الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89907 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

من اليهود في أرض له، وفي بعضها أنّها نزلت في رجل من الكفّار وقد كان أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلاً من المسلمين فنزلت الآية.

وقد عرفت في البيان السابق أنّ ظاهر الآية أنّها واقعة موقع التعليل لمضمون الآية السابقة عليها. فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد القصّة دون النزول بالمعنى المعهود منه.

٣٠١

( سورة آل عمران الآيات ٧٩ - ٨٠)

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ وَلكِن كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ( ٧٩) وَلاَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَتّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيِنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُركُمْ بالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُسْلِمُونَ( ٨٠)

( بيان)

وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى (عليه السلام) يفيد أنّها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على برائة ساحة المسيح ممّا يعتقده في حقّه أهل الكتاب من النصارى والكلام بمنزلة قولنا: إنّه ليس كما تزعمون فلا هو ربّ ولا أنّه ادّعى لنفسه الربوبيّة. أمّا الأوّل: فلأنّه مخلوق بشريّ حملته اُمّه ووضعته وربّته في المهد غير أنّه لا أب له كآدم عليهما السلام فمثله عند الله كمثل آدم. وأمّا الثاني: فلأنّه كان نبيّاً اُوتي الكتاب والحكم والنبوّة، والنبيّ الّذي هذا شأنه لا يعدو طور العبوديّة ولا يتعرّى عن زيّ الرقيّة فكيف يتأتّى أن يقول للناس اتّخذوني ربّاً وكونوا عباداً لي من دون الله، أو يجوّز ذلك في حقّ غيره من عباد الله من ملك أو نبيّ فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحقّ، أو ينفي عن نبيّ من الأنبياء ما أثبت الله في حقّه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحقّ.

قوله تعالى: ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) البشر مرادف للإنسان، ويطلق على الواحد والكثير فالإنسان الواحد بشر كما أنّ الجماعة منه بشر.

٣٠٢

وقوله: ما كان لبشر اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحقّ كقوله تعالى:( ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا ) النور - ١٦ وقوله:( وما كان لنبيّ أن يغلّ ) آل عمران - ١٦١.

وقوله تعالى: أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة اسم كان إلّا أنّه توطئة لما يتبعه من قوله: ثمّ يقول للناس. وذكر هذه التوطئة مع صحّة المعنى بدونها ظاهراً يفيد وجهاً آخر لمعنى قوله: ما كان لبشر فإنّه لو قيل: ما كان لبشر أن يقول للناس كان معناه أنّه لم يشرّع له هذا الحقّ وإن أمكن أن يقول ذلك فسقاً وعتوّاً ولكنّه إذا قيل: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول كان معناه أنّ إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربّانيّة لا يدعه أن يعدو طور العبوديّة، ولا يوسّع له أن يتصرّف فيما لا يملكه ولا يحقّ له كما يحكيه تعالى عن عيسى (عليه السلام) في قوله:( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني واُمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ ) المائدة - ١١٦.

ومن هنا تظهر النكتة في قوله: أن يؤتيه الله الخ دون أن يقال: ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول الخ فإنّ العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدّم بخلاف قوله: أن يؤتيه الله الخ فإنّه يفيد أنّ ذلك غير ممكن البتّة أي أنّ التربية الربّانيّة والهداية الإلهيّة لا تتخلّف عن مقصدها كما قال تعالى:( اُولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة فإن يكفر بها هؤلاء (يعني قوم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم))فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) الأنعام - ٨٩.

فمحصّل المعنى أنّه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهيّة وبين دعوة الناس إلى عبادد نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى:( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون - إلى أن قال -وأمّا الّذين استنكفوا واستكبروا فيعذّبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً ) النساء -

٣٠٣

١٧٣ فإنّ المستفاد من الآية: أنّ المسيح وكذا الملائكة المقرّبون أجلّ شأناً وأرفع قدراً أن يستنكفوا عن عبادة الله فإنّ الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب وحاشا أن يعذّب الله كرام أنبيائه ومقرّبي ملائكته.

فإن قلت: الإتيان بثمّ الدالّة على التراخي في قوله: ثمّ يقول للناس ينافي الجمع الّذي ذكرته.

قلت: ما ذكرناه من معنى الجمع محصّل المعنى، وكما يصحّ اعتبار الاجتماع والمعيّة بين المتّحدين زماناً كذلك يصحّ اعتباره بين المترتّبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.

