الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89570 / تحميل: 6955
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

 ويذكر (ريشار) أيضاً في وصف وحي الإله (ماهوم) الّذي سمعت وصفه فيقول: (إنّ السحرة سخّروا واحداً من الجنّ وجعلوه في بطن ذلك الصنم، وكان ذلك الجنّيّ يرعد ويعربد أوّلاً ثمّ يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له).

وأمثال هذه الطرف توجد كثيراً في كتبهم المؤلّفة في سني الحروب الصليبيّة أو المتعرّضة لشؤونها وإن كان ربّما أبهتت القاري وأدهشته تعجّباً وحيرة، وكاد أن لا يصدّق صحّة النقل حين يحدّث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة.

وثالثاً: أن يتحقّق الباحث المتدبّر كيفيّة طروق التطوّر على الدعوة المسيحيّة في مسيرها خلال القرون الماضية حتّى اليوم فإنّ العقائد الوثنيّة وردت فيها بخفيّ دبيبها أوّلاً بالغلوّ في حقّ المسيح (عليه السلام) ثمّ تمكّنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث: الأب والابن والروح، والقول بالصلب والفداء. واستلزم ذلك القول برفض العمل والاكتفاء بالاعتقاد.

وكان ذلك أوّلاً في صورة الدين وكان يعقد أزمّتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم وصلاة وتعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات حتّى ظهرت البروتستانت وقامت القوانين الرسميّة مقام الهرج والمرج في السياسات مدوّنة على أساس الحرّيّة في ما وراء القانون (الأحكام العمليّة المضمونة الإجراء) فلم يزل التعليم الدينيّ يضعف أثراً ويخيب سعياً حتّى انثلمت تدريجاً أركان الأخلاق والفضائل الإنسانيّة عقيب شيوع المادّيّة الّتي استتبعتها الحرّيّة التامّة.

وظهرت الشيوعيّة والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض القول باللاهوت والاخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينيّة فانهدمت الإنسانيّة المعنويّة وورثتها الحيوانيّة المادّيّة مؤلّفة من سبعيّة وبهيميّة، وانتهضت الدنيا تسير إليها سيراً حثيثاً.

وأمّا النهضات الدينيّة الّتي عمّت الدنيا أخيراً فليست إلّا ملاعب سياسيّة يلعب

٣٦١

بها رجال السياسة للتوسّل بها إلى غاياتهم وأمانيّهم فالسياسة الفنّية اليوم تدقّ كلّ باب وتدبّ كلّ جحر وثقب.

ذكر الدكتور (جوزف شيتلر) اُستاد العلوم الدينيّة في كلّيّة لوتران في شيكاكو: (أنّ النهضة الدينيّة الجديدة في إمريكا ليست إلّا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون الحياة في المدنيّة الحديثة وتثبيت أنّ المدنيّة الحاضرة لا تضادّ الدين.

وإنّ فيه خطر أن يعتقد عامّة الناس أنّهم متديّنون بالدين الحقّ بما في أيديهم من نتايج المدنيّة الحاضرة حتّى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقيّة الدينيّة لو ظهرت يوماً بينهم فلا يلتفتوا إليها)(١) .

وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بإمريكا أنّ التعليمات الدينيّة بإمريكا ليست إلّا سلوة كاذبة للقلوب لأنّها لو كانت نهضة حيّة حقيقيّة دينيّة لكان من الواجب أن تتّكئ على تعليمات عميقة واقعيّة(٢) .

فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل. بدأت الدعوة باسم إحياء الدين (العقيدة) والأخلاق (الملكات الحسنة) والشريعة (الأعمال) واختتمت بإلغاء الجميع ووضع التمتّع الحيوانيّ موضعها.

وليس ذلك كلّه إلّا تطوّر الانحراف الأولىّ الواقع من بولس المدعوّ بالقدّيس، بولس الحواريّ وأعضاده فلو أنّهم سمّوا هذه المدنيّة الحاضرة الّتي تعترف الدنيا بأنّها تهدّد الإنسانيّة بالفناء (مدنيّة بولسيّة) كان أحقّ بالتصديق من قولهم: إنّ المسيح هو قائد الحضارة والمدنيّة الحاضرة وحامل لوائها.

