الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89906 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

قوله تعالى: ( كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ) الطعام كلّ ما يطعم ويتغذّى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البرّ خاصّة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق. والحلّ مقابل الحرمة وكأنّه مأخوذ من الحلّ مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الاطلاق. وإسرائيل هو يعقوب النبيّ (عليه السلام) سمّي به لأنّه كان مجاهداً في الله مظفّراً به، ويقول أهل الكتاب: إنّ معناه المظفّر الغالب على الله سبحانه لأنّه صارع الله في موضع يسمّى فنيئيل فغلبه (على ما في التوراة) وهو ممّا يكذّبه القرآن ويحيله العقل.

وقوله: إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفاً. وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بكان في الجملة الاُولى. والمعنى لم يحرّم الله قبل نزول التوراة شيئاً من الطعام على بني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه.

وفي قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين دلالة على أنّهم كانوا ينكرون ذلك أعني حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، ويدلّ عليه أنّهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مرّ ذكره في ذيل قوله تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦. فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم ) النساء - ١٦٠.

وكذا يدلّ قوله تعالى بعد: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً أهم كانوا يجعلون ما ينكرونه (من حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنّما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحلّ بالحرمة) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ربّه أنّ دينه هو ملّة إبراهيم الحنيف، وهي ملّة فطريّة لا إفراط فيها ولا تفريط. كيف؟ وهم كانوا يقولون: إنّ إبراهيم كان يهوديّاً على شريعة التوراة فكيف يمكن أن تشتمل ملّته على حلّيّة ما حرّمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟

فقد تبيّن أنّ الآية إنّما تتعرّض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم

٣٨١

تعرّض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى:( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) المائدة - ٦٤ وقوله:( وقالوا لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة ) البقرة - ٨٠ وقوله:( وقالوا قلوبنا غلف ) البقرة - ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا قوله تعالى بعد عدّة آيات:( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال -يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات ) آل عمران - ١٠٠.

وبالجملة يظهر من ذلك أنّها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.

وحاصلها: أنّه كيف يكون النبيّ صادقاً وهو يخبر بالنسخ، وأنّ الله إنّما حرّم الطيّبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحلّ سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرّمات محرّمة دائماً من غير إمكان تغيير لحكم الله. وحاصل الجواب من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتعليم من الله تعالى: أنّ التوراة ناطقة بكون كلّ الطعام حلّاً قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل - إلى قوله -: إن كنتم صادقين.

فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنّكم المفترون على الله الكذب وأنّكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: فمن افترى - إلى قوله - ظالمون.

وقد تبيّن بذلك أنّي صادق في دعوتي فاتّبعوا ملّتي وهي ملّة إبراهيم حنيفاً. وذلك قوله تعالى: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم إلى آخر الآية.

وللمفسّرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنّهم على أيّ حال ذكروا أنّ الآية متعرّضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مرّ.

وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أنّ الآية متعرّضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ. وتقريرها: أنّ اليهود كأنّها قالت: إذا كنت يا محمّد على ملّة إبراهيم والنبيّين بعده - كما تدّعي - فكيف تستحلّ ما كان محرّماً عليه وعليهم

٣٨٢

كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرّماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدّعي أنّك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخصّ إبراهيم بالذكر فتقول: إنّي أولى به.

ومحصّل الجواب: أنّ كلّ الطعام كان حلّاً لعامّة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكنّ بني إسرائيل حرّموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي. والسيّئات كما قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠ فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده. ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنّهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيّئات فكانت سبباً للتحريم، وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزّل التوراة لغواً زائداً من الكلام لبداهة أنّ يعقوب كان قبل التوراة زماناً فلا وجه لذكره.

هذا محصّل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلّا أنّه قال: إنّ المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعاً من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهليّة تفعل ذلك على ما قصّه الله تعالى في كتابه.

وقد ارتكبا جميعاً من التكلّف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه. وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزّل التوراة على أنّه متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل مع كونه متعلّقاً بقوله: كان حلّاً في صدر الكلام وقوله: إلّا ما حرّم استثناء معترض.

ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهّما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أنّ إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزاً على حدّ قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنّه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا

٣٨٣

أنّ القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة (في غير هذا المورد الّذي يدّعيانه) مع أنّ بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعاً، ومن جملتها نفس هذه الآية: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبّر عنهم أوّلاً ببني إسرائيل ثمّ أردف ذلك بقوله: إسرائيل. مع أنّ المقام من أوضح مقامات الالتباس. وناهيك في ذلك أنّ الجمّ الغفير من المفسّرين فهموا منه أنّ المراد به يعقوب لا بنوه.

ومن أحسن الشواهد على أنّ المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكّر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى: ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) أي حتّى يتبيّن أنّ أيّ الفريقين على الحقّ. أنا أم أنتم. وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قوله تعالى: ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاُولئك هم الظالمون ) ظاهره أنّه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله. وتعريض لليهود والكلام يجري مجري الكناية.

وأمّا احتمال كون الكلام من تتمّة كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك وعلى هذا أيضاً يجري الكلام مجري الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى:( إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ - ٢٤ والمشار إليه بذلك هو البيان والحجّة.

وإنّما قال: من بعد ذلك مع أنّ المفتري ظالم على أيّ حال لأنّ الظلم لا يتحقّق قبل التبيّن كما قيل والقصر في قوله: فاُولئك هم الظالمون قصر قلب على أيّ حال.

قوله تعالى: ( قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً ) الخ أي فإذا كان الحقّ معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتّبعوا ديني واعترفوا بحلّيّه لحم الإبل وغيره

٣٨٤

من الطيّبات الّتي أحلّها الله، وإنّما كان حرّمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.

فقوله: فاتّبعوا الخ كالكناية عن اتّباع دينه، وإنّما لم يذكره بعينه لأنّهم كانوا معترفين بملّة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفاً فطريّاً لأنّ الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيّبات من اللحوم وسائر الرزق.

( بحث روائي)

في الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): أنّ إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيّج عليه وجع الخاصّرة فحرّم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزّل التوراة فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأكله.

أقول: وما يقرب منه مرويّ من طرق أهل السنّة والجماعة.

وقوله في الرواية: لم يحرّمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه. والمعنى لم يحرّمه موسى ولم يأكله. ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل. ويظهر من التاج أنّ التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.

٣٨٥

( سورة آل عمران الآيات ٩٦ - ٩٧)

إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( ٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ( ٩٧)

( بيان)

الآيتان جواب عن شبهة اُخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد مرّ في تفسير قوله تعالى:( فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية ) البقرة - ١٤٤ أنّ تحويل القبلة كان من الاُمور الهامّة الّتي كانت له تأثيرات عميقة مادّيّة ومعنويّة في حياة أهل الكتاب - وخاصّة اليهود - مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

والمستفاد من الآية - إنّ أوّل بيت الخ - أنّهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملّة إبراهيم فيكون محصّل الشبهة: أنّ الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملّة إبراهيم مع أنّ الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلّا القول بحكم نسخي في ملّة إبراهيم الحقّة مع كون النسخ محالاً باطلاً؟

والجواب: أنّ الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شكّ ووضعها للعبادة، وفيها آيات بيّنات تدلّ على ذلك كمقام إبراهيم. وأمّا بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: ( إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة ) إلى آخر الآية، البيت

٣٨٦

معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسّل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدىً للعالمين وغير ذلك ويشعر به التعبير عن الكعبة بالّذي ببكّة فإنّ فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك. وأمّا كونه أوّل بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

والمراد ببكّة أرض البيت سمّيت بكّة لازدحام الناس فيها، وربّما قيل إنّ بكّة هي مكّة وإنّه من تبديل الميم باءً كما في قولهم: لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم. وقيل: المسجد. وقيل المطاف.

والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيويّة والاُخرويّة إلّا أنّ ظاهر مقابلتها مع قوله: هدىً للعالمين أنّ المراد بها إفاضة البركات الدنيويّة وعمدتها وفور الأرزاق وتوفّر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحجّ إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤل المعنى إلى ما يتضمّنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم:( ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون ) إبراهيم - ٣٧.

وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم وإيصاله إيّاهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين.

وقد دلّ القرآن على أنّ الحجّ شرّع أوّل ما شرّع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه. قال تعالى:( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) البقرة - ١٢٥ وقال: خطاباً لإبراهيم:( وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ) الحجّ - ٢٧. والآية كما ترى تدلّ

٣٨٧

على أنّ هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامّة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل.

ودلّ أيضاً على أنّ هذا الشعار الإلهيّ كان على استقراره ومعروفيّته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام:( إنّي اُريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك ) القصص - ٢٧ فقد أراد بالحجّ السنة وليس إلّا لكون السنين تعدّ بالحجّ لتكرّرها بتكرّره.

وكذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شئ كثير يدلّ على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية (راجع سورة إبراهيم).

وكان عرب الجاهليّة يعظّمونه ويأتون بالحجّ بعنوان أنّه من شرع إبراهيم، وقد ذكر التاريخ أنّ سائر الناس أيضاً كانوا يعظّمونه. وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجّه إلى الله سبحانه وذكره. وأمّا بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح وقد ملا ذكره مشارق الأرض ومغاربها، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.

فهو هدىً بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهنيّ إلى الانقطاع التامّ الّذي لا يمسّه إلّا المطهّرون من عباد الله المخلصين.

على أنّه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيويّة الّتي هي وحدة الكلمة وائتلاف الاُمّة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتّتة.

ومن هنا يظهرأوّلا: أنّه هدىً إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنّه هدىً بجميع مراتب الهداية. فالهداية مطلقة.

وثانياً: أنّه هدى للعالمين لا لعالم خاصّ وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.

٣٨٨

قوله تعالى: ( فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ) الآيات وإن وصفت بالبيّنات وأفاد ذلك تخصّصاً ما في الموصوف إلّا أنّها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره الّتي بها يتقدّم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلّا الإتيان ببيان واضح، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال. وهذا من الشواهد على كون قوله: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس إلى آخر الآية بياناً لقوله: آيات بيّنات فالآيات هي: مقام إبراهيم، وتقرير الأمن فيه، وإيجاب حجّه على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أنّ ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، والأمن لمن دخله، وحجّه لمن استطاع إليه سبيلاً. وفي ذلك إرجاع قوله: ومن دخله سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أنّ وإرجاع قوله: ولله على الناس وهي جملة إنشائيّة إلى الخبريّة ثمّ عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أنّ فيها أيضاً وكلّ ذلك ممّا لا يساعد عليه الكلام البتّة.

وإنّما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم الخ كلّ لغرض خاصّ من إخبار أو إنشاء حكم ثمّ تتبيّن بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أنّ نتّبعه.

قوله تعالى: ( مقام إبراهيم ) مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم، وهو الحجر الّذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وقد استفاض النقل بأنّ الحجر مدفون في المكان الّذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافّة المطاف حيال الملتزم وقد أشار إليه أبو طالب عمّ النبيّ في قصيدته اللاميّة:

وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وربّما يفهم من قوله: مقام إبراهيم أنّ البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.

٣٨٩

ويمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم والأمن والحجّ ثمّ وضع قوله: ومن دخله وقوله: ولله على الناس وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائيّ موضع الخبرين، وهذا من أعاجيب اُسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، ويحفظ الجهتين كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله:( كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله ) البقرة - ٢٨٥ وكما مرّ في قوله تعالى:( ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية ) البقرة - ٢٥٨ وقوله:( أو كالّذي مرّ على قرية الآية ) البقرة - ٢٥٩ وقد بيّنا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، وكما في قوله تعالى:( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء - ٨٩ وكما في قوله تعالى:( ولكنّ البرّ من آمن بالله الآية ) البقرة - ١٧٧ حيث وضع صاحب البرّ مكان البرّ وكما في قوله تعالى:( ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع الآية ) البقرة - ١٧١ ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا فوزان قوله: فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم - إلى قوله - عن العالمين في التردّد بين الإنشاء والإخبار وزان قوله:( واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لاُولي الألباب وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب ) ص - ٤٤.

و هذا الّذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدليّة، وإن كان بدلاً ولا بدّ فالاُولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلاً، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالّتين على بدلين محذوفين. والتقدير فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحجّ المستطيع للبيت.

ولا ريب في كون كلّ واحد من هذه الاُمور آية بيّنة دالّة بوقوعها على الله سبحانه مذكّرة لمقامه إذ ليست الآية إلّا العلامة الدالّة على الشئ بوجه. وأيّ علامة دالّة عليه تعالى مذكّرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن

٣٩٠

حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الاُلوف بعد الاُلوف من الناس تتكرّر بتكرّر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيّام وأمّا كون كلّ آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً للسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدلّ عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً وقال تعالى:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون ) الشعراء - ١٢٨ إلى غير ذلك من الآيات.

ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسّرين على توجيه كون المقام آية خارقة، وكون الأمن والحجّ مذكورين لغير غرض بيان الآية.

وكذا إصرار آخرين على أنّ المراد بالآيات البيّنات اُمور اُخر من خواصّ الكعبة (وقد أغمضنا عن ذكرها، ومن أرادها فليراجع بعض مطوّلات التفاسير) فإنّ ذلك مبنيّ على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة، ولا دليل على ذلك كما مرّ.

فالحقّ أنّ قوله: ومن دخله كان آمناً: مسوق لبيان حكم تشريعيّ لا خاصّة تكوينيّة غير أنّ الظاهر أن يكون الجملة إخباريّة يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربّما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحقّ محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهليّة ويتّصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).

وأمّا كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأنّ الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه وخاصّة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى:( أو لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم ) العنكبوت - ٦٧ لا يدلّ على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلّا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) وينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.

٣٩١

وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكيّ في قوله تعالى:( ربّ اجعل هذا البلد آمناً ) إبراهيم - ٣٥ وقوله:( ربّ اجعل هذا بلداً آمناً ) البقرة - ١٢٦ حيث سأل الأمن لبلد مكّة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبيّاً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان.

قوله تعالى: ( ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ) الحجّ بالكسر (وقرء بالفتح) هو القصد ثمّ اختصّ استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيّنه الشرع. وقوله: سبيلاً تمييز عن قوله: استطاع.

