الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89882 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وفيها دلالة على المدلول: إمّا مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حقّ المراد بالضرورة وإلّا بطلت الدلالة كما عرفت وهذا المعنى الواحد الّذى هو حقّ المراد لا محالة لا يكون أجنبيّاً عن الاُصول المسلّمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعيّن المراد الحقّ من بين المداليل المتعدّدة المحتملة فالقرآن بعضه يبيّن بعضاً وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.

ثمّ إنّ هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى: منه آيات محكمات هن اُمّ الكتاب واُخر متشابهات لم يشكّ في أنّ المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمّنة للاُصول المسلّمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات الّتي تتعيّن وتتّضح معانيها بتلك الاُصول.

فإن قلت: رجوع الفروع إلى الأصول ممّا لا ريب فيه فيما كان هناك اُصول متعرّقة وفروع متفرّقة سواء فيه المعارف القرآنيّة وغيرها لكنّ ذلك لا يستوجب حصول التشابه فما وجه ذلك ؟

قلت: وجهه أحد أمرين فإنّ المعارف الّتي يُلقّيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحسّ والمادّة والأفهام العاديّة لا تلبث دون أن تتردّد فيها بين الحكم الجسمانيّ الحسّيّ وبين غيره كقوله تعالى:( إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ١٤ وقوله تعالى:( وجاء ربّك ) الفجر - ٢٢. فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معان هي من أوصاف الأجسام وخواصّها وتزول بالرجوع إلى الاُصول الّتي تشتمل على نفي حكم المادّة والجسم عن المورد وهذا ممّا يطّرد في جميع المعارف والأبحاث غير المادّيّة والغائبة عن الحواسّ ولا يختصّ بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماويّة بما تشتمل عليه من المعارف العاليه من غير تحريف ويوجد أيضاً في المباحث الإلهيّة من الفلسفة وهو الّذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى:( أنزل من السماء ماءاً فسالت

٢١

أودية بقدرها الآية ) الرعد - ١٧ وقوله:( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم ) الزخرف - ٤.

ومنها ما يتعلّق بالنواميس الاجتماعيّة والأحكام الفرعيّة واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغيّر المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ونزول القرآن نجوماً من جهة اُخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها، ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم، والمنسوخ إلى الناسخ.

قوله تعالى: ( فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) الزيغ هو الميل عن الاستقامة ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا فإنّ الآية تصف حال الناس بالنسبذ إلى تلقّي القرآن بمحكمه ومتشابهه وأنّ منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتّبع المتشابه ابتغاءً للفتنه والتأويل ومنهم من هو راسخ العلم مستقرّ القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتّبعه ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.

ومن هنا يظهر: أنّ المراد باتّباع المتشابه اتّباعه عملاً لا إيماناً وأنّ هذا الاتّباع المذموم اتّباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم إذ على هذا التقدير يصير الاتّباع اتّباعاً للمحكم ولا ذمّ فيه.

والمراد بابتغاء الفتنه طلب إضلال الناس فإنّ الفتنة تقارب الإضلال في المعنى يقول تعالى: يريدون باتّباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه وأمراً آخر هو أعظم من ذلك وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتّى يستغنوا عن اتّباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.

والتأويل من الأوّل وهو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الّذي يرجع إليه وتأويل القرآن هو المأخذ الّذي يأخذ منه معارفه.

وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه:( ولقد

٢٢

جئناهم بكتاب فصّلناه على علم هدىً ورحمةً لقوم يؤمنون هل ينظرون إلّا تأويله يوم يأتي تأويله ويقول الّذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربّنا بالحق ) الأعراف - ٥٣ أي بالحقّ فيما أخبروا به وأنبأوا أنّ الله هو مولاهم الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ النبوّة حقّ وأنّ الدين حقّ وأنّ الله يبعث من في القبور وبالجملة كلّ ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوّة وأخبارها.

ومن هنا ما قيل: إنّ التأويل في الآية هو الخارج الّذي يطابقه الخبر الصادق كالاُمور المشهودة يوم القيامة الّتي هي مطابقات (اسم مفعول) أخبار الأنبياء والرسل والكتب.

