الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن18%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89875 / تحميل: 7009
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله (عليه السلام) في عليّ رضي الله عنه: اللّهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل، وقوله لابن عبّاس مثل ذلك أنتهى كلامه وهو أعمّ الأقوال في‍ معنى المتشابه جمع فيها بين عدّة من الأقوال المتقدّمة.

وفيه:أوّلاً: أنّ تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظيّة كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية فإنّ الآية جعلت المحكمات مرجعاً يرجع إليه المتشابهات ومن المعلوم أنّ غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحلّ عقدتها من جهة دلالة المحكمات بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتّضح به.

وأيضاً: الآية تصف المتشابهات بأنّها من شأنها أن تتّبع لابتغاء الفتنة ومن المعلوم: أن اتّباع العامّ من غير رجوع إلى مخصّصه والمطلق من غير رجوع إلى مقيّده وأخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عمّا يفسّره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوّزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجباً لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.

وثانياً: أنّ تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامّة الناس وما لا يمكن فهمه لأحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنّه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه وقد عرفت خلافه.

هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما وقد عرفت ما فيها وعرفت أيضاً أنّ الّذى يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كلّه وأنّ الّذي تعطيه الآية في معنى المتشابه: أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالّة دالّة على معنى مريب مردّد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العامّ والمطلق إلى المخصّص والمقيّد ونحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية اُخرى محكمة لا ريب فيه تبيّن حال المتشابهة.

ومن المعلوم أنّ معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلّا مع كون ما يتّبع من المعنى مألوفاً مأنوساً عند الأفهام العامّية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك

٤١

والتعقّل.

وأنت إذا تتّبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة الّتى انحرف فيها الفرق الإسلاميّة عن الحقّ القويم بعد زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتّباع المتشابه والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه.

ففرقة تتمسّك من القرآن بآيات للتجسيم واُخرى للجبر واُخرى للتفويض واُخرى لعثرة الأنبياء واُخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات واُخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات إلى غير ذلك كلّ ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.

وطائفة ذكرت: أنّ الأحكام الدينيّة إنّما شرّعت لتكون طريقاً إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعيّناً لمن ركبه فإنّما المطلوب هو الوصول بأيّ طريق اتّفق وتيسّر واُخرى قالت: إنّ التكليف إنّما هو لبلوغ الكمال ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقّق الوصول فلا تكليف لكامل.

وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلاميّة قائمة ومقامة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يشذّ منها شاذّ ثمّ لم تزل بعد ارتحاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تنقص وتسقط حكماً فحكماً يوماً فيوماً بيد الحكومات الإسلاميّة ولم يبطل حكم أو حدّ إلّا واعتذر المبطلون: أنّ الدين إنّما شرّع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم حتّى آل الأمر إلى ما يقال: إنّ الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا باجرائها والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينيّة ولا تهضمها بل تستدعى وضع قوانين ترتضيها مدنيّة اليوم وأجرائها وإلى ما يقال: إنّ التلبّس بالأعمال الدينيّة لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والإرادة الصالحتين والقلوب المتدرّبة بالتربية الاجتماعيّة والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهّر بأمثال الوضوء والغسل والصلوه والصوم.

إذا تأمّلت في هذه وأمثالها - وهي لا تحصى كثرة - وتدبّرت في قوله تعالى: فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الآية لم

٤٢

تشكّ في صحّة ما ذكرناه وقضيت بأنّ هذه الفتن والمحن الّتي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقرّ قرارها إلّا من طريق اتّباع المتشابه وابتغاء تأويل القرآن.

و هذا - والله أعلم - هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب وإصراره البالغ على النهي عن اتّباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والإلحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتّباع خطوات الشيطان فإنّ من دأب القرآن أنّه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولّي الكفّار ومودّة ذوي القربى وقرار أزواج النبيّ ومعاملة الربا واتّحاد الكلمة في الدين وغير ذلك.

ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسدّ طريق ابتغاء الفتنة الّذين منشأهما الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض واتّباع الهوى إلّا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى:( ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله إنّ الّذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ص - ٢٦ ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبّين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربّهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون: ربّنا إنّك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد.

