الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89885 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

قوله تعالى: ( كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ) الطعام كلّ ما يطعم ويتغذّى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البرّ خاصّة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق. والحلّ مقابل الحرمة وكأنّه مأخوذ من الحلّ مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الاطلاق. وإسرائيل هو يعقوب النبيّ (عليه السلام) سمّي به لأنّه كان مجاهداً في الله مظفّراً به، ويقول أهل الكتاب: إنّ معناه المظفّر الغالب على الله سبحانه لأنّه صارع الله في موضع يسمّى فنيئيل فغلبه (على ما في التوراة) وهو ممّا يكذّبه القرآن ويحيله العقل.

وقوله: إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفاً. وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بكان في الجملة الاُولى. والمعنى لم يحرّم الله قبل نزول التوراة شيئاً من الطعام على بني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه.

وفي قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين دلالة على أنّهم كانوا ينكرون ذلك أعني حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، ويدلّ عليه أنّهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مرّ ذكره في ذيل قوله تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦. فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم ) النساء - ١٦٠.

وكذا يدلّ قوله تعالى بعد: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً أهم كانوا يجعلون ما ينكرونه (من حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنّما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحلّ بالحرمة) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ربّه أنّ دينه هو ملّة إبراهيم الحنيف، وهي ملّة فطريّة لا إفراط فيها ولا تفريط. كيف؟ وهم كانوا يقولون: إنّ إبراهيم كان يهوديّاً على شريعة التوراة فكيف يمكن أن تشتمل ملّته على حلّيّة ما حرّمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟

فقد تبيّن أنّ الآية إنّما تتعرّض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم

٣٨١

تعرّض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى:( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) المائدة - ٦٤ وقوله:( وقالوا لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة ) البقرة - ٨٠ وقوله:( وقالوا قلوبنا غلف ) البقرة - ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا قوله تعالى بعد عدّة آيات:( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال -يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات ) آل عمران - ١٠٠.

وبالجملة يظهر من ذلك أنّها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.

وحاصلها: أنّه كيف يكون النبيّ صادقاً وهو يخبر بالنسخ، وأنّ الله إنّما حرّم الطيّبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحلّ سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرّمات محرّمة دائماً من غير إمكان تغيير لحكم الله. وحاصل الجواب من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتعليم من الله تعالى: أنّ التوراة ناطقة بكون كلّ الطعام حلّاً قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل - إلى قوله -: إن كنتم صادقين.

فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنّكم المفترون على الله الكذب وأنّكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: فمن افترى - إلى قوله - ظالمون.

وقد تبيّن بذلك أنّي صادق في دعوتي فاتّبعوا ملّتي وهي ملّة إبراهيم حنيفاً. وذلك قوله تعالى: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم إلى آخر الآية.

وللمفسّرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنّهم على أيّ حال ذكروا أنّ الآية متعرّضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مرّ.

وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أنّ الآية متعرّضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ. وتقريرها: أنّ اليهود كأنّها قالت: إذا كنت يا محمّد على ملّة إبراهيم والنبيّين بعده - كما تدّعي - فكيف تستحلّ ما كان محرّماً عليه وعليهم

٣٨٢

كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرّماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدّعي أنّك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخصّ إبراهيم بالذكر فتقول: إنّي أولى به.

ومحصّل الجواب: أنّ كلّ الطعام كان حلّاً لعامّة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكنّ بني إسرائيل حرّموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي. والسيّئات كما قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠ فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده. ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنّهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيّئات فكانت سبباً للتحريم، وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزّل التوراة لغواً زائداً من الكلام لبداهة أنّ يعقوب كان قبل التوراة زماناً فلا وجه لذكره.

هذا محصّل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلّا أنّه قال: إنّ المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعاً من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهليّة تفعل ذلك على ما قصّه الله تعالى في كتابه.

وقد ارتكبا جميعاً من التكلّف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه. وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزّل التوراة على أنّه متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل مع كونه متعلّقاً بقوله: كان حلّاً في صدر الكلام وقوله: إلّا ما حرّم استثناء معترض.

ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهّما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أنّ إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزاً على حدّ قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنّه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا

٣٨٣

أنّ القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة (في غير هذا المورد الّذي يدّعيانه) مع أنّ بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعاً، ومن جملتها نفس هذه الآية: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبّر عنهم أوّلاً ببني إسرائيل ثمّ أردف ذلك بقوله: إسرائيل. مع أنّ المقام من أوضح مقامات الالتباس. وناهيك في ذلك أنّ الجمّ الغفير من المفسّرين فهموا منه أنّ المراد به يعقوب لا بنوه.