ويردّه: أنّ التأويل على هذا يختصّ بالآيات المخبرة عن الصفات وبعض الأفعال وعن ما سيقع يوم القيامة وأمّا الآيات المتضمّنة لتشريع الأحكام فإنّها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها. وكذا ما دلّ منها على ما يحكم به صريح العقل كعدّة من أحكام الأخلاق فإنّ تأويلها معها. وكذا ما دلّ على قصص الأنبياء والاُمم الماضية فإنّ تأويلها على هذا المعنى يتقدّمها من غير أن يتأخّر إلى يوم القيامة مع أنّ ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كلّه لا إلى قسم خاصّ من آياته.

ومثلها قوله تعالى:( وما كان هذا القرآن أن يفتري - إلى أن قال -أم يقولون افتراه - إلى أن قال -بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله كذلك كذّب الّذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبه الظالمين ) يونس - ٣٩، والآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.

ولذلك ذكر بعضهم: أنّ التأويل هو الأمر العينيّ الخارجيّ الّذي يعتمد عليه الكلام وهو في مورد الإخبار المخبر به الواقع في الخارج إمّا سابقاً كقصص الأنبياء والاُمم الماضية وإمّا لاحقاً كما في الآيات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكلّ ما سيظهر يوم القيامة وفي مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحقّقة في الخارج كما في قوله تعالى:( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس

٢٣

المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً ) أسرى - ٣٥. فإنّ تأويل إيفاء الكيل وإقامه الوزن هو المصلحة المترتّبة عليهما في المجتمع وهو استقامه أمر الاجتماع الإنسانيّ.

وفيهأوّلا: أنّ ظاهر هذه الآية: أنّ التأويل أمر خارجيّ وأثر عينيّ مترتّب على فعلهم الخارجيّ الّذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الأمر التشريعيّ الّذي يتضمّنه قوله: وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا الآية، فالتأويل أمر خارجيّ هو مرجع ومآل لأمر خارجيّ آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها عن معان خارجيّة (كما في الإخبار) أو تعلّقها بأفعال أو اُمور خارجيّة (كما في الإنشاء) لها تأويل فالوصف وصف بحال متعلّق الشئ لا بحال نفس الشئ.

وثانياً: أنّ التأويل وإن كان هو المرجع الّذي يرجع ويؤل إليه الشئ لكنّه رجوع خاصّ لا كلّ رجوع فإنّ المرئوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له فلا محالة هو مرجع بنحو خاصّ لا مطلقاً. يدلّ على ذلك قوله تعالى: في قصّة موسى والخضر (عليهما السلام):( سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً ) الكهف - ٧٨، وقوله تعالى:( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ) الكهف - ٨٢، والّذي نبّأه لموسى صور وعناوين لما فعله (عليه السلام) في موارد ثلاث كان موسى (عليه السلام) قد غفل عن تلك الصور والعناوين وتلقّى بدلها صوراً وعناوين اُخرى أوجبت اعتراضه بها عليه فالموارد الثلاث: هي قوله تعالى:( حتّى إذا ركبا في السفينة خرقها ) الكهف - ٧١ وقوله تعالى:( حتّى إذا لقيا غلاماً فقتله ) الكهف - ٧٤ وقوله تعالى:( حتّى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه ) الكهف - ٧٧.

والّذي تلقّاه موسى (عليه السلام) من صور هذه القضايا وعناوينها قوله:( أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً ) الكهف - ٧١ وقوله:( أقتلت نفساً زكيّة بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً ) الكهف - ٧٤ وقوله:( لو شئت لتّخذت عليه أجراً ) الكهف - ٧٧.

والّذي نبّأ به الخضر من التأويل قوله:( أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصباً وأمّا الغلام فكان

٢٤

أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربّك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربّك ) الكهف - ٨٢. ثمّ أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (عليه السلام) جملة بقوله:( وما فعلته عن أمري ) الكهف - ٨٢ فالّذي اُريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشئ إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجئ زيد في الخارج.

ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدّة مواضع من قصّة يوسف (عليه السلام) كقوله تعالى:( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) يوسف - ٤ وقوله تعالى:( ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّي حقّاً ) يوسف - ١٠٠. فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعاً لكنّه من قبيل رجوع المثال إلى الممثّل وكذا قوله تعالى:( وقال الملك إنّي أرى سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات يا أيّها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الّذي نجا منهما وادّكر بعد اُمّة أنا اُنبّئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيّها الصدّيق أفتنا - إلى أن قال -قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلّا قليلاً ممّا تأكلون ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهن إلّا قليلاً ممّا تحصنون ) يوسف - ٤٨.