٢ - ما معنى كون المحكمات اُمّ الكتاب ؟

ذكر جماعة: أنّ كون الآيات المحكمة اُمّ الكتاب كونها أصلاً في الكتاب عليه تبتنى قواعد الدين وأركانها فيؤمن بها ويعمل بها وليس الدين إلّا مجموعاً من الاعتقاد والعمل وأمّا الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنّما يؤمن بها إيماناً.

وأنت بالتأمّل فيما تقدّم من الأقوال تعلم: أنّ هذا لازم بعض الأقوال المتقدّمة وهي الّتي ترى أنّ المتشابه إنّما صار متشابهاً لاشتماله على تأويل يتعذّر الوصول إليه وفهمه أو أنّ المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائيّة يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظيّة.

٤٣

وقال آخرون: أنّ معنى اُمومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها وكلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم: أنّ المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان والاتّباع العمليّ في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في موردها إلى العمل بالناسخة. وهذا القول لا يغاير القول الأوّل كثير مغائرة وظاهر بعض آخر أنّ معناها كون المحكمات مبيّنة للمتشابهات رافعة لتشابهها.

والحقّ هو المعنى الثالث فإنّ معنى الاُمومة الّذي تدلّ عليه قوله: هنّ اُمّ الكتاب الآية يتضمّن عناية زائدة وهو أخصّ من معنى الأصل الّذي فسّرت به الاُمّ في القول الأوّل فإنّ في هذه اللفظة أعني لفظة الاُمّ عناية بالرجوع الّذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعّض فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرّع على المحكمات ولازمه كون المحكمات مبيّنة للمتشابهات.

على أنّ المتشابه إنّما كان متشابهاً لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل فإنّ التأويل كما مرّ يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه والقرآن يفسّر بعضه بعضاً فللمتشابه مفسّر وليس إلّا المحكم مثال ذلك قوله تعالى:( إلى ربّها ناظرة ) القيامة - ٢٣ فإنّه آية متشابهة وبإرجاعها إلى قوله تعالى:( ليس كمثله شئ ) الشورى - ١١ وقوله تعالى:( لا تدركه الأبصار ) الانعام - ١٠٣ يتبيّن: أنّ المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسّيّ وقد قال تعالى:( ما كذب الفؤاد ما رآى أفتمارونه على ما يرى - إلى أن قال -لقد رآى من آيات ربّه الكبرى ) النجم - ١٨ فأثبت للقلب رؤية تخصّه وليس هو الفكر فإنّ الفكر إنّما يتعلّق بالتصديق والمركّب الذهنيّ والرؤية إنّما تتعلّق بالمفرد العينيّ فيتبيّن بذلك أنّه توجّه من القلب ليست بالحسّيّة المادّيّة ولا بالعقليّة الذهنيّة والأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.

٤٤

٣ - ما معنى التأويل ؟

فسّر قوم من المفسّرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام وإذ كان المراد من بعض الآيات معلوماً بالضرورة كان المراد بالتأويل عليهذا من قوله تعالى: وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله الآية هو المعنى المراد بالآية المتشابهة فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابهة على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره وغير الراسخين في العلم.

وقالت طائفة اُخرى: أنّ المراد بالتأويل: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقه ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.

وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخّرين كما أنّ المعنى الأوّل هو الّذي كان شائعاً بين قدماء المفسّرين سواء فيه من كان يقول: إنّ التأويل لا يعلمه إلّا الله ومن كان يقول: إنّ الراسخين في العلم أيضاً يعلمونه كما نقل عن ابن عبّاس: أنّه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله.

وذهب طائفة اُخرى: إلى أنّ التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلّا الله تعالى أو لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ فيرجع الأمر إلى أنّ للآية المتشابهة معاني متعدّدة بعضها تحت بعض منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلّا الله سبحانه أو هو تعالى والراسخون في العلم.

وقد اختلفت أنظارهم في كيفيّة ارتباط هذه المعاني باللفظ فإنّ من المتيقّن أنّها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلّا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محلّه فهي لا محالة معان مترتّبة في الطول: فقيل: إنّها لوازم معنى اللفظ إلّا أنّها لوازم مترتّبة بحيث يكون للفظ معني مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا. وقيل: إنّها معان مترتّبة بعضها على بعض ترتّب الباطن على ظاهره فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما أنّك إذا قلت: اسقني فلا تطلب بذاك إلّا السقي وهو

٤٥

بعينه طلب للإرواء وطلب لرفع الحاجة الوجوديّة وطلب للكمال الوجوديّ وليس هناك أربعة أوامر ومطالب بل الطلب الواحد المتعلّق بالسقي متعلّق بعينه بهذه الاُمور الّتى بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها.

