الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89911 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

 ويذكر (ريشار) أيضاً في وصف وحي الإله (ماهوم) الّذي سمعت وصفه فيقول: (إنّ السحرة سخّروا واحداً من الجنّ وجعلوه في بطن ذلك الصنم، وكان ذلك الجنّيّ يرعد ويعربد أوّلاً ثمّ يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له).

وأمثال هذه الطرف توجد كثيراً في كتبهم المؤلّفة في سني الحروب الصليبيّة أو المتعرّضة لشؤونها وإن كان ربّما أبهتت القاري وأدهشته تعجّباً وحيرة، وكاد أن لا يصدّق صحّة النقل حين يحدّث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة.

وثالثاً: أن يتحقّق الباحث المتدبّر كيفيّة طروق التطوّر على الدعوة المسيحيّة في مسيرها خلال القرون الماضية حتّى اليوم فإنّ العقائد الوثنيّة وردت فيها بخفيّ دبيبها أوّلاً بالغلوّ في حقّ المسيح (عليه السلام) ثمّ تمكّنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث: الأب والابن والروح، والقول بالصلب والفداء. واستلزم ذلك القول برفض العمل والاكتفاء بالاعتقاد.

وكان ذلك أوّلاً في صورة الدين وكان يعقد أزمّتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم وصلاة وتعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات حتّى ظهرت البروتستانت وقامت القوانين الرسميّة مقام الهرج والمرج في السياسات مدوّنة على أساس الحرّيّة في ما وراء القانون (الأحكام العمليّة المضمونة الإجراء) فلم يزل التعليم الدينيّ يضعف أثراً ويخيب سعياً حتّى انثلمت تدريجاً أركان الأخلاق والفضائل الإنسانيّة عقيب شيوع المادّيّة الّتي استتبعتها الحرّيّة التامّة.

وظهرت الشيوعيّة والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض القول باللاهوت والاخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينيّة فانهدمت الإنسانيّة المعنويّة وورثتها الحيوانيّة المادّيّة مؤلّفة من سبعيّة وبهيميّة، وانتهضت الدنيا تسير إليها سيراً حثيثاً.

وأمّا النهضات الدينيّة الّتي عمّت الدنيا أخيراً فليست إلّا ملاعب سياسيّة يلعب

٣٦١

بها رجال السياسة للتوسّل بها إلى غاياتهم وأمانيّهم فالسياسة الفنّية اليوم تدقّ كلّ باب وتدبّ كلّ جحر وثقب.

ذكر الدكتور (جوزف شيتلر) اُستاد العلوم الدينيّة في كلّيّة لوتران في شيكاكو: (أنّ النهضة الدينيّة الجديدة في إمريكا ليست إلّا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون الحياة في المدنيّة الحديثة وتثبيت أنّ المدنيّة الحاضرة لا تضادّ الدين.

وإنّ فيه خطر أن يعتقد عامّة الناس أنّهم متديّنون بالدين الحقّ بما في أيديهم من نتايج المدنيّة الحاضرة حتّى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقيّة الدينيّة لو ظهرت يوماً بينهم فلا يلتفتوا إليها)(١) .

وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بإمريكا أنّ التعليمات الدينيّة بإمريكا ليست إلّا سلوة كاذبة للقلوب لأنّها لو كانت نهضة حيّة حقيقيّة دينيّة لكان من الواجب أن تتّكئ على تعليمات عميقة واقعيّة(٢) .

فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل. بدأت الدعوة باسم إحياء الدين (العقيدة) والأخلاق (الملكات الحسنة) والشريعة (الأعمال) واختتمت بإلغاء الجميع ووضع التمتّع الحيوانيّ موضعها.

وليس ذلك كلّه إلّا تطوّر الانحراف الأولىّ الواقع من بولس المدعوّ بالقدّيس، بولس الحواريّ وأعضاده فلو أنّهم سمّوا هذه المدنيّة الحاضرة الّتي تعترف الدنيا بأنّها تهدّد الإنسانيّة بالفناء (مدنيّة بولسيّة) كان أحقّ بالتصديق من قولهم: إنّ المسيح هو قائد الحضارة والمدنيّة الحاضرة وحامل لوائها.

____________________

(١) المجلة الامريكية (لايف) الجزء المؤرخ ٦ فوريه ١٩٥٦.

(٢) كسابقه.

٣٦٢

( بحث روائي)

 في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية: إنّ عيسى لم يقل للناس: إنّي خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون الله، ولكن قال لهم: كونوا ربّانيّين أي علماء.

أقول: وقد مرّ في البيان السابق ما يؤيّده من القرائن. وقوله: لم يقل للناس: إنّي خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنّه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل.

وفيه أيضاً في قوله تعالى: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً الآية، قال: كان قوم يعبدون الملائكة، وقوم من النصارى زعموا أنّ عيسى ربّ، واليهود قالوا: عزير ابن الله فقال الله: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً.

أقول: وقد تقدّم بيانه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: قال أبورافع القرظيّ حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودعاهم إلى الإسلام: أ تريد يا محمّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصرانيّ، يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منّا يا محمّد؟

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني. فأنزل الله من قولهما: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

وفيه أيضاً وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أنّ رجلاً قال: يا رسول

٣٦٣

الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيّكم، واعرفوا الحقّ لأهله فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

أقول: وقد روى في سبب النزول غير هذين السببين. والظاهر أنّ ذلك من الاستنباط النظريّ، وقد تقدّم تفصيل الكلام في ذلك. ومن الممكن أن تجتمع عدّة أسباب في نزول آية والله أعلم.

٣٦٤

( سورة آل عمران الآيات ٨١ - ٨٥)

وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى‏ ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِنَ الشّاهِدِينَ( ٨١) فَمَن تَوَلّى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ( ٨٣) قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْناَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَالنّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ٨٤) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها. والسياق سياق واحد مستمرّ جار على وحدته وكأنّه تعالى لمّا بيّن أنّ أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حمّلوه من علم الكتاب والدين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيّين وإنكار آيات نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونفى أن يكون نبيّ من الأنبياء كموسى وعيسى عليهما السلام يأمرهم باتّخاذ نفسه أو غيره من النبيّين والملائكة أرباباً على ما هو صريح قول النصارى وظاهر قول اليهود.

شدّد النكير عليهم في ذلك بأنّه كيف يتأتّى ذلك وقد أخذ الله الميثاق من

٣٦٥

النبيّين أن يؤمنوا بكلّ نبيّ يأتيهم ممّن تقدّمهم أو تأخّر عنهم وينصروه، وذلك بتصديق كلّ منهم لمن تقدّم عليه من الأنبياء وتبشيره بمن تأخّر عنه كتصديق عيسى (عليه السلام) لموسى وشريعته وتبشيره بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من اُممهم وأشهدهم عليهم. وبين أنّ هذا هو الإسلام الّذي شمل حكمه من في السماوات والأرض.