وكذا قوله تعالى:( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إنّي أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين - إلى أن قال -يا صاحبي السجن أمّا أحدكما فيسقي ربّه خمراً وأمّا الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الّذي فيه تستفتيان ) يوسف - ٤١.

وكذا قوله تعالى:( ويعلّمك من تأويل الأحاديث ) يوسف - ٦ وقوله تعالى:( ولنعلّمه من تأويل الأحاديث ) يوسف - ٢١ وقوله تعالى:( وعلّمتني من تأويل

٢٥

الاحاديث ) يوسف - ١٠١. فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصّة يوسف (عليه السلام) فيما يرجع إليه الرويا من الحوادث وهو الّذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة والمثال فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته الّتي يظهر بها والحقيقة المتمثّلة إلى مثالها الّذي تتمثّل به كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصّة موسى والخضر (عليهما السلام) وكذا في قوله تعالى:( وأوفوا الكيل إذا كلتم إلى قوله: وأحسن تأويلاً الآية ) أسرى - ٣٥.

والتدبّر في آيات القيامة يعطي أنّ المراد هو ذلك أيضاً في لفظة التأويل في قوله تعالى: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله الآية وقوله تعالى:( هل ينظرون إلّا تأويله يوم يأتي تأويله الآية ) فإنّ أمثال قوله تعالى:( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد ) ق - ٢٢ تدلّ على أنّ مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسّيّة الّتي نعهدها في الدنيا كما أنّ نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه وسيجئ مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوّة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقّق مضامينها في المستقبل.

فقد تبيّن بما مرّ:أوّلا: أنّ كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.

وثانياً: أنّ التأويل لا يختصّ بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أنّ للمتشابهة تأويلاً.

وثالثاً: أنّ التأويل ليس من المفاهيم الّتي هي مداليل للألفاظ بل هو من الاُمور الخارجيّة العينيّة واتّصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلّق وأمّا إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ فاستعمال مولّد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى: وابتغاء تأويله

٢٦

وما يعلم تأويله إلّا الله الآية كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل ممّا سننقله عن قريب.

قوله تعالى: ( وما يعلم تأويله إلّا الله ) ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه لقربه كما هو الظاهر أيضاً في قوله: وابتغاء تأويله وقد عرفت أنّ ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة. ومن الممكن أيضاً رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله: ما تشابه منه.

وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصوراً عليه سبحانه وأمّا قوله: والراسخون في العلم فظاهر الكلام أنّ الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفاً للترديد الّذي يدلّ عليه قوله في صدر الآية فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ والمعنى: أنّ الناس في الأخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتّبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شئ منه: آمنّا به كلّ من عند ربّنا وإنّما اختلفا لاختلافهم من جهه زيغ القلب ورسوخ العلم.

على أنّه لو كان الواو للعطف وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو أفضلهم وكيف يتصوّر أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدرى ما اُريد به ومن دأب القرآن إذا ذكر الاُمّة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يفرده بالذكر أوّلاً ويميّزه بالشخص تشريفاً له وتعظيماً لأمره ثمّ يذكرهم جميعاً كقوله تعالى:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقره - ٢٨٥ وقوله تعالى:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبه - ٢٦ وقوله تعالى:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه ) التوبه - ٨٨ وقوله تعالى:( وهذا النبيّ والّذين آمنوا ) آل عمران - ٦٨ وقوله تعالى:( لا يخزي الله النبيّ والّذين آمنوا معه ) التحريم - ٨ إلى غير ذلك. فلو كان المراد بقوله: والراسخون في العلم أنّهم عالمون بالتأويل - ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منهم قطعاً - كان حقّ الكلام كما عرفت أن يقال: وما يعلم تأويله إلّا الله ورسوله والراسخون في العلم هذا. وإن أمكن أن يقال: إنّ قوله في صدر الآية: هو الّذي أنزل عليك الكتاب إلخ يدلّ على كون

٢٧

النبيّ عالماً بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانياً!

