الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89891 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

قوله تعالى: ( كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ) الطعام كلّ ما يطعم ويتغذّى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البرّ خاصّة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق. والحلّ مقابل الحرمة وكأنّه مأخوذ من الحلّ مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الاطلاق. وإسرائيل هو يعقوب النبيّ (عليه السلام) سمّي به لأنّه كان مجاهداً في الله مظفّراً به، ويقول أهل الكتاب: إنّ معناه المظفّر الغالب على الله سبحانه لأنّه صارع الله في موضع يسمّى فنيئيل فغلبه (على ما في التوراة) وهو ممّا يكذّبه القرآن ويحيله العقل.

وقوله: إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفاً. وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بكان في الجملة الاُولى. والمعنى لم يحرّم الله قبل نزول التوراة شيئاً من الطعام على بني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه.

وفي قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين دلالة على أنّهم كانوا ينكرون ذلك أعني حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، ويدلّ عليه أنّهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مرّ ذكره في ذيل قوله تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦. فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم ) النساء - ١٦٠.

وكذا يدلّ قوله تعالى بعد: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً أهم كانوا يجعلون ما ينكرونه (من حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنّما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحلّ بالحرمة) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ربّه أنّ دينه هو ملّة إبراهيم الحنيف، وهي ملّة فطريّة لا إفراط فيها ولا تفريط. كيف؟ وهم كانوا يقولون: إنّ إبراهيم كان يهوديّاً على شريعة التوراة فكيف يمكن أن تشتمل ملّته على حلّيّة ما حرّمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟

فقد تبيّن أنّ الآية إنّما تتعرّض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم

٣٨١

تعرّض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى:( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) المائدة - ٦٤ وقوله:( وقالوا لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة ) البقرة - ٨٠ وقوله:( وقالوا قلوبنا غلف ) البقرة - ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا قوله تعالى بعد عدّة آيات:( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال -يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات ) آل عمران - ١٠٠.

وبالجملة يظهر من ذلك أنّها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.

وحاصلها: أنّه كيف يكون النبيّ صادقاً وهو يخبر بالنسخ، وأنّ الله إنّما حرّم الطيّبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحلّ سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرّمات محرّمة دائماً من غير إمكان تغيير لحكم الله. وحاصل الجواب من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتعليم من الله تعالى: أنّ التوراة ناطقة بكون كلّ الطعام حلّاً قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل - إلى قوله -: إن كنتم صادقين.

فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنّكم المفترون على الله الكذب وأنّكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: فمن افترى - إلى قوله - ظالمون.

وقد تبيّن بذلك أنّي صادق في دعوتي فاتّبعوا ملّتي وهي ملّة إبراهيم حنيفاً. وذلك قوله تعالى: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم إلى آخر الآية.

وللمفسّرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنّهم على أيّ حال ذكروا أنّ الآية متعرّضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مرّ.

وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أنّ الآية متعرّضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ. وتقريرها: أنّ اليهود كأنّها قالت: إذا كنت يا محمّد على ملّة إبراهيم والنبيّين بعده - كما تدّعي - فكيف تستحلّ ما كان محرّماً عليه وعليهم

٣٨٢

كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرّماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدّعي أنّك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخصّ إبراهيم بالذكر فتقول: إنّي أولى به.

ومحصّل الجواب: أنّ كلّ الطعام كان حلّاً لعامّة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكنّ بني إسرائيل حرّموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي. والسيّئات كما قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠ فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده. ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنّهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيّئات فكانت سبباً للتحريم، وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزّل التوراة لغواً زائداً من الكلام لبداهة أنّ يعقوب كان قبل التوراة زماناً فلا وجه لذكره.

هذا محصّل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلّا أنّه قال: إنّ المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعاً من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهليّة تفعل ذلك على ما قصّه الله تعالى في كتابه.

وقد ارتكبا جميعاً من التكلّف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه. وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزّل التوراة على أنّه متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل مع كونه متعلّقاً بقوله: كان حلّاً في صدر الكلام وقوله: إلّا ما حرّم استثناء معترض.

ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهّما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أنّ إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزاً على حدّ قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنّه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا

٣٨٣

أنّ القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة (في غير هذا المورد الّذي يدّعيانه) مع أنّ بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعاً، ومن جملتها نفس هذه الآية: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبّر عنهم أوّلاً ببني إسرائيل ثمّ أردف ذلك بقوله: إسرائيل. مع أنّ المقام من أوضح مقامات الالتباس. وناهيك في ذلك أنّ الجمّ الغفير من المفسّرين فهموا منه أنّ المراد به يعقوب لا بنوه.

