الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89908 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

 ويذكر (ريشار) أيضاً في وصف وحي الإله (ماهوم) الّذي سمعت وصفه فيقول: (إنّ السحرة سخّروا واحداً من الجنّ وجعلوه في بطن ذلك الصنم، وكان ذلك الجنّيّ يرعد ويعربد أوّلاً ثمّ يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له).

وأمثال هذه الطرف توجد كثيراً في كتبهم المؤلّفة في سني الحروب الصليبيّة أو المتعرّضة لشؤونها وإن كان ربّما أبهتت القاري وأدهشته تعجّباً وحيرة، وكاد أن لا يصدّق صحّة النقل حين يحدّث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة.

وثالثاً: أن يتحقّق الباحث المتدبّر كيفيّة طروق التطوّر على الدعوة المسيحيّة في مسيرها خلال القرون الماضية حتّى اليوم فإنّ العقائد الوثنيّة وردت فيها بخفيّ دبيبها أوّلاً بالغلوّ في حقّ المسيح (عليه السلام) ثمّ تمكّنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث: الأب والابن والروح، والقول بالصلب والفداء. واستلزم ذلك القول برفض العمل والاكتفاء بالاعتقاد.

وكان ذلك أوّلاً في صورة الدين وكان يعقد أزمّتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم وصلاة وتعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات حتّى ظهرت البروتستانت وقامت القوانين الرسميّة مقام الهرج والمرج في السياسات مدوّنة على أساس الحرّيّة في ما وراء القانون (الأحكام العمليّة المضمونة الإجراء) فلم يزل التعليم الدينيّ يضعف أثراً ويخيب سعياً حتّى انثلمت تدريجاً أركان الأخلاق والفضائل الإنسانيّة عقيب شيوع المادّيّة الّتي استتبعتها الحرّيّة التامّة.

وظهرت الشيوعيّة والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض القول باللاهوت والاخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينيّة فانهدمت الإنسانيّة المعنويّة وورثتها الحيوانيّة المادّيّة مؤلّفة من سبعيّة وبهيميّة، وانتهضت الدنيا تسير إليها سيراً حثيثاً.

وأمّا النهضات الدينيّة الّتي عمّت الدنيا أخيراً فليست إلّا ملاعب سياسيّة يلعب

٣٦١

بها رجال السياسة للتوسّل بها إلى غاياتهم وأمانيّهم فالسياسة الفنّية اليوم تدقّ كلّ باب وتدبّ كلّ جحر وثقب.

ذكر الدكتور (جوزف شيتلر) اُستاد العلوم الدينيّة في كلّيّة لوتران في شيكاكو: (أنّ النهضة الدينيّة الجديدة في إمريكا ليست إلّا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون الحياة في المدنيّة الحديثة وتثبيت أنّ المدنيّة الحاضرة لا تضادّ الدين.

وإنّ فيه خطر أن يعتقد عامّة الناس أنّهم متديّنون بالدين الحقّ بما في أيديهم من نتايج المدنيّة الحاضرة حتّى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقيّة الدينيّة لو ظهرت يوماً بينهم فلا يلتفتوا إليها)(١) .

وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بإمريكا أنّ التعليمات الدينيّة بإمريكا ليست إلّا سلوة كاذبة للقلوب لأنّها لو كانت نهضة حيّة حقيقيّة دينيّة لكان من الواجب أن تتّكئ على تعليمات عميقة واقعيّة(٢) .

فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل. بدأت الدعوة باسم إحياء الدين (العقيدة) والأخلاق (الملكات الحسنة) والشريعة (الأعمال) واختتمت بإلغاء الجميع ووضع التمتّع الحيوانيّ موضعها.

وليس ذلك كلّه إلّا تطوّر الانحراف الأولىّ الواقع من بولس المدعوّ بالقدّيس، بولس الحواريّ وأعضاده فلو أنّهم سمّوا هذه المدنيّة الحاضرة الّتي تعترف الدنيا بأنّها تهدّد الإنسانيّة بالفناء (مدنيّة بولسيّة) كان أحقّ بالتصديق من قولهم: إنّ المسيح هو قائد الحضارة والمدنيّة الحاضرة وحامل لوائها.