____________________

(١) المجلة الامريكية (لايف) الجزء المؤرخ ٦ فوريه ١٩٥٦.

(٢) كسابقه.

٣٦٢

( بحث روائي)

 في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية: إنّ عيسى لم يقل للناس: إنّي خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون الله، ولكن قال لهم: كونوا ربّانيّين أي علماء.

أقول: وقد مرّ في البيان السابق ما يؤيّده من القرائن. وقوله: لم يقل للناس: إنّي خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنّه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل.

وفيه أيضاً في قوله تعالى: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً الآية، قال: كان قوم يعبدون الملائكة، وقوم من النصارى زعموا أنّ عيسى ربّ، واليهود قالوا: عزير ابن الله فقال الله: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً.

أقول: وقد تقدّم بيانه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: قال أبورافع القرظيّ حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودعاهم إلى الإسلام: أ تريد يا محمّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصرانيّ، يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منّا يا محمّد؟

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني. فأنزل الله من قولهما: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

وفيه أيضاً وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أنّ رجلاً قال: يا رسول

٣٦٣

الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيّكم، واعرفوا الحقّ لأهله فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

أقول: وقد روى في سبب النزول غير هذين السببين. والظاهر أنّ ذلك من الاستنباط النظريّ، وقد تقدّم تفصيل الكلام في ذلك. ومن الممكن أن تجتمع عدّة أسباب في نزول آية والله أعلم.

٣٦٤

( سورة آل عمران الآيات ٨١ - ٨٥)

وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى‏ ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِنَ الشّاهِدِينَ( ٨١) فَمَن تَوَلّى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ( ٨٣) قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْناَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَالنّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ٨٤) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها. والسياق سياق واحد مستمرّ جار على وحدته وكأنّه تعالى لمّا بيّن أنّ أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حمّلوه من علم الكتاب والدين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيّين وإنكار آيات نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونفى أن يكون نبيّ من الأنبياء كموسى وعيسى عليهما السلام يأمرهم باتّخاذ نفسه أو غيره من النبيّين والملائكة أرباباً على ما هو صريح قول النصارى وظاهر قول اليهود.

شدّد النكير عليهم في ذلك بأنّه كيف يتأتّى ذلك وقد أخذ الله الميثاق من

٣٦٥

النبيّين أن يؤمنوا بكلّ نبيّ يأتيهم ممّن تقدّمهم أو تأخّر عنهم وينصروه، وذلك بتصديق كلّ منهم لمن تقدّم عليه من الأنبياء وتبشيره بمن تأخّر عنه كتصديق عيسى (عليه السلام) لموسى وشريعته وتبشيره بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من اُممهم وأشهدهم عليهم. وبين أنّ هذا هو الإسلام الّذي شمل حكمه من في السماوات والأرض.

ثمّ أمر نبيّه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، وأن يسلم لله سبحانه، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن اُمّته وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن اُمّته بواسطته كما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ) الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيّين كما يدلّ عليه قوله تعالى: ثمّ جاءكم رسول الخ كما أنّه تعالى أخذه من النبيّين على ما يدلّ عليه قوله: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري الخ وقوله بعد: قل آمنّا بالله إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيّين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذاً من غيرهم أيضاً بواسطتهم.

وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: ميثاق النبيّين الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد. وبعبارة اُخرى يجوز أن يراد بالنبيّين المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلّا أنّ سياق قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين في اتّصاله بهذه الآية يؤيّد كون المراد بالنبيّين هم الّذين أخذ منهم الميثاق فإنّ وحدة السياق تعطي أنّ المراد: أنّ النبيّين بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوّة لا يتأتّى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتّى لهم ذلك؟ وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيّين الّذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالانسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيّين.