وأمّا قوله: كونوا عباداً لي من دون الله فالعباد كالعبيد جمع عبد والفرق بينهما أنّ العباد يغلبّ استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه يقال: عباد الله، ولا يقال: غالباً عباد الناس بل عبيد الناس. وتقييد قوله: عباداً لي بقوله: من دون الله تقييد قهريّ فإنّ الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلّا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى:( ألا لله الدين الخالص والّذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى إنّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار ) الزمر - ٣ فرّد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتّى بعنوان التقرّب والتوسّل والاستشفاع.

على أنّ حقيقة العبادة لاتتحقّق إلّا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتّى في صورة الإشراك فإنّ الشريك من حيث إنّه شريك مساهم ذو استقلال مّا، والله سبحانه له الربوبيّة المطلقة فلا يتمّ ربوبيّته ولا تستقيم عبادته إلّا مع نفي الاستقلال عن كلّ شئ من كلّ جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه.

قوله تعالى: ( ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) الربّانيّ منسوب إلي الربّ زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحيانيّ لكثير اللحية ونحو ذلك فمعنى الربّانيّ شديد الاختصاص بالربّ وكثير

٣٠٤

الاشتغال بعبوديّته وعبادته، والباء في قوله: بما كنتم للسببيّة، وما مصدريّة، والكلام بتقدير القول والمعنى: ولكن يقول: كونوا ربّانيّين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إيّاه فيما بينكم.

الدراسة أخصّ من التعليم فإنّه يستعمل غالباً فيما يتعلّم عن الكتاب بقرائته. قال الراغب: درس الدار بقي أثرها، وبقاء الأثر يقتضي انمحائه في نفسه فلذلك فسّر الدروس بالانمحاء وكذا درس الكتاب، ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، لمّا كان تناول ذلك بمداومة القرائة عبّر عن إدامة القرائة بالحفظ قال تعالى: ودرسوا ما فيه، وقال: بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، وما آتيناهم من كتب يدرسونها. انتهى.

ومحصّل الكلام أنّ البشر الّذي هذا شأنه إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الّذي تعلّمونه وتدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة، والاتّصاف والتحقّق بالملكات والأخلاق الفاضلة الّتي يشتمل عليها، والعمل بالصالحات الّتي تدعون الناس إليها حتّى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم، وتكونوا به علماء ربّانيّين.

وقوله: بما كنتم حيث اشتمل على الماضي الدالّ على التحقّق لا يخلو عن دلالة ما على أنّ الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم: إنّ عيسى أخبرهم بأنّه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوّة، وذلك أنّ بني إسرائيل هم الّذين كان في أيديهم كتاب سماويّ يعلّمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافاً يصاحب التغيير والتحريف. وما بعث عيسى (عليه السلام) إلّا ليبيّن لهم بعض ما اختلفوا فيه، وليحلّ بعض الّذي حرّم عليهم. وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربّانيّين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه.

والآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوجه فقد كانت لدعوته أيضاً مساس بأهل الكتاب الّذين كانوا يعلّمون ويدرسون كتاب الله لكنّ عيسى (عليه السلام) أسبق انطباقاً عليه، وكانت رسالته خاصّة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

٣٠٥

وأمّا سائر الأنبياء العظام من اُولي العزم والكتاب: كنوح وإبراهيم وموسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً ) عطف على قوله يقول: على القرائة المشهورة الّتي هي نصب ولا يأمركم، وهذا كما كان طائفة(١) من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينيّة. وكعرب الجاهليّة حيث كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله، وهم يدّعون أنّهم على دين إبراهيم (عليه السلام). هذا في إتّخاذ الملائكة أرباباً.

وأمّا إتّخاذ النبيّين أرباباً فكقول اليهود: عزير ابن الله على ما حكاه القرآن ولم يجوّز لهم موسى (عليه السلام) ذلك، ولا وقع في التوراة إلّا توحيد الربّ ولو جوّز لهم ذلك لكان أمراً به حاشاه من ذلك.

وقد اختلفت الآيتان: أعني قوله: ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله وقوله: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً من جهتين في سياقهما: الأولى: أنّ المأمور في الاُولى (ثمّ يقول للناس) الناس وفي الثانية هم المخاطبون بالآية. والثانية: أنّ المأمور به في الاُولى العبوديّة له وفي الثانية الاتّخاذ أرباباً.

أمّا الاُولى فحيث كان الكلام مسوقاً للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى، وقولهم باُلوهيّته صريحاً مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنّه قال: كونوا عباداً لي بخلاف اتّخاذ الملائكة والنبيّين أرباباً بالمعنى الّذي قيل في غير عيسى فإنّه يضاد الاُلوهيّة بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل: أرباباً ولم يقل: آلهة.

