الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89912 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

والأناجيل أيضاً مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه، وهي وإن لم تشتمل على هذا اللفظ الجامع (اعبدوا الله ربّي وربّكم) لكنّها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله وعلى اعترافه بأنّه ربّه الّذي بيده زمام أمره وعلى اعترافه بأنّه ربّ الناس ولا تتضمّن دعوته إلى عبادة نفسه صريحاً ولا مرّة مع ما فيها من قوله:( أنا وأبي واحد نحن) إنجيل يوحنّا - الإصحاح العاشر. فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحّته على أنّ المراد: أنّ إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم:( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) النساء - ٨٠.

٥- المسيح من الشفعاء عندالله وليس بفاد:

زعمت النصارى: إنّ المسيح فداهم بدمه الكريم، ولذلك لقّبوه بالفادي. قالوا: إنّ آدم لمّا عصي الله بالأكل من الشجرة المنهيّة في الجنّة أخطأ بذلك ولزمته الخطيئة، وكذلك لزمت ذرّيّته من بعده ما توالدوا وتناسلوا، وجزاء الخطيئة العقاب في الآخرة والهلاك الأبديّ الّذي لا مخلص منه، وقد كان الله سبحانه رحيماً عادلاً.

فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له، وهو أنّه لو عاقب آدم وذرّيّته بخطيئتهم كان ذلك منافياً لرحمته الّتي لها خلقهم، ولو غفر لهم كان ذلك منافياً لعدله فإنّ مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطي بجرمه وخطيئته كما أنّ مقتضاه أن يثاب المحسن المطيع بإحسانه وإسائته(١) .

ولم تزل هذه العويصة على حالها حتّى حلّها ببركة المسيح وذلك بأن حلّ المسيح (وهو ابن الله، وهو الله نفسه) رحم واحدة من ذرّيّة آدم وهو مريم البتول وتولّد منها كما يتولّد إنسان فكان بذلك إنساناً كاملاً لأنّه ابن إنسان، وإلهاً كاملاً لأنّه ابن الله، وابن الله هو الله (تعالى) معصوماً عن جميع الذنوب والخطايا.

____________________

(١) هذا ما عليه معظمهم ويظهر من بعضهم كالقسيس مار إسحاق ان التخلف في مجازاة الجريمة والخطيئة وبعبارة اُخرى خلف الوعيد جائز دون خلف الوعد.

٣٢١

وبعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم ويخالطهم، ويأكل ويشرب معهم، ويكلّمهم ويستأنس بهم، ويمشي فيهم تسخّر لأعدائه ليقتلوه شرّ قتلة، وهي قتلة الصلب الّتي لعن صاحبها في الكتاب الإلهيّ فاحتمل اللعن والصلب بما فيه من الزجر والأذى والعذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة وهلاك السرمد وهو كفّارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كلّ العالم(١) هذا ما قالوه.

وقد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب والفداء أساس دعوتهم فلا يبدئون إلّا بها، ولا يختمون إلّا عليها كما أنّ القرآن يجعل أساس الدعوة الإسلاميّة هو التوحيد كما قال الله مخاطباً لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) يوسف - ١٠٨ مع أنّ المسيح (على ما يصرّح به الأناجيل وقد تقدّم نقله) كان يجعل أوّل الوصايا هو التوحيد ومحبّة الله سبحانه.

وقد ناقشهم غيرهم من المسلمين وسائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من وجوه الفساد والبطلان، واُلّفت فيها كتب ورسائل وملئت بها صحف وطوامير ببيان منافاتها لضرورة العقل، ومناقضتها لكتب العهدين. والّذي يهمّنا ويوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لاُصول تعليم القرآن وختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة وما يثبتونه من الفداء.

على أنّ القرآن يذكر صراحة أنّه إنّما يخاطب الناس ويكلّمهم ببيان ما يقرب من اُفق عقولهم، ويمكّن بياناته من فقههم وفهمهم، وهو الأمر الّذي به يميّز الإنسان الحقّ من الباطل فينقاد لهذا ويأبى ذاك، ويفرّق بين الخير والشرّ والنافع والضارّ فيأخذ بهذا ويترك ذاك، والّذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم ممّا لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.

____________________

(١) في الرسالة الاولى ليوحنّا - الفصل الأوّل( يا اولادي هذه الالفاظ اكتبها إليكم لئلا تخطئوا وإن يخطئ أحدكم فلنا لدى الربّ معزى عدل يسوع المسيح وذلك هو اغتفار من أجل خطايانا فقط بل ومن أجل العالم كلّه)

٣٢٢

فأمّا ما ذكروه ففيهأوّلا: أنّهم ذكروا معصية آدم (عليه السلام) بالأكل من الشجرة المنهيّة والقرآن يدفع ذلك من جهتين:

الاُولى: أنّ النهي هناك كان نهياً إرشاديّاً يقصد به صلاح المنهيّ ووجه الرشد في أمره لا إعمال المولويّة والأمر الّذي هو من هذا القبيل لا يترتّب على امتثاله ولا تركه ثواب ولا عقاب مولويّ كأوامر المشير ونواهيه لمن يستشيره وأوامر الطبيب ونواهيه للمريض بل إنّما يترتّب على امتثال التكليف الإرشاديّ الرشد المنظور لمصلحة المكلّف، وعلى مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة وضرر الفعل بما أنّه فعل. وبالجملة لم يلحق بآدم (عليه السلام) إلّا أنّه اُخرج من الجنّة وفاته راحة القرب وسرور الرضا، وأمّا العقاب الاُخرويّ فلا لأنّه لم يعص معصية مولويّة حتّى يستتبع عقاباً. راجع تفسير الآيات ٣٥ - ٣٩ من سورة البقرة.