ثمّ أمر نبيّه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، وأن يسلم لله سبحانه، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن اُمّته وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن اُمّته بواسطته كما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ) الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيّين كما يدلّ عليه قوله تعالى: ثمّ جاءكم رسول الخ كما أنّه تعالى أخذه من النبيّين على ما يدلّ عليه قوله: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري الخ وقوله بعد: قل آمنّا بالله إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيّين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذاً من غيرهم أيضاً بواسطتهم.

وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: ميثاق النبيّين الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد. وبعبارة اُخرى يجوز أن يراد بالنبيّين المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلّا أنّ سياق قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين في اتّصاله بهذه الآية يؤيّد كون المراد بالنبيّين هم الّذين أخذ منهم الميثاق فإنّ وحدة السياق تعطي أنّ المراد: أنّ النبيّين بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوّة لا يتأتّى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتّى لهم ذلك؟ وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيّين الّذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالانسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيّين.

وقوله: لما آتيتكم من كتاب وحكمة القراءة المشهورة وهي قراءة غير حمزة

٣٦٦

بفتح اللام والتخفيف في (لما) وعليها فما موصولة وآتيتكم - وقرأ آتيناكم - صلته. والضمير محذوف، يدلّ عليه قوله: من كتاب وحكمة. والموصول مبتدأ خبره قوله: لتؤمننّ به الخ واللام في لما ابتدائيّة، وفي لتؤمننّ به لام القسم. والمجموع بيان للميثاق المأخوذ. والمعنى: للّذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتّة.

ويمكن أن يكون ماشرطيّة وجزاؤها قوله لتؤمننّ به، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه وهذا أحسن لأنّ دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر والمعنى عليه أسلس وأوضح، والشرط في موارد المواثيق أعرف. وأمّا قراءة كسر اللام في (لما) فاللام فيها للتعليل وما موصولة والترجيح لقراءة الفتح.

والخطاب في قوله: آتيتكم وقوله: جاءكم وإن كان بحسب النظر البدؤيّ للنبيّين لكنّ قوله بعد: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قرينة على أنّ الخطاب للنبيّين واُممهم جميعاً أي إنّ الخطاب مختصّ بهم وحكمه شامل لهم ولاُممهم جميعاً فعلى الاُمم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيّين أن يؤمنوا وينصروا.

وظاهر قوله: ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم التراخي الزمانيّ أي أنّ على النبيّ السابق أن يؤمن وينصر النبيّ اللاحق. وأمّا ما يظهر من قوله: قل آمنّا بالله إلخ أنّ الميثاق مأخوذ من كلّ من السابق واللاحق للآخر، وأنّ على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنّما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيئ إن شاء الله العزيز.

وقوله: لتؤمنّن به ولتنصرنّه الضمير الأوّل وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبيّ لنبيّ آخر. قال تعالى:( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الآية ) البقرة - ٢٨٥ لكنّ الظاهر من قوله: قل آمنّا بالله وبما اُنزل علينا وما اُنزل على إبراهيم إلخ رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول.

٣٦٧

والمعنى لتؤمنّن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرنّ الرسول الّذي جاءكم مصدّقاً لما معكم.

قوله تعالى: ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا ) الاستفهام للتقرير، والإقرار معروف، والإصر هو العهد، وهو مفعول أخذتم، وأخذ العهد يستلزم مأخوذاً منه غير الآخذ وليس إلّا اُمم الأنبياء. فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق، وأخذتم على ذلكم عهدي من اُممكم قالوا: أقررنا.

وقيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: وأخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم، ويؤيّده قوله: قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدّى الأنبياء إلى غيرهم من الاُمم ويبعّده قوله: قال فاشهدوا لظهور الشهادة في أنّها على الغير. وكذا قوله بعد: قل آمنّا بالله الخ من غير أن يقول: قل آمنت فإنّ ظاهره أنّه إيمان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل نفسه واُمّته إلّا أن يقال: إنّ اشتراك الاُمم مع الأنبياء إنّما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: فاشهدوا وقوله: قل آمنّا بالله من غير أن يفيد قوله: وأخذتم في ذلك شيئاً.

قوله تعالى: ( قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ظاهر الشهادة كما مرّ أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء واُممهم جميعاً، ويشهد لذلك كما مرّ قوله: قل آمنّا بالله ويشهد لذلك السياق أيضاً فإنّ الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما أنّها تحتجّ عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى عليهما السلام وغيرهما كما يدلّ عليه قوله تعالى: أ فغير دين الله يبغون وغيره.

وربّما يقال: إنّ المراد بقوله: فأشهدوا شهادة بعض الأنبياء على بعض كما

٣٦٨

ربّما يقال: إنّ المخاطبين بقوله فاشهدوا هم الملائكة دون الأنبياء.

والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أنّ اللفظ غير ظاهر في شئ منهما بغير قرينة، وقد عرفت أنّ القرينة على الخلاف.

ومن اللطائف الواقعة في الآية أنّ الميثاق مأخوذ من النبيّين للرسل على ما يعطيه قوله: وإذ أخذنا من النبيّين - إلى قوله -: ثمّ جاءكم رسول وقد مرّ في ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة الآية ) البقرة - ٢١٣ الفرق بين النبوّة والرسالة وأنّ الرسول أخصّ مصداقاً من النبيّ.

فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذاً من مقام النبوّة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.

وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أنّ المحصّل من معنى الآية أنّ الميثاق مأخوذ من عامّة النبيّين أن يصدّق بعضهم بعضاً ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض أي إنّ الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء وهو ظاهر.

فمحصّل معنى الآية على ما مرّ: أنّ الله أخذ الميثاق من الأنبياء واُممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدّق لما معهم ليؤمننّ بما آتاهم وينصرنّ الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخّر للمتقدّم والمعاصر وبشارة من المتقدّم بالمتأخّر وتوصية الاُمّة ومن الاُمّة الإيمان والتصديق والنصرة. ولازم ذلك وحدة الدين الإلهيّ.

وما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية أنّ الله أخذ الميثاق من النبيّين أن يصدّقوا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبشّروا أممهم بمبعثه فهو وإن كان صحيحاً إلّا أنّه أمر يدلّ عليه سياق الآيات كما مرّت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوّة والعناد والعتوّ مع صريح الحقّ.

قوله تعالى: ( فمن تولّى بعد ذلك ) الخ تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور والمعنى واضح.

