وهذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.

وفيه: أنّ آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مع أنّها من المحكمات قطعاً لما تقدّم بيانه مراراً وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدّم مع عدم

٣٦

احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.

الحادي عشر: أنّ المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به ونسب إلى ابن تيميّة ولعلّ المراد به أنّ الأخبار متشابهات والإنشائات محكمات كما استظهره بعضهم وإلّا لم يكن قولاً برأسه لصحّة انطباقه على عدّة من الأقوال المتقدّمة.

وفيه: أنّ لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات ولازمه أن لا يمكن حصول العلم بشئ من المعارف الإلهيّة في غير الأحكام إذ لا يتحقّق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها ومن جهة اُخرى الآيات المنسوخة إنشائات وليست بمحكمات قطعاً.

والظاهر أنّ مراده من الإيمان والعمل بالمحكم والإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدلّ عليه لفظ الآية: فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا إلّا أنّ الأمرين أعنى الإيمان والعمل معاً في المحكم والإيمان فقط في المتشابه لمّا كانا وظيفتين لكلّ من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخّص المحكم والمتشابه قبلاً حتّى يؤدّي وظيفته وعلي هذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر.

الثاني عشر: أنّ المتشابهات هي آيات الصفات خاصّة أعمّ من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير وصفات أنبيائه كقوله تعالى: في عيسى بن مريم عليهما السلام:( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) النساء - ١٧١ وما يشبه ذلك نسب إلى ابن تيميّة.

وفيه: أنّه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.

والّذى يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله: أنّه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغويّ وهو ما اُحكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيّان فربّما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامّة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء وهذا المعنى

٣٧

في آيات الصفات أظهر فإنّها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحسّ فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك اُموراً جسمانيّة أو معاني ليست بالحقّ وتقوم بذلك الفتن وتظهر البدع وتنشأ المذاهب فهذا معنى المحكم والمتشابه وكلاهما ممّا يمكن أن يحصل به العلم والّذى لا يمكن نيله والعلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني الّتى تدلّ عليها أمثال آيات الصفات فهب أنّا علمنا معنى قوله: إنّ الله على كلّ شئ قدير وإنّ الله بكلّ شئ عليم ونحو ذلك لكنّا لا ندرى حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفيّة أفعاله الخاصّة به فهذا هو تأويل المتشابهات الّذى لا يعلمها إلّا الله تعالى انتهى ملخّصاً وسيأتي ما يتعلّق بكلامه من البحث عند ما نتكلّم في التأويل إنشاء الله.

الثالث عشر: أنّ المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.

وفيه: أنّه قول من غير دليل والآيات القرآنيّة وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل لكنّ ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه فبهذه الآية استيفاء هذا التقسيم وشئ ممّا ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقاً صحيحاً على أنّه منقوض بآيات الأحكام فإنّها محكمة ولا سبيل للعقل إليها.

الرابع عشر: أنّ المحكم ما اُريد به ظاهره والمتشابه ما اُريد به خلاف ظاهره وهذا قول شائع عند المتأخّرين من أرباب البحث وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل: أنّه المعنى المخالف لظاهر الكلام وكأنّه أيضاً مراد من قال: إنّ المحكم ما تأويله تنزيله والمتشابه ما لا يدرك إلّا بالتأويل.

وفيه: أنّه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإنّ المتشابه إنّما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتّى يكون المتشابه متميّزاً عن المحكم بأنّ له تأويلاً بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعمّ جميع الآيات القرآنيّة من محكمها ومتشابهها

٣٨

كما مرّ بيانه على أنّه ليس في القرآن آية اُريد فيها ما يخالف ظاهرها وما يوهم ذلك من الآيات إنّما اُريد بها معان يعطيها لها آيات اُخر محكمة والقرآن يفسّر بعضه بعضاً ومن المعلوم أنّ المعنى الّذي تعطيه القرائن - متّصلة أو منفصلة - للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نصّ متكلّمه على أنّ ديدنه أن يتكلّم بما يتّصل بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كلّ اختلاف وتناف مترائي بالتدبّر فيه. قال تعالى:( أ فلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ .

الخامس عشر: ما عن الأصمّ: أنّ المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه وكأنّ المراد بالإجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف.

وفيه: أنّ ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها وينافيه التقسيم الّذي في الآية إذ ما من آيه من آي الكتاب إلّا وفيه اختلاف ما إمّا لفظاً أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها حتّى ذهب بعضهم إلى أنّ القرآن كلّه متشابه مستدلّاً بقوله تعالى:( كتاباً متشابهاً ) الزمر - ٢٣ غفلة عن أنّ هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدلّ به آية محكمة وهو يناقض قوله وذهب آخرون إلى أنّ ظاهر الكتاب ليس بحجّة أي أنّه لا ظاهر له.

السادس عشر: أنّ المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الإشكال من جهه اللفظ أو من جهة المعنى ذكره الراغب.

قال في مفردات القرآن والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إمّا من حيث اللفظ أو من حيث المعنى فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده وحقيقة ذلك أنّ الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم على الإطلاق ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه.

فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط ومتشابه من جهة المعنى فقط ومتشابه من جهتهما والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما

٣٩

يرجع إلى الألفاظ المفردة وذلك إمّا من جهة غرابته نحو الأبّ ويزفّون وإمّا من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركّب وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شئ لأنّه لو قيل ليس مثله شئ كان أظهر للسامع، وضرب لنظم الكلام نحو أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيّماً تقديره الكتاب قيّماً ولم يجعل له عوجاً وقوله: ولو لا رجال مؤمنون إلى قوله: لو تزيّلوا.

والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإنّ تلك الصفات لا تتصوّر لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه، أو لم يكن من جنس ما لم نحسّه.

والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب: الأوّل: من جهة الكمّيّة كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين. والثاني: من جهة الكيفيّة كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم. والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتّقوا الله حقّ تقاته. والرابع: من جهة المكان أو الاُمور الّتى نزلت فيها نحو وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها وقوله: إنّما النسيئ زيادة في الكفر فإنّ من لا يعرف عادتهم في الجاهليّة يتعذّر عليه معرفة تفسير هذه الآية. والخامس: من جهة الشروط الّتى بها يصحّ الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح.

وهذه الجملة إذا تصوّرت علم: أنّ كلّ ما ذكره المفسّرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه ألم وقول قتادة: المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وقول الأصمّ: المحكم ما اُجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.

ثمّ جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابّة الأرض وكيفيّة الدابّة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة وضرب متردّد بين الأمرين يجوز أن يختصّ

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432