وأمّا الثانية فالوجه فيه أنّ التعبيرين كليهما (كونوا عباداً لي يأمركم أن تتّخذوا) أمر لو تعلّق بأحد تعلّق بهؤلاء الّذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب والعرب لكنّ التعبير لمّا وقع في الآية الاُولى بالقول والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل: ثمّ يقول للناس ولم يقل: ثمّ يقول لكم وهذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنّه لا يستلزم شفاهاً بل يتمّ مع الغيبة فإنّ الأمر المتعلّق بالأسلاف متعلّق بالأخلاف مع حفظ الوحدة

____________________

(١) وهولاء هم من المجوس صبوا الي اليهودية فاتّخذو ديناًَ متوسطاً بين الدينين و المجوس كانوا يعظّمون الملائكة و يخضعون لهم

٣٠٦

القوميّة. وأمّا القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور إلّا أن يعني به مجرّد معنى التفهيم.

وعلى هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع، كما جرى عليه قوله تعالى: أو يأمركم إلى آخر الآية.

قوله تعالى: ( ولا يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) ظاهر الخطاب أنّه متعلّق بجميع المنتحلين بالنبوّة من أهل الكتاب أو المدّعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت عرب الجاهليّة تزعم أنّهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنّكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الّذي اوتي الكتاب والحكم والنبوّة تكونون مسلمين لله متحلّين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلّكم عن السبيل الّذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بالإسلام هو دين التوحيد الّذي هو دين الله عند جميع الأنبياء على ما يدلّ عليه أيضاً احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله تعالى من قبل:( إنّ الدين عند الله الإسلام ) آل عمران - ١٩ وقوله تعالى من بعد:( أفغير دين الله يبغون - إلى أن قال -ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) آل عمران - ٨٥.

وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بقوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بناءً على ما روي في سبب النزول وحاصله: أنّ أبارافع القرظيّ ورجلاً من نصارى نجران قالا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اُتريد أن نعبدك يا محمّد؟ فأنزل الله: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين الحديث ثمّ أيّده بقوله في آخرهما بعد إذ أنتم مسلمون فإنّ الإسلام هو الدين الّذي جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وفيه أنّه خلط بين الإسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الّذي بعث به جميع الأنبياء وبين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول وقد تقدّم الكلام فيه.

٣٠٧

( خاتمة فيها فصول)

١ - ما هي قصّة عيسى واُمّه في القرآن ؟

كانت اُمّ المسيح مريم بنت عمران حملت بها اُمّها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا وضعته محرّراً يخدم المسجد وهي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلمّا وضعتها وبان لها أنّها اُنثى حزنت وتحسّرت ثمّ سمّتها مريم أي الخادمة وقد كان توفّي أبوها عمران قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلّمها للكهنة وفيهم زكريّا فتشاجروا في كفالتها ثمّ اصطلحوا على القرعة وساهموا فخرج لزكريّا فكفّلها حتّى إذا أدركت ضرب لها من دونهم حجاباً فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلّا زكريّا وكلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا؟ قالت هو من عند الله. والله يرزق من يشاء بغير حساب. وقد كانت عليها السلام صدّيقة، وكانت معصومة بعصمة الله، طاهرة مصطفاة محدّثة حدّثها الملائكة: بأنّ الله اصطفاها وطهّرها وكانت من القانتين ومن آيات الله للعالمين (سورة آل عمران آية ٣٥ - ٤٤، سورة مريم آية ١٦، سورة الأنبياء آية ٩١، سورة التحريم آية ١٢).

ثمّ إنّ الله تعالى أرسل إليها الروح وهي محتجبة فتمثّل لها بشراً سويّاً، وذكر لها أنّه رسول من ربّها ليهب لها بإذن الله ولداً من غير أب، وبشّرها بما سيظهر من ولدها من المعجزات الباهرة، وأخبرها أنّ الله سيؤيّده بروح القدس، ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ورسولاً إلى بني إسرائيل ذا الآيات البيّنات وأنبأها بشأنه وقصّته ثمّ نفخ الروح فيها. فحملت بها حمل المرأة بولدها (الآيات من آل عمران ٣٥ - ٤٤).

ثمّ انتبذت مريم به مكاناً قصيّاً فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيّاً فكلي واشربي وقرّي

٣٠٨

عيناً فإمّا تريّن من البشر أحداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن اُكلّم اليوم إنسيّاً فأتت به قومها تحمله (سورة مريم آية ٢٠ - ٢٧). وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شؤون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان.