ومن أحسن الشواهد على أنّ المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكّر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى: ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) أي حتّى يتبيّن أنّ أيّ الفريقين على الحقّ. أنا أم أنتم. وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قوله تعالى: ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاُولئك هم الظالمون ) ظاهره أنّه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله. وتعريض لليهود والكلام يجري مجري الكناية.

وأمّا احتمال كون الكلام من تتمّة كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك وعلى هذا أيضاً يجري الكلام مجري الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى:( إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ - ٢٤ والمشار إليه بذلك هو البيان والحجّة.

وإنّما قال: من بعد ذلك مع أنّ المفتري ظالم على أيّ حال لأنّ الظلم لا يتحقّق قبل التبيّن كما قيل والقصر في قوله: فاُولئك هم الظالمون قصر قلب على أيّ حال.

قوله تعالى: ( قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً ) الخ أي فإذا كان الحقّ معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتّبعوا ديني واعترفوا بحلّيّه لحم الإبل وغيره

٣٨٤

من الطيّبات الّتي أحلّها الله، وإنّما كان حرّمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.

فقوله: فاتّبعوا الخ كالكناية عن اتّباع دينه، وإنّما لم يذكره بعينه لأنّهم كانوا معترفين بملّة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفاً فطريّاً لأنّ الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيّبات من اللحوم وسائر الرزق.

( بحث روائي)

في الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): أنّ إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيّج عليه وجع الخاصّرة فحرّم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزّل التوراة فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأكله.

أقول: وما يقرب منه مرويّ من طرق أهل السنّة والجماعة.

وقوله في الرواية: لم يحرّمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه. والمعنى لم يحرّمه موسى ولم يأكله. ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل. ويظهر من التاج أنّ التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.

٣٨٥

( سورة آل عمران الآيات ٩٦ - ٩٧)

إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( ٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ( ٩٧)

( بيان)

الآيتان جواب عن شبهة اُخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد مرّ في تفسير قوله تعالى:( فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية ) البقرة - ١٤٤ أنّ تحويل القبلة كان من الاُمور الهامّة الّتي كانت له تأثيرات عميقة مادّيّة ومعنويّة في حياة أهل الكتاب - وخاصّة اليهود - مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

والمستفاد من الآية - إنّ أوّل بيت الخ - أنّهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملّة إبراهيم فيكون محصّل الشبهة: أنّ الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملّة إبراهيم مع أنّ الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلّا القول بحكم نسخي في ملّة إبراهيم الحقّة مع كون النسخ محالاً باطلاً؟

والجواب: أنّ الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شكّ ووضعها للعبادة، وفيها آيات بيّنات تدلّ على ذلك كمقام إبراهيم. وأمّا بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: ( إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة ) إلى آخر الآية، البيت

٣٨٦

معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسّل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدىً للعالمين وغير ذلك ويشعر به التعبير عن الكعبة بالّذي ببكّة فإنّ فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك. وأمّا كونه أوّل بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

والمراد ببكّة أرض البيت سمّيت بكّة لازدحام الناس فيها، وربّما قيل إنّ بكّة هي مكّة وإنّه من تبديل الميم باءً كما في قولهم: لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم. وقيل: المسجد. وقيل المطاف.

والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيويّة والاُخرويّة إلّا أنّ ظاهر مقابلتها مع قوله: هدىً للعالمين أنّ المراد بها إفاضة البركات الدنيويّة وعمدتها وفور الأرزاق وتوفّر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحجّ إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤل المعنى إلى ما يتضمّنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم:( ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون ) إبراهيم - ٣٧.

وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم وإيصاله إيّاهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين.

وقد دلّ القرآن على أنّ الحجّ شرّع أوّل ما شرّع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه. قال تعالى:( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) البقرة - ١٢٥ وقال: خطاباً لإبراهيم:( وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ) الحجّ - ٢٧. والآية كما ترى تدلّ

٣٨٧

على أنّ هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامّة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل.

ودلّ أيضاً على أنّ هذا الشعار الإلهيّ كان على استقراره ومعروفيّته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام:( إنّي اُريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك ) القصص - ٢٧ فقد أراد بالحجّ السنة وليس إلّا لكون السنين تعدّ بالحجّ لتكرّرها بتكرّره.

وكذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شئ كثير يدلّ على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية (راجع سورة إبراهيم).

وكان عرب الجاهليّة يعظّمونه ويأتون بالحجّ بعنوان أنّه من شرع إبراهيم، وقد ذكر التاريخ أنّ سائر الناس أيضاً كانوا يعظّمونه. وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجّه إلى الله سبحانه وذكره. وأمّا بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح وقد ملا ذكره مشارق الأرض ومغاربها، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.

فهو هدىً بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهنيّ إلى الانقطاع التامّ الّذي لا يمسّه إلّا المطهّرون من عباد الله المخلصين.

على أنّه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيويّة الّتي هي وحدة الكلمة وائتلاف الاُمّة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتّتة.

ومن هنا يظهرأوّلا: أنّه هدىً إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنّه هدىً بجميع مراتب الهداية. فالهداية مطلقة.

وثانياً: أنّه هدى للعالمين لا لعالم خاصّ وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.

٣٨٨

قوله تعالى: ( فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ) الآيات وإن وصفت بالبيّنات وأفاد ذلك تخصّصاً ما في الموصوف إلّا أنّها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره الّتي بها يتقدّم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلّا الإتيان ببيان واضح، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال. وهذا من الشواهد على كون قوله: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس إلى آخر الآية بياناً لقوله: آيات بيّنات فالآيات هي: مقام إبراهيم، وتقرير الأمن فيه، وإيجاب حجّه على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أنّ ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، والأمن لمن دخله، وحجّه لمن استطاع إليه سبيلاً. وفي ذلك إرجاع قوله: ومن دخله سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أنّ وإرجاع قوله: ولله على الناس وهي جملة إنشائيّة إلى الخبريّة ثمّ عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أنّ فيها أيضاً وكلّ ذلك ممّا لا يساعد عليه الكلام البتّة.

وإنّما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم الخ كلّ لغرض خاصّ من إخبار أو إنشاء حكم ثمّ تتبيّن بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أنّ نتّبعه.

قوله تعالى: ( مقام إبراهيم ) مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم، وهو الحجر الّذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وقد استفاض النقل بأنّ الحجر مدفون في المكان الّذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافّة المطاف حيال الملتزم وقد أشار إليه أبو طالب عمّ النبيّ في قصيدته اللاميّة:

وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وربّما يفهم من قوله: مقام إبراهيم أنّ البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.

٣٨٩

ويمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم والأمن والحجّ ثمّ وضع قوله: ومن دخله وقوله: ولله على الناس وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائيّ موضع الخبرين، وهذا من أعاجيب اُسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، ويحفظ الجهتين كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله:( كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله ) البقرة - ٢٨٥ وكما مرّ في قوله تعالى:( ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية ) البقرة - ٢٥٨ وقوله:( أو كالّذي مرّ على قرية الآية ) البقرة - ٢٥٩ وقد بيّنا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، وكما في قوله تعالى:( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء - ٨٩ وكما في قوله تعالى:( ولكنّ البرّ من آمن بالله الآية ) البقرة - ١٧٧ حيث وضع صاحب البرّ مكان البرّ وكما في قوله تعالى:( ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع الآية ) البقرة - ١٧١ ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا فوزان قوله: فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم - إلى قوله - عن العالمين في التردّد بين الإنشاء والإخبار وزان قوله:( واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لاُولي الألباب وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب ) ص - ٤٤.

و هذا الّذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدليّة، وإن كان بدلاً ولا بدّ فالاُولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلاً، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالّتين على بدلين محذوفين. والتقدير فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحجّ المستطيع للبيت.

ولا ريب في كون كلّ واحد من هذه الاُمور آية بيّنة دالّة بوقوعها على الله سبحانه مذكّرة لمقامه إذ ليست الآية إلّا العلامة الدالّة على الشئ بوجه. وأيّ علامة دالّة عليه تعالى مذكّرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن

٣٩٠

حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الاُلوف بعد الاُلوف من الناس تتكرّر بتكرّر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيّام وأمّا كون كلّ آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً للسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدلّ عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً وقال تعالى:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون ) الشعراء - ١٢٨ إلى غير ذلك من الآيات.

ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسّرين على توجيه كون المقام آية خارقة، وكون الأمن والحجّ مذكورين لغير غرض بيان الآية.

