الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 86149
تحميل: 6278


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86149 / تحميل: 6278
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجزء الثّالث

من كتاب

الميزان في تفسير القرآن

للمولفة

اللأستاذ العلّامة

السّيّد محمّد حسين الطّباطبائي

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة آل عمران مدنية وهي مأتا آية)

( سورة آل عمران الآيات ١ - ٦)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الم( ١) اللّهُ لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ الحَيّ الْقَيّومُ( ٢) نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ( ٣) مِن قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ( ٤) إِنّ اللّهَ لاَ يَخْفَى‏ عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السّماءِ( ٥) هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ٦)

( بيان)

غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين، والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقّة الموقف لمواجهتهم أعداءاً كاليهود والنصارى والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم.

ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإنّ آياتها - وهى مأتا آية - ظاهرة الاتّساق والانتظام من أوّلها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها.

ولذلك كان ممّا يترجّح في النظر أن تكون السورة إنّما نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد استقرّ له الأمر بعض الاستقرار ولمّا يتمّ استقراره فإنّ فيها ذكر غزوة اُحد وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران وذكراً من أمر اليهود وحثّاً على المشركين ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وجميع ذلك يؤيّد أنّ السورة نزلت أيّام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامّة قواهم وجميع أركانهم فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الّذين يدبّان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود والنصارى،

٣

ويحاجّونهم ويجاوبونهم ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين، ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الأمن فقد كان الإسلام في هذه الأيّام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركى العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم.

والله سبحانه يذكّر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الّذى هداهم به ما يطيب به نفوسهم ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانيّة وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم ويبيّن لهم: أنّ الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه، ولم يعجزه خلقه، وإنّما اختار دينه وهدى جمعاً من عباده إليه على طريقه العادة الجارية والسنّة الدائمة وهى سنّة العلل والأسباب فالمؤمن والكافر جاريان على سنّة الأسباب فيوم للكافر ويوم للمؤمن فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل والجزاء غداً.

قوله تعالى: ( الله لا إله إلّا هو الحىّ القيّوم ) قد مرّ الكلام فيه في تفسير آية الكرسيّ وتحصّل من هناك أنّ المراد به بيان قيامه تعالى أتمّ القيام على أمر الإيجاد و التدبير فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرّد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعيّة الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم والقدرة فالعلم الإلهىّ نافذ فيها لا يخفى عليه شيئ منها والقدرة مهيمنه عليها لا يقع منها إلّا ما شاء وقوعه وأذن فيه. ولذلك عقّبه بقوله بعد آيتين: إنّ الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء هو الّذى يصوّركم في الأرحام كيف يشاء.

ولمّا كانت هذه الآيات الستّ في أوّل السورة على طريق براعه الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل - وقد مرّ ذكر غرض السورة - كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلّىّ الّذى يستنتج به الغرض كما أنّ الآيتين الأخيرتين أعنى قوله: إنّ الله لا يخفى عليه الخ بمنزلة التعليل بعد البيان. وعلي هذا فالكلام الّتى يتمّ به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسّطتان أعنى قوله:

نزّل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام وعلي هذا فيعود المعنى إلى أنّه يجب على المؤمنين أن يتذكّروا أنّ الله الّذى آمنوا به واحد في اُلوهيّته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة، لا يغلب في ملكه ولا يكون إلّا ما شاء وأذن فيه. فإنّهم إذا تذكّروا ذلك

٤

علموا أنّه هو المنزل للكتاب الهادى إلى الحقّ والفرقان المميّز بين الحقّ والباطل وأنّه إنّما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب وظرف الاختيار فمن آمن فله أجره ومن كفر فإنّ الله سيجزيه لأنّه عزيز ذو انتقام، وذلك أنّه الله الّذى لا إله غيره حتّى يحكم في هذه الجهات ولا يخفى عليه أمرهم، ولا يخرج عن إرادته ومشيّته فعالهم وكفرهم.