فلمّا رآها قومها - والحال هذه - ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال امرأة حملت ووضعت من غير بعل. وقالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا اُخت هرون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت اُمّك بغياً فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً؟ قال: إنّي عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً. والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً (سورة مريم آية ٢٧ - ٣٣) فكان هذا الكلام منه (عليه السلام) كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى ما سينهض على البغي والظلم وإحياء شريعة موسى (عليه السلام) وتقويمه وتجديد ما اندرس من معارفه وبيان ما اختلفوا فيه من آياته.

ثمّ نشأ عيسى (عليه السلام) وشبّ، وكان هو واُمّه على العادة الجارية في الحياة البشريّة يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوأرض الوجود إلى آخر ما عاشا.

ثمّ إنّ عيسى (عليه السلام) اُوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين التوحيد، ويقول: إنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله واُبرئ الأكمه والأبرص واُحيي الموتى بإذن الله واُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم. إنّ في ذلك لآية لكم. إنّ الله هو ربّي وربّكم فاعبدوه.

وكان يدعوهم إلى شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى (عليه السلام) إلّا أنّه نسخ بعض ما حرّم في التوراة تشديداً على اليهود. وكان يقول: إنّي جئتكم بالحكمة ولأبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه. وكان يقول: يا بني إسرائيل إنّي رسول الله

٣٠٩

إليكم مصدّقاً لما بين يدّي من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.

وأنجز (عليه السلام) ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيّبات بإذن الله.

ولم يزل يدعوهم إلى توحيد الله وشريعته الجديدة حتّى أيس من إيمانهم لما شاهد من عتوّ القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة الّتي آمنت به الحواريّين أنصاراً له إلى الله.

ثمّ إنّ اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوّفاه الله ورفعه إليه، وشبّه لليهود: فمن زاعم أنّهم قتلوه. ومن زاعم أنّهم صلبوه، ولكن شبّه لهم (آل عمران آية ٤٥ -٥٨، الزخرف آية ٦٣ - ٦٥، الصفّ آية ٦ و ١٤، المائدة آية ١١٠ و ١١١، النساء آية ١٥٧ و ١٥٨) فهذه جمل ما قصّه القرآن في عيسى بن مريم واُمّه.

٢- منزلة عيسى عندالله وموقفه في نفسه :

كان (عليه السلام) عبداً لله وكان نبيّاً (سورة مريم آية ٣٠) وكان رسولاً إلى بني إسرائيل (آل عمران آية ٤٩) وكان واحداً من الخمسة اُولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل (الأحزاب آية ٧، الشورى آية ١٣، المائدة آية ٤٦) وكان سمّاه الله بالمسيح عيسى (آل عمران آية ٤٥) وكان كلمة لله وروحاً منه (النساء آية ١٧١) وكان إماماً (الاحزاب آية ٧) وكان من شهداء الأعمال (النساء آية ١٥٩، المائدة آية ١١٧) وكان مبشّراً برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (الصفّ آية ٦) وكان وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين (آل عمران آية ٤٥) وكان من المصطفين (آل عمران آية ٣٣) وكان من المجتبين وكان من الصالحين (الانعام آية ٨٥-٨٧) وكان مباركاً أينما كان، وكان زكيّاً وكان آية للناس ورحمة من الله وبرّاً بوالدته وكان مسلّماً عليه (مريم آية ١٩ - ٣٣) وكان ممّن علّمه الله الكتاب والحكمة (آل عمران آية ٤٨) فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به هذا النبيّ المكرّم ورفع بها قدره، وهي على قسمين: اكتسابيّة كالعبوديّة

٣١٠

والقرب والصلاح. واختصاصيّة. وقد شرحنا كلّاً منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانّها منه.

٣- ما الّذي قاله عيسى (عليه السلام)؟ وما الّذي قيل فيه؟

ذكر القرآن أنّ عيسى كان عبداً رسولاً وأنّه لم يدّع لنفسه ما نسبوه إليه، ولا تكلّم معهم إلّا بالرسالة كما قال تعالى:( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني واُمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنّك أنت علّام الغيوب. ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربّي وربّكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شئ شهيد إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم. قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) المائدة ١١٦ - ١١٩.

وهذا الكلام العجيب الّذي يشتمل من العبوديّة على عصارتها، ويتضمّن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عمّا كان يراه عيسى المسيح (عليه السلام) من موقفه نفسه تلقاء ربوبيّة ربّه وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنّه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربّه عبداً لا شأن له إلّا الامتثال لا يرد إلّا عن أمر، ولا يصدر إلّا عن أمر، ولم يؤمر إلّا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلّا ما اُمر به: أن اعبدوا الله ربّي وربّكم.

ولم يكن له من الناس إلّا تحمّل الشهادة على أعمالهم فحسب. وأمّا ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك غفر أو عذّب.