٣٦٩

قوله تعالى: ( أ فغير دين الله يبغون وله أسلم ) تفريع على الآية السابقة المتضمّنة لأخذ ميثاق النبيّين. والمعنى فإذا كان دين الله واحداً وهو الّذي اُخذ عليه الميثاق من عامّة النبيّين واُممهم وكان على المتقدّم من الأنبياء والاُمم أن يبشّروا بالرسول المتأخّر ويؤمنوا بما عنده ويصدّقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنّهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الّذي هو دين الله الوحيد؟ ولذلك لا يصدّقونك ولا يتمسّكون بدين الإسلام مع أنّه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنّه الدين الّذي يبتني على الفطرة وكذلك يجب أن يكون الدين والدليل عليه أنّ من في السماوات والأرض من اُولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.

قوله تعالى: ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ) هذا الإسلام الّذي يعمّ من في السماوات والأرض ومنهم أهل الكتاب الّذين يذكر أنّهم غير مسلمين ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضيّ والتحقّق لا محالة وهو التسليم التكوينيّ لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبوديّ ويؤيّده أو يدلّ عليه قوله طوعاً وكرهاً.

وعلى هذا فقوله: وله أسلم من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبّب وتقدير الكلام: أفغير الإسلام يبغون؟ وهو دين الله لأنّ من في السماوات والأرض مسلمون له منقادون لأمره فإن رضوا به كان انقيادهم طوعاً من أنفسهم وإن كرهوا ما شائه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرهاً من غير طوع.

ومن هنا يظهر أنّ الواو في قوله: طوعاً وكرهاً للتقسيم وأنّ المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم ممّا يحبّونه وكراهتهم لما أراده فيهم ممّا لا يحبّونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.

قوله تعالى: ( وإليه يرجعون ) هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام ديناً فإنّ مرجعهم إلى الله مولاهم الحقّ لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم.

قوله تعالى: ( قل آمنّا بالله وما أنزل علينا ) أمر النبيّ أن يجري على الميثاق

٣٧٠

الّذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من اُمّته: آمنّا بالله وما اُنزل علينا الخ.

وهذا من الشواهد على أنّ الميثاق مأخوذ من الأنبياء واُممهم جميعاً كما مرّت الإشارة إليه آنفاً.

قوله تعالى: ( وما اُنزل على إبراهيم وإسماعيل ) إلى آخر الآية هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم ولا تخلو الآية من إشعار بأنّ المراد بالأسباط هم الأنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس وأيّوب وغيرهم.

وقوله والنبيّون من ربّهم تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحاً ومن دونهما. ثمّ جمع الجميع بقوله: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

قوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) الخ نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ. وفيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق.

( بحث روائي)

في المجمع عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): إنّ الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ونعته، ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لم يبعث الله نبيّاً آدم فمن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمّد لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثمّ تلا: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة الآية.

اقول: والروايتان تفسّران الآية بمجموع ما يدلّ عليه اللفظ والسياق كما مرّ.

وفي المجمع والجوامع عن الصادق (عليه السلام) في الآية معناه وإذ أخذ الله ميثاق

٣٧١

اُمم النبيّين كلّ اُمّة بتصديق نبيّها، والعمل بما جائهم به فما وفوا به وتركوا كثيراً من شرائعهم وحرّفوا كثيراً.

أقول: وما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء واُممهم جميعاً.

وفي المجمع أيضاً عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: أأقررتم وأخذتم الآية، قال: أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على اُممكم. قالوا أي قال الأنبياء واُممهم: أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به. قال الله: فاشهدوا بذلك على اُممكم، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى اُممكم.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله: قال فاشهدوا يقول: فاشهدوا على اُممكم بذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم فمن تولّى عنك يا محمّد بعد هذا العهد من جميع الاُمم فاُولئك هم الفاسقون، هم العاصون في الكفر.

أقول: وقد مرّ توجيه معنى الرواية.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادق (عليه السلام) قال لهم في الذرّ: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري أي عهدي قالوا: أقررنا. قال الله للملائكة فاشهدوا.

أقول: لفظ الآية لا يأباه وإن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدّم.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً الآية أخرج أحمد والطبرانيّ في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول: يا ربّ أنا الصلاة فيقول: إنّك على خير، وتجئ الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول: إنّك على خير، ثمّ يجئ الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنّك على خير، ثمّ تجئ الأعمال كلّ ذلك يقول الله: إنّك على خير، بك اليوم آخذ وبك اُعطي. قال الله في كتابه: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

٣٧٢

وفي التوحيد وتفسير العيّاشيّ: في الآية عن الصادق (عليه السلام): هو توحيدهم لله عزّوجلّ.

أقول: التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الّذي قدّمناه في البيان.

ولو اُريد به مجرّد نفي الشريك كان الطوع والكره هما الدلالة الاختياريّة والاضطراريّة.

واعلم: أنّ هيهنا عدّة روايات اُخر رواها العيّاشيّ والقمّيّ في تفسيريهما وغيرهما في معنى قوله: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين الآية، وفيها لتؤمننّ برسول الله، ولتنصرنّ أميرالمؤمنين عليهما الصلاة والسلام، وظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمننّ به إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضمير ولتنصرنّه إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) من غير دليل يدلّ عليه من اللفظ.

لكن في ما رواه العيّاشيّ ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لقد تسمّوا باسم ما سمّي الله به أحداً إلّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما جاء تأويله. قلت: جعلت فداك متى يجئ تأويله؟ قال: إذا جاء جمع الله أمامه النبيّين والمؤمنين حتّى ينصروه وهو قول الله:وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة - إلى قوله -: وأنا معكم من الشاهدين.

وبذلك يهون أمر الإشكال فإنّه إنّما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير وأمّا التأويل فقد عرفت أنّه ليس من قبيل المعنى، ولا مرتبطاً باللفظ في ما تقدّم من تفسير قوله:( هو الّذي أنزل عليك الكتاب الآية ) آل عمران - ٧

٣٧٣

( سورة آل عمران الآيات ٨٦ - ٩١)

كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَدُوا أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( ٨٦) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ( ٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ( ٨٨) إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٨٩) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضّالّونَ( ٩٠) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْ‏ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى‏ بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٩١)

( بيان)

الآيات ممكنة الارتباط بما تقدّمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن أن تستقلّ بنفسها وتنفصل عمّا تقدّمها وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ) الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار والمراد به استحالة الهداية، وقد ختم الآية بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين. وقد مرّ في نظير هذه الجملة أنّ الوصف مشعر بالعلّيّة أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.

وأمّا قوله: وشهدوا أنّ الرسول حقّ فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أنّ آيات النبوّة الّتي عندهم منطبقة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

٣٧٤

كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات وإن كان المراد بهم أهل الردّة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقراراً صوريّاً مبنيّاً على الجهالة والحميّة ونحوهما بل إقراراً مستنداً إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات.