قوله تعالى: ( نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه ) ، قد مرّ أنّ التنزيل يدلّ على التدريج كما أنّ الإنزال يدلّ على الدفعة.

وربّما ينقض ذلك بقوله:( لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة ) الفرقان - ٣٢ وبقوله تعالى:( أن ينزّل علينا مائدة ) المائدة - ١١٢ وقوله تعالى:( لو لا نزّل عليه آية ) الأنعام - ٣٧ وقوله تعالى:( قل إنّ الله قادر على أن ينزّل آية ) الأنعام - ٣٧ ولذلك ذكر بعض المفسّرين أنّ الأولى أن يقال: إنّ معنى نزّل عليك الكتاب: أنزله إنزالاً بعد إنزال دفعاً للنقض.

والجواب: أنّ المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلّل زمان معتدّ به بين نزول كلّ جزء من أجزاء الشئ وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركّبة الّتى توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء وبذلك يصير الشئ أمراً واحداً غير منقسم والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى:( أنزل من السماء مائاً ) الرعد - ١٧ وهو الغيث ونسبة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد سواء تخلّل بينهما زمان معتدّ به أو لم يتخلّل وهو التدريج والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى:( وهو الّذى ينزّل الغيث ) الشورى - ٢٨.

ومن هنا يظهر: أنّ الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإنّ المراد بقوله لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة الآية: أن ينزّل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متّصل واحد من غير تخلّل زمان معتدّ به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة. وبذلك يظهر الجواب عن بقيّة الآيات المذكورة.

٥

وأمّا ما ذكره البعض المزبور فهو على أنّه استحسان غير جائز في اللّغة البتّة لا يدفع شيئاً من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر.

وقد جرى كلامه تعالى أن يعبّر عن إفاضة الكتاب على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالتنزيل والنزول والنزول يستلزم مقاماً أو مكاناً عالياً رفيعاً يخرج منه الشيئ نوعاً من الخروج ويقصد مقاماً أو مكاناً آخر أسفل فيستقرّ فيه وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلوّ ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنّه من عنده قال تعالى:( إنّه علىّ حكيم ) الشورى - ٥١ وقال تعالى:( ولمّا جائهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم ) البقرة - ٨٩ فصحّ بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحى في قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد ذكروا أنّ الحقّ هو الخبر من حيث إنّ بحذائه خارجاً ثابتاً كما أنّ الصدق هو الخبر من حيث إنّه مطابق للخارج وعلى هذا فإطلاق الحقّ على الأعيان الخارجيّة والاُمور الواقعيّة كما يطلق على الله سبحانه: أنّه حقّ، وعلى الحقائق الخارجيّة أنّها حقّة إنّما هو من جهة أنّ كلّاً منها حقّ من جهة الخبر عنها. وكيف كان فالمراد بالحقّ في الآية: الأمر الثابت الّذى لا يقبل البطلان.

والظاهر أنّ الباء في قوله: بالحقّ للمصاحبة والمعنى: نزّل عليك الكتاب تنزيلاً يصاحب الحقّ ولا يفارقه فيوجب مصاحبة الحقّ أن لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ففى قوله: نزل عليك الكتاب بالحقّ استعارة بالكناية. وقد قيل في معنى الباء وجوه اُخر لا يخلو عن سقم.

والتصديق من الصدق يقال: صدقت مقالاً كذا أي قرّرته على الصدق واعترفت بكونه صدقاً وصدقت فلاناً أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.

والمراد ممّا بين يديه التوراة والانجيل كما قال تعالى:( إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى - إلى أن قال -وآتيناه الإنجيل فيه هدى - إلى أن قال -وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب الآية ) المائدة - ٤٨. والكلام لا يخلو عن دلالة على أنّ ما بأيدى اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى (عليهما السلام) وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف فإنّ الدائر بينهم في عصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو التوراة الموجودة اليوم والأناجيل الأربعة المشهورة

٦

فالقرآن يصدّق التوراة والإنجيل الموجودين لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات الناطقة بالتحريف والسقط فيهما. قال تعالى:( ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل - إلى أن قال -وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذكّروا به - إلى أن قال -ومن الّذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً ممّا ذكروا به الآية ) المائدة - ١٤.