فإن قلت: فما معنى ما تقدّم في الكلام على الشفاعة: أنّ عيسى (عليه السلام) من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفّع؟.

قلت: القرآن صريح أو كالصريح في ذلك. قال تعالى:( ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشفاعة إلّا من شهد بالحقّ وهم يعلمون ) الزخرف - ٨٦ وقد قال تعالى:( فيه ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩ وقال تعالى:( وإذ علّمتك

٣١١

الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) المائدة - ١١٠ وقد تقدّم إشباع الكلام في معنى الشفاعة، وهذا غير التفدية الّتي يقول بها النصارى، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض فإنّها تبطل السلطنة المطلقة الإلهيّة على ما سيجئ من بيانه، والآية إنّما تنفي ذلك. وأمّا الشفاعة فالآية غير متعرّضة لأمرها لا إثباتاً ولا نفياً فإنّها لو كانت بصدد إثباتها - على منافاته(١) للمقام - لكان حقّ الكلام أن يقال: وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه. وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إنشاء الله تعالى.

وأمّا ما قاله الناس في عيسى (عليه السلام) فإنّهم وإن تشتّتوا في مذاهبهم بعده، واختلفوا في مسالكهم بما ربّما جاوز السبعين من حيث كلّيّات ما اختلفوا فيه. وجزئيّات المذاهب والآراء كثيرة جدّاً.

لكنّ القرآن إنّما يهتمّ بما قالوا به في أمر عيسى نفسه واُمّه لمساسه بأساس التوحيد الّذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطريّ القويم. وأمّا بعض الجزئيّات كمسألة التحريف ومسألة التفدية فلم يهتمّ به ذاك الاهتمام.

والّذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبة إليهم ما في قوله تعالى:( وقالت النصارى المسيح ابن الله ) التوبة - ٣٠ وما في معناه كقوله تعالى:( وقالوا اتّخذ الرحمن ولداً سبحانه ) الأنبياء - ٢٦ وما في قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم ) المائدة - ٧٢ وما في قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ) المائدة - ٧٣ وما في قوله تعالى:( ولا تقولوا ثلاثة ) النساء - ١٧١.

وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان متفاوتة، ولذلك ربّما حملت(٢) على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانيّة

____________________

(١) فإنّ المقام مقام التذلّل دون الاسترسال.

(٢) كما فعله الشهرستانيّ في الملل والنحل.

٣١٢

القائلين بالبنوّة الحقيقيّة، والنسطوريّة القائلين بأنّ النزول والبنوّة من قبيل إشراق النور على جسم شفّاف كالبلّور، واليعقوبيّة القائلين بأنّه من الانقلاب، وقد انقلب الإله سبحانه لحماً ودماً.

لكنّ الظاهر أنّ القرآن لا يهتمّ بخصوصيّات مذاهبهم المختلفة، وإنّما يهتمّ بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعاً وهو البنوّة، وأنّ المسيح من سنخ الإله سبحانه، وما يتفرّع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها اختلافاً كثيراً، وتعرّقوا في المشاجرة والنزاع، والدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لساناً.

بيان ذلك: أنّ التوراة والأناجيل الحاضرة جميعاً تصرّح بتوحيد الإله تعالى، من جانب، والإنجيل يصرّح بالبنوّة من جانب آخر، وصرّح بأنّ الابن هو الأب لا غير.

ولم يحملوا البنوّة الموجودة فيه على التشريف والتبريك مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله:( وأنا أقول لكم أحبّوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من أبغضكم وصلوا على من يطردكم ويعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم الّذي في السماوات لأنّه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصدّيقين والظالمين وإذا أحببتم من يحبّكم فأيّ أجر لكم؟ أليس العشّارون يفعلون كذلك؟ وإن سلّمتم على إخوتكم فقطّ فأيّ فضل لكم؟ أليس كذلك يفعل الوثنيّون كونوا كاملين مثل أبيكم السماوئيّ فهو كامل) آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متّى.(١)

وقوله أيضاً:( فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الّذي في السماوات) إنجيل متّى - الإصحاح الخامس.

وقوله أيضاً: لا تصنعوا جميع مراحمكم قدّام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند أبيكم الّذي في السماوات.

____________________

(١) النسخة العربيّة المطبوعة سنة ١٨١١ مسيحيّة وعنها ننقل جميع ما ننقله في هذا البحث عن كتب العهد العربيّة.

٣١٣

وقوله أيضاً في الصلاة:( وهكذا تصلّون أنتم يا أبانا الّذي في السماوات يتقدّس اسمك) إلخ.