وهيهنا قول رابع: وهو أنّ التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العينيّ الّذي يعتمد عليه الكلام فإن كان الكلام حكماً إنشائيّاً كالأمر والنهي فتأويله المصلحة الّتي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه فتأويل قوله: أقيموا الصلاة مثلاً هو الحالة النورانيّة الخارجيّة الّتي تقوم بنفس المصلّي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر وإن كان الكلام خبريّاً فإن كان إخباراً عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء والاُمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي وإن كان إخباراً عن الحوادث والاُمور الحاليّة والمستقبلة فهو على قسمين: فإمّا أن يكون المخبر به من الاُمور الّتي تناله الحواسّ أو تدركه العقول كان أيضاً تأويله ما هو في الخارج من القضيّة الواقعة كقوله تعالى:( وفيكم سمّاعون لهم ) التوبة - ٤٧ وقوله تعالى:( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) الروم - ٤ وإن كان من الاُمور المستقبلة الغيبيّة الّتي لا تناله حواسّنا الدنيويّة ولا يدرك حقيقتها عقولنا كالاُمور المربوطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الأموات والجمع والسؤال والحساب وتطائر الكتب أو كان ممّا هو خارج من سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى فتأويلها أيضاً نفس حقائقها الخارجيّة.

والفرق بين هذا القسم أعنى الآيات المبيّنة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الأقسام الاُخر أنّ الأقسام الاُخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم فإنّه لا يعلم حقيقة تأويله إلّا الله تعالى. نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم، وأمّا حقيقة الأمر الّذي هو حقّ التأويل فهو ممّا استأثر الله سبحانه بعلمه.

فهذا هو الّذي يتحصّل من مذاهبهم في معنى التأويل وهي أربعة.

٤٦

وهيهنا أقوال اُخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأوّل وإن تحاشى القائلون بها عن قبوله.

فمن جملتها أنّ التفسير أعمّ من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهيّة ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان معنى اللفظ الّذي لا يحتمل إلّا وجهاً واحداً والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطاً.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها وهو قريب من سابقه.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقه المراد مثاله: قوله تعالى: إنّ ربّك لبالمرصاد فتفسيره: أنّ المرصاد مفعال من قولهم: رصد يرصد إذا راقب. وتأويله التحذير عن التهاون بأمر الله والغفلة عنه.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى المشكل.

ومن جملتها: أنّ التفسير يتعلّق بالرواية والتأويل يتعلّق بالدراية.

ومن جملتها: أنّ التفسير يتعلّق بالاتّباع والسماع والتأويل يتعلّق بالاستنباط والنظر. فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأوّل الّذي نقلناه يرد عليها ما يرد عليه. وكيف كان فلا يصحّ الركون إلى شئ من هذه الأقوال الأربعة وما ينشعب منها.

أمّا إجمالاً: فلأنّك قد عرفت: أنّ المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم تدلّ عليه الآية سواء كان مخالفاً لظاهرها أو موافقاً، بل هو من قبيل الاُمور الخارجيّة، ولا كلّ أمر خارجيّ حتّى يكون المصداق الخارجيّ للخير تأويلاً له، بل أمر خارجيّ مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثّل إلى المثل (بفتحتين) والباطن إلى الظاهر.

٤٧

وأمّا تفصيلاً فيرد على القول الأوّل: أنّ أقلّ ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنيّة لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظيّة عامّة الأفهام، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنّه إنّما اُنزل قرآناً ليناله الأفهام، ولا مناص لصاحب هذا القول إلّا أن يختار أنّ الآيات المتشابهة إنّما هي فواتح السور من الحروف المقطّعة حيث لا ينال معانيها عامّة الأفهام، ويرد عليه: أنّه لا دليل عليه، ومجرّد كون التأويل مشتملاً على معنىّ الرجوع وكون التفسير أيضاً غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أنّ الاُمّ مرجع لأولادها وليست بتأويل لهم، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويل له.

على أنّ ابتغاء الفتنة عدّ في الآية خاصّة مستقلّة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح السور فإنّ أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنّما حدثت باتّباع علل الأحكام وآيات الصفات وغيرها.