وكذا إصرار آخرين على أنّ المراد بالآيات البيّنات اُمور اُخر من خواصّ الكعبة (وقد أغمضنا عن ذكرها، ومن أرادها فليراجع بعض مطوّلات التفاسير) فإنّ ذلك مبنيّ على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة، ولا دليل على ذلك كما مرّ.

فالحقّ أنّ قوله: ومن دخله كان آمناً: مسوق لبيان حكم تشريعيّ لا خاصّة تكوينيّة غير أنّ الظاهر أن يكون الجملة إخباريّة يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربّما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحقّ محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهليّة ويتّصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).

وأمّا كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأنّ الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه وخاصّة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى:( أو لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم ) العنكبوت - ٦٧ لا يدلّ على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلّا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) وينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.

٣٩١

وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكيّ في قوله تعالى:( ربّ اجعل هذا البلد آمناً ) إبراهيم - ٣٥ وقوله:( ربّ اجعل هذا بلداً آمناً ) البقرة - ١٢٦ حيث سأل الأمن لبلد مكّة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبيّاً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان.

قوله تعالى: ( ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ) الحجّ بالكسر (وقرء بالفتح) هو القصد ثمّ اختصّ استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيّنه الشرع. وقوله: سبيلاً تمييز عن قوله: استطاع.

والآية تتضمّن تشريع الحجّ إمضائاً لما شرّع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم:( وأذن في الناس بالحجّ الآية ) الحجّ - ٢٧ ومن هنا يظهر أنّ وزان قوله:( ولله على الناس ) إلخ وزان قوله تعالى: ومن دخله كان آمناً في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاءً على نحو الإمضاء لكنّ الأظهر من السياق هو الأوّل كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين ) الكفر هيهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة فالمراد بالكفر الترك. والكلام من قبيل وضع المسبّب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أنّ قوله: فإنّ الله غنيّ إلخ من قبيل وضع العلّة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحجّ فلا يضرّ الله شيئاً فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

( بحث روائي)

عن ابن شهرآشوب عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: إنّ أوّل بيت وضع للناس الآية: فقال له رجل أهو أوّل بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبيّ عن عليّ

٣٩٢

بن أبي طالب في قوله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة قال: كانت البيوت قبله ولكنّه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله.

أقول: ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله، والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي العلل عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكّة، والقرية مكّة.

وفيه أيضاً عنه (عليه السلام): إنّما سمّيت بكّة بكّة لأنّ الناس يبكّون فيها.

أقول: يعني يزدحمون.

وفيه عن الباقر (عليه السلام): إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء، المرأة تصلّي بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنّما يكره ذلك في سائر البلدان.

وفيه عن الباقر (عليه السلام) قال: لمّا أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتّى صار موجاً ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلاً من زبد ثمّ دحى الأرض من تحته وهو قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً فأوّل بقعه خلقت من الأرض الكعبة ثمّ مدّت الأرض منها.

اقول: والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أنّ هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أنّ الأرض عنصر بسيط قديم، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أنّ الكعبة أوّل بيت (أي بقعة) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاُوليان.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فيه آيات بيّنات: أنّه سئل ما هذه الآيات البيّنات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل.

٣٩٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، ولعلّ ذكره هذه الاُمور من باب العدّ وإن لم تشتمل على بعضها الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبد الصمد، قال: طلب أبوجعفر أن يشتري من أهل مكّة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أباعبدالله (عليه السلام) فقال له: أنّي سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا في ذلك فقد غمّني غمّاً شديداً. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): لم يغمّك ذلك وحجّتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتجّ عليهم؟ فقال: بكتاب الله فقال: في أيّ موضع؟ فقال: قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة وقد أخبرك الله: أنّ أوّل بيت وضع للناس هو الّذي ببكّة فإنّ كانوا هم تولّوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قديماً فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبوجعفر فاحتجّ عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.

وفيه عن الحسن بن عليّ بن النعمان قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا. فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً. فقال له عليّ بن يقطين: يا أميرالمؤمنين إنّي أكتب إلى موسى بن جعفر عليهما السلام لاُخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟

فقال ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبوالحسن (عليه السلام): فلا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بدّ منه. فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها.

فلمّا أتي الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أباالحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم فكتب إليه أن(١) اوضح لهم شيئاً فأرضاهم.

____________________

(١) أرضخ (خ).