والثانية: أنّه (عليه السلام) كان نبيّاً والقرآن ينزّه ساحة الأنبياء عليهم السلام ويبرّء نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي، والفسق عن أمر الله سبحانه، والبرهان العقليّ أيضاً يؤيّد ذلك. راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

وثانياً: قولهم: إنّ الخطيئة لزمت آدم فإنّ القرآن يدفعه بقوله:( ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى ) طه - ١٢٢ وقوله:( فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنّه هو التوّاب الرحيم ) البقرة - ٣٧.

والاعتبار العقليّ يؤيّد ذلك بل يبيّنه فإنّ الخطيئة وتبعة الذنب إنّما هو أمر محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازماً للمخالفة والتمرّد ليستحكم بذلك أمر التكليف فلو لا العقاب والثواب لم يستقم أمر المولويّة ولم يمتثل أمر ولا نهي وكما أنّ من شئون المولويّة بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولويّة إطلاق التصرّف في دائرة مولويّته فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين ومعصية العاصين بالعفو والمغفرة فإنّه نوع تصرّف و

٣٢٣

حكومة كما أنّ له أن يؤاخذ بها وهي نوع حكومة، وحسن العفو والمغفرة عن الموالي وأولي القوّة والسطوة في الجملة ممّا لا ريب فيه، والعقلاء من الإنسان يستعملونه إلى هذا الحين فكون كلّ خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان ممّا لا وجه له البتّة وإلّا لم يكن لأصل العفو والمغفرة تحقّق لإنّ المغفرة والعفو إنّما يكون لإمحاء الخطيئة وإبطال أثر الذنب. ومع فرض أنّ الخطيئة لازمة غير منفكّة لا يبقى موضوع للعفو والمغفرة. مع أنّ الوحي الإلهيّ مملوّ بحديث العفو والمغفرة وكتب العهدين كذلك حتّى أنّ هذا الكلام المنقول منهم لا يخلو عنه. وبالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة والإمحاء حتّى بالتوبة والإنابة والرجوع والندم ممّا لا يقبله عقل سليم ولا طبع مستقيم.

وثالثاً: أنّ قولهم: إنّ خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذرّيّته إلى يوم القيامة يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضاً ممّن لم يذنب في المعاصي المولويّة وبعبارة اُخرى أن يصدر فعل عن واحد ويعمّ عصيانه وتبعته غير فاعله كما يشمل فاعله وهذا غير أن يأتي قوم بالمعصية ويرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب المعصية على الجميع وبالجملة هو تحمّل الوزر من غير صدور الذنب والقرآن يردّ ذلك كما في قوله:( أن لا تزر وازرة وزر اُخرى وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى ) النجم - ٣٩ والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه. راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية ٢١٦ - ٢١٨ من سورة البقرة.

ورابعاً: أنّ كلامهم مبنيّ على كون تبعة جميع الخطايا والذنوب هو الهلاك الأبديّ من غير فرق بينها، ولازمه أن لا يختلف الخطايا والذنوب من حيث الصغر والكبر بل يكون جميعها كبائر موبقات. والّذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أنّ الخطايا والمعاصي مختلفة: فمنها كبائر، ومنها صغائر. ومنها ما تناله المغفرة، ومنها ما لا تناله إلّا بالتوبة كالشرك. قال تعالى:( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم ) النساء - ٣١ وقال تعالى:( إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء - ٤٨ فجعل تعالى من المحرّمات المنهيّ عنها وهي الخطايا والذنوب ما هي كبائر، وما هي سيّئات أي صغائر بقرينة المقابلة وجعل تعالى من

٣٢٤

الذنوب ما لا يقبل المغفرة، ومنها ما يقبلها فالذنوب على أيّ حال مختلفة، وليس كلّ ذنب بموجب للخلود في النار والهلاك الأبديّ.

على أنّ العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب ونظمها في سلك واحد فاللطم غير القتل والنظر المريب غير الزنا، وهكذا والعقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم يضعوا كلّ ذنب وخطإ موضع غيره، ويرون للمعاصي المختلفة تبعات ومؤآخذات مختلفة فكيف يصحّ إجراء الجميع مجرى واحداً مع هذا الاختلاف الفاحش بينها، وإذا فرض اختلافها لم يصحّ إلّا جعل العقاب الخالد والهلاك الأبديّ لبعضها كالشرك بالله كما يقول القرآن الكريم. ومن المعلوم أنّ مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحلّ محلّ الكفر بالله العظيم وما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه وتبعته هو العذاب المؤبّد (راجع بحث الأفعال السابق الذكر).