____________________

(١) المجلة الامريكية (لايف) الجزء المؤرخ ٦ فوريه ١٩٥٦.

(٢) كسابقه.

٣٦٢

( بحث روائي)

 في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية: إنّ عيسى لم يقل للناس: إنّي خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون الله، ولكن قال لهم: كونوا ربّانيّين أي علماء.

أقول: وقد مرّ في البيان السابق ما يؤيّده من القرائن. وقوله: لم يقل للناس: إنّي خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنّه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل.

وفيه أيضاً في قوله تعالى: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً الآية، قال: كان قوم يعبدون الملائكة، وقوم من النصارى زعموا أنّ عيسى ربّ، واليهود قالوا: عزير ابن الله فقال الله: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً.

أقول: وقد تقدّم بيانه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: قال أبورافع القرظيّ حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودعاهم إلى الإسلام: أ تريد يا محمّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصرانيّ، يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منّا يا محمّد؟

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني. فأنزل الله من قولهما: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

وفيه أيضاً وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أنّ رجلاً قال: يا رسول

٣٦٣

الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيّكم، واعرفوا الحقّ لأهله فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

أقول: وقد روى في سبب النزول غير هذين السببين. والظاهر أنّ ذلك من الاستنباط النظريّ، وقد تقدّم تفصيل الكلام في ذلك. ومن الممكن أن تجتمع عدّة أسباب في نزول آية والله أعلم.

٣٦٤

( سورة آل عمران الآيات ٨١ - ٨٥)

وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى‏ ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِنَ الشّاهِدِينَ( ٨١) فَمَن تَوَلّى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ( ٨٣) قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْناَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَالنّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ٨٤) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها. والسياق سياق واحد مستمرّ جار على وحدته وكأنّه تعالى لمّا بيّن أنّ أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حمّلوه من علم الكتاب والدين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيّين وإنكار آيات نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونفى أن يكون نبيّ من الأنبياء كموسى وعيسى عليهما السلام يأمرهم باتّخاذ نفسه أو غيره من النبيّين والملائكة أرباباً على ما هو صريح قول النصارى وظاهر قول اليهود.

شدّد النكير عليهم في ذلك بأنّه كيف يتأتّى ذلك وقد أخذ الله الميثاق من

٣٦٥

النبيّين أن يؤمنوا بكلّ نبيّ يأتيهم ممّن تقدّمهم أو تأخّر عنهم وينصروه، وذلك بتصديق كلّ منهم لمن تقدّم عليه من الأنبياء وتبشيره بمن تأخّر عنه كتصديق عيسى (عليه السلام) لموسى وشريعته وتبشيره بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من اُممهم وأشهدهم عليهم. وبين أنّ هذا هو الإسلام الّذي شمل حكمه من في السماوات والأرض.

ثمّ أمر نبيّه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، وأن يسلم لله سبحانه، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن اُمّته وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن اُمّته بواسطته كما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ) الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيّين كما يدلّ عليه قوله تعالى: ثمّ جاءكم رسول الخ كما أنّه تعالى أخذه من النبيّين على ما يدلّ عليه قوله: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري الخ وقوله بعد: قل آمنّا بالله إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيّين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذاً من غيرهم أيضاً بواسطتهم.

وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: ميثاق النبيّين الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد. وبعبارة اُخرى يجوز أن يراد بالنبيّين المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلّا أنّ سياق قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين في اتّصاله بهذه الآية يؤيّد كون المراد بالنبيّين هم الّذين أخذ منهم الميثاق فإنّ وحدة السياق تعطي أنّ المراد: أنّ النبيّين بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوّة لا يتأتّى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتّى لهم ذلك؟ وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيّين الّذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالانسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيّين.