٣٩٤

أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، وكأنّ أباجعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثمّ تمّ الأمر للمهديّ.

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ولله على الناس حجّ البيت إلخ، يعني به الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره وقد فسّر الحجّ فيه بمعناه اللغويّ وهو القصد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): ومن كفر قال: ترك.

أقول: ورواه الشيخ في التهذيب. وقد عرفت أنّ الكفر ذو مراتب كالإيمان وأنّ المراد منه الكفر بالفروع.

وفي الكافي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والكفر في الرواية بمعنى الردّ، والآية تحتمله. فالكفر فيها بمعناه اللغويّ وهو الستر على الحقّ. وعلى حسب الموارد تتعيّن له مصاديق.

( بحث تاريخي)

من المتواتر المقطوع به أنّ الّذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربّع تقريباً وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسّر عليها الرياح ولا تضرّها مهما اشتدّت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتّى جدّدها العمالقة ثمّ بنو جرهم (أو بالعكس كما مرّ في الرواية عن أميرالمؤمنين (عليه السلام)).

ثمّ لمّا آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (القرن الثاني قبل الهجرة) هدمها وبناها فأحكم بنائها، وسقّفها بخشب الدوم وجذوع النخل

٣٩٥

وبنى إلى جانبها دار الندوة، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه، ثمّ قسّم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، وفتحوا عليه أبواب دورهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها وكان الّذي يبنيها يا قوم الروميّ، ويساعده عليه نجّار مصريّ، ولمّا انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أنّ أيّها يختصّ بشرف وضعه فرأوا أن يحكّموا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسنّه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه. فطلب رداءً ووضع عليه الحجر، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتّى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقيّ أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتّى تسلّط عبدالله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكّة، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت واُحرقت كسوتها وبعض أخشابها، ثمّ انكشف عنها لموت يزيد فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجصّ النقيّ من اليمن، وبناها به، وأدخل الحجر في البيت، وألصق الباب بالأرض، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولمّا فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً، وكساها بالديباج، وكان فراغه من بنائها ١٧ رجب سنه ٦٤ هجريّة.

ثمّ لمّا تولّى عبدالملك بن مروان الخلافة بعث الحجّاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتّى غلبه فقتله، ودخل البيت فأخبر عبدالملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأوّل، فهدم الحجّاج من جانبها

٣٩٦

الشماليّ ستّة أذرع وشبراً، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ورفع الباب الشرقيّ وسدّ الغربيّ ثمّ كبس أرضها بالحجارة الّتي فضلت منها.

ولمّا تولّى السلطان سليمان العثمانيّ الملك سنة ستّين وتسعمائة غير سقفها، ولمّا تولّى السلطان أحمد العثمانيّ سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولمّا حدث السيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشماليّة والشرقيّة والغربيّة فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها، ولم يزل على ذلك حتّى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مائة وخمس وسبعين هجريّة قمريّة وسنة ألف وثلاثمائه وخمس وثلاثين هجريّة شمسيّة.

شكل الكعبة: شكل الكعبة مربّع تقريباً وهي مبنيّة بالحجارة الزرقاء الصلبة ويبلغ ارتفاعها ستّة عشر متراً، وقد كانت في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً (عليه السلام) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام الّتي كانت على الكعبة وكسرها.

وطول الضلع الّذي فيه الميزاب والّذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات، وطول الضلع الّذي فيه الباب والّذي قبالته اثنا عشر متراً، والباب على ارتفاع مترين من الأرض، وفي الركن الّذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر ونصف من أرض المطاف، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضيّ الشكل غير منتظم، لونه أسود ضارب إلى الحمرة، وفيه نقط حمراء، وتعاريج صفراء، وهي أثر لحام القطع الّتي كانت تكسّرت منه، قطره نحو ثلاثين سانتي متراً.

وتسمّى زوايا الكعبة من قديم أيّامها بالأركان فيسمّى الشماليّ بالركن العراقيّ، والغربيّ بالشاميّ والجنوبيّ باليمانيّ، والشرقيّ الّذي فيه الحجر الأسود بالأسود، وتسمّى المسافة الّتي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إيّاه في دعائه واستغاثته. وأمّا الميزاب على الحائط الشماليّ ويسمّى ميزاب الرحمة فممّا

٣٩٧

أحدثه الحجّاج بن يوسف ثمّ غيّره السلطان سليمان سنة ٩٥٤ إلى ميزاب من الفضّة ثمّ أبدله السلطان أحمد سنة ١٠٢١ بآخر من فضّة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخلّلها نقوش ذهبيّة. ثمّ أرسل السلطان عبدالمجيد من آل عثمان سنة ١٢٧٣ ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.