ومن أحسن الشواهد على أنّ المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكّر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى: ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) أي حتّى يتبيّن أنّ أيّ الفريقين على الحقّ. أنا أم أنتم. وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قوله تعالى: ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاُولئك هم الظالمون ) ظاهره أنّه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله. وتعريض لليهود والكلام يجري مجري الكناية.

وأمّا احتمال كون الكلام من تتمّة كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك وعلى هذا أيضاً يجري الكلام مجري الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى:( إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ - ٢٤ والمشار إليه بذلك هو البيان والحجّة.

وإنّما قال: من بعد ذلك مع أنّ المفتري ظالم على أيّ حال لأنّ الظلم لا يتحقّق قبل التبيّن كما قيل والقصر في قوله: فاُولئك هم الظالمون قصر قلب على أيّ حال.

قوله تعالى: ( قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً ) الخ أي فإذا كان الحقّ معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتّبعوا ديني واعترفوا بحلّيّه لحم الإبل وغيره

٣٨٤

من الطيّبات الّتي أحلّها الله، وإنّما كان حرّمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.

فقوله: فاتّبعوا الخ كالكناية عن اتّباع دينه، وإنّما لم يذكره بعينه لأنّهم كانوا معترفين بملّة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفاً فطريّاً لأنّ الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيّبات من اللحوم وسائر الرزق.

( بحث روائي)

في الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): أنّ إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيّج عليه وجع الخاصّرة فحرّم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزّل التوراة فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأكله.

أقول: وما يقرب منه مرويّ من طرق أهل السنّة والجماعة.

وقوله في الرواية: لم يحرّمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه. والمعنى لم يحرّمه موسى ولم يأكله. ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل. ويظهر من التاج أنّ التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.

٣٨٥

( سورة آل عمران الآيات ٩٦ - ٩٧)

إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( ٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ( ٩٧)

( بيان)

الآيتان جواب عن شبهة اُخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد مرّ في تفسير قوله تعالى:( فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية ) البقرة - ١٤٤ أنّ تحويل القبلة كان من الاُمور الهامّة الّتي كانت له تأثيرات عميقة مادّيّة ومعنويّة في حياة أهل الكتاب - وخاصّة اليهود - مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

والمستفاد من الآية - إنّ أوّل بيت الخ - أنّهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملّة إبراهيم فيكون محصّل الشبهة: أنّ الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملّة إبراهيم مع أنّ الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلّا القول بحكم نسخي في ملّة إبراهيم الحقّة مع كون النسخ محالاً باطلاً؟

والجواب: أنّ الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شكّ ووضعها للعبادة، وفيها آيات بيّنات تدلّ على ذلك كمقام إبراهيم. وأمّا بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: ( إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة ) إلى آخر الآية، البيت

٣٨٦

معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسّل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدىً للعالمين وغير ذلك ويشعر به التعبير عن الكعبة بالّذي ببكّة فإنّ فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك. وأمّا كونه أوّل بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

والمراد ببكّة أرض البيت سمّيت بكّة لازدحام الناس فيها، وربّما قيل إنّ بكّة هي مكّة وإنّه من تبديل الميم باءً كما في قولهم: لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم. وقيل: المسجد. وقيل المطاف.

والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيويّة والاُخرويّة إلّا أنّ ظاهر مقابلتها مع قوله: هدىً للعالمين أنّ المراد بها إفاضة البركات الدنيويّة وعمدتها وفور الأرزاق وتوفّر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحجّ إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤل المعنى إلى ما يتضمّنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم:( ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون ) إبراهيم - ٣٧.

وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم وإيصاله إيّاهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين.

وقد دلّ القرآن على أنّ الحجّ شرّع أوّل ما شرّع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه. قال تعالى:( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) البقرة - ١٢٥ وقال: خطاباً لإبراهيم:( وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ) الحجّ - ٢٧. والآية كما ترى تدلّ

٣٨٧

على أنّ هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامّة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل.

ودلّ أيضاً على أنّ هذا الشعار الإلهيّ كان على استقراره ومعروفيّته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام:( إنّي اُريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك ) القصص - ٢٧ فقد أراد بالحجّ السنة وليس إلّا لكون السنين تعدّ بالحجّ لتكرّرها بتكرّره.

وكذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شئ كثير يدلّ على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية (راجع سورة إبراهيم).

وكان عرب الجاهليّة يعظّمونه ويأتون بالحجّ بعنوان أنّه من شرع إبراهيم، وقد ذكر التاريخ أنّ سائر الناس أيضاً كانوا يعظّمونه. وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجّه إلى الله سبحانه وذكره. وأمّا بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح وقد ملا ذكره مشارق الأرض ومغاربها، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.

فهو هدىً بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهنيّ إلى الانقطاع التامّ الّذي لا يمسّه إلّا المطهّرون من عباد الله المخلصين.

على أنّه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيويّة الّتي هي وحدة الكلمة وائتلاف الاُمّة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتّتة.

ومن هنا يظهرأوّلا: أنّه هدىً إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنّه هدىً بجميع مراتب الهداية. فالهداية مطلقة.

وثانياً: أنّه هدى للعالمين لا لعالم خاصّ وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.

٣٨٨

قوله تعالى: ( فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ) الآيات وإن وصفت بالبيّنات وأفاد ذلك تخصّصاً ما في الموصوف إلّا أنّها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره الّتي بها يتقدّم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلّا الإتيان ببيان واضح، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال. وهذا من الشواهد على كون قوله: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس إلى آخر الآية بياناً لقوله: آيات بيّنات فالآيات هي: مقام إبراهيم، وتقرير الأمن فيه، وإيجاب حجّه على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أنّ ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، والأمن لمن دخله، وحجّه لمن استطاع إليه سبيلاً. وفي ذلك إرجاع قوله: ومن دخله سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أنّ وإرجاع قوله: ولله على الناس وهي جملة إنشائيّة إلى الخبريّة ثمّ عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أنّ فيها أيضاً وكلّ ذلك ممّا لا يساعد عليه الكلام البتّة.

وإنّما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم الخ كلّ لغرض خاصّ من إخبار أو إنشاء حكم ثمّ تتبيّن بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أنّ نتّبعه.

قوله تعالى: ( مقام إبراهيم ) مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم، وهو الحجر الّذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وقد استفاض النقل بأنّ الحجر مدفون في المكان الّذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافّة المطاف حيال الملتزم وقد أشار إليه أبو طالب عمّ النبيّ في قصيدته اللاميّة:

وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وربّما يفهم من قوله: مقام إبراهيم أنّ البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.

٣٨٩

ويمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم والأمن والحجّ ثمّ وضع قوله: ومن دخله وقوله: ولله على الناس وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائيّ موضع الخبرين، وهذا من أعاجيب اُسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، ويحفظ الجهتين كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله:( كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله ) البقرة - ٢٨٥ وكما مرّ في قوله تعالى:( ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية ) البقرة - ٢٥٨ وقوله:( أو كالّذي مرّ على قرية الآية ) البقرة - ٢٥٩ وقد بيّنا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، وكما في قوله تعالى:( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء - ٨٩ وكما في قوله تعالى:( ولكنّ البرّ من آمن بالله الآية ) البقرة - ١٧٧ حيث وضع صاحب البرّ مكان البرّ وكما في قوله تعالى:( ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع الآية ) البقرة - ١٧١ ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا فوزان قوله: فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم - إلى قوله - عن العالمين في التردّد بين الإنشاء والإخبار وزان قوله:( واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لاُولي الألباب وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب ) ص - ٤٤.

و هذا الّذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدليّة، وإن كان بدلاً ولا بدّ فالاُولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلاً، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالّتين على بدلين محذوفين. والتقدير فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحجّ المستطيع للبيت.

ولا ريب في كون كلّ واحد من هذه الاُمور آية بيّنة دالّة بوقوعها على الله سبحانه مذكّرة لمقامه إذ ليست الآية إلّا العلامة الدالّة على الشئ بوجه. وأيّ علامة دالّة عليه تعالى مذكّرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن

٣٩٠

حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الاُلوف بعد الاُلوف من الناس تتكرّر بتكرّر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيّام وأمّا كون كلّ آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً للسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدلّ عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً وقال تعالى:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون ) الشعراء - ١٢٨ إلى غير ذلك من الآيات.

ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسّرين على توجيه كون المقام آية خارقة، وكون الأمن والحجّ مذكورين لغير غرض بيان الآية.