وكيف كان الأمر فانضمام قوله: وشهدوا الخ إلى أوّل الكلام يفيد أنّ المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحقّ وتمام الحجّة فيكون كفراً عن عناد مع الحقّ ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحقّ والظلم الّذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.

وقد قيل في قوله: وشهدوا الخ إنّه معطوف على قوله: إيمانهم لما فيه من معنى الفعل والتقدير كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا الخ أو أنّ الواو للحال والجملة حالية بتقدير (قد).

قوله تعالى: ( اُولئك جزائهم أنّ عليهم لعنة الله - إلى قوله -ولا هم ينظرون ) قد مرّ الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى:( اُولئك يلعنم الله ويلعنهم اللاعنون ) البقرة - ١٥٩.

قوله تعالى: ( إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) الخ أي دخلوا في الصلاح والمراد به كون توبتهم نصوحاً تغسل عنهم درن الكفر وتطهّر باطنهم بالإيمان وأمّا الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان ممّا يتفرّع على ذلك ويلزمه غير أنّه ليس بمقوّم لهذه التوبة ولا ركناً منها ولا في الآية دلالة عليه.

وفي قوله: فإنّ الله غفور رحيم وضع العلّة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه فإنّ الله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً ) إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أوّلاً: كيف يهدي الله قوماً كفروا الخ وهو من قبيل التعليل بتطبيق الكلّيّ العامّ على الفرد الخاصّ. والمعنى أنّ الّذي يكفر بعد ظهور الحقّ

٣٧٥

وتمام الحجّة عليه، ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنّما هو أحد رجلين إمّا كافر يكفر ثمّ يزيد كفراً فيطغي، ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لأنّه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، ولا مطمع في اهتدائه.

وإمّا كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنّة إذ لم يرجع إلى ربّه ولا بدل لذلك حتّى يفتدي به، ولا شفيع ولا ناصر حتّى يشفع له أو ينصره.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: واُولئك هم الضالّون باشتماله على اسميّة الجملة، والإشارة البعيدة في اُولئك، وضمير الفصل، والاسميّة واللام في الخبر يدلّ على تأكّد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.

وكذا يظهر أنّ المراد بقوله: وما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الّذين هم الناصرون يوم القيامة فإنّ الإتيان بصيغة الجمع يدلّ على تحقّق ناصرين يوم القيامة كما مرّ نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: فما لنا من شافعين الآية في مبحث الشفاعة (آية ٤٨ من سورة البقرة) فارجع إليه.

وقد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل، والبدل إنّما يكون من فائت يفوت الإنسان، وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحلّ محلّها في الآخرة.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: وماتوا وهم كفّار في معنى: وفاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله:( وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّار اُولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ) النساء - ١٨ فإنّ المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة وانقطاع الدنيا وتفوت عند ذلك التوبة.

والملء في قوله: مل ء الأرض ذهباً مقدار ما يسعه الإناء من شئ فاعتبر الأرض إناءً يملاءه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييليّة والاستعارة بالكناية.

٣٧٦

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى: كيف يهدي الله قوماً الآية: قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المجدّر بن زياد البلويّ غدراً وهرب وارتدّ عن الإسلام ولحق بمكّة ثمّ ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية - إلى قوله -: إلّا الّذين تابوا فحملها إليه رجل من قومه فقال: إنّي لأعلم أنّك لصدوق، ورسول الله أصدق منك، وانّ الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه. عن مجاهد والسدّي وهو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عبّاس: أنّ الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثمّ لحق بقريش فكان بمكّة ثمّ بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: كيف يهدى الله قوماً إلى آخر القصّة.

اقول: وروى القصّة بطرق اُخرى وفيها اختلافات، ومن جملتها ما رواه عن عكرمة: أنّها نزلت في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثمّ كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك الآيات.

ومنها ما في المجمع في قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ أزدادوا الآية أنّها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لمّا رجع الحارث قالوا نقيم بمكّة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلمّا افتتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافراً. إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار الآية. نسبها إلى بعضهم.

٣٧٧

وقيل إنّها نزلت في أهل الكتاب. وقيل: إنّ قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً الآية نزلت في اليهود خاصّة حيث آمنوا ثمّ كفروا بعيسى ثمّ ازدادوا كفراً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وعليهما وقيل غير ذلك.

والتأمّل في هذه الأقوال والروايات يعطي أنّ جميعها من الأنظار الاجتهاديّة من سلف المفسّرين كما تنبّه له بعضهم.

وأمّا الرواية عن الصادق (عليه السلام) فمرسلة ضعيفة. على أنّ من الممكن أن يتعدّد أسباب النزول في آية أو آيات. والله أعلم.

٣٧٨

( سورة آل عمران الآيات ٩٢ - ٩٥)

لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْ‏ءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ( ٩٢) كُلّ الطّعامِ كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلّا مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى‏ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ( ٩٣) فَمَنِ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ( ٩٤) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُوا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ٩٥)

( بيان)

ارتباط الآية الاُولى بما قبلها غير واضح، ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات الّتي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، وقد عرفت نظير هذا الاشكال في قوله تعالى:( قل يا أهل الكتاب تعالوا الآية ) آل عمران - ٦٤ من حيث تاريخ النزول.

وربّما يقال: إنّ الخطاب في الآية موجّه إلى بني إسرائيل، ولا يزال موجّهاً إليهم. ومحصّل المعنى بعد ما مرّ من توبيخهم ولومهم على حبّ الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله: أنّكم كاذبون في دعواكم أنّكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنّكم أهل البرّ والتقوى، فإنّكم تحبّون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها، ولا تنفقون منها إلّا الرديّ الّذي لا تتعلّق به القلوب ممّا لا يعبأ بزواله وفقده مع أنّه لا ينال البرّ إلّا بإنفاق الإنسان ما يحبّه من كرائم ماله، ولا يفوت الله سبحانه حفظه. هذا محصّل ما قيل، وفيه تمحّل ظاهر.

وأمّا بقيّة الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى: ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) النيل هو الوصول والبرّ

٣٧٩

هو التوسّع في فعل الخير. قال الراغب: البرّ خلاف البحر، وتصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسّع في فعل الخير، انتهى.

ومراده من فعل الخير أعمّ ممّا هو فعل القلب كالاعتقاد الحقّ والنيّة الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى. وقد اشتمل على القسمين جميعاً قوله تعالى:( ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس الآية ) البقرة - ١٧٧.

ومن انضمام الآية إلى قوله: لن تنالوا البرّ الآية يتبيّن أنّ المراد بها أنّ إنفاق المال على حبّه أحد أركان البرّ الّتي لا يتمّ إلّا باجتماعها نعم جعل الانفاق غاية لنيل البرّ لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلّق القلبيّ بما جمعه من المال وعدّه كأنّه جزء من نفسه إذا فقده فكأنّه فقد جزء من حياة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال الّتي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إنّ البرّ هو الإنفاق ممّا تحبّون وكأنّ هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتّى تأكل ونحو ذلك لكنّه محجوج بما مرّ من الآية.