فالظاهر أنّ العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أنّ الآيات دالّة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى من رسول ) الجنّ - ٢٧، ولا ينافيه أيضاً: كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم إذ لا منافاة بين أن تدلّ هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلباً وبين أن تدلّ آيات اُخر على أنّهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا ) الرسوخ هو أشدّ الثبات ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الّذين في قلوبهم زيغ ثمّ توصيفهم بأنّهم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا يدلّ على تمام تعريفهم، وهو أنّ لهم علماً بالله وبآياته لا يدخله ريب وشكّ فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل وهم يؤمنون به ويتّبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقّفوا عن اتّباعها عملاً.

وفي قولهم: آمنّا به كلّ من عند ربّنا ذكر الدليل والنتيجة معاً فإنّ كون المحكم والمتشابه جميعاً من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكلّ: محكمه ومتشابهه ووضوح المراد في المحكم يوجب اتّباعه عملاً والتوقّف في المتشابه من غير ردّه لأنّه من عند الله ولا يجوز اتّباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتّبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم. وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله: كلّ من عند ربّنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعاً أعني: الإيمان والعمل في المحكم والإيمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم.

قوله تعالى: ( وما يذكّر إلّا اُولوا الألباب ) التذكّر هو الانتقال إلى دليل الشئ لاستنتاجه ولمّا كان قولهم: كلّ من عند ربّنا كما مرّ استدلالاً منهم وانتقالاً

٢٨

لما يدلّ على فعلهم سمّاه الله تعالى تذكّراً ومدحهم به.

والألباب جمع لبّ وهو العقل الزكيّ الخالص من الشوائب وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه وعرّفهم بأنّهم أهل الإيمان بالله والإنابه إليه واتّباع أحسن القول ثمّ وصفهم بأنّهم على ذكر من ربّهم دائماً فأعقب ذلك أنّهم أهل التذكّر أي الانتقال إلى المعارف الحقّة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة قال تعالى:( والّذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه اُولئك الّذين هداهم الله واُولئك هم اُولوا الألباب ) الزمر - ١٨ وقال تعالى:( إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاُولي الألباب الّذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) آل عمران - ١٩١ وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلّل والخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكّرهم بآيات الله وانتقالهم إلى المعارف الحقّة كما قال تعالى:( وما يتذكّر إلّا من ينيب ) الغافر - ١٣ وقد قال:( وما يذكّر إلّا اُولوا الألباب ) البقره - ٢٦٩، آل عمران - ٧.

قوله تعالى: ( ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب ) وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنّهم لمّا علموا بمقام ربّهم وعقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أنّ الملك لله وحده وأنّهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا إلى ربّهم وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم وأن يهب لهم من لدنه رحمه تبقى لهم هذه النعمة ويعينهم على السير في صراط الهداية والسلوك في مراتب القرب.

وأمّا سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأنّ عدم إزاغة القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالإزاغة بل في حال الجهل والاستضعاف وهم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلّا الله سبحانه وهم مستشعرون بحاجتهم هذه. والدليل عليه قولهم بعد: ربّنا إنّك

٢٩

جامع الناس ليوم لا ريب فيه.

فقولهم: ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا استعاذه من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الّذى فيها وقولهم: وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب استمطار لسحاب الرحمة حتّى تدوم بها حياة قلوبهم وتنكير الرحمة وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة وأنّها كيف ينبغي أن تكون غير أنّهم يعلمون أنّه لولا رحمة من ربّهم ولولا كونها من لدنه لم يتمّ لهم أمر.

وفي الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضاً واستيهاب الرحمة من لدنه محضاً دلالة على أنّهم يرون تمام الملك لله محضاً من غير توجّه إلى أمر الأسباب.

قوله تعالى: ( ربّنا إنّك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد ) هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة وذلك لعلمهم بأنّ إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الإنسان في مسير وجوده كلّ ذلك مقدّمة لجمعهم إلى يوم القيامة الّذي لا يغني فيه ولا ينصر أحد إلّا بالرحمة كما قال تعالى:( إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم الله ) الدخان - ٤٢ ولذلك سألوا رحمة من ربّهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.

وقد وصفوا هذا اليوم بأنّه لا ريب فيه ليتّجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء وعلّلوا هذا التوصيف أيضاً بقولهم: إنّ الله لا يخلف الميعاد لأنّ شأنهم الرسوخ في العلم ولا يرسخ العلم بشئ ولا يستقرّ تصديق إلّا مع العلم بعلّته المنتجة وعلّة عدم ارتيابهم في تحقّق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.

ونظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم: وهب لنا من لدنك رحمة بقولهم: إنّك أنت الوهّاب فكونه تعالى وهّاباً يعلّل به سؤالهم الرحمة وإتيانهم بلفظة أنت وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلّل به قولهم: من لدنك الدالّ على الاختصاص وكذا يجري مثل الوجه في قولهم: ربّنا لا تزغ قلوبنا حيث عقّبوه بما يجري مجرى العلّة بالنسبة إليه وهو قولهم: بعد إذ هديتنا وقد مرّ آنفاً أنّ قولهم:

٣٠

آمنّا به من حيث تعقيبه بقولهم: كلّ من عند ربّنا من هذا القبيل أيضاً.

فهؤلاء رجال آمنوا بربّهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه وكمّل عقولهم فلا يقولون إلّا عن علم ولا يفعلون إلّا عن علم فسمّاهم الله تعالى راسخين في العلم وكنّى عنهم باُولي الألباب وأنت إذا تدبّرت ما عرّف الله به اُولى الألباب وجدته منطبقاً على ما ذكره من شانهم في هذه الآيات. قال تعالى:( والّذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه اُولئك الّذين هداهم الله واُولئك هم اُولوا الألباب ) الزمر - ١٨ فوصفهم بالإيمان واتّباع أحسن القول والإنابة إلى الله سبحانه وقد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.

وأمّا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: إنّ الله لا يخلف الميعاد فلأنّ هذا الميعاد لا يختصّ بهم بل يعمّهم وغيرهم فكان الأولى تبديل قولهم: ربّنا إلى لفظة الجلالة لأنّ حكم الاُلوهيّة عامّ شامل لكلّ شئ.

( كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل)

هذا الّذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مرّ هو الّذي يتحصّل من تدبّر كلامه سبحانه ويستفاد من المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) سيجئ في البحث الروائيّ.

لكنّ القوم اختلفوا في المقام وقد شاع الخلاف واشتدّ الانحراف بينهم وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأوّل من مفسّري الصحابة والتابعين وقلّما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب ممّا مرّ من البيان فضلاً عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق.

والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل فأوجب ذلك اختلالاً عجيباً في عقد المسألة وكيفيّة البحث والنتيجة المأخوذة منه ونحن نورد تفصيل القول في كلّ واحد من أطراف هذه الأبحاث وما

٣١

قيل فيها وما هو المختار من الحقّ مع تمييز مورد البحث بما تيسّر في ضمن فصول:

١ - المحكم والمتشابه

الإحكام والتشابه من الألفاظ المبيّنة المفاهيم في اللغة وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى:( كتاب اُحكمت آياته ) هود - ١ وقوله تعالى:( كتاباً متشابهاً مثاني ) الزمر - ٢٣ ولم يتّصف بهما إلّا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان والإحكام.

لكن قوله تعالى: هو الّذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات الآية لمّا اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أنّ المراد بالإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتّصف به تمام الكتاب وكان من الحريّ البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات وفيه أقوال ربّما تجاوزت العشرة:

أحدها: أنّ المحكمات هو قوله تعالى: في سورة الأنعام:( قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً إلى آخر الآيات الثلاث ) الأنعام - ١٥٢ و المتشابهات هي الّتى تشابهت على اليهود وهى الحروف المقطّعة النازلة في أوائل عدّة من السور القرآنيّة مثل ألم وألر وحم وذلك أنّ اليهود أوّلوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدّة بقاء هذه الاُمّة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر. نسب إلى ابن عبّاس من الصحابة.

وفيه: أنّه قول من غير دليل ولو سلّم فلا دليل على انحصارهما فيهما. على أنّ لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أنّ ظاهر الآية يدفعه.

لكنّ الحقّ أنّ النسبة في غير محلّها والّذي نقل عن ابن عبّاس: أنّه قال: إنّ الآيات الثلاث من المحكمات لا أنّ المحكمات هي الآيات الثلاث ففي الدرّ المنثور: أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه وابن مردويه عن عبد الله بن

٣٢

قيس سمعت ابن عبّاس يقول في قوله منه آيات محكمات قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: قل تعالوا والآيتان بعدها.