وقوله: لما آتيتكم من كتاب وحكمة القراءة المشهورة وهي قراءة غير حمزة

٣٦٦

بفتح اللام والتخفيف في (لما) وعليها فما موصولة وآتيتكم - وقرأ آتيناكم - صلته. والضمير محذوف، يدلّ عليه قوله: من كتاب وحكمة. والموصول مبتدأ خبره قوله: لتؤمننّ به الخ واللام في لما ابتدائيّة، وفي لتؤمننّ به لام القسم. والمجموع بيان للميثاق المأخوذ. والمعنى: للّذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتّة.

ويمكن أن يكون ماشرطيّة وجزاؤها قوله لتؤمننّ به، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه وهذا أحسن لأنّ دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر والمعنى عليه أسلس وأوضح، والشرط في موارد المواثيق أعرف. وأمّا قراءة كسر اللام في (لما) فاللام فيها للتعليل وما موصولة والترجيح لقراءة الفتح.

والخطاب في قوله: آتيتكم وقوله: جاءكم وإن كان بحسب النظر البدؤيّ للنبيّين لكنّ قوله بعد: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قرينة على أنّ الخطاب للنبيّين واُممهم جميعاً أي إنّ الخطاب مختصّ بهم وحكمه شامل لهم ولاُممهم جميعاً فعلى الاُمم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيّين أن يؤمنوا وينصروا.

وظاهر قوله: ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم التراخي الزمانيّ أي أنّ على النبيّ السابق أن يؤمن وينصر النبيّ اللاحق. وأمّا ما يظهر من قوله: قل آمنّا بالله إلخ أنّ الميثاق مأخوذ من كلّ من السابق واللاحق للآخر، وأنّ على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنّما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيئ إن شاء الله العزيز.

وقوله: لتؤمنّن به ولتنصرنّه الضمير الأوّل وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبيّ لنبيّ آخر. قال تعالى:( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الآية ) البقرة - ٢٨٥ لكنّ الظاهر من قوله: قل آمنّا بالله وبما اُنزل علينا وما اُنزل على إبراهيم إلخ رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول.

٣٦٧

والمعنى لتؤمنّن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرنّ الرسول الّذي جاءكم مصدّقاً لما معكم.

قوله تعالى: ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا ) الاستفهام للتقرير، والإقرار معروف، والإصر هو العهد، وهو مفعول أخذتم، وأخذ العهد يستلزم مأخوذاً منه غير الآخذ وليس إلّا اُمم الأنبياء. فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق، وأخذتم على ذلكم عهدي من اُممكم قالوا: أقررنا.

وقيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: وأخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم، ويؤيّده قوله: قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدّى الأنبياء إلى غيرهم من الاُمم ويبعّده قوله: قال فاشهدوا لظهور الشهادة في أنّها على الغير. وكذا قوله بعد: قل آمنّا بالله الخ من غير أن يقول: قل آمنت فإنّ ظاهره أنّه إيمان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل نفسه واُمّته إلّا أن يقال: إنّ اشتراك الاُمم مع الأنبياء إنّما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: فاشهدوا وقوله: قل آمنّا بالله من غير أن يفيد قوله: وأخذتم في ذلك شيئاً.

قوله تعالى: ( قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ظاهر الشهادة كما مرّ أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء واُممهم جميعاً، ويشهد لذلك كما مرّ قوله: قل آمنّا بالله ويشهد لذلك السياق أيضاً فإنّ الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما أنّها تحتجّ عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى عليهما السلام وغيرهما كما يدلّ عليه قوله تعالى: أ فغير دين الله يبغون وغيره.

وربّما يقال: إنّ المراد بقوله: فأشهدوا شهادة بعض الأنبياء على بعض كما

٣٦٨

ربّما يقال: إنّ المخاطبين بقوله فاشهدوا هم الملائكة دون الأنبياء.

والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أنّ اللفظ غير ظاهر في شئ منهما بغير قرينة، وقد عرفت أنّ القرينة على الخلاف.