وقوله: لما آتيتكم من كتاب وحكمة القراءة المشهورة وهي قراءة غير حمزة

٣٦٦

بفتح اللام والتخفيف في (لما) وعليها فما موصولة وآتيتكم - وقرأ آتيناكم - صلته. والضمير محذوف، يدلّ عليه قوله: من كتاب وحكمة. والموصول مبتدأ خبره قوله: لتؤمننّ به الخ واللام في لما ابتدائيّة، وفي لتؤمننّ به لام القسم. والمجموع بيان للميثاق المأخوذ. والمعنى: للّذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتّة.

ويمكن أن يكون ماشرطيّة وجزاؤها قوله لتؤمننّ به، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه وهذا أحسن لأنّ دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر والمعنى عليه أسلس وأوضح، والشرط في موارد المواثيق أعرف. وأمّا قراءة كسر اللام في (لما) فاللام فيها للتعليل وما موصولة والترجيح لقراءة الفتح.

والخطاب في قوله: آتيتكم وقوله: جاءكم وإن كان بحسب النظر البدؤيّ للنبيّين لكنّ قوله بعد: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قرينة على أنّ الخطاب للنبيّين واُممهم جميعاً أي إنّ الخطاب مختصّ بهم وحكمه شامل لهم ولاُممهم جميعاً فعلى الاُمم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيّين أن يؤمنوا وينصروا.

وظاهر قوله: ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم التراخي الزمانيّ أي أنّ على النبيّ السابق أن يؤمن وينصر النبيّ اللاحق. وأمّا ما يظهر من قوله: قل آمنّا بالله إلخ أنّ الميثاق مأخوذ من كلّ من السابق واللاحق للآخر، وأنّ على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنّما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيئ إن شاء الله العزيز.

وقوله: لتؤمنّن به ولتنصرنّه الضمير الأوّل وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبيّ لنبيّ آخر. قال تعالى:( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الآية ) البقرة - ٢٨٥ لكنّ الظاهر من قوله: قل آمنّا بالله وبما اُنزل علينا وما اُنزل على إبراهيم إلخ رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول.

٣٦٧

والمعنى لتؤمنّن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرنّ الرسول الّذي جاءكم مصدّقاً لما معكم.

قوله تعالى: ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا ) الاستفهام للتقرير، والإقرار معروف، والإصر هو العهد، وهو مفعول أخذتم، وأخذ العهد يستلزم مأخوذاً منه غير الآخذ وليس إلّا اُمم الأنبياء. فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق، وأخذتم على ذلكم عهدي من اُممكم قالوا: أقررنا.

وقيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: وأخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم، ويؤيّده قوله: قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدّى الأنبياء إلى غيرهم من الاُمم ويبعّده قوله: قال فاشهدوا لظهور الشهادة في أنّها على الغير. وكذا قوله بعد: قل آمنّا بالله الخ من غير أن يقول: قل آمنت فإنّ ظاهره أنّه إيمان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل نفسه واُمّته إلّا أن يقال: إنّ اشتراك الاُمم مع الأنبياء إنّما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: فاشهدوا وقوله: قل آمنّا بالله من غير أن يفيد قوله: وأخذتم في ذلك شيئاً.

قوله تعالى: ( قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ظاهر الشهادة كما مرّ أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء واُممهم جميعاً، ويشهد لذلك كما مرّ قوله: قل آمنّا بالله ويشهد لذلك السياق أيضاً فإنّ الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما أنّها تحتجّ عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى عليهما السلام وغيرهما كما يدلّ عليه قوله تعالى: أ فغير دين الله يبغون وغيره.

وربّما يقال: إنّ المراد بقوله: فأشهدوا شهادة بعض الأنبياء على بعض كما

٣٦٨

ربّما يقال: إنّ المخاطبين بقوله فاشهدوا هم الملائكة دون الأنبياء.

والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أنّ اللفظ غير ظاهر في شئ منهما بغير قرينة، وقد عرفت أنّ القرينة على الخلاف.