وقبالة الميزاب حائط قوسيّ يسمّى بالحطيم، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشماليّة والغربيّة، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات، ويبلغ ارتفاعه متراً، وسمكه متراً ونصف متر، وهو مبطّن بالرخام المنقوش، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً.

والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمّى بحجر إسماعيل، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها: ويقال: إنّ هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.

وأمّا تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم، وما للبيت من السنن والتشريفات فلا يهمّنا التعرّض له.

كسوة الكعبة: قد تقدّم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصّة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكّة أنّ هاجر علّق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.

وأمّا كسوة البيت نفسه فيقال: إنّ أوّل من كساها تبّع أبوبكر أسعد كساها بالبرود المطرّزة بأسلاك الفضّة، وتبعه خلفاؤه ثمّ أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، وكلّما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصّى، ووضع قصّى على العرب رفادة لكسوتها سنويّاً واستمرّ ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.

٣٩٨

وقد كساها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالثياب اليمانيّة، وكان على ذلك حتّى إذا حجّ الخليفة العبّاسيّ المهديّ شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، وذكروا أنّه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، وإبدالها بكسوة واحدة كلّ سنة، وجرى العمل على ذلك حتّى اليوم، وللكعبة كسوة من داخل، وأوّل من كساها من داخل اُمّ العبّاس بن عبدالمطّلب لنذر نذرته في ابنها العبّاس.

منزلة الكعبة: كانت الكعبة مقدّسة معظّمة عند الاُمم المختلفة فكانت الهنود يعظّمونها، ويقولون: إنّ روح (سيفا) وهو الاُقنوم الثالث عندهم حلّت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيّين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظّمة(١) وربّما قيل: إنّه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.

وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح هرمز حلّت فيها، وربّما حجّوا إليها زائرين.

وكانت اليهود يعظّمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل، وبأيديهما الأزلام. ومنها صورتا العذراء والمسيح. ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضاً كاليهود.

وكانت العرب أيضاً تعظّمها كلّ التعظيم، وتعدّها بيتاً لله تعالى، وكانوا يحجّون إليها من كلّ جهة وهم يعدّون البيت بناءً لإبراهيم والحجّ من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

ولاية الكعبة: كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثمّ لولده من بعده حتّى

____________________

(١) البيت المعظّمة هي: ١ - الكعبة ٢ - مارس على رأس جبل باصفهان ٣ - مندوسان ببلاد الهند ٤ - نوبهار بمدينة بلخ ٥ - بيت غمدان بمدينة صنعاء ٦ - كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ٧ - بيت بأعالي بلاد الصين.

٣٩٩

تغلّبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثمّ ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، وقد كانوا ينزلون أسفل مكّة كما أنّ جرهم كانت تنزل أعلى مكّة وفيهم ملوكهم.

ثمّ كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولّوها نحواً من ثلاثمائة سنة، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثمّ لمّا نشأت ولد إسماعيل، وكثروا وصاروا ذوي قوّة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكّة، ومقدّم الإسماعيليّين يومئذ عمرو بن لحى، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكّة وتولّى أمر البيت، وهو الّذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها، وأوّل صنم وضعه عليها هو (هبل) حمله معه من الشام إلى مكّة ووضعه عليها ثمّ أتبعه بغيره حتّى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب، وهجرت الحنيفيّة.

وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهميّ يخاطب عمرو بن لحى.

يا عمرو إنّك قد أحدثت آلهة

شتّى بمكّة حول البيت أنصاباً

وكان للبيـت ربّ واحد أبداً

فقد جعلت له في الناس أرباباً

لتعـرّفنّ بأنّ الله في مـهل

سيصطفي دونكم للبيت حجّاباً

وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعيّ فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصيّ بن كلاب، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمّى أباغبشان الخزاعيّ فباعه أبوغبشان من قصيّ بن كلاب ببعير وزقّ خمر، وفي ذلك يضرب المثل السائر (أخسر من صفقة أبي غبشان).

فانتقلت الولاية إلى قريش وجدّد قصّي بناء البيت كما قدّمناه وكان الأمر على ذلك حتّى فتح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الّذي

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432