وخامساً: ما ذكروه من وقوع الإشكال، وحدوث التزاحم بين صفة الرحمة وصفة العدل ثمّ الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح وصعوده بالوجه الّذي ذكروه. والمتأمّل في هذا الكلام وما يستتبعه من اللوازم يجد أنّهم يرون أنّ الله تعالى وتقدّس موجود خالق ينسب وينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنّه إنّما يفعل بإرادة وعلم في نفسه، وإرادته في تحقّقها تتوقّف إلى ترجيح علميّ كما أنّ الإنسان إنّما يريد شيئاً إذا رجّحه بعلمه فهناك مصالح ومفاسد يطبّق الله أفعاله عليها فيفعلها وربّما أخطأ في التطبيق فندم(١) على الفعل وربّما فكّر في أمر ولم يهتد إلى طريق صلاحه وربّما جهل أمراً وبالجملة هو تعالى في أوصافه وأفعاله كالإنسان إنّما يفعل ما يفعل بالتفكّر والتروّي ويروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح ومقهور بعملها فيه من الخارج ويمكن له الاهتداء إلى الصلاح ويمكن له الضلال والاشتباه والغفلة فربّما يعلم وربّما يجهل وربّما يغلب وربّما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه وإذا جاز عليه هذا الّذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرء الفاعل

____________________

(١) في الاصحاح السادس من سفر التكوين من التوراة: وكره الله خلقة ولد آدم على الأرض (التوراة العربيّة مطبوعة سنة ١٨١١ الميلاديّة)

٣٢٥

المتفكّر المريد في فعله من سرور وحزن وحمد وندم وابتهاج وانفعال وغير ذلك. والّذي هذا شأنه يكون موجوداً مادّيّاً جسمانيّاً واقعاً تحت ناموس الحركة والتغيّر والاستكمال، والّذي هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع. وليس بالواجب تعالى، الخالق لكلّ شئ.

وأنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى من جسميّته واتّصافه بجميع أوصاف الجسمانيّات وخاصّة الإنسان.

والقرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزّه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافيّة كما يقول تعالى:( سبحان الله عمّا يصفون ) الصافّات - ١٥٩. والبراهين العقليّة القاطعة قائمة على أنّه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم، والقدرة المطلقة من غير عجز، والعلم المطلق من غير طروّ جهل، والحياة المطلقة من غير إمكان موت وفناء، وإذا كان كذلك لم يجز عليه تغيّر حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حياته.

وإذا كان كذلك لم يكن جسماً ولا جسمانيّاً لأنّ الأجسام والجسمانيّات محاط التغيّرات والتحوّلات ومحال الإمكانات والافتقارات والاحتياجات وإذا لم يكن جسماً ولا جسمانيّاً لم يطرء عليه الحالات المختلفة والطواري المتنوّعة: من غفلة وسهو وغلط وندم وتحيّر وتأثّر وانفعال وهوان وصغر ومغلوبيّة ونحوها وقد استوفينا البحث البرهانيّ المتعلّق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها يجدها المراجع إذا راجع.

وعلى الناقد المتبصّر والمتأمّل المتدبّر أن يقايس بين القولين: ما يقول به القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كلّ صفة كمال، وينزّهه عن كلّ صفة نقص، وبالأخرة يعدّه أكبر وأعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحدّ والتقدير وبين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلّا في أساطير يونان، وخرافات هند القديم والصين، واُمور كان الإنسان الأوليّ يتوهّمها فيتأثّر ممّا قدّمه إليه وهمه.

٣٢٦

وسادساً: قولهم: إنّ الله أرسل ابنه المسيح وأمره أن يحلّ رحماً من الأرحام ليتولّد إنساناً وهو إله. وهذا هو القول غير المعقول الّذي انتهض لبيان بطلانه القرآن الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.

ومن المعلوم أنّ العقل أيضاً لا يساعد عليه فإنّك إذا تأمّلت فيما يجب من الصفات أن يقال باتّصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمديّ وعدم التغيّر وعدم تحدّد الوجود والإحاطة بكلّ شئ والتنزّه عن الزمان والمكان وما يتبعهما وتأمّلت في تكوّن إنسان من حين كونه نطفة فجنيناً في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير الملكانيّين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريّين أو تفسير اليعقوبيّين أو غيرهم إذ لا نسبة بين ما له الجسميّة وجميع أوصاف الجسميّة وآثارها وبين ما ليس فيه جسميّة ولا شئ ممّا يتّصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقّل الاتّحاد بينهما بوجه.

وعدم انطباق القول المذكور على القضايا الضروريّة العقليّة هو السرّ فيما يذكره بولس وغيره من رؤسائهم القدّيسيين من تقبيح الفلسفة والإزراء بالأحكام العقليّة. يقول بولس( قد كتب لأهلكنّ حكمة الحكماء ولاُخالفنّ فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمّق؟ أوليس قد حمّق الله حكمة هذا العالم - إلى أن قال - وإذ اليهود يسألون آية واليونانيّون يطلبون حكمة نكرز(١) نحن بالمسيح مصلوب) رسالة بولس - الإصحاح الأوّل. ونظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه وكلام غيره وليست إلّا لسياسة النشر والإذاعة والتبليغ والعظة. يوقن بذلك من أرعى نظره في هذه الرسائل والكتب وتعمّق في طريق تكليمها الناس وإلقاء بياناتها إليهم.

ومن ما مرّ يظهر ما في قولهم: إنّه تعالى معصوم من الذنوب والخطايا فإنّ الإله الّذي صوّروه غير مصون عن الخطأ أصلاً بمعنى الغلط في الإدراك والغلط في الفعل من غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته.