ومن اللطائف الواقعة في الآية أنّ الميثاق مأخوذ من النبيّين للرسل على ما يعطيه قوله: وإذ أخذنا من النبيّين - إلى قوله -: ثمّ جاءكم رسول وقد مرّ في ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة الآية ) البقرة - ٢١٣ الفرق بين النبوّة والرسالة وأنّ الرسول أخصّ مصداقاً من النبيّ.

فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذاً من مقام النبوّة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.

وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أنّ المحصّل من معنى الآية أنّ الميثاق مأخوذ من عامّة النبيّين أن يصدّق بعضهم بعضاً ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض أي إنّ الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء وهو ظاهر.

فمحصّل معنى الآية على ما مرّ: أنّ الله أخذ الميثاق من الأنبياء واُممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدّق لما معهم ليؤمننّ بما آتاهم وينصرنّ الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخّر للمتقدّم والمعاصر وبشارة من المتقدّم بالمتأخّر وتوصية الاُمّة ومن الاُمّة الإيمان والتصديق والنصرة. ولازم ذلك وحدة الدين الإلهيّ.

وما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية أنّ الله أخذ الميثاق من النبيّين أن يصدّقوا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبشّروا أممهم بمبعثه فهو وإن كان صحيحاً إلّا أنّه أمر يدلّ عليه سياق الآيات كما مرّت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوّة والعناد والعتوّ مع صريح الحقّ.

قوله تعالى: ( فمن تولّى بعد ذلك ) الخ تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور والمعنى واضح.

٣٦٩

قوله تعالى: ( أ فغير دين الله يبغون وله أسلم ) تفريع على الآية السابقة المتضمّنة لأخذ ميثاق النبيّين. والمعنى فإذا كان دين الله واحداً وهو الّذي اُخذ عليه الميثاق من عامّة النبيّين واُممهم وكان على المتقدّم من الأنبياء والاُمم أن يبشّروا بالرسول المتأخّر ويؤمنوا بما عنده ويصدّقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنّهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الّذي هو دين الله الوحيد؟ ولذلك لا يصدّقونك ولا يتمسّكون بدين الإسلام مع أنّه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنّه الدين الّذي يبتني على الفطرة وكذلك يجب أن يكون الدين والدليل عليه أنّ من في السماوات والأرض من اُولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.

قوله تعالى: ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ) هذا الإسلام الّذي يعمّ من في السماوات والأرض ومنهم أهل الكتاب الّذين يذكر أنّهم غير مسلمين ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضيّ والتحقّق لا محالة وهو التسليم التكوينيّ لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبوديّ ويؤيّده أو يدلّ عليه قوله طوعاً وكرهاً.

وعلى هذا فقوله: وله أسلم من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبّب وتقدير الكلام: أفغير الإسلام يبغون؟ وهو دين الله لأنّ من في السماوات والأرض مسلمون له منقادون لأمره فإن رضوا به كان انقيادهم طوعاً من أنفسهم وإن كرهوا ما شائه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرهاً من غير طوع.

ومن هنا يظهر أنّ الواو في قوله: طوعاً وكرهاً للتقسيم وأنّ المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم ممّا يحبّونه وكراهتهم لما أراده فيهم ممّا لا يحبّونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.

قوله تعالى: ( وإليه يرجعون ) هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام ديناً فإنّ مرجعهم إلى الله مولاهم الحقّ لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم.

قوله تعالى: ( قل آمنّا بالله وما أنزل علينا ) أمر النبيّ أن يجري على الميثاق

٣٧٠

الّذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من اُمّته: آمنّا بالله وما اُنزل علينا الخ.

وهذا من الشواهد على أنّ الميثاق مأخوذ من الأنبياء واُممهم جميعاً كما مرّت الإشارة إليه آنفاً.

قوله تعالى: ( وما اُنزل على إبراهيم وإسماعيل ) إلى آخر الآية هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم ولا تخلو الآية من إشعار بأنّ المراد بالأسباط هم الأنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس وأيّوب وغيرهم.

وقوله والنبيّون من ربّهم تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحاً ومن دونهما. ثمّ جمع الجميع بقوله: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

قوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) الخ نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ. وفيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق.