ومن اللطائف الواقعة في الآية أنّ الميثاق مأخوذ من النبيّين للرسل على ما يعطيه قوله: وإذ أخذنا من النبيّين - إلى قوله -: ثمّ جاءكم رسول وقد مرّ في ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة الآية ) البقرة - ٢١٣ الفرق بين النبوّة والرسالة وأنّ الرسول أخصّ مصداقاً من النبيّ.

فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذاً من مقام النبوّة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.

وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أنّ المحصّل من معنى الآية أنّ الميثاق مأخوذ من عامّة النبيّين أن يصدّق بعضهم بعضاً ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض أي إنّ الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء وهو ظاهر.

فمحصّل معنى الآية على ما مرّ: أنّ الله أخذ الميثاق من الأنبياء واُممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدّق لما معهم ليؤمننّ بما آتاهم وينصرنّ الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخّر للمتقدّم والمعاصر وبشارة من المتقدّم بالمتأخّر وتوصية الاُمّة ومن الاُمّة الإيمان والتصديق والنصرة. ولازم ذلك وحدة الدين الإلهيّ.

وما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية أنّ الله أخذ الميثاق من النبيّين أن يصدّقوا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبشّروا أممهم بمبعثه فهو وإن كان صحيحاً إلّا أنّه أمر يدلّ عليه سياق الآيات كما مرّت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوّة والعناد والعتوّ مع صريح الحقّ.

قوله تعالى: ( فمن تولّى بعد ذلك ) الخ تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور والمعنى واضح.

٣٦٩

قوله تعالى: ( أ فغير دين الله يبغون وله أسلم ) تفريع على الآية السابقة المتضمّنة لأخذ ميثاق النبيّين. والمعنى فإذا كان دين الله واحداً وهو الّذي اُخذ عليه الميثاق من عامّة النبيّين واُممهم وكان على المتقدّم من الأنبياء والاُمم أن يبشّروا بالرسول المتأخّر ويؤمنوا بما عنده ويصدّقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنّهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الّذي هو دين الله الوحيد؟ ولذلك لا يصدّقونك ولا يتمسّكون بدين الإسلام مع أنّه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنّه الدين الّذي يبتني على الفطرة وكذلك يجب أن يكون الدين والدليل عليه أنّ من في السماوات والأرض من اُولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.

قوله تعالى: ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ) هذا الإسلام الّذي يعمّ من في السماوات والأرض ومنهم أهل الكتاب الّذين يذكر أنّهم غير مسلمين ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضيّ والتحقّق لا محالة وهو التسليم التكوينيّ لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبوديّ ويؤيّده أو يدلّ عليه قوله طوعاً وكرهاً.

وعلى هذا فقوله: وله أسلم من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبّب وتقدير الكلام: أفغير الإسلام يبغون؟ وهو دين الله لأنّ من في السماوات والأرض مسلمون له منقادون لأمره فإن رضوا به كان انقيادهم طوعاً من أنفسهم وإن كرهوا ما شائه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرهاً من غير طوع.

ومن هنا يظهر أنّ الواو في قوله: طوعاً وكرهاً للتقسيم وأنّ المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم ممّا يحبّونه وكراهتهم لما أراده فيهم ممّا لا يحبّونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.

قوله تعالى: ( وإليه يرجعون ) هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام ديناً فإنّ مرجعهم إلى الله مولاهم الحقّ لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم.

قوله تعالى: ( قل آمنّا بالله وما أنزل علينا ) أمر النبيّ أن يجري على الميثاق

٣٧٠

الّذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من اُمّته: آمنّا بالله وما اُنزل علينا الخ.

وهذا من الشواهد على أنّ الميثاق مأخوذ من الأنبياء واُممهم جميعاً كما مرّت الإشارة إليه آنفاً.

قوله تعالى: ( وما اُنزل على إبراهيم وإسماعيل ) إلى آخر الآية هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم ولا تخلو الآية من إشعار بأنّ المراد بالأسباط هم الأنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس وأيّوب وغيرهم.

وقوله والنبيّون من ربّهم تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحاً ومن دونهما. ثمّ جمع الجميع بقوله: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

قوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) الخ نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ. وفيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق.