____________________

(١) كرز كرزاً، وعظ ونادى

٣٢٧

وأمّا الذنب والمعصية بمعنى التمرّد فيما يجب فيه الطاعة والانقياد فهو غير متصوّر في حقّه تعالى فالعصمة أيضاً غير متصوّرة في حقّه سبحانه.

وسابعاً: قولهم: إنّه بعد أن صار إنساناً عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حقّ تسخّر لأعدائه فيه تجويز اتّصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتّى يكون إلهاً وإنساناً في عرض واحد فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئاً من مخلوقاته أي يتّصف بحقيقة كلّ نوع من هذه الأنواع الخارجيّة فتارة يكون إنساناً من الأناسيّ، وتارة فرساً، وتارة طائراً، وتارة حشرة، وتارة غير ذلك، وتارة يكون أزيد من نوع واحد من الأنواع كالإنسان والفرس والحشرة معاً.

وهكذا يجوز أن يصدر عنه أيّ فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك النوع فيفعل فعله المختصّ به، وكذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معاً كالعدل والظلم، وأن يتّصف بصفات متقابلة كالعلم والجهل، والقدرة والعجز، والحياة والموت و الغنى والفقر. تعالى الملك الحقّ. وهذا غير المحذور المتقدّم في الأمر السادس.

وثامناً: قولهم: إنّه تحمّل الصلب واللعن أيضاً لأنّ المصلوب ملعون ماذا يريدون بقولهم: إنّه تحمّل اللعن؟ وما ذا يراد بهذا اللعن؟ أهو هذا اللعن الّذي يعرفه العرف واللغة وهو الإبعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك؟ فإن كان هو الّذي نعرفه وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إيّاه من الرحمة؟ فهل الرحمة إلّا الفيض الوجوديّ وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما. وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدّس بأيّ وجه تصوّروه؟ مع أنّه الغنيّ بالذات الّذي هو يسدّ باب الفقر عن كلّ شئ.

والتعليم القرآنيّ على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة. قال تعالى:( يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ ) الفاطر - ١٥ والقرآن يسمّيه

٣٢٨

تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أيّ فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد وعدم وسوء وقبح وذلّ وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه.

فإن قيل: إنّ اتّصافه بالهوان، وحمله اللعن بواسطة اتّحاده بالإنسان وإلّا فهو تعالى في نفسه وحيال ذاته أجلّ من أن يعرضه ذلك.

قيل لهم: هل يوجب هذا الاتّحاد حمله اللعن واتّصافه بهذه الاُمور الشاقّة حقيقة ومن غير مجاز أولا؟ فإن كان الأوّل لزم المحذور الّذي ذكرناه، وإن كان الثاني عاد الإشكال. أعني أنّ تولّد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل فإنّ تحمّل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتمّ أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان وهو ظاهر.

وتاسعاً: قولهم: إنّ ذلك كفّارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كلّ العالم يدلّ ذلك على أنّهم لم يحصّلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفيّة استتباعها للعقاب الاُخرويّ وكيف يتحقّق هذا العقاب ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب والخطايا وبين التشريع وما هو موقف التشريع من ذلك على ما يتكفّله البيان القرآنيّ وتعليمه.

فقد بيّنا في المباحث السابقة في هذا الكتاب ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى:( إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما ) البقرة - ٢٦ وفي ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة ) البقرة - ٢١٣ أنّ الأحكام والقوانين الّتي يقع فيها المخالفة والتمرّد ثمّ الذنب والخطيئة إنّما هي اُمور وضعيّة اعتباريّة اُريد بوضعها واعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنسانيّ بالعمل بها والرقوب لها وأنّ العقاب المترتّب على المعصية والمخالفة إنّما هو تبعة سوء اعتبروه ووضعوه ليكون ذلك صارفاً للإنسان المكلّف عن اقتراف المعصية والتمرّد عن الطاعة. هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الإنسانيّ.

لكنّ التعليم القرآنيّ يعطي في هذا المعنى ما هو أرقي من ذلك وأرقّ ويؤيّده

٣٢٩

البحث العقليّ على ما مرّ، وهو أنّ الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله وعدم انقياده له تتهّيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة الخسيسة الخبيثة وهذه هي الّتي تهيّئ للإنسان نعمة اُخرويّة أو نقمة اُخرويّة اللّتين ممثّلهما الجنّة والنار وحقيقتهما القرب والبعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتّكي وتنتهي إلى اُمور حقيقيّة لها نظام حقيقيّ غير اعتباريّ.

ومن البيّن أيضاً أنّ التشريع الإلهيّ إنّما هو تتمّة للتكميل الإلهيّ في الخلقة وإنهاء الهداية التكوينيّة إلى غايتها وهدفها من الخلقة. وبعبارة اُخرى شأنه تعالى إيصال كلّ نوع إلى كمال وجوده وهدف ذاته ومن كمال وجود الإنسان النظام النوعىّ الصالح في الدنيا والحياة الناعمة السعيدة في الآخرة والطريق إلى ذلك الدين الّذي يتكفّل قوانين صالحة لإصلاح الاجتماع وجهات من التقرّب باسم العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه ويتهيّأ في نفسه ويصلح في ذاته وعمله للكرامة الإلهيّة في الدار الآخرة كلّ ذلك من جهة النور المجعول في قلبه و الطهارة الحاصلة في نفسه هذا حقّ الأمر.