ويؤيّد ذلك ما رواه عنه أيضاً في قوله: آيات محكمات قال: من ههنا: قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات، ومن ههنا: وقضى ربّك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه إلى آخر ثلاث آيات. فالروايتان تشهدان أنّه إنّما ذكر هذه الآيات مثالاً لسائر المحكمات لا أنّه قصرها فيها.

وثانيها: عكس الأوّل وهو أنّ المحكمات هي الحروف المقطّعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها. نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى: هنّ اُمّ الكتاب أنهنّ فواتح السور منها يستخرج القرآن: ألم ذلك الكتاب منها استخرجت البقره وألم الله لا إله إلّا هو الحىّ القيّوم، منها استخرجت آل عمران. وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله: هنّ اُمّ الكتاب قال: أصل الكتاب لأنّهنّ مكتوبات في جميع الكتب، انتهى. ويدلّ ذلك على أنّهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أنّ المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أنّ الكتاب الّذى نزل عليكم هو هذه الحروف المقطّعة الّتى تتألّف منها الكلمات والجمل كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.

وفيه: مضافاً إلى أنّه مبنىّ على ما لا دليل عليه أصلاً أعنى تفسير الحروف المقطّعة في فواتح السور بما عرفت أنّه لا ينطبق على نفس الآية فإنّ جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه وقد ذمّ الله سبحانه اتّباع المتشابه وعدّه من زيغ القلب مع أنّه تعالى مدح اتّباع القرآن بل عدّه من أوجب الواجبات كقوله تعالى:( واتّبعوا النور الّذى اُنزل معه ) الأعراف - ١٥٧ وغيره من الآيات.

وثالثها: أنّ المتشابه هو ما يسمّى مجملاً والمحكم هو المبيّن.

وفيه أنّ ما بيّن من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبيّن. بيان ذلك: أنّ إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها ويوجب ذلك تحيّر المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتّبعوا ما هذا

٣٣

شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبيّن يبيّن هذا المجمل فيصير بذلك مبيّناً فيتّبع فهذا حال المجمل مع مبيّنه فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبيّن بعينهما كان المتّبع هو المتشابه إذا ردّ إلى المحكم دون نفس المحكم وكان هذا الاتّباع ممّا لا يجوّزه قريحة التكلّم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتّباع المتشابه أمراً يلحقه الذمّ ويوجب زيغ القلب.

رابعها: أنّ المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنّها يؤمن بها ولا يعمل بها والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنّها يؤمن بها ويعمل بها ونسب إلى ابن عبّاس وابن مسعود وناس من الصحابة ولذلك كان ابن عبّاس يحسب أنّه يعلم تأويل القرآن.

وفيه: أنّه على تقدير صحّته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإنّ الّذي ذكره تعالى من خواصّ اتّباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال على أنّ لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.

وفيما نقل عن ابن عبّاس ما يدلّ على أنّ مذهبه في المحكم والمتشابه أعمّ ممّا ينطبق على الناسخ والمنسوخ وأنّه إنّما ذكرهما من باب المثال ففي الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ عن ابن عبّاس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به والمتشابهات منسوخه ومقدّمه ومؤخّره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به انتهى.

خامسها: أنّ المحكمات ما كان دليله واضحاً لائحاً كدلائل الوحدانيّة والقدرة والحكمة والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمّل وتدبّر.

وفيه: أنّه إن كان المراد من كون الدليل واضحاً لائحاً أو محتاجاً إلى التأمّل والتدبّر كون مضمون الآية ذا دليل عقليّ قريب من البداهة أو بديهىّ وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقليّ اللائح الواضح وحينئذ يكون اتّباعها مذموماً مع أنّها واجبه الاتّباع وإن كان

٣٤

المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، وكيف لا ؟ وهو كتاب متشابه مثاني ونور ومبين ولازمه كون الجميع محكماً وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النصّ.

سادسها: أنّ المحكم كلّ ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جليّ أو خفيّ والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه.