( بحث روائي)

في المجمع عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): إنّ الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ونعته، ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لم يبعث الله نبيّاً آدم فمن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمّد لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثمّ تلا: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة الآية.

اقول: والروايتان تفسّران الآية بمجموع ما يدلّ عليه اللفظ والسياق كما مرّ.

وفي المجمع والجوامع عن الصادق (عليه السلام) في الآية معناه وإذ أخذ الله ميثاق

٣٧١

اُمم النبيّين كلّ اُمّة بتصديق نبيّها، والعمل بما جائهم به فما وفوا به وتركوا كثيراً من شرائعهم وحرّفوا كثيراً.

أقول: وما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء واُممهم جميعاً.

وفي المجمع أيضاً عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: أأقررتم وأخذتم الآية، قال: أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على اُممكم. قالوا أي قال الأنبياء واُممهم: أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به. قال الله: فاشهدوا بذلك على اُممكم، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى اُممكم.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله: قال فاشهدوا يقول: فاشهدوا على اُممكم بذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم فمن تولّى عنك يا محمّد بعد هذا العهد من جميع الاُمم فاُولئك هم الفاسقون، هم العاصون في الكفر.

أقول: وقد مرّ توجيه معنى الرواية.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادق (عليه السلام) قال لهم في الذرّ: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري أي عهدي قالوا: أقررنا. قال الله للملائكة فاشهدوا.

أقول: لفظ الآية لا يأباه وإن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدّم.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً الآية أخرج أحمد والطبرانيّ في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول: يا ربّ أنا الصلاة فيقول: إنّك على خير، وتجئ الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول: إنّك على خير، ثمّ يجئ الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنّك على خير، ثمّ تجئ الأعمال كلّ ذلك يقول الله: إنّك على خير، بك اليوم آخذ وبك اُعطي. قال الله في كتابه: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

٣٧٢

وفي التوحيد وتفسير العيّاشيّ: في الآية عن الصادق (عليه السلام): هو توحيدهم لله عزّوجلّ.

أقول: التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الّذي قدّمناه في البيان.

ولو اُريد به مجرّد نفي الشريك كان الطوع والكره هما الدلالة الاختياريّة والاضطراريّة.

واعلم: أنّ هيهنا عدّة روايات اُخر رواها العيّاشيّ والقمّيّ في تفسيريهما وغيرهما في معنى قوله: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين الآية، وفيها لتؤمننّ برسول الله، ولتنصرنّ أميرالمؤمنين عليهما الصلاة والسلام، وظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمننّ به إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضمير ولتنصرنّه إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) من غير دليل يدلّ عليه من اللفظ.

لكن في ما رواه العيّاشيّ ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لقد تسمّوا باسم ما سمّي الله به أحداً إلّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما جاء تأويله. قلت: جعلت فداك متى يجئ تأويله؟ قال: إذا جاء جمع الله أمامه النبيّين والمؤمنين حتّى ينصروه وهو قول الله:وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة - إلى قوله -: وأنا معكم من الشاهدين.

وبذلك يهون أمر الإشكال فإنّه إنّما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير وأمّا التأويل فقد عرفت أنّه ليس من قبيل المعنى، ولا مرتبطاً باللفظ في ما تقدّم من تفسير قوله:( هو الّذي أنزل عليك الكتاب الآية ) آل عمران - ٧

٣٧٣

( سورة آل عمران الآيات ٨٦ - ٩١)

كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَدُوا أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( ٨٦) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ( ٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ( ٨٨) إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٨٩) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضّالّونَ( ٩٠) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْ‏ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى‏ بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٩١)

( بيان)

الآيات ممكنة الارتباط بما تقدّمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن أن تستقلّ بنفسها وتنفصل عمّا تقدّمها وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ) الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار والمراد به استحالة الهداية، وقد ختم الآية بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين. وقد مرّ في نظير هذه الجملة أنّ الوصف مشعر بالعلّيّة أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.