فللإنسان قرب وبعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته وشقاوته الدائمتين ولصلاح اجتماعه المدنيّ في الدنيا. والدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب والبعد وجميع ذلك اُمور حقيقيّة غير مبتنية على اللغو والجزاف.

وإذا فرضنا أنّ اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهيّة ؟ من آدم أوجب له الهلاك الدائم ولا له فحسب بل ولجميع ذرّيّته ثمّ لم يكن هناك ما يعالج به الداء ويفرج به الهم إلّا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح؟ وما فائدة تشريعه معه؟ وما فائدة تشريعه بعده؟!

وذلك أنّه لما فرض أنّ الهلاك الدائم والعقاب الاُخرويّ محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه، ولم يزل الوعد

٣٣٠

والوعيد والإنذار والتبشير خالية عن وجه الصحّة فما ذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب وحتم الفساد.

وإذا فرض هناك من تكمّل بالعمل بالشرائع السابقة (وكم من الأنبياء والربّانيّين من الاُمم السالفة كذلك كالنبيّ المكرّم إبراهيم وموسى عليهما السلام وغيرهما) وقد قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى؟ أترى أنّهم ختموا الحياة على الشقاء أو السعادة؟ وما الّذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة؟ استقبلهم بالعقاب والهلاك أم بالثواب والحياة السعيدة؟

مع أنّ المسيح يصرّح بأنّه إنّما اُرسل لتخليص المذنبين والمخطئين، وأمّا الصلحاء والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك(١) .

وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهيّة وجعل النواميس الدينيّه قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغويّة، ولا لهذا الفعل العجيب من الله (تعالى وتقدّس) محمل حقّ إلّا أن يقال: إنّه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شئ من هذه التشريعات قطّ وإنّما شرّع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوّفق يوماً لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك ويبلغ غايته ويظفر باُمنيّته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء والناس وإخفاء أنّ هيهنا محذوراً لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافّة وذهبت الشرائع سدىّ وإظهار أنّ التشريع والدعوة على الجدّ والحقيقة.

فغرّ الناس وغرّ نفسه: أمّا غرور الناس فبإظهار أنّ العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم وسعادتهم وأمّا غرور نفسه فلأنّ التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود لغواً لا أثر له في سعادة الناس كما أنّه من غير رفع المحذور كان لا أثر له. فهذا حال تشريع الدين قبل وصول أو ان الفداء وتحقّقه!

____________________

(١)( فتقمقم الفريسيون والكتبة على تلاميذه قائلين لما تأكلون وتشربون مع العشّارين والخطاة أجابهم يسوع قائلاً لا يحتاج الاصحّاء إلى الطبيب لكن المرضى لم آت لادعو الصديقين لكن الخطاة إلى التوبة) إنجيل لوقا - الإصحاح الخامس.

٣٣١

وأمّا في زمان الفداء وبعده فالأمر في صيرورة التشريع والدعوة الدينيّة والهداية الإلهيّة لغواً أوضح وأبين فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقّة والإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في أنّهما يشتركان في الهلاك المؤبّد مع بقاء الخطيئة وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء والمفروض أنّه لا ينفع أيّ عمل صالح في رفعها لولا الفداء.

فإن قيل: إنّ الفداء إنّما ينفع في حقّ من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرّح به المسيح في بشارته(١) .

قيل: مضافاً إلى أنّه مناقض لما تقدّمت الإشارة إليه من كلام يوحنّا في رسالته. إنّه هدم لجميع الاُصول الماضية إذ لا يبقى من الناس - آدم فمن دونه - في حظيرة النجاة والخلاص إلّا شرذمة منهم وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الاُصول وأمّا غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم. فليت شعري إلى ما يؤل أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من اُممهم ؟ وبما ذا يتّصف الدعوة الّتي جاؤوا بها من كتاب وحكم أبالصدق أم بالكذب ؟ والأناجيل تصدّق التوراة ودعوتها وليس فيها دعوة إلى قصّة الروح والفداء ! وهل هي تصدّق ما هو صادق أو تصدّق الكاذب ؟

فإن قيل: إنّ الكتب السماويّة السابقة فيما نعلم تبشّر بالمسيح وهذه منهم دعوة إجماليّة إلى المسيح وإن لم تفصّل القول في كيفيّة نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشّر أنبيائه بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفساً بما سيصنعه.

قيل: أوّلا: إنّ القول به قبل موسى تخرّص على الغيب على أنّ البشارة لو كانت فإنّما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الإيمان والتديّن به.وثانياً: إنّ

____________________

(١)( أقول لكم إن كل من اعترف لي قدّام الناس فابن الإنسان يعترف به أيضاً قدّام ملائكة الله، ومن أنكرني قدّام الناس أنكره أيضاً قدّام ملائكة الله. وكلّ من يقول كلمة في ابن الإنسان يغفر له ومن يجدف روح القدس لا يغفر له) إنجيل لوقا - الإصحاح الثاني عشر.

٣٣٢

ذلك لا يدفع محذور لغويّة الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والأفعال حتّى من المسيح نفسه، والأناجيل مملوءة بذلكوثالثاً: إنّ محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهيّ باق على حاله فإنّ الله تعالى إنّما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة على كافّتهم وقد آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلّا شرذمة منهم.

فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل ويؤيّده ويجري عليه القرآن الكريم قال تعالى:( الّذي أعطى كلّ شئ خلقه ثمّ هدى ) طه - ٥٠ فبيّن أنّ كلّ شئ مهديّ إلى غايته وما يبتغيه بوجوده والهداية تعمّ التكوينيّة والتشريعيّة فالسنّة الإلهيّة جارية على بسط الهداية ومنها هداية الإنسان هداية دينيّة.

ثمّ قال تعالى وهو أوّل هداية دينيّة ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من الجنّة:( قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) البقرة - ٣٩. وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردّد وارتياب وقد قال تعالى:( الحقّ أقول ) ص - ٨٤ وقال تعالى:( ما يبدّل القول لديّ وما أنا بظلّام للعبيد ) ق - ٢٩ فبيّن أنّه لا يتردّد فيما جزم به من الأمر ولا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه هو الّذي يمضيه وإنّما يفعل ما قاله فلا ينحرف فعله عن المجرى الّذي أراد عليه لا من جهته نفسه بأن يريد شيئاً ثمّ يتردّد في فعله أو يريده ثمّ يبدو له فلا يفعله ولا جهة غيره بأن يريد شيئاً ويقطع به ويعزم عليه ثمّ يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكلّ ذلك من قهر القاهر وغلبة المانع الخارجيّ قال تعالى:( والله غالب على أمره ) يوسف - ٢١ وقال تعالى:( إنّ الله بالغ أمره ) الطلاق - ٣ وقال تعالى حكاية عن موسى:( قال علمها عند ربّي في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى ) طه - ٥٢ وقال تعالى:( اليوم تجزي كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إنّ الله سريع الحساب ) المؤمن - ١٧.

٣٣٣

تدلّ هذه الآيات وما يشابهها على أنّه تعالى إنّما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره ولم يجهل شيئاً ممّا سيظهر منه ولم يندم على ما فعله ثمّ شرع لهم الشرائع تشريعاً جديّاً فاصلاً من غير هزل ولا خوف ولا رجاء ثمّ إنّه يجزي كلّ ذي عمل بعمله إن خيراً فخير وإنّ شرّاً فشرّ من غير أن يغلبه تعالى غالب أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلّة أو شفاعة من دون إذنه فكلّ ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه.

وعاشراً: ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلّق به من نفس أو مال أثر سيّئ من قتل أو فناء فيعوّض بغيره أيّ شئ كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الأثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي الجرائم والجنايات بالأموال ويسمّى البدل فدية وفداء فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حقّ صاحب الحقّ وسلطنته عن المفديّ عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفديّ عنه من أن يلحق به الشرّ.

ومن هنا يظهر أنّ الفداء غير معقول في ما يتعلّق بالله سبحانه فإنّ السلطنة الإلهيّة - على خلاف السلطنة الوضعيّة الاعتباريّة الإنسانيّة - سلطنة حقيقيّة واقعيّة غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه وكيف يتصوّر تغيير الواقع عمّا هو عليه فليس إلّا أمراً لا يمكن تعقّله فضلاً عن أن يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحقّ وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنّها وأمثالها اُمور وضعيّة اعتباريّة زمامها بأيدينا نحن المجتمعين نبطلها مرّة ونبدّلها اُخرى على حسب تغيّر مصالحنا في الحياة والمعاش (راجع ما تقدّم من البحث في تفسير قوله تعالى:( ملك يوم الدين ) الحمد - ٤ وقوله تعالى:( قل اللّهمّ مالك الملك الآية ) آل عمران - ٢٦).

وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله:( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الّذين كفروا مأواكم النار ) الحديد - ١٥ وقد تقدّم فيما مرّ أنّ من هذا

٣٣٤

القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه:( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني واُمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ - إلى أن قال -ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شئ شهيد إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم ) المائدة - ١١٨ فإن قوله: وكنت عليهم الخ في معنى أنّه لم يكن لي شأن فيهم إلّا ما أنت وظّفته عليّ وعيّنته وهو تبليغ الرسالة والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم وأمّا هلاكهم ونجاتهم، وعذابهم ومغفرتهم فإنّما ذلك إليك من غير أن يرتبط بي شئ من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئاً منك اُخرجهم به من عذابك أو تسلّطك عليهم، وفي ذلك نفى الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصحّ تبرّيه من أعمالهم وإرجاع العذاب والمغفرة معاً إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلاً.

وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى:( واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) البقرة - ٤٨ وكذا قوله تعالى:( يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة ) البقرة - ٢٥٤ وقوله تعالى:( يوم تولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ) المؤمن - ٣٣ فإنّ العدل في الآية الأولى والبيع في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة ممّا ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.

نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء والفرق بينهما أنّ الشفاعة (كما تقدّم البحث عنها في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً لا تجزي ) البقرة - ٤٨) نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئاً أو يسلب عنه ملك أو سلطنة، أو يبطل حكمه الّذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنّما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرّف المشفوع عنده وهو الربّ ما يجوز له من التصرّف في ملكه وهذا التصرّف الجائز مع وجود الحقّ هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حقّ أن يعذّبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.

٣٣٥

فالشفيع يحضّه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنّه كما مرّ معاملة يتبدّل به سلطنة من شئ إلى شئ آخر هو الفداء ويخرج المفديّ عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء.