وفيه: أنّ الإحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنّها آية أي دالّة على معرفة من المعارف الإلهيّة والّذي تدلّ عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل ولا ممتنع الفهم إمّا بنفسه أو بضميمة غيره وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهة اللفظ ؟ مع أنّه وصف كتابه بأنّه هدى وأنّه نور وأنّه مبين وأنّه في معرض فهم الكافرين فضلاً عن المؤمنين حيث قال:( تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ) حم السجدة - ٤ وقال تعالى:( أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ فما تعرّضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم ولا الوقوف عليه مستحيل وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرّض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتّى تسمّى متشابها.

على أنّ في هذا القول خلطاً بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مرّ.

سابعها: أنّ المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها ممّا يصرف بعضها بعضاً نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.

وفيه: أنّ المراد بالصرف الّذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتّى يشمل مثل التخصيص بالمخصّص والتقييد بالمقيّد وسائر القرائن المقاميّة كانت آيات الأحكام أيضاً كغيرها متشابهات وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتّى يتعيّن المراد به بنفسه ويتعيّن المراد

٣٥

بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشئ من معارف القرآن غير الأحكام لأنّ المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ويتبيّن بذلك معانيها.

ثامنها: أنّ المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً كثيرة ونسب إلى الشافعيّ وكأنّ المراد به أنّ المحكم ما لا ظهور له إلّا في معنى واحد كالنصّ والظاهر القوىّ في ظهوره والمتشابه خلافه.

وفيه: أنّه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئاً فقد بدّل لفظ المحكم بما ليس له إلّا معنى واحد والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة على أنّه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنّه خطاء ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء.

تاسعها: أنّ المحكم ما اُحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع اُممهم والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعدّدة ولازم هذا القوم اختصاص التقسيم بآيات القصص.

وفيه: أنّه لا دليل على هذا التخصيص أصلاً على أنّ الّذى ذكره تعالى من خواصّ المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتّباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه فإنّ هذه الخاصّة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها وتوجد في القصّة الواحدة كقصّة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكرّرة.

عاشرها: أنّ المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه وهذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.

وفيه: أنّ آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مع أنّها من المحكمات قطعاً لما تقدّم بيانه مراراً وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدّم مع عدم

٣٦

احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.

الحادي عشر: أنّ المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به ونسب إلى ابن تيميّة ولعلّ المراد به أنّ الأخبار متشابهات والإنشائات محكمات كما استظهره بعضهم وإلّا لم يكن قولاً برأسه لصحّة انطباقه على عدّة من الأقوال المتقدّمة.

وفيه: أنّ لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات ولازمه أن لا يمكن حصول العلم بشئ من المعارف الإلهيّة في غير الأحكام إذ لا يتحقّق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها ومن جهة اُخرى الآيات المنسوخة إنشائات وليست بمحكمات قطعاً.

والظاهر أنّ مراده من الإيمان والعمل بالمحكم والإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدلّ عليه لفظ الآية: فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا إلّا أنّ الأمرين أعنى الإيمان والعمل معاً في المحكم والإيمان فقط في المتشابه لمّا كانا وظيفتين لكلّ من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخّص المحكم والمتشابه قبلاً حتّى يؤدّي وظيفته وعلي هذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر.

الثاني عشر: أنّ المتشابهات هي آيات الصفات خاصّة أعمّ من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير وصفات أنبيائه كقوله تعالى: في عيسى بن مريم عليهما السلام:( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) النساء - ١٧١ وما يشبه ذلك نسب إلى ابن تيميّة.

وفيه: أنّه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.

والّذى يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله: أنّه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغويّ وهو ما اُحكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيّان فربّما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامّة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء وهذا المعنى

٣٧

في آيات الصفات أظهر فإنّها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحسّ فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك اُموراً جسمانيّة أو معاني ليست بالحقّ وتقوم بذلك الفتن وتظهر البدع وتنشأ المذاهب فهذا معنى المحكم والمتشابه وكلاهما ممّا يمكن أن يحصل به العلم والّذى لا يمكن نيله والعلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني الّتى تدلّ عليها أمثال آيات الصفات فهب أنّا علمنا معنى قوله: إنّ الله على كلّ شئ قدير وإنّ الله بكلّ شئ عليم ونحو ذلك لكنّا لا ندرى حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفيّة أفعاله الخاصّة به فهذا هو تأويل المتشابهات الّذى لا يعلمها إلّا الله تعالى انتهى ملخّصاً وسيأتي ما يتعلّق بكلامه من البحث عند ما نتكلّم في التأويل إنشاء الله.