( بحث روائي)

في المجمع عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): إنّ الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ونعته، ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لم يبعث الله نبيّاً آدم فمن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمّد لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثمّ تلا: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة الآية.

اقول: والروايتان تفسّران الآية بمجموع ما يدلّ عليه اللفظ والسياق كما مرّ.

وفي المجمع والجوامع عن الصادق (عليه السلام) في الآية معناه وإذ أخذ الله ميثاق

٣٧١

اُمم النبيّين كلّ اُمّة بتصديق نبيّها، والعمل بما جائهم به فما وفوا به وتركوا كثيراً من شرائعهم وحرّفوا كثيراً.

أقول: وما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء واُممهم جميعاً.

وفي المجمع أيضاً عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: أأقررتم وأخذتم الآية، قال: أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على اُممكم. قالوا أي قال الأنبياء واُممهم: أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به. قال الله: فاشهدوا بذلك على اُممكم، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى اُممكم.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله: قال فاشهدوا يقول: فاشهدوا على اُممكم بذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم فمن تولّى عنك يا محمّد بعد هذا العهد من جميع الاُمم فاُولئك هم الفاسقون، هم العاصون في الكفر.

أقول: وقد مرّ توجيه معنى الرواية.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادق (عليه السلام) قال لهم في الذرّ: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري أي عهدي قالوا: أقررنا. قال الله للملائكة فاشهدوا.

أقول: لفظ الآية لا يأباه وإن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدّم.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً الآية أخرج أحمد والطبرانيّ في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول: يا ربّ أنا الصلاة فيقول: إنّك على خير، وتجئ الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول: إنّك على خير، ثمّ يجئ الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنّك على خير، ثمّ تجئ الأعمال كلّ ذلك يقول الله: إنّك على خير، بك اليوم آخذ وبك اُعطي. قال الله في كتابه: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

٣٧٢

وفي التوحيد وتفسير العيّاشيّ: في الآية عن الصادق (عليه السلام): هو توحيدهم لله عزّوجلّ.

أقول: التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الّذي قدّمناه في البيان.

ولو اُريد به مجرّد نفي الشريك كان الطوع والكره هما الدلالة الاختياريّة والاضطراريّة.

واعلم: أنّ هيهنا عدّة روايات اُخر رواها العيّاشيّ والقمّيّ في تفسيريهما وغيرهما في معنى قوله: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين الآية، وفيها لتؤمننّ برسول الله، ولتنصرنّ أميرالمؤمنين عليهما الصلاة والسلام، وظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمننّ به إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضمير ولتنصرنّه إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) من غير دليل يدلّ عليه من اللفظ.

لكن في ما رواه العيّاشيّ ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لقد تسمّوا باسم ما سمّي الله به أحداً إلّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما جاء تأويله. قلت: جعلت فداك متى يجئ تأويله؟ قال: إذا جاء جمع الله أمامه النبيّين والمؤمنين حتّى ينصروه وهو قول الله:وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة - إلى قوله -: وأنا معكم من الشاهدين.

وبذلك يهون أمر الإشكال فإنّه إنّما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير وأمّا التأويل فقد عرفت أنّه ليس من قبيل المعنى، ولا مرتبطاً باللفظ في ما تقدّم من تفسير قوله:( هو الّذي أنزل عليك الكتاب الآية ) آل عمران - ٧

٣٧٣

( سورة آل عمران الآيات ٨٦ - ٩١)

كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَدُوا أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( ٨٦) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ( ٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ( ٨٨) إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٨٩) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضّالّونَ( ٩٠) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْ‏ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى‏ بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٩١)

( بيان)

الآيات ممكنة الارتباط بما تقدّمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن أن تستقلّ بنفسها وتنفصل عمّا تقدّمها وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ) الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار والمراد به استحالة الهداية، وقد ختم الآية بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين. وقد مرّ في نظير هذه الجملة أنّ الوصف مشعر بالعلّيّة أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.