وقوله أيضاً:( فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السماييّ خطاياكم) كلّ ذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متّى.

وقوله:( وكونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم) إنجيل لوقا - الإصحاح السادس.

وقوله لمريم المجدليّة:( إمضي إلى إخوتي وقولي لهم: إنّي صاعد إلى أبي الّذي هو أبوكم وإلهي الّذي هو إلهكم) إنجيل يوحنّا - الإصحاح العشرون.

فهذه وأمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى وتقدّس بالنسبة إلى عيسى وغيره جميعاً كما ترى بعناية التشريف ونحوه.

وإن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أنّ هذه البنوّة والأبوّة نوع من الاستكمال المؤدّي إلى الاتّحاد كقوله:( تكلّم اليسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء فقال: يا أبة قد حضرت الساعة فمجّد ابنك ليمجّدك ابنك) ثمّ ذكر دعائه لرسله من تلامذته ثمّ قال:( ولست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي الّذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بجمعهم واحداً كما أنّك يا أبت ثابت فيّ وأنا أيضاً فيك ليكونوا أيضاً فينا واحداً ليؤمن العالم أنّك أرسلتني وأنا أعطيتهم المجد الّذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن واحد أنا فيهم وأنت فيّ ويكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنّك أرسلتني وأنّني أحببتهم كما أحببتني) إنجيل يوحنّا - الإصحاح السابع عشر.

لكن وقع فيها أقاويل يتأبّى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف ونحوه كقوله:( قال له توما: يا سيّد ما نعلم أين تذهب؟ وكيف نقدر ان نعرف الطريق؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق والحقّ والحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلّا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه أيضاً قال له فيلبس: يا سيّد أرنا الأب وحسبنا. قال له يسوع: أنا معكم كلّ هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس؟ من رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت: أرنا الأب؟ أما تؤمن أنّي في أبي وأبي فيّ وهذا

٣١٤

الكلام الّذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحالّ فيّ هو يفعل هذه الأفعال آمنوا بي، أنا في أبي وأبي فيّ) إنجيل يوحنّا - الإصحاح الرابع عشر.

وقوله:( لكنّي خرجت من الله وجئت ولم آت من عندي بل هو أرسلني) إنجيل يوحنّا - الإصحاح الثامن.

وقوله:( أنا وأبي واحد نحن) إنجيل يوحنّا - الإصحاح العاشر.

وقوله لتلامذته:( اذهبوا وتلمّذوا كلّ الاُمم وعمّدوهم(١) باسم الأب والابن وروح القدس) إنجيل متّى - الإصحاح الثامن والعشرون.

وقوله:( في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، والله كان الكلمة منذ البدء كان هذا عند الله كلّ به كان وبغيره لم يكن شئ ممّا كان به كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس) إنجيل يوحنّا - الإصحاح الأوّل.

فهذه الكلمات وما يماثلها ممّا وقع في الأنجيل هي الّتي دعت النصارى إلى القول بالتثليث في الوحدة.

والمراد به حفظ (أنّ المسيح ابن الله) مع التحفّظ على التوحيد الّذي نصّ عليه المسيح في تعليمه كما في قوله:( إنّ أوّل كلّ الوصايا: اسمع يا إسرائيل الربّ إلهك إله واحد هو) إنجيل مرقس - الإصحاح الثاني عشر.

ومحصّل ما قالوا به (وإن كان لا يرجع إلى محصّل معقول): أنّ الذات جوهر واحد له أقانيم ثلاث، والمراد بالاقنوم هو الصفة الّتي هي ظهور الشئ وبروزه وتجلّيه لغيره وليست الصفة غير الموصوف، والأقانيم الثلاث هي: اُقنوم الوجود واُقنوم العلم، وهو الكلمة. واُقنوم الحياة وهو الروح.

وهذه الأقانيم الثلاث هي: الأب والابن والروح القدس: والأوّل اُقنوم الوجود. والثاني اُقنوم العلم والكلمة، والثالث اُقنوم الحياة فالابن وهو الكلمة واُقنوم

____________________

(١) التعميد نوع من التغسيل عند النصارى يتطهّر به المغتسل من الذنوب وهو من فرائض الكنيسة.

٣١٥

العلم نزل من عند أبيه وهو اُقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس وهو اُقنوم الحياة الّتي بها يستنير الأشياء.

ثمّ اختلفوا في تفسير هذا الإجمال اختلافاً عظيماً أوجب تشتّتهم وانشعابهم شعباً ومذاهب كثيرة تجاوز السبعين، وسيأتيك نبأها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.