والآية تتضمّن تشريع الحجّ إمضائاً لما شرّع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم:( وأذن في الناس بالحجّ الآية ) الحجّ - ٢٧ ومن هنا يظهر أنّ وزان قوله:( ولله على الناس ) إلخ وزان قوله تعالى: ومن دخله كان آمناً في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاءً على نحو الإمضاء لكنّ الأظهر من السياق هو الأوّل كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين ) الكفر هيهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة فالمراد بالكفر الترك. والكلام من قبيل وضع المسبّب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أنّ قوله: فإنّ الله غنيّ إلخ من قبيل وضع العلّة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحجّ فلا يضرّ الله شيئاً فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

( بحث روائي)

عن ابن شهرآشوب عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: إنّ أوّل بيت وضع للناس الآية: فقال له رجل أهو أوّل بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبيّ عن عليّ

٣٩٢

بن أبي طالب في قوله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة قال: كانت البيوت قبله ولكنّه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله.

أقول: ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله، والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي العلل عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكّة، والقرية مكّة.

وفيه أيضاً عنه (عليه السلام): إنّما سمّيت بكّة بكّة لأنّ الناس يبكّون فيها.

أقول: يعني يزدحمون.

وفيه عن الباقر (عليه السلام): إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء، المرأة تصلّي بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنّما يكره ذلك في سائر البلدان.

وفيه عن الباقر (عليه السلام) قال: لمّا أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتّى صار موجاً ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلاً من زبد ثمّ دحى الأرض من تحته وهو قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً فأوّل بقعه خلقت من الأرض الكعبة ثمّ مدّت الأرض منها.

اقول: والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أنّ هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أنّ الأرض عنصر بسيط قديم، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أنّ الكعبة أوّل بيت (أي بقعة) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاُوليان.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فيه آيات بيّنات: أنّه سئل ما هذه الآيات البيّنات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل.

٣٩٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، ولعلّ ذكره هذه الاُمور من باب العدّ وإن لم تشتمل على بعضها الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبد الصمد، قال: طلب أبوجعفر أن يشتري من أهل مكّة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أباعبدالله (عليه السلام) فقال له: أنّي سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا في ذلك فقد غمّني غمّاً شديداً. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): لم يغمّك ذلك وحجّتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتجّ عليهم؟ فقال: بكتاب الله فقال: في أيّ موضع؟ فقال: قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة وقد أخبرك الله: أنّ أوّل بيت وضع للناس هو الّذي ببكّة فإنّ كانوا هم تولّوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قديماً فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبوجعفر فاحتجّ عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.

وفيه عن الحسن بن عليّ بن النعمان قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا. فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً. فقال له عليّ بن يقطين: يا أميرالمؤمنين إنّي أكتب إلى موسى بن جعفر عليهما السلام لاُخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟

فقال ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبوالحسن (عليه السلام): فلا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بدّ منه. فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها.

فلمّا أتي الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أباالحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم فكتب إليه أن(١) اوضح لهم شيئاً فأرضاهم.

____________________

(١) أرضخ (خ).

٣٩٤

أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، وكأنّ أباجعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثمّ تمّ الأمر للمهديّ.

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ولله على الناس حجّ البيت إلخ، يعني به الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره وقد فسّر الحجّ فيه بمعناه اللغويّ وهو القصد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): ومن كفر قال: ترك.

أقول: ورواه الشيخ في التهذيب. وقد عرفت أنّ الكفر ذو مراتب كالإيمان وأنّ المراد منه الكفر بالفروع.

وفي الكافي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والكفر في الرواية بمعنى الردّ، والآية تحتمله. فالكفر فيها بمعناه اللغويّ وهو الستر على الحقّ. وعلى حسب الموارد تتعيّن له مصاديق.

( بحث تاريخي)

من المتواتر المقطوع به أنّ الّذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربّع تقريباً وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسّر عليها الرياح ولا تضرّها مهما اشتدّت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتّى جدّدها العمالقة ثمّ بنو جرهم (أو بالعكس كما مرّ في الرواية عن أميرالمؤمنين (عليه السلام)).

ثمّ لمّا آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (القرن الثاني قبل الهجرة) هدمها وبناها فأحكم بنائها، وسقّفها بخشب الدوم وجذوع النخل

٣٩٥

وبنى إلى جانبها دار الندوة، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه، ثمّ قسّم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، وفتحوا عليه أبواب دورهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها وكان الّذي يبنيها يا قوم الروميّ، ويساعده عليه نجّار مصريّ، ولمّا انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أنّ أيّها يختصّ بشرف وضعه فرأوا أن يحكّموا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسنّه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه. فطلب رداءً ووضع عليه الحجر، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتّى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقيّ أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتّى تسلّط عبدالله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكّة، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت واُحرقت كسوتها وبعض أخشابها، ثمّ انكشف عنها لموت يزيد فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجصّ النقيّ من اليمن، وبناها به، وأدخل الحجر في البيت، وألصق الباب بالأرض، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولمّا فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً، وكساها بالديباج، وكان فراغه من بنائها ١٧ رجب سنه ٦٤ هجريّة.

ثمّ لمّا تولّى عبدالملك بن مروان الخلافة بعث الحجّاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتّى غلبه فقتله، ودخل البيت فأخبر عبدالملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأوّل، فهدم الحجّاج من جانبها

٣٩٦

الشماليّ ستّة أذرع وشبراً، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ورفع الباب الشرقيّ وسدّ الغربيّ ثمّ كبس أرضها بالحجارة الّتي فضلت منها.

ولمّا تولّى السلطان سليمان العثمانيّ الملك سنة ستّين وتسعمائة غير سقفها، ولمّا تولّى السلطان أحمد العثمانيّ سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولمّا حدث السيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشماليّة والشرقيّة والغربيّة فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها، ولم يزل على ذلك حتّى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مائة وخمس وسبعين هجريّة قمريّة وسنة ألف وثلاثمائه وخمس وثلاثين هجريّة شمسيّة.

شكل الكعبة: شكل الكعبة مربّع تقريباً وهي مبنيّة بالحجارة الزرقاء الصلبة ويبلغ ارتفاعها ستّة عشر متراً، وقد كانت في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً (عليه السلام) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام الّتي كانت على الكعبة وكسرها.

وطول الضلع الّذي فيه الميزاب والّذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات، وطول الضلع الّذي فيه الباب والّذي قبالته اثنا عشر متراً، والباب على ارتفاع مترين من الأرض، وفي الركن الّذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر ونصف من أرض المطاف، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضيّ الشكل غير منتظم، لونه أسود ضارب إلى الحمرة، وفيه نقط حمراء، وتعاريج صفراء، وهي أثر لحام القطع الّتي كانت تكسّرت منه، قطره نحو ثلاثين سانتي متراً.

وتسمّى زوايا الكعبة من قديم أيّامها بالأركان فيسمّى الشماليّ بالركن العراقيّ، والغربيّ بالشاميّ والجنوبيّ باليمانيّ، والشرقيّ الّذي فيه الحجر الأسود بالأسود، وتسمّى المسافة الّتي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إيّاه في دعائه واستغاثته. وأمّا الميزاب على الحائط الشماليّ ويسمّى ميزاب الرحمة فممّا

٣٩٧

أحدثه الحجّاج بن يوسف ثمّ غيّره السلطان سليمان سنة ٩٥٤ إلى ميزاب من الفضّة ثمّ أبدله السلطان أحمد سنة ١٠٢١ بآخر من فضّة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخلّلها نقوش ذهبيّة. ثمّ أرسل السلطان عبدالمجيد من آل عثمان سنة ١٢٧٣ ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.