ويدلّ على هذا الّذي ذكرناه قوله تعالى:( ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشفاعة إلّا من شهد بالحقّ وهم يعلمون ) الزخرف - ٨٦ فإنّه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى والمسيح (عليه السلام) ممّن كانوا يدعونهم من دون الله، وقد نصّ القرآن بأنّ الله علمه الكتاب والحكمة وبأنّه من الشهداء يوم القيامة. قال تعالى:( ويعلمه الكتاب والحكمة ) آل عمران - ٤٨ وقال تعالى حكاية عنه:( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) المائدة - ١١٧ وقال تعالى:( ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩.

فالآيات كما ترى تدلّ على كون المسيح (عليه السلام) من الشفعاء وقد تقدّم تفصيل القول في هذا المعني في تفسير قوله تعالى:( واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً الآية) البقرة - ٤٨.

٦ - من أين نشأ هذه الآراء ؟

القرآن ينفي أن يكون المسيح (عليه السلام) هو الملقي لهذه الآراء والعقائد إليهم والمروّج لها فيما بينهم بل إنّهم تعبّدوا لرؤسائهم في الدين وسلّموا الأمر إليهم وهم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيّين كما قال تعالى:( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الّذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما اُمروا إلّا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلّا هو سبحانه عما يشركون الآيات ) التوبة - ٣١.

٣٣٦

وهؤلاء الكافرون الّذين يشير تعالى إليهم بقوله: يضاهؤن قول الّذين كفروا من قبل ليسوا هم عرب الجاهليّة في وثنيّتهم حيث قالوا: إنّ الملائكة بنات الله فإنّ قولهم بأنّ لله ابناً أقدم تاريخاً من تماسّهم مع العرب واختلاطهم بهم وخاصّة قول اليهود بذلك مع أنّ ظاهر قوله: من قبل أنّهم سابقون فيه على اليهود والنصارى على أنّ اتّخاذ الأصنام في الجاهليّة ممّا نقل إليهم من غيرهم ولم يكونوا بمبتكرين في ذلك(١) .

على أنّ الوثنيّة من الروم ويونان ومصر وسوريّة والهند كانوا أقرب إلى أهل الكتاب القاطنين بفلسطين وحواليه وانتقال العقائد والمزاعم الدينيّة إليهم منهم أسهل والأسباب بذلك أوفق.

فليس المراد بالّذين كفروا الّذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوّة إلّا قدماء الوثنيّة الهند والصين ووثنيّة الغرب من الروم ويونان وشمال إفريقا كما أنّ التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود والنصارى من البنوّة والاُبوّة والتثليث وحديث الصلب والفداء وغير ذلك، وهذا من الحقائق التاريخيّة الّتي ينبّه عليها القرآن الشريف.

ونظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى:( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل ) المائدة - ٧٧ فإنّ الآية تبيّن أنّ غلوّهم في الدين بغير الحقّ إنّما طرء عليهم بالتقليد واتّباع أهواء قوم ضالّين من قبلهم.

____________________

(١) ذكروا أن أوّل من وضع الأصنام على الكعبة ودعي الناس إليها عمرو بن لحى وكان في زمان سابور ذي الاكتاف ساد قومه بمكّة واستولى على سدانة البيت ثمّ سافر إلى مدينة البلقاء بأرض الشام فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب اتّخذناها على شكل الهياكل العلويّة والأشخاص البشريّة نستنصر بها فننصر، ونستمطر بها فنمطر بطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكّة ووضعه على الكعبة ودعا الناس إلى عبادتها، وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا الناس إليهما والتقرّب إلى الله بهما - ذكره في الملل والنحل وغيره. ومن عجيب الأمر أنّ القرآن يذكر أسمائا من أصنام العرب في قصّة نوح وشكواه من قومه قال تعالى حكاية عنه:( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) نوح - ٢٣.

٣٣٧

وليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم ورهبانهم فإنّ الكلام مطلق غير مقيّد ولم يقل: قوم منكم وأضلّوا كثيراً منكم، وليس المراد بهم عرب الجاهليّة كما تقدّم. على أنّه وصف هؤلاء القوم بأنّهم أضلّوا كثيراً أي كانوا أئمّة ضلال مقلّدين متّبعين (بصيغة المفعول فيهما) ولم يكن العرب يومئذ إلّا شرذمة مضطهدين اُمّيّين ليس عندهم من العلم والحضاره والتقدّم ما يتّبعهم به وفيه غيرهم من الاُمم كفارس والروم والهند وغيرهم.

فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلّا وثنيّة الصين والهند والغرب كما تقدّم.

٧ - ما هو الكتاب الّذي ينتسب إليه أهل الكتاب وكيف هو ؟

الرواية وإن عدّت المجوس من أهل الكتاب ولازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاصّ أو ينتموا إلى واحد من الكتب الّتي يذكرها القرآن ككتاب نوح، وصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود لكنّ القرآن لا يذكر شأنهم، ولا يذكر كتاباً لهم، والّذي عندهم من (أوستا) لا ذكر منه فيه. وليس عندهم من سائر الكتب اسم.

وإنّما يطلق القرآن ( أهل الكتاب ) فيما يطلق ويريد بهم اليهود والنصارى لمكان الكتاب الّذي أنزله الله عليهم.