قوله تعالى: ( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ) التوراة كلمة عبرانيّة بمعنى الشريعة والإنجيل لفظ يونانىّ وقيل فارسيّ الأصل معناه البشارة وسيجئ استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى:( إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور الآيات ) المائدة - ٤٤.

وممّا أصرّ عليه القرآن تسمية كتاب عيسى (عليه السلام) بالإنجيل بصيغة الإفراد والقول بأنّه نازل من عند الله سبحانه مع أنّ الأناجيل كثيرة والمعروفة منها أعنى الأناجيل الأربعة كانت موجودة قبل نزول القرآن وفي عهده وهى الّتى ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتّى ويوحنّا ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والإسقاط وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والإنجيل في هذه الآية وفي أوّل السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولّد عيسى ونبوّته ورفعه.

قوله تعالى: ( وأنزل الفرقان ) الفرقان ما يفرّق به بين الحقّ والباطل على ما في الصحاح واللفظ بمادّته يدلّ على الأعمّ من ذلك وهو كلّ ما يفرّق به بين شئ وشئ. قال تعالى:( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) الأنفال - ٤١ وقال تعالى:( يجعل لكم فرقاناً ) الأنفال - ٢٩ وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحقّ والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصليّة والفرعيّة الّتى أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحى أعمّ من الكتاب وغيره. قال تعالى:( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ) الأنبياء - ٤٨ وقال

٧

تعالى:( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان ) البقرة - ٥٣ وقال تعالى:( تبارك الّذى نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) الفرقان - ١.

وقد عبّر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله:( لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) الحديد - ٢٥ وهو في وزان قوله:( كان الناس اُمّة واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) البقره - ٢١٣ فالميزان كالفرقان هو الدين الّذى يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضمّ إليه من المعارف ووظائف العبوديّة والله أعلم.

وقيل: المراد بالفرقان القرآن. وقيل: الدلالة الفاصلة بين الحقّ والباطل وقيل: الحجّة القاطعة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على من حاجه في أمر عيسى. وقيل: النصر. وقيل: العقل. والوجه ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بآيات الله إلى قوله ذو انتقام ) الانتقام ما قيل مجازاة المسئ على إساءته وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفّي فإنّ ذلك من لوازم الانتقامات الّتى بيننا حيث إنّ إساءة المسيئ يوجب منقصة وضرراً في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة الّتى توجب تشفّى قلوبنا وأمّا هو تعالى فأعزّ ساحة من أن ينتفع أو يتضرّر بشئ من أعمال عباده لكنّه وعد - وله الوعد الحقّ - أن سيقضى بين عباده بالحقّ إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً. قال تعالى:( والله يقضى بالحقّ ) المؤمن - ٢٠ وقال تعالى:( ليجزى الّذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الّذين أحسنوا بالحسنى ) النجم - ٣١. كيف وهو عزيز على الاطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه. وقد قيل إنّ الأصل في معنى العزّة الامتناع.

وقوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ) من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيامة ربّما تضمّن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة. وهذا من الحقائق القرآنيّة الّتى ربّما قصّر الباحثون في استيفاء البحث عنه وليس ذلك إلّا لكوننا لا نعدّ شيئاً عذاباً إلّا إذا اشتمل على شئ من الآلام

٨

الجسمانيّة أو نقص أو فساد في النعم المادّيّة كذهاب الأموال وموت الأعزّة ونقاهة الأبدان مع أنّ الّذى يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك.

( كلام في معنى العذاب في القرآن)

القرآن يعدّ معيشة الناسي لربّه ضنكاً وإن اتّسعت في أعيننا كلّ الاتّساع. قال تعالى:( من أعرض عن ذكرى فإنّ له معيشة ضنكاً ) طه - ١٢٤ ويعدّ الأموال والأولاد عذاباً وإن كنّا نعدّها نعمه هنيئة. قال تعالى:( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنّما يريد الله أن يعذّبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) التوبة - ٨٥.