إذا تأمّلت ما قدّمناه عرفت: أنّ ما يحكيه القرآن عنهم، أو ينسبه إليهم بقوله:( وقالت النصارى المسيح ابن الله الآية ) وقوله:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم الآية ) وقوله:( لقد كفر الّذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة الآية ) وقوله:( ولا تقولوا ثلاثة انتهوا الآية ) كلّ ذلك يرجع إلى معنى واحد (وهو تثليث الوحدة) هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانيّة. وهو الّذي قدّمناه في معنى تثليث الوحدة.

وإنّما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأنّ الّذي يرد على أقوالهم في خصوص المسيح (عليه السلام) على كثرتها وتشتّتها ممّا يحتجّ به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة كما سيتّضح.

٤- احتجاج القرآن على مذهب التثليث.

يرد القرآن في الاحتجاج، ويردّ قول المثلّثة من طريقين:أحدهما: الطريق العامّ وهو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو غيره.الثاني: الطريق الخاصّ وهو بيان أنّ عيسى بن مريم ليس ابناً إلهاً بل عبد مخلوق.

أمّا الطريق الأوّل فتوضيحه أنّ حقيقة البنوّة والتولّد هو أن يجزّء واحد من هذه الموجودات الحيّة المادّيّة كالإنسان والحيوان بل النبات أيضاً شيئاً من مادّة نفسه ثمّ يجعله بالتربية التدريجيّة فرداً آخر من نوعه مماثلاً لنفسه يترتّب عليه من الخواصّ والآثار ما كان يترتّب على المجزّى منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة،

٣١٦

والنبات يفصل من نفسه اللقاح ثمّ يأخذ في تربيته تدريجاً حتّى يصيّره حيواناً أو نباتاً آخر مماثلاً لنفسه ومن المعلوم أنّ الله سبحانه يمتنع عليه ذلك:أمّا أوّلا فلاستلزامه الجسميّة المادّيّة، والله سبحانه منزّه من المادّة ولوازمها الافتقاريّة كالحركة والزمان والمكان وغير ذلكوأمّا ثانياً فلأنّ الله سبحانه لإطلاق اُلوهيّته وربوبيّته له القيّوميّة المطلقة على ما سواه فكلّ شئ سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شئ غيره يماثله في النوعيّة يستقلّ عنه بنفسه، ويكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له من غير افتقار إليه.وأمّا ثالثاً فلأنّ جواز الإيلاد والاستيلاد عليه تعالى يستلزم جواز الفعل التدريجيّ عليه تعالى، وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادّة والحركة وهو خلف بل ما يقع بإرادته ومشيّته تعالى إنّما يقع من غير مهلة وتدريج.

وهذا البيان هو الّذي يفيده قوله تعالى:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كلّ له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون ) البقرة - ١١٧ وعلى ما قرّبناه فقوله: سبحانه برهان، وقوله: له ما في السماوات والأرض كلّ له قانتون برهان آخر، وقوله: بديع السماوات والأرض إذا قضى إلخ برهان ثالث.

ويمكن أن يجعل قوله: بديع السماوات والأرض من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها، ويستفاد منه أنّ خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنّه خلق على مثال نفسه لأنّ مفروضهم العينيّة فيكون هذه الفقرة وحدها برهاناً آخر.

ولو فرض قولهم: اتّخذ الله ولداً كلاماً ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه التوسّع في معنى الابن والولد بأن يراد به انفصال شئ عن شئ يماثله في الحقيقة من غير تجزّ مادّيّ أو تدريج زمانيّ (وهذا هو الّذي يرومه النصارى بقولهم: المسيح ابن الله بعد تنقيحه) ليتخلّص بذلك عن إشكال الجسميّة والمادّيّة والتدريج بقي إشكال المماثلة.

٣١٧

توضيحه أنّ إثبات الابن والأب إثبات للعدد بالضرورة وهو إثبات للكثرة الحقيقيّة وإن فرضت الوحدة النوعيّة بين الأب والابن كالأب والابن من الإنسان هما واحد في الحقيقة الإنسانيّة وكثير من حيث إنّهما فردان من الإنسان وعلى هذا فلو فرض وحدة الإله كان كلّ ما سواه ومن جملتها الابن غيراً له مملوكاً مفتقراً إليه فلا يكون الابن المفروض إلهاً مثله ولو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقلّ مثله بطل التوحيد في الإله عزّ اسمه.

وهذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى:( ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنّما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً ) النساء - ١٧١.

وأمّا الطريق الثاني وهو بيان أنّ شخص عيسى بن مريم (عليه السلام) ليس ابناً لله مشاركاً له في الحقيقة الإلهيّة فلمّا كان فيه من البشريّة ولوازمها.