ويتبيّن من آية البقرة المذكورة أيضاً أنّ المراد بالبرّ هو ظاهر معناه اللغويّ أعني التوسّع في الخير فإنّها بيّنته بمجامع الخيرات الاعتقاديّة والعمليّة ومنه يظهر ما في قول بعضهم: أنّ المراد بالبرّ هو إحسان الله وإنعامه وما في قول آخرين: أنّ المراد به الجنّة.

قوله تعالى: ( وما تنفقوا من شئ فإنّ الله به عليم ) تطبيب لنفوس المنفقين أنّ ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدوراً من غير أجر فإنّ الله الّذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.

٣٨٠

قوله تعالى: ( كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ) الطعام كلّ ما يطعم ويتغذّى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البرّ خاصّة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق. والحلّ مقابل الحرمة وكأنّه مأخوذ من الحلّ مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الاطلاق. وإسرائيل هو يعقوب النبيّ (عليه السلام) سمّي به لأنّه كان مجاهداً في الله مظفّراً به، ويقول أهل الكتاب: إنّ معناه المظفّر الغالب على الله سبحانه لأنّه صارع الله في موضع يسمّى فنيئيل فغلبه (على ما في التوراة) وهو ممّا يكذّبه القرآن ويحيله العقل.

وقوله: إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفاً. وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بكان في الجملة الاُولى. والمعنى لم يحرّم الله قبل نزول التوراة شيئاً من الطعام على بني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه.

وفي قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين دلالة على أنّهم كانوا ينكرون ذلك أعني حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، ويدلّ عليه أنّهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مرّ ذكره في ذيل قوله تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦. فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم ) النساء - ١٦٠.

وكذا يدلّ قوله تعالى بعد: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً أهم كانوا يجعلون ما ينكرونه (من حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنّما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحلّ بالحرمة) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ربّه أنّ دينه هو ملّة إبراهيم الحنيف، وهي ملّة فطريّة لا إفراط فيها ولا تفريط. كيف؟ وهم كانوا يقولون: إنّ إبراهيم كان يهوديّاً على شريعة التوراة فكيف يمكن أن تشتمل ملّته على حلّيّة ما حرّمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟

فقد تبيّن أنّ الآية إنّما تتعرّض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم

٣٨١

تعرّض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى:( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) المائدة - ٦٤ وقوله:( وقالوا لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة ) البقرة - ٨٠ وقوله:( وقالوا قلوبنا غلف ) البقرة - ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا قوله تعالى بعد عدّة آيات:( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال -يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات ) آل عمران - ١٠٠.

وبالجملة يظهر من ذلك أنّها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.

وحاصلها: أنّه كيف يكون النبيّ صادقاً وهو يخبر بالنسخ، وأنّ الله إنّما حرّم الطيّبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحلّ سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرّمات محرّمة دائماً من غير إمكان تغيير لحكم الله. وحاصل الجواب من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتعليم من الله تعالى: أنّ التوراة ناطقة بكون كلّ الطعام حلّاً قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل - إلى قوله -: إن كنتم صادقين.

فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنّكم المفترون على الله الكذب وأنّكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: فمن افترى - إلى قوله - ظالمون.

وقد تبيّن بذلك أنّي صادق في دعوتي فاتّبعوا ملّتي وهي ملّة إبراهيم حنيفاً. وذلك قوله تعالى: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم إلى آخر الآية.

وللمفسّرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنّهم على أيّ حال ذكروا أنّ الآية متعرّضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مرّ.

وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أنّ الآية متعرّضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ. وتقريرها: أنّ اليهود كأنّها قالت: إذا كنت يا محمّد على ملّة إبراهيم والنبيّين بعده - كما تدّعي - فكيف تستحلّ ما كان محرّماً عليه وعليهم

٣٨٢

كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرّماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدّعي أنّك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخصّ إبراهيم بالذكر فتقول: إنّي أولى به.

ومحصّل الجواب: أنّ كلّ الطعام كان حلّاً لعامّة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكنّ بني إسرائيل حرّموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي. والسيّئات كما قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠ فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده. ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنّهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيّئات فكانت سبباً للتحريم، وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزّل التوراة لغواً زائداً من الكلام لبداهة أنّ يعقوب كان قبل التوراة زماناً فلا وجه لذكره.

هذا محصّل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلّا أنّه قال: إنّ المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعاً من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهليّة تفعل ذلك على ما قصّه الله تعالى في كتابه.

وقد ارتكبا جميعاً من التكلّف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه. وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزّل التوراة على أنّه متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل مع كونه متعلّقاً بقوله: كان حلّاً في صدر الكلام وقوله: إلّا ما حرّم استثناء معترض.

ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهّما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أنّ إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزاً على حدّ قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنّه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا

٣٨٣

أنّ القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة (في غير هذا المورد الّذي يدّعيانه) مع أنّ بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعاً، ومن جملتها نفس هذه الآية: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبّر عنهم أوّلاً ببني إسرائيل ثمّ أردف ذلك بقوله: إسرائيل. مع أنّ المقام من أوضح مقامات الالتباس. وناهيك في ذلك أنّ الجمّ الغفير من المفسّرين فهموا منه أنّ المراد به يعقوب لا بنوه.

ومن أحسن الشواهد على أنّ المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكّر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى: ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) أي حتّى يتبيّن أنّ أيّ الفريقين على الحقّ. أنا أم أنتم. وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قوله تعالى: ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاُولئك هم الظالمون ) ظاهره أنّه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله. وتعريض لليهود والكلام يجري مجري الكناية.

وأمّا احتمال كون الكلام من تتمّة كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك وعلى هذا أيضاً يجري الكلام مجري الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى:( إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ - ٢٤ والمشار إليه بذلك هو البيان والحجّة.

وإنّما قال: من بعد ذلك مع أنّ المفتري ظالم على أيّ حال لأنّ الظلم لا يتحقّق قبل التبيّن كما قيل والقصر في قوله: فاُولئك هم الظالمون قصر قلب على أيّ حال.

قوله تعالى: ( قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً ) الخ أي فإذا كان الحقّ معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتّبعوا ديني واعترفوا بحلّيّه لحم الإبل وغيره

٣٨٤

من الطيّبات الّتي أحلّها الله، وإنّما كان حرّمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.

فقوله: فاتّبعوا الخ كالكناية عن اتّباع دينه، وإنّما لم يذكره بعينه لأنّهم كانوا معترفين بملّة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفاً فطريّاً لأنّ الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيّبات من اللحوم وسائر الرزق.