وأمّا قوله: وشهدوا أنّ الرسول حقّ فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أنّ آيات النبوّة الّتي عندهم منطبقة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

٣٧٤

كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات وإن كان المراد بهم أهل الردّة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقراراً صوريّاً مبنيّاً على الجهالة والحميّة ونحوهما بل إقراراً مستنداً إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات.

وكيف كان الأمر فانضمام قوله: وشهدوا الخ إلى أوّل الكلام يفيد أنّ المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحقّ وتمام الحجّة فيكون كفراً عن عناد مع الحقّ ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحقّ والظلم الّذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.

وقد قيل في قوله: وشهدوا الخ إنّه معطوف على قوله: إيمانهم لما فيه من معنى الفعل والتقدير كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا الخ أو أنّ الواو للحال والجملة حالية بتقدير (قد).

قوله تعالى: ( اُولئك جزائهم أنّ عليهم لعنة الله - إلى قوله -ولا هم ينظرون ) قد مرّ الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى:( اُولئك يلعنم الله ويلعنهم اللاعنون ) البقرة - ١٥٩.

قوله تعالى: ( إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) الخ أي دخلوا في الصلاح والمراد به كون توبتهم نصوحاً تغسل عنهم درن الكفر وتطهّر باطنهم بالإيمان وأمّا الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان ممّا يتفرّع على ذلك ويلزمه غير أنّه ليس بمقوّم لهذه التوبة ولا ركناً منها ولا في الآية دلالة عليه.

وفي قوله: فإنّ الله غفور رحيم وضع العلّة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه فإنّ الله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً ) إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أوّلاً: كيف يهدي الله قوماً كفروا الخ وهو من قبيل التعليل بتطبيق الكلّيّ العامّ على الفرد الخاصّ. والمعنى أنّ الّذي يكفر بعد ظهور الحقّ

٣٧٥

وتمام الحجّة عليه، ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنّما هو أحد رجلين إمّا كافر يكفر ثمّ يزيد كفراً فيطغي، ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لأنّه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، ولا مطمع في اهتدائه.

وإمّا كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنّة إذ لم يرجع إلى ربّه ولا بدل لذلك حتّى يفتدي به، ولا شفيع ولا ناصر حتّى يشفع له أو ينصره.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: واُولئك هم الضالّون باشتماله على اسميّة الجملة، والإشارة البعيدة في اُولئك، وضمير الفصل، والاسميّة واللام في الخبر يدلّ على تأكّد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.

وكذا يظهر أنّ المراد بقوله: وما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الّذين هم الناصرون يوم القيامة فإنّ الإتيان بصيغة الجمع يدلّ على تحقّق ناصرين يوم القيامة كما مرّ نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: فما لنا من شافعين الآية في مبحث الشفاعة (آية ٤٨ من سورة البقرة) فارجع إليه.

وقد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل، والبدل إنّما يكون من فائت يفوت الإنسان، وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحلّ محلّها في الآخرة.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: وماتوا وهم كفّار في معنى: وفاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله:( وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّار اُولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ) النساء - ١٨ فإنّ المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة وانقطاع الدنيا وتفوت عند ذلك التوبة.

والملء في قوله: مل ء الأرض ذهباً مقدار ما يسعه الإناء من شئ فاعتبر الأرض إناءً يملاءه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييليّة والاستعارة بالكناية.

٣٧٦

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى: كيف يهدي الله قوماً الآية: قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المجدّر بن زياد البلويّ غدراً وهرب وارتدّ عن الإسلام ولحق بمكّة ثمّ ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية - إلى قوله -: إلّا الّذين تابوا فحملها إليه رجل من قومه فقال: إنّي لأعلم أنّك لصدوق، ورسول الله أصدق منك، وانّ الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه. عن مجاهد والسدّي وهو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عبّاس: أنّ الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثمّ لحق بقريش فكان بمكّة ثمّ بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: كيف يهدى الله قوماً إلى آخر القصّة.

اقول: وروى القصّة بطرق اُخرى وفيها اختلافات، ومن جملتها ما رواه عن عكرمة: أنّها نزلت في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثمّ كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك الآيات.