وأمّا قوله: وشهدوا أنّ الرسول حقّ فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أنّ آيات النبوّة الّتي عندهم منطبقة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

٣٧٤

كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات وإن كان المراد بهم أهل الردّة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقراراً صوريّاً مبنيّاً على الجهالة والحميّة ونحوهما بل إقراراً مستنداً إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات.

وكيف كان الأمر فانضمام قوله: وشهدوا الخ إلى أوّل الكلام يفيد أنّ المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحقّ وتمام الحجّة فيكون كفراً عن عناد مع الحقّ ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحقّ والظلم الّذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.

وقد قيل في قوله: وشهدوا الخ إنّه معطوف على قوله: إيمانهم لما فيه من معنى الفعل والتقدير كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا الخ أو أنّ الواو للحال والجملة حالية بتقدير (قد).

قوله تعالى: ( اُولئك جزائهم أنّ عليهم لعنة الله - إلى قوله -ولا هم ينظرون ) قد مرّ الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى:( اُولئك يلعنم الله ويلعنهم اللاعنون ) البقرة - ١٥٩.

قوله تعالى: ( إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) الخ أي دخلوا في الصلاح والمراد به كون توبتهم نصوحاً تغسل عنهم درن الكفر وتطهّر باطنهم بالإيمان وأمّا الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان ممّا يتفرّع على ذلك ويلزمه غير أنّه ليس بمقوّم لهذه التوبة ولا ركناً منها ولا في الآية دلالة عليه.

وفي قوله: فإنّ الله غفور رحيم وضع العلّة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه فإنّ الله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً ) إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أوّلاً: كيف يهدي الله قوماً كفروا الخ وهو من قبيل التعليل بتطبيق الكلّيّ العامّ على الفرد الخاصّ. والمعنى أنّ الّذي يكفر بعد ظهور الحقّ

٣٧٥

وتمام الحجّة عليه، ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنّما هو أحد رجلين إمّا كافر يكفر ثمّ يزيد كفراً فيطغي، ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لأنّه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، ولا مطمع في اهتدائه.

وإمّا كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنّة إذ لم يرجع إلى ربّه ولا بدل لذلك حتّى يفتدي به، ولا شفيع ولا ناصر حتّى يشفع له أو ينصره.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: واُولئك هم الضالّون باشتماله على اسميّة الجملة، والإشارة البعيدة في اُولئك، وضمير الفصل، والاسميّة واللام في الخبر يدلّ على تأكّد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.

وكذا يظهر أنّ المراد بقوله: وما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الّذين هم الناصرون يوم القيامة فإنّ الإتيان بصيغة الجمع يدلّ على تحقّق ناصرين يوم القيامة كما مرّ نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: فما لنا من شافعين الآية في مبحث الشفاعة (آية ٤٨ من سورة البقرة) فارجع إليه.

وقد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل، والبدل إنّما يكون من فائت يفوت الإنسان، وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحلّ محلّها في الآخرة.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: وماتوا وهم كفّار في معنى: وفاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله:( وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّار اُولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ) النساء - ١٨ فإنّ المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة وانقطاع الدنيا وتفوت عند ذلك التوبة.

والملء في قوله: مل ء الأرض ذهباً مقدار ما يسعه الإناء من شئ فاعتبر الأرض إناءً يملاءه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييليّة والاستعارة بالكناية.

٣٧٦

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى: كيف يهدي الله قوماً الآية: قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المجدّر بن زياد البلويّ غدراً وهرب وارتدّ عن الإسلام ولحق بمكّة ثمّ ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية - إلى قوله -: إلّا الّذين تابوا فحملها إليه رجل من قومه فقال: إنّي لأعلم أنّك لصدوق، ورسول الله أصدق منك، وانّ الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه. عن مجاهد والسدّي وهو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عبّاس: أنّ الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثمّ لحق بقريش فكان بمكّة ثمّ بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: كيف يهدى الله قوماً إلى آخر القصّة.

اقول: وروى القصّة بطرق اُخرى وفيها اختلافات، ومن جملتها ما رواه عن عكرمة: أنّها نزلت في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثمّ كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك الآيات.