وأمّا القول الثاني فيرد عليه: أنّ لازمه وجود آيات في القرآن اُريد بها معان يخالفها ظاهرها الّذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات ومرجعه إلى أنّ في القرآن اختلافاً بين الآيات لا يرتفع إلّا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامّة الأفهام وهذا يبطل الاحتجاج الّذي في قوله تعالى:( أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنّه اُريد بإحداهما أو بهما معاً غير ما يدلّ عليه الظاهر بل معنى تأويليّ باصطلاحهم لا يعلمه إلّا الله سبحانه مثلاً لم تنجح حجّة الآية فإنّ انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كلّ مجموع من الكلام ولو كان لغير الله أمر ممكن ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر إذ من الواضح أنّ كلّ كلام حتّى القطعيّ الكذب واللغو يمكن إرجاعه إلى الصدق والحقّ بالتأويل والصرف عن ظاهره فلا يدلّ ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال وتناقض الآراء والسهو والنسيان والخطاء والتكامل بمرور الزمان كما هو المعنيّ بالاحتجاج في الآية فالآية بلسان احتجاجها صريح في

٤٨

أنّ القرآن معرض لعامّة الأفهام ومسرح للبحث والتأمّل والتدبّر وليس فيه آية اُريد بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربيّ ولا أنّ فيه اُحجيّة وتعمية.

وأمّا القول الثالث فيرد عليه: أنّ اشتمال الآيات القرآنيّة على معان مترتّبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض ممّا لا ينكره إلّا من حرم نعمة التدبّر إلّا أنّها جميعاً - وخاصّة لو قلنا أنّها لوازم المعنى - مداليل لفظيّة مختلفة من حيث الانفهام وذكاء السامع المتدبّر وبلادته وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: وما يعلم تأويله إلّا الله فإنّ المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدّة وعدمها وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهيّة لكنّ ذلك ليس على نحو الدوران والعلّيّة كما هو ظاهر قوله: وما يعلم تأويله إلّا الله.

وأمّا القول الرابع فيرد عليه: أنّه وإن أصاب في بعض كلامه لكنّه أخطأ في بعضه الآخر فإنّه وإن أصاب في القول بأنّ التأويل لا يختصّ بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن وأنّ التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظيّ بل هو أمر خارجيّ يبتني عليه الكلام لكنّه أخطأ في عدّ كلّ أمر خارجيّ مرتبط بمضمون الكلام حتّى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تأويلاً للكلام وفي حصر المتشابه الّذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات وآيات القيامة.

توضيحه: أنّ المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى: وابتغاء تأويله إلخ إمّا أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله: ولا يعلم تأويله إلّا الله إلخ فإنّ كثيراً من تأويل القرآن وهو تأويلات القصص بل الأحكام أيضاً وآيات الأخلاق ممّا يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتّى الزائغون قلباً على قوله فإنّ الحوادث الّتي تدلّ عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم وكذا الحقائق الخلقيّة والمصالح الّتي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الاُمور المشرّعة.

وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله: وما

٤٩

يعلم تأويله إلّا الله إلخ وأفاد أنّ غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلاً لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه وهو يؤدّي إلى الفتنة وإضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الّذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات والقيامة فإنّ الفتنة والضلال كما يوجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل (وقد قيل) إنّ المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنسانيّ بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح فلو فرض أنّ صلاح المجتمع في غير الحكم المشرّع أو أنّه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتّباعه وإلغاء الحكم الدينيّ المشرّع. وكأن يقول القائل (وقد قيل) إنّ المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن اُمور عاديّة وإنّما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامّة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيّلونه خارقاً للعادة قاهراً لقوانين الطبيعة ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شئ كثير من هذه الأقاويل وجميعها من التأويل في القرآن ابتغائاً للفتنة بلا شكّ فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة.

إذا عرفت ما مرّ علمت: أنّ الحقّ في تفسير التأويل أنّه الحقيقة الواقعيّة الّتي تستند إليها البيانات القرآنيّة من حكم أو موعظة أو حكمة وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنيّة: محكمها ومتشابهها وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الاُمور العينيّة المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ وإنّما قيّدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهى كالأمثال تضرب ليقرّب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى:( والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعلىّ حكيم ) الزخرف - ٤ وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى.