( بحث روائي)

في الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): أنّ إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيّج عليه وجع الخاصّرة فحرّم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزّل التوراة فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأكله.

أقول: وما يقرب منه مرويّ من طرق أهل السنّة والجماعة.

وقوله في الرواية: لم يحرّمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه. والمعنى لم يحرّمه موسى ولم يأكله. ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل. ويظهر من التاج أنّ التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.

٣٨٥

( سورة آل عمران الآيات ٩٦ - ٩٧)

إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( ٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ( ٩٧)

( بيان)

الآيتان جواب عن شبهة اُخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد مرّ في تفسير قوله تعالى:( فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية ) البقرة - ١٤٤ أنّ تحويل القبلة كان من الاُمور الهامّة الّتي كانت له تأثيرات عميقة مادّيّة ومعنويّة في حياة أهل الكتاب - وخاصّة اليهود - مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

والمستفاد من الآية - إنّ أوّل بيت الخ - أنّهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملّة إبراهيم فيكون محصّل الشبهة: أنّ الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملّة إبراهيم مع أنّ الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلّا القول بحكم نسخي في ملّة إبراهيم الحقّة مع كون النسخ محالاً باطلاً؟

والجواب: أنّ الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شكّ ووضعها للعبادة، وفيها آيات بيّنات تدلّ على ذلك كمقام إبراهيم. وأمّا بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: ( إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة ) إلى آخر الآية، البيت

٣٨٦

معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسّل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدىً للعالمين وغير ذلك ويشعر به التعبير عن الكعبة بالّذي ببكّة فإنّ فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك. وأمّا كونه أوّل بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

والمراد ببكّة أرض البيت سمّيت بكّة لازدحام الناس فيها، وربّما قيل إنّ بكّة هي مكّة وإنّه من تبديل الميم باءً كما في قولهم: لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم. وقيل: المسجد. وقيل المطاف.

والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيويّة والاُخرويّة إلّا أنّ ظاهر مقابلتها مع قوله: هدىً للعالمين أنّ المراد بها إفاضة البركات الدنيويّة وعمدتها وفور الأرزاق وتوفّر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحجّ إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤل المعنى إلى ما يتضمّنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم:( ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون ) إبراهيم - ٣٧.

وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم وإيصاله إيّاهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين.

وقد دلّ القرآن على أنّ الحجّ شرّع أوّل ما شرّع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه. قال تعالى:( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) البقرة - ١٢٥ وقال: خطاباً لإبراهيم:( وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ) الحجّ - ٢٧. والآية كما ترى تدلّ

٣٨٧

على أنّ هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامّة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل.

ودلّ أيضاً على أنّ هذا الشعار الإلهيّ كان على استقراره ومعروفيّته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام:( إنّي اُريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك ) القصص - ٢٧ فقد أراد بالحجّ السنة وليس إلّا لكون السنين تعدّ بالحجّ لتكرّرها بتكرّره.

وكذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شئ كثير يدلّ على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية (راجع سورة إبراهيم).

وكان عرب الجاهليّة يعظّمونه ويأتون بالحجّ بعنوان أنّه من شرع إبراهيم، وقد ذكر التاريخ أنّ سائر الناس أيضاً كانوا يعظّمونه. وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجّه إلى الله سبحانه وذكره. وأمّا بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح وقد ملا ذكره مشارق الأرض ومغاربها، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.

فهو هدىً بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهنيّ إلى الانقطاع التامّ الّذي لا يمسّه إلّا المطهّرون من عباد الله المخلصين.

على أنّه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيويّة الّتي هي وحدة الكلمة وائتلاف الاُمّة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتّتة.

ومن هنا يظهرأوّلا: أنّه هدىً إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنّه هدىً بجميع مراتب الهداية. فالهداية مطلقة.

وثانياً: أنّه هدى للعالمين لا لعالم خاصّ وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.

٣٨٨

قوله تعالى: ( فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ) الآيات وإن وصفت بالبيّنات وأفاد ذلك تخصّصاً ما في الموصوف إلّا أنّها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره الّتي بها يتقدّم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلّا الإتيان ببيان واضح، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال. وهذا من الشواهد على كون قوله: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس إلى آخر الآية بياناً لقوله: آيات بيّنات فالآيات هي: مقام إبراهيم، وتقرير الأمن فيه، وإيجاب حجّه على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أنّ ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، والأمن لمن دخله، وحجّه لمن استطاع إليه سبيلاً. وفي ذلك إرجاع قوله: ومن دخله سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أنّ وإرجاع قوله: ولله على الناس وهي جملة إنشائيّة إلى الخبريّة ثمّ عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أنّ فيها أيضاً وكلّ ذلك ممّا لا يساعد عليه الكلام البتّة.

وإنّما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم الخ كلّ لغرض خاصّ من إخبار أو إنشاء حكم ثمّ تتبيّن بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أنّ نتّبعه.

قوله تعالى: ( مقام إبراهيم ) مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم، وهو الحجر الّذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وقد استفاض النقل بأنّ الحجر مدفون في المكان الّذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافّة المطاف حيال الملتزم وقد أشار إليه أبو طالب عمّ النبيّ في قصيدته اللاميّة:

وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وربّما يفهم من قوله: مقام إبراهيم أنّ البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.

٣٨٩

ويمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم والأمن والحجّ ثمّ وضع قوله: ومن دخله وقوله: ولله على الناس وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائيّ موضع الخبرين، وهذا من أعاجيب اُسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، ويحفظ الجهتين كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله:( كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله ) البقرة - ٢٨٥ وكما مرّ في قوله تعالى:( ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية ) البقرة - ٢٥٨ وقوله:( أو كالّذي مرّ على قرية الآية ) البقرة - ٢٥٩ وقد بيّنا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، وكما في قوله تعالى:( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء - ٨٩ وكما في قوله تعالى:( ولكنّ البرّ من آمن بالله الآية ) البقرة - ١٧٧ حيث وضع صاحب البرّ مكان البرّ وكما في قوله تعالى:( ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع الآية ) البقرة - ١٧١ ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا فوزان قوله: فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم - إلى قوله - عن العالمين في التردّد بين الإنشاء والإخبار وزان قوله:( واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لاُولي الألباب وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب ) ص - ٤٤.

و هذا الّذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدليّة، وإن كان بدلاً ولا بدّ فالاُولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلاً، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالّتين على بدلين محذوفين. والتقدير فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحجّ المستطيع للبيت.