ومنها ما في المجمع في قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ أزدادوا الآية أنّها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لمّا رجع الحارث قالوا نقيم بمكّة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلمّا افتتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافراً. إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار الآية. نسبها إلى بعضهم.

٣٧٧

وقيل إنّها نزلت في أهل الكتاب. وقيل: إنّ قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً الآية نزلت في اليهود خاصّة حيث آمنوا ثمّ كفروا بعيسى ثمّ ازدادوا كفراً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وعليهما وقيل غير ذلك.

والتأمّل في هذه الأقوال والروايات يعطي أنّ جميعها من الأنظار الاجتهاديّة من سلف المفسّرين كما تنبّه له بعضهم.

وأمّا الرواية عن الصادق (عليه السلام) فمرسلة ضعيفة. على أنّ من الممكن أن يتعدّد أسباب النزول في آية أو آيات. والله أعلم.

٣٧٨

( سورة آل عمران الآيات ٩٢ - ٩٥)

لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْ‏ءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ( ٩٢) كُلّ الطّعامِ كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلّا مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى‏ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ( ٩٣) فَمَنِ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ( ٩٤) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُوا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ٩٥)

( بيان)

ارتباط الآية الاُولى بما قبلها غير واضح، ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات الّتي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، وقد عرفت نظير هذا الاشكال في قوله تعالى:( قل يا أهل الكتاب تعالوا الآية ) آل عمران - ٦٤ من حيث تاريخ النزول.

وربّما يقال: إنّ الخطاب في الآية موجّه إلى بني إسرائيل، ولا يزال موجّهاً إليهم. ومحصّل المعنى بعد ما مرّ من توبيخهم ولومهم على حبّ الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله: أنّكم كاذبون في دعواكم أنّكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنّكم أهل البرّ والتقوى، فإنّكم تحبّون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها، ولا تنفقون منها إلّا الرديّ الّذي لا تتعلّق به القلوب ممّا لا يعبأ بزواله وفقده مع أنّه لا ينال البرّ إلّا بإنفاق الإنسان ما يحبّه من كرائم ماله، ولا يفوت الله سبحانه حفظه. هذا محصّل ما قيل، وفيه تمحّل ظاهر.

وأمّا بقيّة الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى: ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) النيل هو الوصول والبرّ

٣٧٩

هو التوسّع في فعل الخير. قال الراغب: البرّ خلاف البحر، وتصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسّع في فعل الخير، انتهى.

ومراده من فعل الخير أعمّ ممّا هو فعل القلب كالاعتقاد الحقّ والنيّة الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى. وقد اشتمل على القسمين جميعاً قوله تعالى:( ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس الآية ) البقرة - ١٧٧.

ومن انضمام الآية إلى قوله: لن تنالوا البرّ الآية يتبيّن أنّ المراد بها أنّ إنفاق المال على حبّه أحد أركان البرّ الّتي لا يتمّ إلّا باجتماعها نعم جعل الانفاق غاية لنيل البرّ لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلّق القلبيّ بما جمعه من المال وعدّه كأنّه جزء من نفسه إذا فقده فكأنّه فقد جزء من حياة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال الّتي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إنّ البرّ هو الإنفاق ممّا تحبّون وكأنّ هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتّى تأكل ونحو ذلك لكنّه محجوج بما مرّ من الآية.

ويتبيّن من آية البقرة المذكورة أيضاً أنّ المراد بالبرّ هو ظاهر معناه اللغويّ أعني التوسّع في الخير فإنّها بيّنته بمجامع الخيرات الاعتقاديّة والعمليّة ومنه يظهر ما في قول بعضهم: أنّ المراد بالبرّ هو إحسان الله وإنعامه وما في قول آخرين: أنّ المراد به الجنّة.

قوله تعالى: ( وما تنفقوا من شئ فإنّ الله به عليم ) تطبيب لنفوس المنفقين أنّ ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدوراً من غير أجر فإنّ الله الّذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432