وقبالة الميزاب حائط قوسيّ يسمّى بالحطيم، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشماليّة والغربيّة، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات، ويبلغ ارتفاعه متراً، وسمكه متراً ونصف متر، وهو مبطّن بالرخام المنقوش، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً.

والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمّى بحجر إسماعيل، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها: ويقال: إنّ هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.

وأمّا تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم، وما للبيت من السنن والتشريفات فلا يهمّنا التعرّض له.

كسوة الكعبة: قد تقدّم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصّة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكّة أنّ هاجر علّق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.

وأمّا كسوة البيت نفسه فيقال: إنّ أوّل من كساها تبّع أبوبكر أسعد كساها بالبرود المطرّزة بأسلاك الفضّة، وتبعه خلفاؤه ثمّ أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، وكلّما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصّى، ووضع قصّى على العرب رفادة لكسوتها سنويّاً واستمرّ ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.

٣٩٨

وقد كساها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالثياب اليمانيّة، وكان على ذلك حتّى إذا حجّ الخليفة العبّاسيّ المهديّ شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، وذكروا أنّه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، وإبدالها بكسوة واحدة كلّ سنة، وجرى العمل على ذلك حتّى اليوم، وللكعبة كسوة من داخل، وأوّل من كساها من داخل اُمّ العبّاس بن عبدالمطّلب لنذر نذرته في ابنها العبّاس.

منزلة الكعبة: كانت الكعبة مقدّسة معظّمة عند الاُمم المختلفة فكانت الهنود يعظّمونها، ويقولون: إنّ روح (سيفا) وهو الاُقنوم الثالث عندهم حلّت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيّين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظّمة(١) وربّما قيل: إنّه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.

وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح هرمز حلّت فيها، وربّما حجّوا إليها زائرين.

وكانت اليهود يعظّمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل، وبأيديهما الأزلام. ومنها صورتا العذراء والمسيح. ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضاً كاليهود.

وكانت العرب أيضاً تعظّمها كلّ التعظيم، وتعدّها بيتاً لله تعالى، وكانوا يحجّون إليها من كلّ جهة وهم يعدّون البيت بناءً لإبراهيم والحجّ من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

ولاية الكعبة: كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثمّ لولده من بعده حتّى

____________________

(١) البيت المعظّمة هي: ١ - الكعبة ٢ - مارس على رأس جبل باصفهان ٣ - مندوسان ببلاد الهند ٤ - نوبهار بمدينة بلخ ٥ - بيت غمدان بمدينة صنعاء ٦ - كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ٧ - بيت بأعالي بلاد الصين.

٣٩٩

تغلّبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثمّ ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، وقد كانوا ينزلون أسفل مكّة كما أنّ جرهم كانت تنزل أعلى مكّة وفيهم ملوكهم.

ثمّ كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولّوها نحواً من ثلاثمائة سنة، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثمّ لمّا نشأت ولد إسماعيل، وكثروا وصاروا ذوي قوّة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكّة، ومقدّم الإسماعيليّين يومئذ عمرو بن لحى، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكّة وتولّى أمر البيت، وهو الّذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها، وأوّل صنم وضعه عليها هو (هبل) حمله معه من الشام إلى مكّة ووضعه عليها ثمّ أتبعه بغيره حتّى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب، وهجرت الحنيفيّة.

وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهميّ يخاطب عمرو بن لحى.

يا عمرو إنّك قد أحدثت آلهة

شتّى بمكّة حول البيت أنصاباً

وكان للبيـت ربّ واحد أبداً

فقد جعلت له في الناس أرباباً

لتعـرّفنّ بأنّ الله في مـهل

سيصطفي دونكم للبيت حجّاباً

وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعيّ فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصيّ بن كلاب، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمّى أباغبشان الخزاعيّ فباعه أبوغبشان من قصيّ بن كلاب ببعير وزقّ خمر، وفي ذلك يضرب المثل السائر (أخسر من صفقة أبي غبشان).

فانتقلت الولاية إلى قريش وجدّد قصّي بناء البيت كما قدّمناه وكان الأمر على ذلك حتّى فتح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الّذي

٤٠٠

عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعا بمعجن في جوار الكعبة ثمّ دفن في محله الّذي يعرف به الآن وهو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة. وأخبار الكعبة وما يتعلّق بها من المعاهد الدينيّة كثيرد طويلة الّذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبّر في آيات الحج والكعبة. ومن خواص هذا البيت الّذي بارك الله فيه وجعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الإسلام.

٤٠١

( سورة آل عمران الآيات ٩٨ - ١٠١)

قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى‏ مَا تَعْمَلُونَ( ٩٨) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ( ٩٩) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ( ١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى‏ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( ١٠١)

( بيان)

الآيات كما ترى باتّصال السياق تدلّ على أنّ أهل الكتاب (فريق منهم وهم اليهود أو فريق من اليهود) كانوا يكفرون بآيات الله، ويصدّون المؤمنين عن سبيل الله بارائته إيّاهم عوجاً غير مستقيم، وتمثيل سبيل الضلال المعوّج المنحرف سبيلاً لله وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحقّ باطلاً، والباطل الّذي يدعونهم إليه حقّاً، والآيات السابقة تدلّ على ماانحرفوا فيه من إنكار حلّيّة كلّ الطعام قبل التوراة، وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس، فهذه الآيات متمّمات للآيات السابقة المتعرّضة لحلّ الطعام قبل التوراة، وكون الكعبة أوّل بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم، وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين، وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان وتدوم هدايتهم.

٤٠٢

وقد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطيّ في لباب النقول على ما قيل(١) : أنّ شاش بن قيس - وكان يهوديّاً - مرّ على نفر من الأوس والخزرج يتحدّثون فغاظه ما رأى من تألّفهم بعد العداوة فأمر شابّاً معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتّى وثب رجلان: أوس بن قرظيّ من الأوس، وجبّار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان، وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فجاء حتّى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا فأنزل الله في أوس وجبّار: يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب الآية، وفي شاش بن قيس: يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله الآية.

والرواية مختصرة مستخرجة ممّا رواه في الدرّ المنثور عن زيد بن أسلم مفصّلاً وروي ما يقرب منها عن ابن عبّاس وغيره.

وكيف كان الآيات أقرب انطباقاً على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر. على أنّ الآيات يذكر الكفر والإيمان، وشهادة اليهود، وتلاوة آيات الله على المؤمنين، ونحو ذلك. وكلّ ذلك لما ذكرناه أنسب. ويؤيّد ذلك قوله تعالى:( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم الآية ) البقرة - ١٠٩ فالحقّ كما ذكرنا أنّ الآيات متمّمة لسابقتها.

قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ) إلخ المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلّيّة الطعام قبل نزول التوراة، وكون القبلة هي الكعبة في الإسلام.

قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله - إلى قوله -عوجاً ) الصدّ الصرف. وقوله: تبغونها أي تطلبون السبيل. وقوله: عوجاً: العوج المعطوف المحرّف، والمراد طلب سبيل الله معوّجاً من غير استقامة.

قوله تعالى: ( وأنتم شهداء ) أي تعلمون أنّ الطعام كان حلّا قبل نزول التوراة وأنّ من خصائص النبوّة تحويل القبلة إلى الكعبة. وقد حاذى في عدّهم شهداء في

____________________

(١) المجلد الرابع من تفسير المنار: سورة آل عمران - تفسير الاية.

٤٠٣

هذه الآية ما في الآية السابقة من عدّ نفسه تعالى شهيداً على فعلهم وكفرهم، وفيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقّيّة ما ينكرونه والله شهيد علي إنكارهم وكفرهم. ولمّا نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيّل به الآية السابقة أعني قوله: والله شهيد على ما تعملون من قوله في ذيل هذه الآية: وما الله بغافل عمّا تعملون فأفاد ذلك أنّهم شهداء على الحقّيّة، والله سبحانه شهيد على الجميع.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا - إلى قوله -:وفيكم رسوله ) المراد بالفريق كما تقدّم هم اليهود أو فريق منهم. وقوله تعالى: وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحقّ الّذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله والتدبّر فيها ثمّ الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلّة التدبّر أو الرجوع ابتداءً إلى رسوله الّذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيد منكم واستظهار الحقّ بالرجوع إليه ثمّ إبطال شبه ألقتها اليهود إليكم والتمسّك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

فالمراد بالكفر في قوله: وكيف تكفرون الكفر بعد الإيمان. وقوله: وأنتم تتلى عليكم كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله، وقوله: ويعتصم بالله بمنزلة الكبرى الكلّيّة لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الّذي لا يختلف ولا يتخلّف أمره، ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلّوا.

وفي تحقيق الماضي في قوله: فقد هدى مع حذف الفاعل دلالة على تحقّق الفعل من غير شعور بفاعله.

ويتبيّن من الآية أنّ الكتاب والسنّة كافيان في الدلالة على كلّ حقّ يمكن أن يضلّ فيه.

٤٠٤

( سورة آل عمران الآيات ١٠٢ - ١١٠)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ( ١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى‏ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُم مِنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٠٣) وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ١٠٤) وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِمَا جَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّت وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ( ١٠٦) وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ١٠٧) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ( ١٠٨) وَللّهِ‏ِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ( ١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ( ١١٠)

( بيان)

الآيات من تتمّة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم، وأنّ عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلّوا ولا يسقطوا في حفر المهالك، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام، ولا تغيّر السياق السابق أعني أنّ التعرّض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات: لن يضرّوكم إلّا أذىّ الخ.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حق تقاته ) قد مرّ فيما مرّ أنّ التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنّباً وتحرّزاً من عذابه كما قال

٤٠٥

تعالى:( فاتّقوا النار الّتي وقودها الناس والحجارة ) البقرة - ٢٤. وذلك إنّما يتحقّق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى، والانتهاء عن نواهيه، والشكر لنعمه، والصبر عند بلائه. ويرجع الأخيران جميعاً إلى الشكر بمعنى وضع الشئ موضعه. وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع.

لكنّه إذا اُخذ التقوى حقّ التقوى الّذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبوديّة الّتي لا تشوبها إنّيّة وغفلة، وهي الطاعة من غير معصية، والشكر من غير كفر، والذكر من غير نسيان، وهو الإسلام الحقّ أعني الدرجة العليا من درجاته، وعلى هذا يرجع معنى قوله: ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون إلى نحو قولنا: ودوموا على هذه الحال (حقّ التقوى) حتّى تموتوا.

وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى:( فاتّقوا الله ما استطعتم ) التغابن - ١٦ فإنّ هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شئ ممّا تستطيعونه غير أنّ الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم. ولا ريب أنّ حقّ التقوى بالمعنى الّذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس فإنّ في هذا المسير الباطنيّ مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلّا العالمون ودقائق ولطائف لا يتنبّه لها إلّا المخلصون، فربّ مرحلة من مراحل التقوى لا يصدّق الفهم العاميّ بكونها ممّا تستطيعه النفس الإنسانيّة فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقّة خلّفوها وراء ظهورهم، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشقّ وأصعب.

فقوله: فاتّقوا الله ما استطعتم الآية كلام يتلقّاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على حسب ما يطبّقه كلّ فهم على ما يستطيعه صاحبه ثمّ يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله: اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون أنّ المراد أن يقعوا في صراط حقّ التقوى، ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه. وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الّذي لا يتمكّن منه إلّا الأوحديّون ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس. فيكون محصّل الآيتين: (اتّقوا الله حقّ تقاته - فاتّقوا الله

٤٠٦

ما استطعتم) أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حقّ التقوى ثمّ يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا. وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلّا أنّهم في مراحل مختلفة وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده. فهذا ما يعطيه التدبّر في معنى الآيتين.

ومنه يظهر: أنّ الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون، ولا أنّ الآية الأولى أعني قوله: اتّقوا الله حقّ تقاته الآية اُريد بها عين ما اُريد من قوله: فاتّقوا الله ما استطعتم الآية. بل الآية الاُولى تدعو إلى المقصد والثانية تبيّن كيفيّة السلوك.

قوله تعالى: ( ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون ) الموت من الاُمور التكوينيّة الّتي هي خارجة عن حومة اختيارنا، ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلّقان به وبأمثاله أمراً ونهياً تكوينيّين كقوله:( فقال لهم الله موتوا ) البقرة - ٢٤٣ وقوله:( أن يقول له كن فيكون ) يس - ٨٢ إلّا أنّه ربّما يجعل الأمر غير الاختياريّ مضافاً إلى أمر اختياريّ فيتركّبان بنحو وينسب المركّب إلى الاختيار فيتأتّى الأمر والنهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى:( فلا تكوننّ من الممترين ) البقرة - ١٤٧ وقوله:( ولا تكن مع الكافرين ) هود - ٤٢ وقوله:( وكونوا مع الصادقين ) التوبة - ١١٩ وغير ذلك. فإنّ أصل الكون لازم تكوينيّ للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنّه بارتباطه بأمر اختياريّ كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلاً يعدّ أمراً اختياريّاً فيؤمر به وينهى عنه أمراً ونهياً مولويّين.

وبالجملة النهى عن الموت إلّا مع الإسلام إنّما هو لمكان عدّه اختياريّاً ويرجع بالآخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الإسلام في جميع الحالات حتّى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات، فيكون الميّت مات في حال الإسلام.

قوله تعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ) ذكر سبحانه فيما مرّ من قوله: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم

٤٠٧

بالله الآية أنّ التمسّك بآيات الله وبرسوله (الكتاب والسنّة) اعتصام بالله مأمون معه المتمسّك المعتصم، مضمون له الهدى، والتمسّك بذيل الرسول تمسّك بذيل الكتاب فإنّ الكتاب هو الّذي يأمر بذلك في مثل قوله:( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر - ٧.

وقد بدّل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أنّ حبل الله هو الكتاب المنزل من عندالله، وهو الّذي يصل ما بين العبد والربّ ويربط السماء بالأرض. وإن شئت قلت: إنّ حبل الله هو القرآن والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد عرفت أنّ مآل الجميع واحد.