وكذا إصرار آخرين على أنّ المراد بالآيات البيّنات اُمور اُخر من خواصّ الكعبة (وقد أغمضنا عن ذكرها، ومن أرادها فليراجع بعض مطوّلات التفاسير) فإنّ ذلك مبنيّ على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة، ولا دليل على ذلك كما مرّ.

فالحقّ أنّ قوله: ومن دخله كان آمناً: مسوق لبيان حكم تشريعيّ لا خاصّة تكوينيّة غير أنّ الظاهر أن يكون الجملة إخباريّة يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربّما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحقّ محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهليّة ويتّصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).

وأمّا كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأنّ الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه وخاصّة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى:( أو لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم ) العنكبوت - ٦٧ لا يدلّ على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلّا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) وينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.

٣٩١

وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكيّ في قوله تعالى:( ربّ اجعل هذا البلد آمناً ) إبراهيم - ٣٥ وقوله:( ربّ اجعل هذا بلداً آمناً ) البقرة - ١٢٦ حيث سأل الأمن لبلد مكّة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبيّاً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان.

قوله تعالى: ( ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ) الحجّ بالكسر (وقرء بالفتح) هو القصد ثمّ اختصّ استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيّنه الشرع. وقوله: سبيلاً تمييز عن قوله: استطاع.

والآية تتضمّن تشريع الحجّ إمضائاً لما شرّع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم:( وأذن في الناس بالحجّ الآية ) الحجّ - ٢٧ ومن هنا يظهر أنّ وزان قوله:( ولله على الناس ) إلخ وزان قوله تعالى: ومن دخله كان آمناً في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاءً على نحو الإمضاء لكنّ الأظهر من السياق هو الأوّل كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين ) الكفر هيهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة فالمراد بالكفر الترك. والكلام من قبيل وضع المسبّب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أنّ قوله: فإنّ الله غنيّ إلخ من قبيل وضع العلّة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحجّ فلا يضرّ الله شيئاً فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

( بحث روائي)

عن ابن شهرآشوب عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: إنّ أوّل بيت وضع للناس الآية: فقال له رجل أهو أوّل بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبيّ عن عليّ

٣٩٢

بن أبي طالب في قوله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة قال: كانت البيوت قبله ولكنّه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله.

أقول: ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله، والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي العلل عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكّة، والقرية مكّة.

وفيه أيضاً عنه (عليه السلام): إنّما سمّيت بكّة بكّة لأنّ الناس يبكّون فيها.

أقول: يعني يزدحمون.

وفيه عن الباقر (عليه السلام): إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء، المرأة تصلّي بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنّما يكره ذلك في سائر البلدان.

وفيه عن الباقر (عليه السلام) قال: لمّا أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتّى صار موجاً ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلاً من زبد ثمّ دحى الأرض من تحته وهو قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً فأوّل بقعه خلقت من الأرض الكعبة ثمّ مدّت الأرض منها.

اقول: والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أنّ هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أنّ الأرض عنصر بسيط قديم، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أنّ الكعبة أوّل بيت (أي بقعة) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاُوليان.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فيه آيات بيّنات: أنّه سئل ما هذه الآيات البيّنات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل.

٣٩٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، ولعلّ ذكره هذه الاُمور من باب العدّ وإن لم تشتمل على بعضها الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبد الصمد، قال: طلب أبوجعفر أن يشتري من أهل مكّة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أباعبدالله (عليه السلام) فقال له: أنّي سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا في ذلك فقد غمّني غمّاً شديداً. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): لم يغمّك ذلك وحجّتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتجّ عليهم؟ فقال: بكتاب الله فقال: في أيّ موضع؟ فقال: قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة وقد أخبرك الله: أنّ أوّل بيت وضع للناس هو الّذي ببكّة فإنّ كانوا هم تولّوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قديماً فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبوجعفر فاحتجّ عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.

وفيه عن الحسن بن عليّ بن النعمان قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا. فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً. فقال له عليّ بن يقطين: يا أميرالمؤمنين إنّي أكتب إلى موسى بن جعفر عليهما السلام لاُخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟

فقال ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبوالحسن (عليه السلام): فلا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بدّ منه. فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها.

فلمّا أتي الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أباالحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم فكتب إليه أن(١) اوضح لهم شيئاً فأرضاهم.

____________________

(١) أرضخ (خ).