وحقيقة الأمر كما مرّ إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى:( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة ) البقرة - ٣٥ أنّ سرور الإنسان وغمّه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذّبه وتنعّمه كلّ ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة هذا أوّلاً. وأنّ النعمة والعذاب وما يقاربهما من الاُمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة وكذا للحيوان منهما شيئ وللإنسان منهما شئ وهكذا وهذا ثانياً. والإنسان المادّىّ الدنيويّ الّذى لم يتخلّق بأخلاق الله تعالى ولم يتأدّب بأدبه يرى السعادة المادّيّة هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهى السعادة المعنويّة فيتولّع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة. وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الّذى ناله لكنّه ما كان يريد إلّا الخالص من التنعّم واللذّة على ما صوّرته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذّة محفوفاً بالاُلوف من الألم. فما دام لم ينل ما يريده كان اُمنيّة وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب الّتى ركن إليها ولم يتعلّق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كلّ فائتة فكان أيضاً حسرة فلا يزال فيما وجده متألّماً به معرضاً عنه طالباً لما هو خير منه لعلّه يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلّباً بين الآلام والحسرات. فهذا حاله فيما وجده، وذاك حاله فيما فقده.

وأمّا القرآن فإنّه يرى أنّ الإنسان أمر مؤلّف من روح خالد وبدن مادّىّ

٩

متحوّل متغيّر وهو على هذا الحال حتّى يرجع إلى ربّه فيتمّ له الخلود من غير زوال فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله وموجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضاً من سعادته ونعمت السعادة. وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلّق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضاً من سعادته بمنزلة التحمّل لمرّ الدواء ساعة لحيازة الصحّة دهراً.

وأمّا ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له والقرآن يسمّى سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى:( لا يغرّنّك تقلّب الّذين كفروا في البلاد متاع قليل ثمّ مأويهم جهنّم وبئس المهاد ) آل عمران - ١٩٦، ١٩٧.

وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعدّه القرآن عذاباً كما يعدّونه عذاباً لكن وجه النظر مختلف فإنّه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم وذلك كأنواع العذاب النازلة على الاُمم السالفة. قال تعالى:( ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الّذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب إنّ ربّك لبالمرصاد ) الفجر - ٦، ١٤.

والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقوّمان بالشعور والإدراك فإنّا لا نعدّ الأمر اللذيذ الّذى نلناه ولم نحسّ به سعادة لأنفسنا كما لا نعدّ الأمر المولم غير المشعور به شقاءً ومن هنا يظهر أنّ هذا التعليم القرآنيّ الّذى يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادّة والإنسان المولع بالمادّة لا بدّ من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقيّة الّتي يشخّصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقيّة شقاوة وهو كذلك فإنّه يلقّن على أهله: أن لا يتعلّق قلوبهم بغير الله ويروا أنّ ربّهم هو المالك الّذي يملك كلّ شئ فلا يستقلّ شئ إلّا به ولا يقصد شئ إلّا له.

وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلّا السعادة: بين ما كان فيه سعادة روحه

١٠

وجسمه، وما كان فيه سعادة روحه محضاً وأمّا ما دون ذلك فإنّه يراه عذاباً ونكالاً وأمّا الإنسان المتعلّق بهوى النفس ومادّة الدنيا فإنّه وإن كان ربّما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيراً ولذّة فإنّه سوف يطّلع على خبطه في مشيه وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه. قال تعالى:( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتّى يلاقوا يومهم الّذى يوعدون ) المعارج - ٤٢ وقال تعالى:( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد ) ق - ٢٢، وقال تعالى:( فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلّا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ) النجم - ٢٩، على أنّهم لا يصفو لهم عيش إلّا وهو منغّص بما يربو عليه من الغمّ والهمّ.