الثالث عشر: أنّ المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.

وفيه: أنّه قول من غير دليل والآيات القرآنيّة وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل لكنّ ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه فبهذه الآية استيفاء هذا التقسيم وشئ ممّا ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقاً صحيحاً على أنّه منقوض بآيات الأحكام فإنّها محكمة ولا سبيل للعقل إليها.

الرابع عشر: أنّ المحكم ما اُريد به ظاهره والمتشابه ما اُريد به خلاف ظاهره وهذا قول شائع عند المتأخّرين من أرباب البحث وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل: أنّه المعنى المخالف لظاهر الكلام وكأنّه أيضاً مراد من قال: إنّ المحكم ما تأويله تنزيله والمتشابه ما لا يدرك إلّا بالتأويل.

وفيه: أنّه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإنّ المتشابه إنّما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتّى يكون المتشابه متميّزاً عن المحكم بأنّ له تأويلاً بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعمّ جميع الآيات القرآنيّة من محكمها ومتشابهها

٣٨

كما مرّ بيانه على أنّه ليس في القرآن آية اُريد فيها ما يخالف ظاهرها وما يوهم ذلك من الآيات إنّما اُريد بها معان يعطيها لها آيات اُخر محكمة والقرآن يفسّر بعضه بعضاً ومن المعلوم أنّ المعنى الّذي تعطيه القرائن - متّصلة أو منفصلة - للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نصّ متكلّمه على أنّ ديدنه أن يتكلّم بما يتّصل بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كلّ اختلاف وتناف مترائي بالتدبّر فيه. قال تعالى:( أ فلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ .

الخامس عشر: ما عن الأصمّ: أنّ المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه وكأنّ المراد بالإجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف.

وفيه: أنّ ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها وينافيه التقسيم الّذي في الآية إذ ما من آيه من آي الكتاب إلّا وفيه اختلاف ما إمّا لفظاً أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها حتّى ذهب بعضهم إلى أنّ القرآن كلّه متشابه مستدلّاً بقوله تعالى:( كتاباً متشابهاً ) الزمر - ٢٣ غفلة عن أنّ هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدلّ به آية محكمة وهو يناقض قوله وذهب آخرون إلى أنّ ظاهر الكتاب ليس بحجّة أي أنّه لا ظاهر له.

السادس عشر: أنّ المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الإشكال من جهه اللفظ أو من جهة المعنى ذكره الراغب.

قال في مفردات القرآن والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إمّا من حيث اللفظ أو من حيث المعنى فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده وحقيقة ذلك أنّ الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم على الإطلاق ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه.

فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط ومتشابه من جهة المعنى فقط ومتشابه من جهتهما والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما

٣٩

يرجع إلى الألفاظ المفردة وذلك إمّا من جهة غرابته نحو الأبّ ويزفّون وإمّا من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركّب وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شئ لأنّه لو قيل ليس مثله شئ كان أظهر للسامع، وضرب لنظم الكلام نحو أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيّماً تقديره الكتاب قيّماً ولم يجعل له عوجاً وقوله: ولو لا رجال مؤمنون إلى قوله: لو تزيّلوا.

والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإنّ تلك الصفات لا تتصوّر لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه، أو لم يكن من جنس ما لم نحسّه.

والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب: الأوّل: من جهة الكمّيّة كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين. والثاني: من جهة الكيفيّة كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم. والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتّقوا الله حقّ تقاته. والرابع: من جهة المكان أو الاُمور الّتى نزلت فيها نحو وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها وقوله: إنّما النسيئ زيادة في الكفر فإنّ من لا يعرف عادتهم في الجاهليّة يتعذّر عليه معرفة تفسير هذه الآية. والخامس: من جهة الشروط الّتى بها يصحّ الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح.

وهذه الجملة إذا تصوّرت علم: أنّ كلّ ما ذكره المفسّرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه ألم وقول قتادة: المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وقول الأصمّ: المحكم ما اُجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.

ثمّ جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابّة الأرض وكيفيّة الدابّة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة وضرب متردّد بين الأمرين يجوز أن يختصّ

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432