والقرآن وإن لم يدع إلّا إلى حقّ التقوى والإسلام الثابت لكنّ غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحقّ التقوى والموت علي الإسلام فإنّ الآية السابقة تتعرّض لحكم الفرد، وهذه الآية تتعرّض لحكم الجماعة المجتمعة والدّليل عليه قوله:( جميعاً ) وقوله:( ولا تتفرّقوا ) فالآيات تأمر المجتمع الإسلاميّ بالاعتصام بالكتاب والسنّة كما تأمر الفرد بذلك.

قوله تعالى: ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ) جملة إذ كنتم بيان لما ذكر من النعمة. وعليه يعطف قوله:( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) .

والأمر بذكر هذه النعمة مبنيّ على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل والأسباب، ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامّيّ المعمى، وحاشا التعليم الإلهيّ أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل الصالح ثمّ يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل.

لكن يجب أن لا يشتبه الأمر ولا يختلط الحال على المتدبّر الباحث، فالله سبحانه يعلّم الناس حقيقة سعادتهم، ويعلّم الوجه فيها ليتبصّروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض، وأنّ الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنّه الله ربّ العالمين و

٤٠٨

اعتصامهم بحبله لأنّه حبل الله ربّ العالمين كما يومي إليه ما في آخر الآيات من قوله: تلك آيات الله نتلوها عليك، الآيتان.

وبالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولاً، ولا يطيعوا أمراً إلّا عن علم بوجهه، ثمّ أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبيّن وجهه أنّه هو الله الّذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلّا ما أراده فيهم وتصرّف فيه منهم، وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلّغه رسوله وبيّن وجهه بأنّه رسول لا شأن له إلّا البلاغ، ثمّ يكلّمهم بحقائق المعارف، وبيان طرق السعادة، وبيّن الوجه العامّ في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف، وطرق السعادة فيتحقّقوا أصل التوحيد وليتأدّبوا بهذا الأدب الإلهيّ فيتسلّطوا على سبيل التفكّر الصحيح، ويعرفوا طريق التكلّم الحقّ فيكونوا أحياء بالعلم أحراراً من التقليد. ونتيجة ذلك أنّهم لو عرفوا وجه الأمر في شئ من المعارف الثابتة الدينيّة أو ما يلحق بها أخذوا به. ولو لم يعرفوا وقفوا عن الردّ ورجعوا نيله بالبحث والتدبّر من غير ردّ أو اعتراض بعد ثبوته.

وهذا غير أن يقال: إنّ الدين موضوع على أن لا يقبل شئ حتّى من الله ورسوله إلّا عن دليل فإنّ ذلك من أسفه الرأي وأردء القول. ومرجعه إلى أنّ الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإنّ ربوبيّته وملكه أصل كلّ دليل على وجوب التسليم ونفوذ الحكم. ورسالة رسوله هو الدليل على أنّ ما يؤدّيه عن الله سبحانه فافهم ذلك. أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيّته فيما يتصرّف فيه بربوبيّته وليس إلّا التناقض. والحاصل أنّ المسلك الإسلاميّ والطريق النبويّ ليس إلّا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلّدة المتسمّون بالناقدين.

ولعلّ الوجه في ذكر أنّ هذا المذكور نعمة (نعمة الله عليكم) هو الإشارة إلى ما ذكرناه أي إنّ الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتّحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة وحلاوة المحبّة والاُلفة والاُخوّة والإشراف على حفرة النار والتخلّص منها. وإنّما نذكّركم بهذا الدليل لا لأنّ علينا أن نؤيّد قولنا بما لولاه لم

٤٠٩

يكن حقّاً فإنّما قولنا حقّ سواء دللنا عليه أو لا بل لأن تعلموا أنّ ذلك نعمة منّا عليكم فتعرفوا أنّ في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم.

وما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله: إذ كنتم أعداء مبتن على أصل التجربة، والثاني وهو قوله: وكنتم على شفا حفرة على طريقة البيان العقليّ كما هو ظاهر.

وفي قوله: فأصبحتم بنعمته إخواناً تكرار للامتنان الّذي يدلّ عليه قوله: واذكروا نعمة الله عليكم. والمراد بالنعمة هو التأليف فالمراد بالاُخوّة الّتي توجده وتحقّقه هذه النعمة أيضاً تألّف القلوب فالاُخوّة ههنا حقيقة ادعائيّة.

ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله:( إنّما المؤمنون إخوة ) الآية: الحجرات - ١٠ من تشريع الاُخوّة بينهم فإنّ بين المؤمنين اُخوّة مشرّعة تتعلّق بها حقوق هامّة.

قوله تعالى: ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) شفا الحفرة طرفها الّذي يشرف على السقوط فيها من كان به.

والمراد من النار إن كان نار الآخرة فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنّهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلّا الموت الّذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان.

وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الّذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألّف قلوبهم وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات - وهو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة - فالمقصود أنّ المجتمع الّذي بني على تشتّت القلوب واختلاف المقاصد - والأهواء - ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلّة شتىّ تختلف باختلاف الميول الشخصيّة والتحكّمات الفرديّة اللاغية الّتي تهديهم إلى أشدّ الخلاف والاختلاف - يشرفهم إلى أردء التنازع، ويهدّدهم دائماً بالقتال والنزال، ويعدهم الفناء والزوال. وهي النار الّتي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة الّتي لا منجا ولا مخلص للساقط فيها.

٤١٠

فهؤلاء وهم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم، وهم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حياتهم قبل الإسلام إلّا في حال تهدّدهم الحروب والمقاتلات آناً بعد آن فلا أمن ولا راحة ولا فراغ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العامّ الّذي يعمّ المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك.

ثمّ لمّا اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله، ولاحت لهم آيات السعادة، و ذاقوا شيئاً من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكّرهم به الله من هنيئ النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.

ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرّد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان، ولا التجارب كالفرض والتقدير، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله: ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا الخ إلى حال من قبلهم فإنّ مآل حالهم بمرئى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم.

ثمّ نبّههم الله على خصوصيّة هذا البيان فقال: كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون.

قوله تعالى: ( ولتكن منكم اُمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) الخ التجربة القطعيّة تدلّ على أنّ المعلومات الّتي يهيّئها الإنسان لنفسه في حياته - ولا يهيّئ ولا يدّخر لنفسه إلّا ما ينتفع به - من أيّ طريق هيّأها وبأيّ وجه ادّخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل. ولا نشكّ أنّ العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوي بقوّته، ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه، ويفسد بفساده، وقد مثّل الله سبحانه حالهما في قوله:( البلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه والّذي خبث لا يخرج إلّا نكداً ) الآية: الأعراف - ٥٨.

٤١١

ولا نشكّ أنّ العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل الواقع المشهود أقوى معلّم يعلّم الإنسان.

وهذا الّذي ذكر هو الّذي يدعو المجتمع الصالح الّذي عندهم العلم النافع والعمل الصالح أن يتحفّظوا على معرفتهم وثقافتهم، وأن يردّوا المتخلّف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه، وأن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في مهبط الشرّ المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشرّ وينهوه عنه.

وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الّتي يذكرها الله في هذه الآية بقوله: يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

ومن هنا يظهر السرّ في تعبيره تعالى عن الخير والشرّ بالمعروف والمنكر فإنّ الكلام مبنيّ على ما في الآية السابقة من قوله: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا إلخ. ومن المعلوم أنّ المجتمع الّذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير، والمنكر فيه هو الشرّ، ولو لا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشرّ بالمعروف والمنكر كون الخير والشرّ معروفاً ومنكراً بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجيّ.

وأمّا قوله:( ولتكن منكم اُمّة) فقد قيل: إنّ( من ) للتبعيض بناءً على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائيّة.

وربّما قيل: إنّ( من ) بيانيّة والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح اُمّة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا: ليكن لي منك صديق أي كن صديقا لي. والظاهر أنّ المراد بكون( من ) بيانيّة كونها نشوئيّة ابتدائيّة.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ البحث في كون من تبعيضيّة أو بيانيّة لا يرجع إلى ثمرة محصّلة فإنّ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اُمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائيّة إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات

٤١٢

بعد حصول الغرض فلو فرضت الاُمّة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أنّ فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالأمر قائم بالبعض على أيّ حال، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك، وإن كان للكلّ كان أيضاً باعتبار البعض، وبعبارة اُخرى المسؤول بها الكلّ والمثاب بها البعض، ولذلك عقّبه بقوله: وأولئك هم المفلحون فالظاهر أنّ من تبعيضيّة، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إلى غيره إلّا بدليل.

واعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذوات أبحاث تفسيريّة طويلة عميقة سنتعرّض لها في موضع آخر يناسبها إنشاء الله تعالى. وكذا ما يتعلّق بها من الأبحاث العلميّة والنفسيّة والاجتماعيّة.

قوله تعالى: ( ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جائهم البيّنات ) لا يبعد أن يكون قوله: من بعد ما جائهم البيّنات متعلّقاً بقوله: واختلفوا فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرّق من حيث الاعتقاد، بالتفرّق الاختلاف والتشتّت من حيث الأبدان وقدّم التفرّق على الاختلاف لأنّه كالمقدّمة المؤدّية إليه لأنّ القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتّصلت عقائد بعضهم ببعض واتّحدت بالتماسّ والتفاعل، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرّقوا وانقطع بعضهم عن بعض أدّاهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك، ولم يلبثوا دون أن يستقلّ أفكارهم وآراؤهم بعضها عن بعض، وبرز فيهم الفرقة، وانشقّ عصا الوحدة فكأنّه تعالى يقول: ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا بالأبدان أوّلاً، وخرجوا من الجماعة، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد و الآراء أخيراً.

وقد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي. قال تعالى:( وما اختلف فيه إلا الّذين اوتوه إلّا من بعد ما جائتهم البيّنات بغياً بينهم ) البقرة - ٢١٣ مع أنّ ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروريّ بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أنّ ظهور هذا الاختلاف ضروريّ كذلك دفع الاجتماع لذلك، وردّه المختلفين إلى ساحة

٤١٣

الاتّحاد أيضاً ضروريّ فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة، وإعراض الاُمّة عن ذلك بغي منهم، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.

وقد أكّد القرآن الدعوة إلى الاتّحاد، وبالغ في النهي عن الاختلاف، وليس ذلك إلّا لما كان يتفرّس من أمر هذه الاُمّة أنّهم سيختلفون كالّذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك، وقد تقدّم مراراً أنّ من دأب القرآن أنّه إذا بالغ في التحذير عن شئ والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه، وهذا أمر أخبر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً كما أخبر به القرآن، وأنّ الاختلاف سيدبّ في اُمّته ثمّ يظهر في صورة الفرق المتنوّعة، وأنّ اُمّته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجئ الرواية في البحث الروائيّ.

وقد صدّق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنيّة فلم تلبث الاُمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دون أن تفرّقوا شذر مدر، واختلفوا في مذاهب شتّى بعضهم يكفّر بعضاً من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وكلّما رام أحد أن يوفّق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهبا ثالثاً.

والّذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أنّ أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الّذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنّك لو تدبّرت ما يذكره الله تعالى في حقّهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين وغيرها لرأيت عجباً، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولمّا ينقطع الوحي ثمّ لمّا توفّاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

ولم يلبث الناس دؤن أن وجدوا أنفسهم وقد تفرّقوا أيادي سبا، وباعدت بينهم شتّى المذاهب، واستعبدتهم حكومات التحكّم والاستبداد، وأبدلوا سعادة الحياة بشقاء الضلال والغيّ. والله المستعان، والمرجوّ من فضل الله أن يوفّقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البرائة إنشاء الله.

٤١٤

قوله تعالى: ( يوم تبيّض وجوه وتسودّ وجوه ) إلى آخر الآيتين. لمّا كان المقام مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة ممّا يوجب خسّة الانفعال والخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الّذي يكنّى به في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدلّ على ذلك قوله تعالى: فأمّا الّذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم.

وكذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه المكنىّ به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.

قوله تعالى: ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ ) الظرف متعلّق بقوله: يتلوها والمراد كون التلاوة تلاوة حقّ من غير أن يكون باطلاً شيطانيّاً. أو متعلّق بالآيات باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقرّ متعلّق بمقدّر. والمعنى أنّ هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين: الكافرين والشاكرين مصاحبة للحقّ من غير أن تجري على نحو الباطل والظلم، وهذا الوجه أوفق لما يتعقّبه من قوله: وما الله يريد ظلماً.

قوله تعالى: ( وما الله يريد ظلماً للعالمين ) تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد الاستغراق، وظاهر قوله: للعالمين وهو جمع محلّى باللام أن يفيد الاستغراق والمعنى على هذا أنّ الله لا يريد ظلماً أيّ ظلم فرض لجميع العالمين، وكافّة الجماعات وهو كذلك فإنّما التفرّق بين الناس أمر يعود أثره المشؤوم إلى جميع العالمين وكافّة الناس.

قوله تعالى: ( ولله ما في السماوات و ما في الأرض وإلى الله ترجع الاُمور ) لمّا ذكر أنّ الله لا يريد الظلم علّل ذلك بما يزول معه توهّم صدور الظلم فذكر أنّ الله تعالى يملك جميع الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرّف فيها كيف يشاء فلا يتصوّر في حقّه التصرّف فيما لا يملكه حتّى يكون ظلماً وتعدّياً.

على أنّ الشخص إنّما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكّن من رفعها إلّا بالتعدّي على ما لا يملكه، والله الغنيّ الّذي له ما في السماوات والأرض هذا ما قرره بعضهم لكنّه لا يلائم ظاهر الآية فإنّ هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون

٤١٥

ملكه والمذكور في الآية هو الملك دون الغنى، وكيف كان فملكه دليل أنّه تعالى ليس بظالم.

وهناك دليل آخر وهو أنّ مرجع جميع الاُمور أيّاً ما كانت إليه تعالى فليس لغيره تعالى من الاُمر شئ حتّى يسلبه الله عنه وينتزعه من يده ويجري فيه إرادة نفسه فيكون بذلك ظالماً، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله: وإلى الله ترجع الاُمور.

والوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبنيّ على أنّ كلّ شئ له تعالى والثاني مبنيّ على أنّ شيئاً من الاُمور ليس لغيره تعالى.