٣٩٤

أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، وكأنّ أباجعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثمّ تمّ الأمر للمهديّ.

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ولله على الناس حجّ البيت إلخ، يعني به الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره وقد فسّر الحجّ فيه بمعناه اللغويّ وهو القصد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): ومن كفر قال: ترك.

أقول: ورواه الشيخ في التهذيب. وقد عرفت أنّ الكفر ذو مراتب كالإيمان وأنّ المراد منه الكفر بالفروع.

وفي الكافي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والكفر في الرواية بمعنى الردّ، والآية تحتمله. فالكفر فيها بمعناه اللغويّ وهو الستر على الحقّ. وعلى حسب الموارد تتعيّن له مصاديق.

( بحث تاريخي)

من المتواتر المقطوع به أنّ الّذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربّع تقريباً وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسّر عليها الرياح ولا تضرّها مهما اشتدّت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتّى جدّدها العمالقة ثمّ بنو جرهم (أو بالعكس كما مرّ في الرواية عن أميرالمؤمنين (عليه السلام)).

ثمّ لمّا آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (القرن الثاني قبل الهجرة) هدمها وبناها فأحكم بنائها، وسقّفها بخشب الدوم وجذوع النخل

٣٩٥

وبنى إلى جانبها دار الندوة، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه، ثمّ قسّم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، وفتحوا عليه أبواب دورهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها وكان الّذي يبنيها يا قوم الروميّ، ويساعده عليه نجّار مصريّ، ولمّا انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أنّ أيّها يختصّ بشرف وضعه فرأوا أن يحكّموا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسنّه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه. فطلب رداءً ووضع عليه الحجر، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتّى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقيّ أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتّى تسلّط عبدالله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكّة، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت واُحرقت كسوتها وبعض أخشابها، ثمّ انكشف عنها لموت يزيد فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجصّ النقيّ من اليمن، وبناها به، وأدخل الحجر في البيت، وألصق الباب بالأرض، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولمّا فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً، وكساها بالديباج، وكان فراغه من بنائها ١٧ رجب سنه ٦٤ هجريّة.

ثمّ لمّا تولّى عبدالملك بن مروان الخلافة بعث الحجّاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتّى غلبه فقتله، ودخل البيت فأخبر عبدالملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأوّل، فهدم الحجّاج من جانبها

٣٩٦

الشماليّ ستّة أذرع وشبراً، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ورفع الباب الشرقيّ وسدّ الغربيّ ثمّ كبس أرضها بالحجارة الّتي فضلت منها.

ولمّا تولّى السلطان سليمان العثمانيّ الملك سنة ستّين وتسعمائة غير سقفها، ولمّا تولّى السلطان أحمد العثمانيّ سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولمّا حدث السيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشماليّة والشرقيّة والغربيّة فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها، ولم يزل على ذلك حتّى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مائة وخمس وسبعين هجريّة قمريّة وسنة ألف وثلاثمائه وخمس وثلاثين هجريّة شمسيّة.

شكل الكعبة: شكل الكعبة مربّع تقريباً وهي مبنيّة بالحجارة الزرقاء الصلبة ويبلغ ارتفاعها ستّة عشر متراً، وقد كانت في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً (عليه السلام) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام الّتي كانت على الكعبة وكسرها.

وطول الضلع الّذي فيه الميزاب والّذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات، وطول الضلع الّذي فيه الباب والّذي قبالته اثنا عشر متراً، والباب على ارتفاع مترين من الأرض، وفي الركن الّذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر ونصف من أرض المطاف، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضيّ الشكل غير منتظم، لونه أسود ضارب إلى الحمرة، وفيه نقط حمراء، وتعاريج صفراء، وهي أثر لحام القطع الّتي كانت تكسّرت منه، قطره نحو ثلاثين سانتي متراً.

وتسمّى زوايا الكعبة من قديم أيّامها بالأركان فيسمّى الشماليّ بالركن العراقيّ، والغربيّ بالشاميّ والجنوبيّ باليمانيّ، والشرقيّ الّذي فيه الحجر الأسود بالأسود، وتسمّى المسافة الّتي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إيّاه في دعائه واستغاثته. وأمّا الميزاب على الحائط الشماليّ ويسمّى ميزاب الرحمة فممّا

٣٩٧

أحدثه الحجّاج بن يوسف ثمّ غيّره السلطان سليمان سنة ٩٥٤ إلى ميزاب من الفضّة ثمّ أبدله السلطان أحمد سنة ١٠٢١ بآخر من فضّة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخلّلها نقوش ذهبيّة. ثمّ أرسل السلطان عبدالمجيد من آل عثمان سنة ١٢٧٣ ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.