على أنّك قد عرفت فيما مرّ من البيان أنّ القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد الّتي استعملها - وهي ستّة عشر مورداً على ما عدّت - إلّا في المعنى الّذي ذكرناه.

٥٠

٤ - هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه ؟

هذه المسألة أيضاً من موارد الخلاف الشديد بين المفسّرين ومنشأه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا الآية وأنّ الواو هل هو للعطف أو للاستيناف فذهب بعض القدماء والشافعيّة ومعظم المفسّرين من الشيعة إلى أنّ الواو للعطف وأنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن وذهب معظم القدماء والحنفيّة من أهل السنّة إلى أنّه للاستيناف وأنّه لا يعلم تأويل المتشابه إلّا الله وهو ممّا استأثر الله سبحانه بعلمه وقد استدلّت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة وببعض الروايات والطائفة الثانية بوجوه اُخر وعدّة من الروايات الواردة في أنّ تأويل المتشابهات ممّا استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كلّ طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها.

والّذي ينبغي أن يتنبّه له الباحث في المقام أنّ المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أوّل ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث والتنقير فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم وبعبارة اُخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونّا به المسألة وقرّرنا عليه الخلاف وقول كلّ من الطرفين آنفا.

ولذلك تركنا التعرّض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط وأمّا الروايات فإنّها مخالفة لظاهر الكتاب فإنّ الروايات المثبتة أعنى الدالّة على أنّ الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنّها أخذت التأويل مراد فاللمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى كما روى من طرق أهل السنّة: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا لابن عبّاس فقال: اللّهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل وما روي من قول ابن عبّاس: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله ومن قوله: إنّ المحكمات هي الآيات الناسخة والمتشابهات هي المنسوخة فإنّ لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلاً للآية المتشابهة وهو الّذى أشرنا إليه أنّ التأويل بهذا المعنى ليس مورداً لنظر الآية.

٥١

وأمّا الروايات النافية أعنى الدالّة على أنّ غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روى: أن ابن عبّاس كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون في العلم آمنّا به وكذلك كان يقرأ اُبىّ بن كعب وما روي أنّ ابن مسعود كان يقرأ: وإن تأويله إلّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به فهذه لا تصلح لإثبات شئ: أمّا أوّلاً: فلأنّ هذه القرائات لا حجّيّة فيها. وأمّا ثانياً: فلأنّ غاية دلالتها أنّ الآية لا تدلّ على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدّعى فمن الممكن أن يدلّ عليه دليل آخر.

ومثل ما في الدرّ المنثور عن الطبرانيّ عن أبي مالك الأشعريّ أنّه سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: لا أخاف على اُمّتي إلّا ثلاث خصال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذكر إلّا اُولوا الألباب، وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به. وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدلّ إلّا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم، ولا ينفع المستدلّ إلّا الثاني.

ومثل الروايات الدالّة على وجوب اتّباع المحكم والإيمان بالمتشابه. وعدم دلالتها على النفي ممّا لا يرتاب فيه.

ومثل ما في تفسير الآلوسيّ عن ابن جرير عن ابن عبّاس مرفوعاً: اُنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسّره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلّا الله ومن ادّعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب. والحديث مع كونه مرفوعاً ومعارضاً بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادّعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن: أنّ التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مرّ.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ القرآن يدلّ على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، وأمّا هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.

٥٢

أمّا الجهة الثانية فلمّا مرّ في البيان السابق: أنّ الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنّما هي في مقام بيان انقساُمّ الكتاب إلى المحكم والمتشابه، وتفرّق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتّباع المتشابه لزيغ في قلبه وثابت على اتّباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه فإنّما القصد الأوّل في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمّهم، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأوّل ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلّا وجوه غير تامّة تقدّمت الإشارة إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: وما يعلم تأويله إلّا الله من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك. فالّذي تدلّ عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به.

لكنّه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدلّ على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب. قال تعالى:( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلّا الله ) النمل - ٦٥ وقال تعالى:( إنّما الغيب لله ) يونس - ٢٠ وقال تعالى:( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو ) الأنعام - ٥٩. فدلّ جميع ذلك على الحصر ثمّ قال تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى من رسول ) الجنّ - ٢٧. فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول، ولذلك نظائر في القرآن.