ولا ريب في كون كلّ واحد من هذه الاُمور آية بيّنة دالّة بوقوعها على الله سبحانه مذكّرة لمقامه إذ ليست الآية إلّا العلامة الدالّة على الشئ بوجه. وأيّ علامة دالّة عليه تعالى مذكّرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن

٣٩٠

حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الاُلوف بعد الاُلوف من الناس تتكرّر بتكرّر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيّام وأمّا كون كلّ آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً للسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدلّ عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً وقال تعالى:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون ) الشعراء - ١٢٨ إلى غير ذلك من الآيات.

ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسّرين على توجيه كون المقام آية خارقة، وكون الأمن والحجّ مذكورين لغير غرض بيان الآية.

وكذا إصرار آخرين على أنّ المراد بالآيات البيّنات اُمور اُخر من خواصّ الكعبة (وقد أغمضنا عن ذكرها، ومن أرادها فليراجع بعض مطوّلات التفاسير) فإنّ ذلك مبنيّ على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة، ولا دليل على ذلك كما مرّ.

فالحقّ أنّ قوله: ومن دخله كان آمناً: مسوق لبيان حكم تشريعيّ لا خاصّة تكوينيّة غير أنّ الظاهر أن يكون الجملة إخباريّة يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربّما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحقّ محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهليّة ويتّصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).

وأمّا كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأنّ الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه وخاصّة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى:( أو لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم ) العنكبوت - ٦٧ لا يدلّ على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلّا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) وينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.

٣٩١

وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكيّ في قوله تعالى:( ربّ اجعل هذا البلد آمناً ) إبراهيم - ٣٥ وقوله:( ربّ اجعل هذا بلداً آمناً ) البقرة - ١٢٦ حيث سأل الأمن لبلد مكّة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبيّاً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان.

قوله تعالى: ( ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ) الحجّ بالكسر (وقرء بالفتح) هو القصد ثمّ اختصّ استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيّنه الشرع. وقوله: سبيلاً تمييز عن قوله: استطاع.

والآية تتضمّن تشريع الحجّ إمضائاً لما شرّع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم:( وأذن في الناس بالحجّ الآية ) الحجّ - ٢٧ ومن هنا يظهر أنّ وزان قوله:( ولله على الناس ) إلخ وزان قوله تعالى: ومن دخله كان آمناً في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاءً على نحو الإمضاء لكنّ الأظهر من السياق هو الأوّل كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين ) الكفر هيهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة فالمراد بالكفر الترك. والكلام من قبيل وضع المسبّب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أنّ قوله: فإنّ الله غنيّ إلخ من قبيل وضع العلّة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحجّ فلا يضرّ الله شيئاً فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

( بحث روائي)

عن ابن شهرآشوب عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: إنّ أوّل بيت وضع للناس الآية: فقال له رجل أهو أوّل بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبيّ عن عليّ

٣٩٢

بن أبي طالب في قوله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة قال: كانت البيوت قبله ولكنّه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله.

أقول: ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله، والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي العلل عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكّة، والقرية مكّة.

وفيه أيضاً عنه (عليه السلام): إنّما سمّيت بكّة بكّة لأنّ الناس يبكّون فيها.

أقول: يعني يزدحمون.

وفيه عن الباقر (عليه السلام): إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء، المرأة تصلّي بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنّما يكره ذلك في سائر البلدان.

وفيه عن الباقر (عليه السلام) قال: لمّا أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتّى صار موجاً ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلاً من زبد ثمّ دحى الأرض من تحته وهو قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً فأوّل بقعه خلقت من الأرض الكعبة ثمّ مدّت الأرض منها.

اقول: والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أنّ هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أنّ الأرض عنصر بسيط قديم، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أنّ الكعبة أوّل بيت (أي بقعة) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاُوليان.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فيه آيات بيّنات: أنّه سئل ما هذه الآيات البيّنات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل.

٣٩٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، ولعلّ ذكره هذه الاُمور من باب العدّ وإن لم تشتمل على بعضها الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبد الصمد، قال: طلب أبوجعفر أن يشتري من أهل مكّة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أباعبدالله (عليه السلام) فقال له: أنّي سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا في ذلك فقد غمّني غمّاً شديداً. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): لم يغمّك ذلك وحجّتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتجّ عليهم؟ فقال: بكتاب الله فقال: في أيّ موضع؟ فقال: قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة وقد أخبرك الله: أنّ أوّل بيت وضع للناس هو الّذي ببكّة فإنّ كانوا هم تولّوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قديماً فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبوجعفر فاحتجّ عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.

وفيه عن الحسن بن عليّ بن النعمان قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا. فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً. فقال له عليّ بن يقطين: يا أميرالمؤمنين إنّي أكتب إلى موسى بن جعفر عليهما السلام لاُخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟

فقال ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبوالحسن (عليه السلام): فلا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بدّ منه. فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها.

فلمّا أتي الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أباالحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم فكتب إليه أن(١) اوضح لهم شيئاً فأرضاهم.

____________________

(١) أرضخ (خ).

٣٩٤

أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، وكأنّ أباجعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثمّ تمّ الأمر للمهديّ.

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ولله على الناس حجّ البيت إلخ، يعني به الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره وقد فسّر الحجّ فيه بمعناه اللغويّ وهو القصد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): ومن كفر قال: ترك.

أقول: ورواه الشيخ في التهذيب. وقد عرفت أنّ الكفر ذو مراتب كالإيمان وأنّ المراد منه الكفر بالفروع.

وفي الكافي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والكفر في الرواية بمعنى الردّ، والآية تحتمله. فالكفر فيها بمعناه اللغويّ وهو الستر على الحقّ. وعلى حسب الموارد تتعيّن له مصاديق.

( بحث تاريخي)

من المتواتر المقطوع به أنّ الّذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربّع تقريباً وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسّر عليها الرياح ولا تضرّها مهما اشتدّت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتّى جدّدها العمالقة ثمّ بنو جرهم (أو بالعكس كما مرّ في الرواية عن أميرالمؤمنين (عليه السلام)).

ثمّ لمّا آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (القرن الثاني قبل الهجرة) هدمها وبناها فأحكم بنائها، وسقّفها بخشب الدوم وجذوع النخل

٣٩٥

وبنى إلى جانبها دار الندوة، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه، ثمّ قسّم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، وفتحوا عليه أبواب دورهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها وكان الّذي يبنيها يا قوم الروميّ، ويساعده عليه نجّار مصريّ، ولمّا انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أنّ أيّها يختصّ بشرف وضعه فرأوا أن يحكّموا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسنّه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه. فطلب رداءً ووضع عليه الحجر، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتّى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقيّ أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتّى تسلّط عبدالله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكّة، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت واُحرقت كسوتها وبعض أخشابها، ثمّ انكشف عنها لموت يزيد فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجصّ النقيّ من اليمن، وبناها به، وأدخل الحجر في البيت، وألصق الباب بالأرض، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولمّا فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً، وكساها بالديباج، وكان فراغه من بنائها ١٧ رجب سنه ٦٤ هجريّة.