ومن هنا يظهر: أنّ الإدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصّة القرآن غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعاً من نوع واحد هو الإنسان وبين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممّن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيّين.

فهذا ما يتحصّل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسمانيّ عذاباً لكن نهايته أنّه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح. قال تعالى: حكاية عن أيّوب (عليه السلام):( أنّى مسنّي الشيطان بنصب وعذاب ) ص - ٤١ وقال تعالى:( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتّلون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفى ذلكم بلاء من ربّكم عظيم ) الأعراف - ١٤١. فسمّى ما يصنعون بهم بلاءً وامتحاناً من الله وعذاباً في نفسه لا منه سبحانه.

قوله تعالى: ( إنّ الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ) إلخ قد علّل تعالى عذاب الّذين كفروا بآياته بأنّه عزيز ذو انتقام لكن لمّا كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضمّ إليه ليتمّ المطلوب فإنّ العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفي عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام فعقّب لذلك الكلام بقوله: إنّ الله لا يخفى عليه فبيّن أنّه عزيز لا يخفى عليه شئ ظاهر على الحواسّ ولا غائب عنها. ومن الممكن أن يكون المراد ممّا في الأرض وما في السماء الأعمال الظاهرة القائمة بالجوارح والخفيّة الكامنة في القلوب على حدّ ما نبّهنا عليه في قوله تعالى:( لله ما في

١١

السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية) البقرة - ٢٨٤.

قوله تعالى: ( هو الّذى يصوّركم في الأرحام كيف يشاء ) التصوير إلقاء الصورة على الشئ و الصورة تعمّ ما له ظلّ كالتمثال وما لا ظلّ له والأرحام جمع رحم وهو مستقرّ الجنين من الإناث.

وهذه الآية في معنى الترقّي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين فإنّ محصّل الآيتين: أنّ الله تعالى يعذّب الّذين كفروا بآياته لأنّه العزيز المنتقم العالم بالسرّ والعلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب. ومحصّل هذه الآية أنّ الأمر أعظم من ذلك ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذلّ وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى ويبطل النظام الأحسن الّذى نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربّه بل الله سبحانه هو أذن له في ذلك بمعنى أنّه نظم الاُمور نوع نظم يؤدّي إلى وجود الاختيار في الإنسان وهو الوصف الّذى يمكنه به ركوب صراط الإيمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ليتمّ بذلك أمر الفتنة والامتحان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وما يشاؤون إلّا أن يشاء الله ربّ العالمين.

فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلّا عن تقدير وهو نظم الأشياء على نحو يتيسّر لكلّ شئ ما يتوجّه إليه من مقاصده الّتى سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصّة الّتي تمهّد له السلوك إلى ما يسلك إليه. فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه يظنّ الإنسان أنّه يفعل ما يشاء ويتصرّف فيما يريد، ويقطع بذلك النظم المتّصل الّذى نظمه الله في الكون فيسبق التقدير، وهذا بعينه من القدر.

وهذا هو المراد بقوله: يصوّركم في الأرحام كيف يشاء أي ينظّم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدّي إلى ما يشاءه في ختمه مشيّة إذن لا مشيّة حتم.

وإنّما خصّ الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان ولم يذكر التقدير العامّ الجاري

١٢

في العالم كلّه لينطبق على المورد ولما مرّ أنّ في الآيات تعريضاً للنصارى في قولهم في المسيح (عليه السلام) والآيات منتهية إلى ما هو الحقّ من أمره فإنّ النصارى لا ينكرون كينونته (عليه السلام) في الرحم وأنّه لم يكوّن نفسه.

والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعنى قوله: يصوّركم بعد قوله: نزّل عليك للدلاله على أنّ إيمان المؤمنين أيضاً ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهيّة في حقّ أنفسهم ويتسلّوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.

قوله تعالى: ( لا إله إلّا هو العزيز الحكيم ) فيه عود إلى ما بدئ به الكلام في الآيات من التوحيد، وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.