وتوضيحه أنّ المسيح (عليه السلام) حملت به مريم، وربّته جنيناً في رحمها، ثمّ وضعته وضع المرأة ولدها، ثمّ ربّته كما يتربّى الولد في حضانة اُمّه، ثمّ أخذ في النشوء وقطع مراحل الحياة والارتقاء في مدارج العمر من الصبا والشباب والكهولة. وفي جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعيّ في حياته يعرضه من العوارض والحالات ما يعرض الإنسان: من جوع وشبع، وسرور ومسائة، ولذّة وألم، وأكل وشرب، ونوم ويقظة، وتعب وراحة، وغير ذلك.

فهذا ما شوهد من حال المسيح (عليه السلام) حين مكثه بين الناس ولا يرتاب ذو عقل أنّ من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسيّ من نوعه وإذا كان كذلك فهو مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه وأمّا صدور الخوارق وتحقّق المعجزات بيده كإحياء الأموات وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وكذا تحقّق الخوارق من الآيات في وجوده كتكوّنه من غير أب فإنّما هي اُمور خارقة للعادة المألوفة والسنّة الجارية في الطبيعة فإنّها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماويّة

٣١٨

أنّه خلق من تراب ولا أب له، وهؤلاء أنبياء الله كصالح وإبراهيم وموسى عليهم السلام جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم اُلوهيّة ولا خروجاً عن طور الإنسانيّة.

وهذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة وما من إله إلّا إله واحد - إلى أن قال -ما المسيح بن مريم إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل واُمّه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثمّ انظر أنّى يؤفكون ) المائدة - ٧٥ وقد خصّ أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادّيّة واستلزاماً للحاجة والفاقة المنافية للاُلوهيّة فمن المعلوم أنّ من يجوع ويظمأ بطبعه ثمّ يشبع بأكله أو يرتوى بشربة ليس عنده غير الحاجة والفاقة الّتي لا يرفعها إلّا غيره وما معنى اُلوهيّة من هذا شأنه؟ فإنّ الّذي قد أحاطت به الحاجة واحتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبّر بغيره، وليس بإله غنيّ بذاته بل هو مخلوق مدبّر بربوبيّة من ينتهي إليه تدبيره.

وإلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم واُمّه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كلّ شئ قدير ) المائدة - ١٧.

وكذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقاً (آية ٧٥) خطاباً للنصارى:( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً والله هو السميع العليم ) المائدة - ٧٦.

فإنّ الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أنّ الّذي شوهد من أمر المسيح أنّه كان يعيش على الناموس الجاري في حياة الإنسان متّصفاً بجميع صفاته وأفعاله وأحواله النوعيّة كالأكل والشرب وسائر الاحتياجات الإنسانيّة والخواصّ البشريّة ولم يكن هذا التلبّس والاتّصاف بحسب ظاهر الحسّ أو تسويل الخيال فحسب بل كان على الحقيقة وكان المسيح (عليه السلام) إنساناً ذا هذه الأوصاف والأحوال والأفعال

٣١٩

والأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنساناً وابن الإنسان مملوئة بالقصص الناطقة بأكله وشربه ونومه ومشيه ومسافرته وتعبه وتكلّمه ونحو ذلك بحيث لا يقبل شئ منها صرفاً ولا تأويلاً. ومع تسليم هذه الاُمور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئاً كغيره، ويمكن أن يهلك كغيره.

وكذا حديث عبادته ودعائه بحيث لا يرتاب في أنّ ما كان يأتيه من عبادة فإنّما للتقرّب من الله والخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض اُخر تشابه ذلك.

وإلى حديث العبادة والاحتجاج به يؤمي قوله تعالى:( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً ) النساء - ١٧٢ فعبادة المسيح أوّل دليل على أنّه ليس بإله وأنّ الاُلوهيّة لغيره لا نصيب له فيها فأيّ معنى لنصب الشئ نفسه في مقام العبوديّة والمملوكيّة لنفسه؟ وكون الشئ قائماً بنفسه من عين الجهة الّتي بها يقوم نفسه والأمر ظاهر وكذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنّها ليست ببنات الله سبحانه ولا أنّ روح القدس إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى:( وقالوا اتّخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) الأنبياء - ٢٨.

على أنّ الأناجيل مشحونة بأنّ الروح طائع لله ورسله مؤتمر للأمر محكوم بالحكم ولا معنى لأمر الشئ نفسه ولا لطاعته لذاته ولا لانقياده وائتماره لمخلوق نفسه.

ونظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله كما يشير إليه قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) المائدة - ٧٢ وسبيل الآية واحتجاجها ظاهر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432