وأمّا الجهه الاُولى - وهى أنّ القرآن يدلّ على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة - فبيانه: أنّ الآيات كما عرفت تدلّ على أنّ تأويل الآية أمر خارجيّ نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثّل إلى المثل فهو وإن لم يكن مدلولاً للآية بما لها من الدلالة لكنّه محكيّ لها محفوظ فيها نوعاً من الحكاية والحفظ. نظير قولك: في الصيف ضيّعت اللبن لمن أراد أمراً قد فوّت أسبابه من قبل فإنّ المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرئة اللبن في الصيف لا ينطبق شئ منه على المورد، وهو مع ذلك ممثّل لحال المخاطب حافظ له يصوّره في الذهن بصورة مضمّنة في الصورة الّتي يعطيها الكلام بمدلوله.

٥٣

كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجيّة الّتي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهيّة أو وقوع حادثة هي مضمون قصّة من القصص القرآنيّة وإن لم تكن أمراً يدلّ عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائيّة إلّا أنّ الحكم أو البيان أو الحادثة لمّا كان كلّ منها ينتشئ منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أنّ قول السيّد لخادمه: اسقني ينتشئ عن اقتضاء الطبيعة الإنسانيّة لكمالها فإنّ هذه الحقيقة الخارجيّة هي الّتي تقتضي حفظ الوجود والبقاء، وهو يقتضي بدل ما يتحلّل من البدن وهو يقتضي الغذاء اللازم وهو يقتضي الريّ وهو يقتضي الأمر بالسقي مثلاً فتأويل قوله: اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجيّة الإنسانيّة من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ولو تبدّلت هذه الحقيقة الخارجيّة إلى شئ آخر يباين الأوّل مثلاً لتبدّل الحكم الّذي هو الأمر بالسقي إلى حكم آخر وكذا الفعل الّذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانيّة على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنّما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الّذي عندهم وهو يستند إلى مجموعة متّحدة متّفقة من علل زمانيّة ومكانيّة وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممّن سبقه وتكرّر المشاهدة ممّن شاهده من أهل منطقته فهذه العلّة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنّها محكيّة مضمّنة محفوظة بالفعل أو الترك ولو فرض تبدّل المحيط الاجتماعيّ لتبدّل ما أتى به من الفعل أو الترك.

فالأمر الّذي له التأويل سواء كان حكماً أو قصّة أو حادثة يتغيّر بتغيّر التأويل لا محالة ولذلك ترى أنّه تعالى في قوله: فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاءً الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله الآية لما ذكر اتّباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاءاً للفتنة ذكر أنّهم بذلك يبتغون تأويله الّذي ليس بتأويل له وليس إلّا لأنّ التأويل الّذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقيّ لكان اتّباعهم للمتشابه اتّباعاً حقّاً غير مذموم وتبدّل الأمر الّذي يدلّ عليه المحكم وهو المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الّذي فهموه من المتشابه واتّبعوه.

٥٤

فقد تبيّن: أنّ تأويل القرآن حقائق خارجيّة تستند إليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بيّنته بحيث لو فرض تغيّر شئ من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.

وإذا أجدت التدبّر وجدت أنّ هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى:( والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم ) الزخرف - ٤ فإنّه يدلّ على أنّ القرآن النازل كان عند الله أمراً أعلى وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطّع والتفصّل لكنّه تعالى عنايةً بعباده جعله كتاباً مقرّراً وألبسه لباس العربيّة لعلّهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في اُمّ الكتاب واُمّ الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله:( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب ) الرعد - ٣٩. وبقوله:( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) البروج - ٢٢.

ويدلّ على إجمال مضمون الآية أيضاً قوله تعالى:( كتاب اُحكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيم خبير ) هود - ١ فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا فصل والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وآية آية وتنزيله على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدلّ على هذه المرتبة الثانية الّتي تستند إلى الاُولى قوله تعالى:( وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلاً ) أسرى - ١٠٦ فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثمّ فرق ونزّل تنزيلاً واُوحي نجوماً.

وليس المراد بذلك أنّه كان مجموع الآيات مرتّب السور على الحال الّذي هو عليه الآن عندنا كتاباً مؤلّفاً مجموعاً بين الدفّتين مثلاً ثمّ فرق واُنزل على النبيّ نجوماً ليقرأه على الناس على مكث كما يفرّقه المعلم المقري منّا قطعات ثمّ يعلّمه ويقرئه متعلّمه كلّ يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.