فإنّ هذه الأمور المذكورة أعني: هداية الخلق بعد إيجادهم، وإنزال الكتاب والفرقان، وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين اُمور لا بدّ أن تستند إلى إله يدبّرها وإذ لا إله إلّا الله تعالى شأنه فهو الّذى يهدي الناس وهو الّذى ينزّل الكتاب والفرقان، وهو يعذّب الكافرين بآياته، وإنّما يفعل ما يفعل من الهداية والإنزال والانتقام والتقدير بعزّته وحكمته

( بحث روائي)

في المجمع عن الكلبيّ ومحمّد بن إسحاق والربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيّف وثمانين آية في وفد نجران، وكانوا ستّين راكباً قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤل إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الّذى لا يصدرون إلّا عن رأيه، واسمه عبد المسيح والسيّد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبوحارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه وموّلوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده، فقدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية في جمال

١٣

رجال بلحرث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): دعوهم فصلّوا إلى المشرق، فكلّم السيّد والعاقب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال لهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أسلما. قالا قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً و عبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير. قالا: إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى. فقال لهما النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه ؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حىّ لا يموت وأنّ عيسى يأتيه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شئ ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا: بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم ؟ قالوا: لا. قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته اُمّه كما تحمل المراه ثمّ وضعته كما تضع المرأة ولدها ثمّ غذّي كما يغذّي الصبيّ ثمّ كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

أقول: وروى هذا المعنى السيوطيّ في الدرّ المنثور عن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن محمّد بن جعفر بن الزبير وعن ابن إسحاق عن محمّد بن سهل بن أبي أمامة. أمّا القصة فسيجئ نقلها. وأمّا نزول أوّل السورة في ذلك فكأنّه اجتهاد منهم وقد تقدّم: أنّ ظاهر سياقها نزولها دفعة.

عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الشقيّ من شقى في بطن اُمّه، والسعيد من سعد في بطن اُمّه.

وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام) قال: إنّ الله إذا أراد أن يخلق النطفة الّتي هي ممّا اُخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم حرّك الرجل

١٤

للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتّى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردّد فيه أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، ثمّ تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثمّ يبعث الله ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقّان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثمّ يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لى البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا ربّ ما نكتب ؟ فيوحي الله عزّوجلّ إليهما: أن ارفعا رؤسكما إلى رأس اُمّه، فيرفعان رؤسهما فإذاً اللوح يقرع جبهه اُمّه، فينظران فيه، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقيّاً وجميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان ثمّ يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثمّ يقيمانه قائماً في بطن اُمّه. قال: فربّما عتا فانقلب ولا يكون ذلك إلّا في كلّ عات أو مارد وإذا بلغ أوان خروج الولد تامّاً أو غير تامّ أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتّى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسّهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج، فبعث الله عزّوجلّ إليه ملكاً يقال له: زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة اُخرى فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة.

أقول: قوله: إذا أراد أن يخلق النطفة، أي يجعلها بشراً تامّاً سويّاً وتقييدها بقوله: الّتي هي ممّا اُخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجئ بيانه: أنّ الإنسان الّذي في هذه النشأة الدنيويّة وأحواله مسبوقة الوجود بنشأة اُخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك وهي المسمّاة في لسان الأخبار بعالم الذرّ والميثاق فما اُخذ عليه الميثاق لا بدّ من أن يخلق في هذه النشأة الدنيويّة وما يخلق في هذه النشأة هو ممّا

١٥

اُخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل فذلك من القضاء المحتوم. ولذلك ردّد الكلام بينه وبين قوله: أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه، فلا يتمّ ويعود سقطاً فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا. وقوله ويجعلها في الرحم، عطف على قوله: يخلق النطفة.

قوله (عليه السلام) يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيّده وضع الظاهر موضع المضمر. وعلى ظاهر الحال من كونه من كلام الإمام (عليه السلام) هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم في الجسم، إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلّا العروق ومنها العرق الّذي يدرّ منه دم الحيض فينصبّ في الرحم وليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق وهو ظاهر.