قوله تعالى: ( كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس ) المراد بإخراج الاُمّة للناس (والله أعلم) إظهارها لهم، ومزيّة هذه اللفظة (الاخراج) أنّ فيها إشعاراً بالحدوث والتكوّن قال تعالى:( الّذي أخرج المرعى ) الأعلى - ٤ والخطاب للمؤمنين فيكون قرينة على أنّ المراد بالناس عامة البشر والفعل أعني قوله: كنتم منسلخ عن الزمان. على ما قيل والامّة إنّما يطلق على الجماعة والفرد لكونهم ذوي هدف ومقصد يؤمّونه ويقصدونه، وذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل ذكر الكلّ بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.

فمعنى الآية أنّكم معاشر المسلمين خير اُمّة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنّكم على الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن المعلوم أنّ انبساط هذا التشريف على جميع الاُمّة لكون البعض متصفين بحقيقة الإيمان والقيام بحقّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا محصّل ما ذكروه في المقام.

والظاهر (والله أعلم) أنّ قوله: كنتم غير منسلخ عن الزمان، والآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، والمراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق فيه في مقابل الكفر به على ما يدلّ عليه قوله قبل: أكفرتم بعد إيمانكم الآية، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضاً فيؤل المعنى إلى أنّكم معاشر اُمّة الإسلام كنتم في أوّل ما تكونتم وظهرتم للناس خير اُمّة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن

٤١٦

المنكر وتعتصمون بحبل الله متّفقين متّحدين كنفس واحدة، ولو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضاً لكان خيراً لهم لكنّهم اختلفوا منهم اُمّة مؤمنون وأكثرهم فاسقون.

وأعلم أنّ في الآيات موارد من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ومن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد وبالعكس وفيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرّر لفظ الجلالة في عدّة مواضع والنكتة في الجميع ظاهرة للمتأمّل.

( بحث روائي)

في المعاني وتفسير العيّاشيّ عن أبي بصير قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: اتّقوا الله حقّ تقاته قال: يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

وفي الدرّ المنثور أخرج الحاكم وابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اتّقوا الله حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى.

وفيه أخرج الخطيب عن أنس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا يتّقي الله عبد حقّ تقاته حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

أقول: قد مرّ في البيان المتقدّم كيفيّة استفادة معنى الحديثين الأوّلين من الآية، وأمّا الحديث الثالث فإنّما هو تفسير بلازم المعنى. وهو ظاهر.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال: سألت عليّ بن أبي طالب عن قوله: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته قال: والله ما عمل بها غير بيت رسول الله نحن ذكرناه فلا ننساه، ونحن شكرناه فلن نكفره، ونحن أطعناه فلم نعصه. فلمّا نزلت هذه الآية قال الصحابة لا نطيق ذلك فأنزل الله: فاتّقوا الله ما استطعتم قال وكيع: ما أطقتم الحديث.

٤١٧

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي بصير قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله: اتّقوا الله حقّ تقاته. قال: منسوخة. قلت: وما نسختها؟ قال: قول الله: فاتّقوا الله ما استطعتم.

اقول: ويستفاد من رواية وكيع أنّ المراد بالنسخ في رواية العيّاشيّ بيان مراتب التقوى. وأمّا النسخ بمعناه المصطلح كما نقل عن بعض المفسّرين فهو معنى يردّه ظاهر الكتاب.

وفي المجمع عن الصادق (عليه السلام) في الآية: وأنتم مسلّمون بالتشديد.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً الآية، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي شريح الخزاعيّ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ هذا القرآن سبب طرفه بيدالله، وطرفه بأيديكم فتمسّكوا به فإنّكم لن تزالوا ولن تضلّوا بعده أبداً.

وفي المعاني عن السجّاد (عليه السلام) في حديث: وحبل الله هو القرآن.

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخرى من طرق الفريقين.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر (عليه السلام): آل محمّد هم حبل الله الّذي أمر بالاعتصام به فقال: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، وقد تقدّم في البيان ما يتأيّد به معناها ويؤيّدها أيضاً ما يأتي من الروايات.

وفي الدرّ المنثور أخرج الطبرانيّ عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّي لكم فرط، وإنّكم واردون عليّ الحوض فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين؟ قيل: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الأكبر كتاب الله عزّوجلّ سبب طرفه بيدالله، وطرفه بأيديكم فتمسّكوا به لن تزالوا ولن تضلّوا، والأصغر عترتي. وإنّ

٤١٨

هما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. وسألت لهما ذاك ربّي فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تعلّموهما فإنّهما أعلم منكم.

أقول: وحديث الثقلين من المتواترات الّتي أجمع على روايتها الفريقان، وقد تقدّم في أوّل السورة أنّ بعض علماء الحديث أنهى رواته من الصحابة إلى خمس وثلاثين راوياً من الرجال والنساء، وقد رواه عنهم جمّ غفير من الرواة وأهل الحديث.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وإنّ اُمّتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلّهم في النار إلّا واحدة. قالوا: يا رسول الله ومن هذه الواحدة؟ قال: الجماعة. ثمّ قال: اعتصموا بحبل الله جميعاً.

أقول: والرواية أيضاً من المشهورات وقد روتها الشيعة بنحو آخر كما في الخصال والمعاني والاحتجاج والأمالي وكتاب سليم بن قيس وتفسير العيّاشيّ واللفظ لما في الخصال بإسناده إلى سليمان بن مهران عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن أميرالمؤمنين (عليهم السلام) قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: إنّ اُمّة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وسبعون في النار. وافترقت اُمّة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وإحدى وسبعون في النار. وإنّ اُمّتي ستفترق بعدي على ثلاث و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار.

أقول: وهي الموافقة لما يأتي.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبوداود والترمذيّ وابن ماجه والحاكم وصحّحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (عليه السلام): افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة.

أقول: وهذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن معاوية وغيره.

٤١٩

وفيه أخرج الحاكم عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يأتي على اُمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتّى لو كان فيهم من نكح اُمّه علانية كان في اُمّتي مثله إنّ بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملّة، وتفترّق اُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّها في النار إلّا ملّة واحدة. فقيل له: ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

اقول: وعن جامع الاُصول لابن الاثير عن الترمذيّ عن ابن عمرو بن العاص عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مثله.

وفي كمال الدين بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كلّ ما كان في الاُمم السالفة فإنّه يكون في هذه الاُمّة مثله حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة.

وفي تفسير القمّيّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لتركبنّ سنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة لا تخطؤون طريقهم ولا يخطى، شبر بشبر، وذراع بذراع، وباع بباع حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أوّل ما تنقضون من دينكم الأمانة، وآخره الصلاة.

وعن جامع الاُصول فيما استخرجه من الصحاح، وعن صحيح الترمذيّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم ( وزاد رزين) حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتّى إن كان فيهم من أتى اُمّه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟

اقول: وهذه الرواية أيضاً من المشهورات، رواها أهل السنّة في صحاحهم وغيرها. وروتها الشيعة في جوامعهم.

وفي الصحيحين عن أنس: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صاحبني حتّى إذا رفعوا اختلجوا دوني فلأقولنّ: أي ربّ أصحابي فليقالنّ: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432