ثمّ لمّا تولّى عبدالملك بن مروان الخلافة بعث الحجّاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتّى غلبه فقتله، ودخل البيت فأخبر عبدالملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأوّل، فهدم الحجّاج من جانبها

٣٩٦

الشماليّ ستّة أذرع وشبراً، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ورفع الباب الشرقيّ وسدّ الغربيّ ثمّ كبس أرضها بالحجارة الّتي فضلت منها.

ولمّا تولّى السلطان سليمان العثمانيّ الملك سنة ستّين وتسعمائة غير سقفها، ولمّا تولّى السلطان أحمد العثمانيّ سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولمّا حدث السيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشماليّة والشرقيّة والغربيّة فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها، ولم يزل على ذلك حتّى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مائة وخمس وسبعين هجريّة قمريّة وسنة ألف وثلاثمائه وخمس وثلاثين هجريّة شمسيّة.

شكل الكعبة: شكل الكعبة مربّع تقريباً وهي مبنيّة بالحجارة الزرقاء الصلبة ويبلغ ارتفاعها ستّة عشر متراً، وقد كانت في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً (عليه السلام) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام الّتي كانت على الكعبة وكسرها.

وطول الضلع الّذي فيه الميزاب والّذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات، وطول الضلع الّذي فيه الباب والّذي قبالته اثنا عشر متراً، والباب على ارتفاع مترين من الأرض، وفي الركن الّذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر ونصف من أرض المطاف، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضيّ الشكل غير منتظم، لونه أسود ضارب إلى الحمرة، وفيه نقط حمراء، وتعاريج صفراء، وهي أثر لحام القطع الّتي كانت تكسّرت منه، قطره نحو ثلاثين سانتي متراً.

وتسمّى زوايا الكعبة من قديم أيّامها بالأركان فيسمّى الشماليّ بالركن العراقيّ، والغربيّ بالشاميّ والجنوبيّ باليمانيّ، والشرقيّ الّذي فيه الحجر الأسود بالأسود، وتسمّى المسافة الّتي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إيّاه في دعائه واستغاثته. وأمّا الميزاب على الحائط الشماليّ ويسمّى ميزاب الرحمة فممّا

٣٩٧

أحدثه الحجّاج بن يوسف ثمّ غيّره السلطان سليمان سنة ٩٥٤ إلى ميزاب من الفضّة ثمّ أبدله السلطان أحمد سنة ١٠٢١ بآخر من فضّة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخلّلها نقوش ذهبيّة. ثمّ أرسل السلطان عبدالمجيد من آل عثمان سنة ١٢٧٣ ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.

وقبالة الميزاب حائط قوسيّ يسمّى بالحطيم، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشماليّة والغربيّة، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات، ويبلغ ارتفاعه متراً، وسمكه متراً ونصف متر، وهو مبطّن بالرخام المنقوش، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً.

والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمّى بحجر إسماعيل، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها: ويقال: إنّ هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.

وأمّا تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم، وما للبيت من السنن والتشريفات فلا يهمّنا التعرّض له.

كسوة الكعبة: قد تقدّم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصّة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكّة أنّ هاجر علّق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.

وأمّا كسوة البيت نفسه فيقال: إنّ أوّل من كساها تبّع أبوبكر أسعد كساها بالبرود المطرّزة بأسلاك الفضّة، وتبعه خلفاؤه ثمّ أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، وكلّما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصّى، ووضع قصّى على العرب رفادة لكسوتها سنويّاً واستمرّ ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.

٣٩٨

وقد كساها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالثياب اليمانيّة، وكان على ذلك حتّى إذا حجّ الخليفة العبّاسيّ المهديّ شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، وذكروا أنّه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، وإبدالها بكسوة واحدة كلّ سنة، وجرى العمل على ذلك حتّى اليوم، وللكعبة كسوة من داخل، وأوّل من كساها من داخل اُمّ العبّاس بن عبدالمطّلب لنذر نذرته في ابنها العبّاس.

منزلة الكعبة: كانت الكعبة مقدّسة معظّمة عند الاُمم المختلفة فكانت الهنود يعظّمونها، ويقولون: إنّ روح (سيفا) وهو الاُقنوم الثالث عندهم حلّت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيّين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظّمة(١) وربّما قيل: إنّه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.

وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح هرمز حلّت فيها، وربّما حجّوا إليها زائرين.

وكانت اليهود يعظّمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل، وبأيديهما الأزلام. ومنها صورتا العذراء والمسيح. ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضاً كاليهود.

وكانت العرب أيضاً تعظّمها كلّ التعظيم، وتعدّها بيتاً لله تعالى، وكانوا يحجّون إليها من كلّ جهة وهم يعدّون البيت بناءً لإبراهيم والحجّ من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

ولاية الكعبة: كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثمّ لولده من بعده حتّى

____________________

(١) البيت المعظّمة هي: ١ - الكعبة ٢ - مارس على رأس جبل باصفهان ٣ - مندوسان ببلاد الهند ٤ - نوبهار بمدينة بلخ ٥ - بيت غمدان بمدينة صنعاء ٦ - كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ٧ - بيت بأعالي بلاد الصين.

٣٩٩

تغلّبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثمّ ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، وقد كانوا ينزلون أسفل مكّة كما أنّ جرهم كانت تنزل أعلى مكّة وفيهم ملوكهم.

ثمّ كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولّوها نحواً من ثلاثمائة سنة، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثمّ لمّا نشأت ولد إسماعيل، وكثروا وصاروا ذوي قوّة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكّة، ومقدّم الإسماعيليّين يومئذ عمرو بن لحى، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكّة وتولّى أمر البيت، وهو الّذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها، وأوّل صنم وضعه عليها هو (هبل) حمله معه من الشام إلى مكّة ووضعه عليها ثمّ أتبعه بغيره حتّى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب، وهجرت الحنيفيّة.

وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهميّ يخاطب عمرو بن لحى.

يا عمرو إنّك قد أحدثت آلهة

شتّى بمكّة حول البيت أنصاباً

وكان للبيـت ربّ واحد أبداً

فقد جعلت له في الناس أرباباً

لتعـرّفنّ بأنّ الله في مـهل

سيصطفي دونكم للبيت حجّاباً

وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعيّ فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصيّ بن كلاب، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمّى أباغبشان الخزاعيّ فباعه أبوغبشان من قصيّ بن كلاب ببعير وزقّ خمر، وفي ذلك يضرب المثل السائر (أخسر من صفقة أبي غبشان).

فانتقلت الولاية إلى قريش وجدّد قصّي بناء البيت كما قدّمناه وكان الأمر على ذلك حتّى فتح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الّذي

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432