قوله (عليه السلام): وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء كأنّها الروح النباتيّة الّتي هي المبدء للتغذّي والتنمّي.

قوله (عليه السلام): فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة فروح الحياة والبقاء منفوخة في الروح النباتيّة ولو فرض رجوعه إلى المضغة مثلاً كانت منفوخة في المضغة الحيّة بالروح النباتيّة فتصير المضغة النباتيّة منفوخة فيها. وعلى أيّ حال يفيد الكلام أنّ نفخ الروح الإنسانيّ إنّما هو نوع ترقّ للروح النباتيّة بالاشتداد (على ما قتضيه القول بالحركة الجوهريّة).

وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء فالروح متّحد الوجود مع البدن بوجه وهو النطفة وما يمدّها من دم الحيض وهي المتّحدة مع بدنى الأبوين وهما مع النطفة وهلمّ جرّاً فما يجري على الإنسان متعيّن في الجملة في وجود آبائه واُمّهاته مشهود في صور أشخاصهم وهو بوجه كالفهرسّ المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله.

وبه يظهر معنى قوله (عليه السلام): فيوحي الله عزّوجلّ إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رؤسكما إلى رأس اُمّه وذلك أنّ الّذي لأبيه من شرح قضائه وقدره قد انقطع عنه

١٦

بانفصال النطفة فما بقي متّصلاً به إلّا اُمّه وهو قوله (عليه السلام): فإذا اللوح يقرع جبهة اُمّه والجبهة مجتمع حواسّ الإنسان وطليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقيّاً وجميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة بنسبة الفاعل والقابل فيكتبان جميع ما في اللوح.

قوله (عليه السلام): ويشترطان البداء فيما يكتبان وذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة فإنّ الصورة وإن كانت مبدئاً لجميع ما يجرى على الإنسان من أحواله والحوادث المختصّة به لكن ليست بالمبدء كلّه بل للاُمور والحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك ولذلك كان الّذي يترآئى منها من الحوادث غير حتميّ الوقوع فكانت مظنّة للبداء.

وأعلم: أنّ نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل ووحيه إلى الرحم وإرسال الملكين الخلّاقين والملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث ومنها الولادة إلى أسبابها الطبيعيّة فإنّ هذين القبيلين من الأسباب أعنى الأسباب المعنويّة والأسباب المادّيّة واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتّى يبطل أحدهما الآخر أو يتدافعا فيبطلا معاً، أو يعود الأمر إلى تركّب العلّة التامّة من مجموع السببين بل كلّ منهما علّة تامّة لكن في مرتبته.

فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنويّة وسلوكهم إلى مرضاته وهم الأنبياء (عليهم السلام) - والطريق طريق الباطن - فإنّما وظيفته أن يكلّم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن ويذكّرهم مقام ربّهم في جميع بياناته وهو توسيط الملائكة واستناد الحوادث إلى أعمالهم ونسبة السعادة إلى تأييدهم ونسبة الشقاء بخصوصيّاته إلى الشياطين وتسويلهم ونسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وحضرة ربوبيّته ليستنتج من ذلك صور الهداية والضلال والربح والخسران. وبالجملة جميع شؤون الحياة الآخرة. وهم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعيّة ولم يضيّعوا حقّها فإنّها أحد ركني حياة الإنسان والأساس الّذي تستند إليه الحياة الدنيا، ولا بدّ للإنسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بدّ له أن يعرف جملة الأمر في الأسباب المعنويّة حتّى يتمّ له معرفة نفسه فيعرف ربّه.

١٧

( سورة آل عمران الآيات ٧ - ٩)

هُوَ الّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلّا اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلّا أُولُوا الْأَلْبَابِ( ٧) رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ( ٨) رَبّنَا إِنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ٩)

( بيان)

قوله تعالى: ( هو الّذي أنزل عليك الكتاب ) ، عبّر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأنّ المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصّه، وهو أنّه مشتمل على آيات محكمة واُخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبيّن بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمراً واحداً من غير نظر إلى تعدّد وتكثّر، فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل.