وذلك أنّ بين إنزال القرآن نجوماً على النبيّ وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلّم فرقاً بيّناً وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآيه على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا شئ من ذلك ولا ما يشبهه في تعلّم المتعلّم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلّم في أزمنة مختلفة يمكن

٥٥

أن تجمع وينضمّ بعضها إلى بعض في زمان واحد، ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى:( فاعف عنهم واصفح ) المائدة - ١٣ وقوله تعالى:( قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّار ) التوبة - ١٢٣ وقوله تعالى:( قد سمع الله قول الّتي تجادلك في زوجها ) المجادلة - ١ وقوله تعالى:( خذ من أموالهم صدقة ) التوبة - ١٠٣ ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثمّ يفرض نزولها في أوّل البعثة أو في آخر زمان حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالمراد بالقرآن في قوله: وقرآناً فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلّفة.

وبالجملة فالمحصّل من الآيات الشريفة أنّ وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد والمتمثّل من المثال - وهو الّذي يسمّيه تعالى بالكتاب الحكيم - وهو الّذي تعتمد وتتّكي عليه معارف القرآن المنزّل ومضامينه وليس من سنخ الألفاظ المفرّقة المقطّعة ولا المعاني المدلول عليها بها وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه. وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسّه الأفهام العاديّة والنفوس غير المطهّرة.

ثمّ إنّه تعالى قال:( إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون ) الواقعة - ٧٩ ولا شبهة في ظهور الآيات في أنّ المطهّرين من عباد الله هم يمسّون القرآن الكريم الّذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغيّر ومن التغيّر تصرّف الأذهان بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المسّ إلّا نيل الفهم والعلم ومن المعلوم أيضاً: أنّ الكتاب المكنون هذا هو اُمّ الكتاب المدلول عليه بقوله: يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب وهو المذكور في قوله: وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعلىّ حكيم.

وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم وليس ينزلها إلّا الله سبحانه فإنّه تعالى لم يذكرها إلّا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى:( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) الأحزاب - ٣٣ وقوله تعالى:( ولكن يريد ليطهّركم ) المائدة - ٦ وما في القرآن شئ من الطهارة المعنويّة إلّا منسوبة إلى الله أو بإذنه وليست الطهارة إلّا زوال الرجس من القلب وليس القلب من الإنسان

٥٦

إلّا ما يدرك به ويريد به فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين، ويرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقّة من غير ميلان إلى الشكّ ونوسان بين الحقّ والباطل وثباته على لوازم ما علمه من الحقّ من غير تمائل إلى اتّباع الهوى ونقض ميثاق العلم وهذا هو الرسوخ في العلم فإنّ الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلّا بأنّهم مهديّون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة فقد ظهر أنّ هؤلاء المطهّرين راسخون في العلم هذا.

ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة الّتي ينتجها هذا البيان فإنّ المقدار الثابت بذلك أنّ المطهّرين يعلمون التأويل ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم لما أنّ تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب لا أنّ الراسخين في العلم يعلمونه بما أنّهم راسخون في العلم أي إنّ الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل فإنّ الآية لا تثبت ذلك بل ربّما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا الآية وقد وصف الله تعالى رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله:( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك الآية ) النساء - ١٦٢ ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.

وكذلك إنّ الآية أعني قوله تعالى: لا يمسّه إلّا المطهّرون لم تثبت للمطهّرين إلّا مسّ الكتاب في الجملة، وأمّا أنّهم يعلمون كلّ التأويل ولا يجهلون شيئاً منه ولا في وقت فهي ساكتة عن ذلك، ولو ثبت لثبت بدليل منفصل.

٥ - ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه ؟

 ومن الاعتراضات الّتي اُوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنّكم تدّعون أنّ تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه وأنّه قول فصل يميّز بين الحقّ والباطل ثمّ إنّا نراه يتمسّك به كلّ صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه، وليس ذلك إلّا لوقوع التشابه في آياته أفليس

٥٧

أنّه لو جعله جليّاً نقيّاً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب، وأقطع لمادّة الخلاف والزيغ؟

وأجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأنّ وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحقّ ومشقّة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب! وكالجواب بأنّه لو لم يشتمل إلّا على صريح القول في مذهب لنفّر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه لكنّه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحقّ فيؤمنوا به وكالجواب بأنّ اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل، وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد وكالجواب بأنّ اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة، وفي ذلك فائدة التضلّع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو واُصول الفقه.

فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر والّذي يستحقّ الإيراد والبحث من الأجوبة وجوه ثلثة:

الأوّل: أنّ اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به فإنّه لو كان كلّ ما ورد في الكتاب معقولاً واضحاً لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شئ من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.

وفيه: أنّ الخضوع هو نوع انفعال وتأثّر من الضعيف في مقابل القويّ والإنسان إنّما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهوره الإدراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته الّتي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها وأمّا الاُمور الّتي لا ينالها العقل لكنّه يغترّ ويغادر باعتقاد أنّه يدركها فما معنى خضوعه لها ؟ كالآيات المتشابهة الّتي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنّه يعقلها وهو لا يعقل.

الثاني: أنّ اشتماله على المتشابه إنّما هو لبعث العقل على البحث والتنقير لئلّا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات الّتي لا يعمل فيها عامل الفكر فإنّ العقل أعزّ

٥٨

القوى الإنسانيّة الّتي يجب تربيتها بتربية الإنسان.

وفيه: أنّ الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة إجمالاً في موارد من كلامه، وتفصيلاً في موارد اُخرى كخلق السماوات والأرض والجبال والشجر والدوابّ والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه وندب إلى التعقّل والتفكّر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين وحرّض على العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في اُمور ليس إلّا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام.

الثالث: أنّ الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامّة والخاصّة والذكيّ والبليد والعالم والجاهل وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء فالحريّ في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصّة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامّة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى.

وفيه: أنّ الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات الّتي تبيّن المتشابهات بالرجوع إليها ولازم ذلك أن لا تتضمّن المتشابهات أزيد ممّا يكشف عنها المحكمات وعند ذلك يبقى السؤال (وهو أنّه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات ؟) على حاله ومنشأ الاشتباه أنّ المجيب أخذ المعاني نوعين متبائنين: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامّة والخاصّة وهي مداليل المحكمات ومعان سنخها بحيث لا يتلقّاها إلّا الخاصّة من المعارف العالية والحكم الدقيقة فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات وقد مرّ أنّ ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالّة على أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً وغير ذلك.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ وجود المتشابه في القرآن ضروريّ ناش عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضاً بالمعنى الّذي أوضحناه للتأويل فيما مرّ.

ويتّضح ذلك بعض الاتّضاح بإجادة التدبّر في جهات البيان القرآنيّ والتعليم الإلهيّ والاُمور الّتي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهى اُمور:

٥٩

منها: أنّ الله سبحانه ذكر أنّ لكتابه تأويلاً هو الّذي تدور مداره المعارف القرآنيّة والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمّنه التعليم الإلهيّ وأنّ هذا التأويل الّذي تستقبله وتتوجّه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلّا نفوس طهّرهم الله وأزال عنهم الرجس فإنّ لهم خاصّة أن يمسّوه. وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الّذي هو تبيان كلّ شئ ومفتاحه التطهير الإلهيّ وقد قال تعالى:( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهّركم ) المائدة - ٧ فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهيّ.

وهذا الكمال الإنسانيّ كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلّا أفراد خاصّة وإن كانت الدعوة متعلّقة بالجميع متوجّهة إلى الكلّ فتربية الناس بالتربية الدينيّة إنّما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصّة وبعض التطهير في آخرين ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس كما أنّ الإسلام يدعو إلى حقّ التقوى في العمل قال تعالى:( اتّقوا الله حقّ تقاته ) آل عمران - ١٠٢ ولكن لا يحصل كماله إلّا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالامثل، كلّ ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم وهكذا جميع الكمالات الاجتماعيّة من حيث التربية والدعوة يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كلّ كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلّا البعض ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.

وبالحقيقه أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلّف دون كلّ فرد منه.

ومنها: أنّ القرآن قطع بأنّ الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل: أمّا في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدء والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتّى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيّات معرفة حقيقيّة. وأمّا في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعيّة عليه بحيث تصلح شأن حياته الاجتماعيّة ولا تشغله عن التخلّص إلى عالم العلم والعرفان ثمّ بتحميل تكاليف عباديّة يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجّه

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432