والّذي عند اليهود من الكتب المقدّسة خمسة وثلثون كتاباً منها توراة موسى مشتملة على خمسة أسفار(١) ومنها كتب المورّخين إثنا عشر كتاباً(٢) ومنها كتاب أيّوب، ومنها زبور داود ومنها ثلثة كتب لسليمان(٣) ، ومنها كتب النبوّات

____________________

(١) وهي سفر الخليقة وسفر الخروج وسفر الاحبار وسفر العدد وسفر الاستثناء.

(٢) وهي كتاب يوشع وكتاب قضاة بني إسرائيل وكتاب راعوث والسفر الأوّل من أسفار صموئيل والثاني منها والسفر الأوّل من أسفار الملوك والثاني منها والسفر الأوّل من أخبار الأيّام والسفر الثاني منها والسفر الأوّل لعزرا والثاني له وسفر إستير.

(٣) وهي كتاب الأمثال وكتاب الجامعة وكتاب تسبيح التسابيح.

٣٣٨

سبعة عشر كتاباً(١) .

ولم يذكر القرآن من بينها إلّا توراة موسى وزبور داود عليهما السلام.

والّذى عند النصارى من مقدّسات الكتب، الأناجيل الأربعة: وهي أنجيل متّى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنّا، ومنها كتاب أعمال الرسل، ومنها عدّة من الرسائل(٢) ومنها رؤيا يوحنّا.

ولم يذكر القرآن شيئاً من هذه الكتب المقدّسة المختصّة بالنصارى إلّا أنّه ذكر أنّ هناك كتاباً سماويّاً أنزله الله على عيسى بن مريم يسمّى بالإنجيل وهو إنجيل واحد ليس بالأناجيل والنصارى وإن كانوا لا يعرفونه ولا يعترفون به إلّا أنّ في كلمات رؤسائهم لقيطات تتضمّن الاعتراف بأنّه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل(٣) .

والقرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأنّ بعضاً من التوراة الحقّة موجود فيما عند اليهود وكذا بعض من الإنجيل الحقّ موجود في أيدي النصارى. قال تعالى:( وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ) المائدة - ٤٣ وقال تعالى:( ومن الّذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً ممّا ذكّروا به ) المائدة - ١٤ والدلالة ظاهرة.

____________________

(١) وهي كتاب نبوّة أشعيا وكتاب نبوّة أرميا ومراثي أرميا وكتاب حزقيال وكتاب نبوّة دانيال وكتاب نبوّة هوشع وكتاب نبوّة يوييل وكتاب نبوّة عاموص وكتاب نبوّة عويذيا وكتاب نبوّة يونان وكتاب نبوّة ميخا وكتاب نبوّة ناحوم وكتاب نبوّة حيقوق وكتاب نبوّة صفونيا وكتاب نبوّة حجى وكتاب نبوّة زكريا وكتاب نبوه ملاخيا.

(٢) وهي أربع عشرة رسالة لبولس ورسالة ليعقوب ورسالتان لبطرس وثلاث رسائل ليوحنّا ورسالة ليهوذا.

(٣) في رسالة بولس إلى أهل غلاطية - الإصحاح الأوّل:( إنّي أتعجّب أنّكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الّذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنّه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوه أي يغيروه) . وقد استشهد النجّار في قصص الأنبياء بما مرّ وبموارد اُخر من كلمات بولس في رسائله على أنّه كان هناك إنجيل غير الأربعة يسمّى إنجيل المسيح.

٣٣٩

( بحث تاريخي)

١ - قصّة التوراة الحاضرة: بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا يعيشون أوّلاً عيشة القبائل البدويّين ثمّ أشخصهم الفراعنة إلى مصر وكانوا يعامل معهم معاملة الاُسراء المملوكين حتّى نجّاهم الله بموسى من فرعون وعمله.

وكانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحياة بالإمام وهو موسى وبعده يوشع عليهما السلام ثمّ كانوا برهة من الزمان يدبّر أمرهم القضاة مثل إيهود وجدعون وغيرهما. وبعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك وأوّل الملوك فيهم شاؤل وهو الّذي يسمّيه القرآن الشريف بطالوت ثمّ داود ثمّ سليمان.

ثمّ انقسمت المملكة وانشعبت القدرة ومع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام وإبيام ويربعام ويهوشافاط ويهورام وغيرهم بضعة وثلثون ملكاً.

ولم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتّى تغلّبت عليهم ملوك بابل وتصرّفوا في اُورشليم وهو بيت المقدس وذلك في حدود سنة ستّمائة قبل المسيح وملك بابل يومئذ بخت نصّر (بنوكد نصر) ثمّ تمرّدت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره فحاصروهم ثمّ فتحوا البلدة ونهبوا خزائن الملك وخزائن الهيكل (المسجد الأقصى) وجمعوا من أغنيائهم وأقويائهم وصناعهم ما يقرب من عشره آلاف نفساً وساروا بهم إلى بابل وما أبقوا في المحلّ إلّا الضعفاء والصعاليك ونصب بخت نصّر (صدقيا) وهو آخر ملوك بنى إسرائيل ملكاً عليهم وعليه الطاعة لبخت نصّر.

وكان الأمر على ذلك قريباً من عشر سنين حتّى وجد صدقيا بعض القوّة والشدّة واتّصل بعض الاتّصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر وتمرّد عن طاعة بخت نصّر.

فأغضب ذلك بخت نصّر غضباً شديداً فساق إليهم الجيوش وحاصر بلادهم

٣٤٠

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432