قوله تعالى: ( منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات ) ، مادّة حكم تفيد معنى كون الشئ بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعّضه أو يخلّ أمره عليه، ومنه الإحكام والتحكيم، والحكم بمعنى القضاء، والحكمة بمعنى المعرفة التامّة والعلم الجازم النافع والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس ففى الجميع شئ من معنى المنع والإتقان، وربّما قيل: أنّ المادّة تدلّ على معنى المنع مع إصلاح.

والمراد ههنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنّه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الايات في قوله:( كتاب اُحكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيم خبير ) هود - ١، لكن اشتمال

١٨

الآية على ذكر التفصيل بعد الاحكام دليل على أنّ المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزّي والتبعّض بعد بتكثّر الآيات فهو إتقانه قبل وجود التبعّض فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب بخلاف وصف الإحكام والإتقان الّذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد.

وبعبارة اُخرى لمّا كان قوله: منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أنّ المراد بالإحكام غير الإحكام الّذي وصف به جميع الكتاب في قوله: كتاب اُحكمت آياته الآية، وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الّذي وصف به جميع الكتاب في قوله:( كتاباً متشابهاً مثاني ) الزمر - ٢٣.

وقد وصف المحكمات بأنّها اُمّ الكتاب والاُمّ بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشئ وليس إلّا أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات، ومن هنا يظهر: أنّ الإضافة في قوله: اُمّ الكتاب ليست لاميّه كقولنا: اُمّ الأطفال بل هي بمعنى من كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك. فالكتاب يشتمل على آيات هي اُمّ آيات اُخر. وفي إفراد كلمة الاُمّ من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متّفقة مؤتلفة.

وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: واُخر متشابهات والتشابه توافق أشياء مختلفة واتّحادها في بعض الأوصاف والكيفيّات وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن بهذا الوصف حيث قال:( كتاباً متشابهاً مثاني تقشعّر منه جلود الّذين يخشون ربّهم الآية ) الزمر - ٢٣ والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم وإتقان الاُسلوب وبيان الحقائق والحكم والهداية إلى صريح الحقّ كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب وأمّا التشابه المذكور في هذه الآية أعني قوله: واُخر متشابهات، فمقابلته لقوله: منه آيات محكمات هنّ اُمّ

١٩

الكتاب وذكر اتّباع الّذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل كلّ ذلك يدلّ على أنّ المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها بل يتردّد بين معنى ومعنى حتّى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة والآية المحكمة محكمة بنفسها كما أنّ قوله:( الرحمن على العرش استوى ) طه - ٥، يشتبه المراد منه على السامع أوّل ما يسمعه فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى:( ليس كمثله شئ ) الشورى - ١١، استقرّ الذهن على أنّ المراد به التسلّط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكّن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسّم المستحيل على الله سبحانه. وكذا قوله تعالى:( إلى ربّه ناظرة ) القيامة - ٢٣ إذا اُرجع إلى مثل قوله:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) الأنعام - ١٠٣، علم به أنّ المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسّيّ، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبيّن أنّ المراد بها حكم محدود بحدّ الحكم الناسخ وهكذا.

فهذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقّاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: هو الّذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات فإنّ الآية محكمة بلا شكّ ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً.

ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الّذي يدلّ عليه قوله منه آيات إلخ وبطل العلاج الّذي يدلّ عليه قوله: هنّ اُمّ الكتاب ولم يصدق قوله:( كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً ) حم السجدة - ٤ ولم يتمّ الاحتجاج الّذي يشتمل عليه قوله:( أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك.

على أنّ كلّ من يرعى نظره في آيات القرآن من أوّله إلى آخره لا يشكّ في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضلّ في مرادها بل ما من آية إلّا

٢٠