وقبالة الميزاب حائط قوسيّ يسمّى بالحطيم، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشماليّة والغربيّة، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات، ويبلغ ارتفاعه متراً، وسمكه متراً ونصف متر، وهو مبطّن بالرخام المنقوش، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً.

والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمّى بحجر إسماعيل، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها: ويقال: إنّ هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.

وأمّا تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم، وما للبيت من السنن والتشريفات فلا يهمّنا التعرّض له.

كسوة الكعبة: قد تقدّم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصّة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكّة أنّ هاجر علّق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.

وأمّا كسوة البيت نفسه فيقال: إنّ أوّل من كساها تبّع أبوبكر أسعد كساها بالبرود المطرّزة بأسلاك الفضّة، وتبعه خلفاؤه ثمّ أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، وكلّما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصّى، ووضع قصّى على العرب رفادة لكسوتها سنويّاً واستمرّ ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.

٣٩٨

وقد كساها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالثياب اليمانيّة، وكان على ذلك حتّى إذا حجّ الخليفة العبّاسيّ المهديّ شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، وذكروا أنّه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، وإبدالها بكسوة واحدة كلّ سنة، وجرى العمل على ذلك حتّى اليوم، وللكعبة كسوة من داخل، وأوّل من كساها من داخل اُمّ العبّاس بن عبدالمطّلب لنذر نذرته في ابنها العبّاس.

منزلة الكعبة: كانت الكعبة مقدّسة معظّمة عند الاُمم المختلفة فكانت الهنود يعظّمونها، ويقولون: إنّ روح (سيفا) وهو الاُقنوم الثالث عندهم حلّت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيّين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظّمة(١) وربّما قيل: إنّه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.

وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح هرمز حلّت فيها، وربّما حجّوا إليها زائرين.

وكانت اليهود يعظّمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل، وبأيديهما الأزلام. ومنها صورتا العذراء والمسيح. ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضاً كاليهود.

وكانت العرب أيضاً تعظّمها كلّ التعظيم، وتعدّها بيتاً لله تعالى، وكانوا يحجّون إليها من كلّ جهة وهم يعدّون البيت بناءً لإبراهيم والحجّ من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

ولاية الكعبة: كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثمّ لولده من بعده حتّى

____________________

(١) البيت المعظّمة هي: ١ - الكعبة ٢ - مارس على رأس جبل باصفهان ٣ - مندوسان ببلاد الهند ٤ - نوبهار بمدينة بلخ ٥ - بيت غمدان بمدينة صنعاء ٦ - كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ٧ - بيت بأعالي بلاد الصين.

٣٩٩

تغلّبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثمّ ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، وقد كانوا ينزلون أسفل مكّة كما أنّ جرهم كانت تنزل أعلى مكّة وفيهم ملوكهم.

ثمّ كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولّوها نحواً من ثلاثمائة سنة، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثمّ لمّا نشأت ولد إسماعيل، وكثروا وصاروا ذوي قوّة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكّة، ومقدّم الإسماعيليّين يومئذ عمرو بن لحى، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكّة وتولّى أمر البيت، وهو الّذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها، وأوّل صنم وضعه عليها هو (هبل) حمله معه من الشام إلى مكّة ووضعه عليها ثمّ أتبعه بغيره حتّى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب، وهجرت الحنيفيّة.

وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهميّ يخاطب عمرو بن لحى.

يا عمرو إنّك قد أحدثت آلهة

شتّى بمكّة حول البيت أنصاباً

وكان للبيـت ربّ واحد أبداً

فقد جعلت له في الناس أرباباً

لتعـرّفنّ بأنّ الله في مـهل

سيصطفي دونكم للبيت حجّاباً

وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعيّ فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصيّ بن كلاب، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمّى أباغبشان الخزاعيّ فباعه أبوغبشان من قصيّ بن كلاب ببعير وزقّ خمر، وفي ذلك يضرب المثل السائر (أخسر من صفقة أبي غبشان).

فانتقلت الولاية إلى قريش وجدّد قصّي بناء البيت كما قدّمناه وكان الأمر على ذلك حتّى فتح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الّذي

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432