ومنها ما في المجمع في قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ أزدادوا الآية أنّها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لمّا رجع الحارث قالوا نقيم بمكّة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلمّا افتتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافراً. إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار الآية. نسبها إلى بعضهم.

٣٧٧

وقيل إنّها نزلت في أهل الكتاب. وقيل: إنّ قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً الآية نزلت في اليهود خاصّة حيث آمنوا ثمّ كفروا بعيسى ثمّ ازدادوا كفراً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وعليهما وقيل غير ذلك.

والتأمّل في هذه الأقوال والروايات يعطي أنّ جميعها من الأنظار الاجتهاديّة من سلف المفسّرين كما تنبّه له بعضهم.

وأمّا الرواية عن الصادق (عليه السلام) فمرسلة ضعيفة. على أنّ من الممكن أن يتعدّد أسباب النزول في آية أو آيات. والله أعلم.

٣٧٨

( سورة آل عمران الآيات ٩٢ - ٩٥)

لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْ‏ءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ( ٩٢) كُلّ الطّعامِ كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلّا مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى‏ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ( ٩٣) فَمَنِ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ( ٩٤) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُوا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ٩٥)

( بيان)

ارتباط الآية الاُولى بما قبلها غير واضح، ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات الّتي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، وقد عرفت نظير هذا الاشكال في قوله تعالى:( قل يا أهل الكتاب تعالوا الآية ) آل عمران - ٦٤ من حيث تاريخ النزول.

وربّما يقال: إنّ الخطاب في الآية موجّه إلى بني إسرائيل، ولا يزال موجّهاً إليهم. ومحصّل المعنى بعد ما مرّ من توبيخهم ولومهم على حبّ الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله: أنّكم كاذبون في دعواكم أنّكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنّكم أهل البرّ والتقوى، فإنّكم تحبّون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها، ولا تنفقون منها إلّا الرديّ الّذي لا تتعلّق به القلوب ممّا لا يعبأ بزواله وفقده مع أنّه لا ينال البرّ إلّا بإنفاق الإنسان ما يحبّه من كرائم ماله، ولا يفوت الله سبحانه حفظه. هذا محصّل ما قيل، وفيه تمحّل ظاهر.

وأمّا بقيّة الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى: ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) النيل هو الوصول والبرّ

٣٧٩

هو التوسّع في فعل الخير. قال الراغب: البرّ خلاف البحر، وتصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسّع في فعل الخير، انتهى.

ومراده من فعل الخير أعمّ ممّا هو فعل القلب كالاعتقاد الحقّ والنيّة الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى. وقد اشتمل على القسمين جميعاً قوله تعالى:( ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس الآية ) البقرة - ١٧٧.

ومن انضمام الآية إلى قوله: لن تنالوا البرّ الآية يتبيّن أنّ المراد بها أنّ إنفاق المال على حبّه أحد أركان البرّ الّتي لا يتمّ إلّا باجتماعها نعم جعل الانفاق غاية لنيل البرّ لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلّق القلبيّ بما جمعه من المال وعدّه كأنّه جزء من نفسه إذا فقده فكأنّه فقد جزء من حياة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال الّتي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إنّ البرّ هو الإنفاق ممّا تحبّون وكأنّ هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتّى تأكل ونحو ذلك لكنّه محجوج بما مرّ من الآية.

ويتبيّن من آية البقرة المذكورة أيضاً أنّ المراد بالبرّ هو ظاهر معناه اللغويّ أعني التوسّع في الخير فإنّها بيّنته بمجامع الخيرات الاعتقاديّة والعمليّة ومنه يظهر ما في قول بعضهم: أنّ المراد بالبرّ هو إحسان الله وإنعامه وما في قول آخرين: أنّ المراد به الجنّة.

قوله تعالى: ( وما تنفقوا من شئ فإنّ الله به عليم ) تطبيب لنفوس المنفقين أنّ ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدوراً من غير أجر فإنّ الله الّذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432