الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138395 / تحميل: 8831
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

حكمه بوجوب اتّخاذ المدنيّة، والاجتماع التعاونيّ ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كلّ ذي حقّ حقّه، ويتعادل النسب والروابط، وهو العدل الاجتماعيّ.

فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدنيّ، والعدل الاجتماعيّ إنّما هو حكم دعا إليه الاضطرار، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الإنسان أبداً، وهذا معنى ما يقال: إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع، وإنّه يحكم بالعدل الاجتماعيّ، فإنّ ذلك أمر ولّده حكم الاستخدام المذكور اضطراراً على ما مرّ بيانه، ولذلك كلّما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاونيّ وحكم العدل الاجتماعيّ أثراً فلا يراعيه القويّ في حقّ الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الاُمم القويّة، وعلى ذلك جرى التاريخ أيضاً إلى هذا اليوم الّذي يدّعى أنّه عصر الحضارة والحرّيّة.

وهو الّذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى:( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب - ٧٢، وقوله تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) المعارج - ١٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم - ٣٤، وقوله تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) العلق - ٧.

ولو كان العدل الاجتماعيّ ممّا يقتضيه طباع الإنسان اقتضاءً أوّليّا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، وحسن تشريك المساعي، ومراعاة التساوي، مع أنّ المشهود دائماً خلاف ذلك، وإعمال القدرة والغلبة تحميل القويّ العزيز مطالبه الضعيف، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه.

( حدوث الاختلاف بين افراد الإنسان)

ومن هنا يعلم أنّ قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروريّ بين الأفراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروريّ من حيث القوّة والضعف يؤدّي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعيّ، فيستفيد القويّ من

١٢١

الضعيف أكثر ممّا يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفاً مغلوباً بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشدّ الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديّاً إلى الهرج والمرج، وداعياً إلى هلاك الإنسانيّة، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة.

وإلى ذلك يشير تعالى بقوله:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) يونس - ١٩، وقوله تعالى:( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ) هود - ١١٩، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها:( لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) الآية.

وهذا الاختلاف كما عرفت ضروريّ الوقوع بين أفراد المجتمعين من الإنسان لاختلاف الخلقة باختلاف الموادّ، وإن كان الجميع إنساناً بحسب الصورة الإنسانيّة الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار والأفعال بوجه، واختلاف الموادّ يؤدّي إلى اختلاف الإحساسات والإدراكات والأحوال في عين أنّها متّحدة بنحو، إو اختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأغراض والمقاصد والآمال، واختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأفعال، وهو المؤدّي إلى اختلال نظام الاجتماع.

وظهور هذا الاختلاف هو الّذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلّيّة يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كلّ ذي حقّ حقّه، وتحميلها الناس.

والطريق المتّخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين:

الأوّل: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حقّ الحياة وتسويتهم في الحقوق، بمعنى أن ينال كلّ من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة، مع إلغاء المعارف الدينيّة: من التوحيد والأخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولامرعيّ، وجعل الأخلاق تابعة للاجتماع وتحوّله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوماً العفّة، ويوماً الخلاعة، ويوماً الصدق، ويوماً الكذب، ويوماً الأمانة، ويوماً الخيانة، وهكذا.

والثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق و

١٢٢

احترامها مع إلغاء المعارف الدينيّة في التربية الإجتماعيّة.

وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الإجتماعيّة وتوحيد الاُمّة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوّة المجبرة والقدرة المتسلّطة من الإنسان فقط، وثانيهما بالقوّة والتربية الخلقيّة، لكنّهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيّان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع، وهلاك الحقيقة الإنسانيّة، فإنّ هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلّق الوجود بصانعه، بدء من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيويّة، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، وهي مرتّبة على هذه الحياة الدنيويّة، وكيفيّة سلوك الإنسان فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الّذي هو كونه عبداً لله سبحانه، بادئاً منه عائداً إليه، وإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، وأباد حقيقته.

فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير، ثمّ نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتّى أخذت في الاختلاف: من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثمّ اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتّخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.

فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض والأمتعة، والتمتّع على حسب ما لكلّ من الوزن الاجتماعيّ، فليس إلّا هذا المنزل والمتخلّف عن ذلك يؤخذ بالقوّة والسياسة.

وقال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيّات الموجودة الّذي جئتم بها من بلدكم الّذي خرجتم منه، فيتأدّب كلّ بما له من الشخصيّة الخلقيّة، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطوفة والشهامة والفضيلة، ثمّ تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلّا لكم ولمنزلكم هذا.

وقد أخطأ القائلان جميعاً، وسهيا عن أنّ القافلة جميعاً على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره الّتي يريدها

١٢٣

فلو نسي شيئاً من ذلك لم يكن يستقبله إلّا الضلال والغىّ والهلاك.

والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتّعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه اللّيلة، وخذوا من ذلك زاداً لما هو أمامكم من الطريق، وما اُريد منكم في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم.

( رفع الاختلاف بالدينظ)

ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعاً ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والأفعال، وبعبارة اُخرى وضع التشريع مبنيّ على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وأنّهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياه تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الدينيّ والتقنين الإلهيّ هو الّذي بُني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يوسف - ٤٠، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) الآية، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم.

ومن هذا الباب قوله تعالى:( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) الجاثية - ٢٤، فإنّهم إنّما كانوا يصرّون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأنّ القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيويّة على الحياة بنحو العبوديّة، وطاعة قوانين دينيّة مشتملة على موادّ وأحكام تشريعيّة: من العبادات والمعاملات والسياسات.

وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التديّن بالدين، واتّباع أحكامه في الحياة، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والأعمال، فردّوا ذلك ببناء الحياة الإجتماعيّة على مجرّد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.

وكذا قوله تعالى:( وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن

١٢٤

ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) النجم - ٣٠، فبيّن تعالى أنّهم يبنون الحياة على الظنّ والجهل، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام، ويبني دينه على الحقّ والعلم، والرسول يدعو الناس إلى مايحييهم، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، وهذه الحياة هي الّتي يشير إليها قوله تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، وقال تعالى:( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الرعد - ١٩، وقال تعالى:( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف - ١٠٨، وقال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر - ٩، وقال تعالى:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) البقرة - ١٢٩، إلى غير ذلك، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحثّ به، وناهيك فيه أنّه يسمّي العهد السابق على ظهور الإسلام عهد الجاهليّة كما قيل.

فما أبعد من الإنصاف قول من يقول: إنّ الدين مبنيّ على التقليد والجهل مضادّ للعلم ومباهت له، وهؤلاء القائلون اُناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعيّة والإجتماعيّة فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئاً ممّا وراء الطبيعة، فظنّوا عدم الإثبات إثباتاً للعدم، وقد أخطأوا في ظنّهم، وخبطوا في حكمهم، ثمّ نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوّسين من اُمور يسمّونه باسم الدين، ولا حقيقة لها غير الشرك، والله برئ من المشركين ورسوله، ثمّ نظروا إلى الدعوة الدينيّة بالتعبّد والطاعة فحسبوها تقليداً وقد أخطأوا في حسبانهم، والدين أجلّ شأناً من أن يدعو إلى الجهل والتقليد، وأمنع جانباً من أن يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير، ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بالحقّ لما جائه.

( الاختلاف في نفس الدين)

وبالجملة فهو تعالى يخبرنا أنّ الاختلاف في المعاش واُمور الحياة إنّما رفع أوّل ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينيّة فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.

١٢٥

ثمّ إنّه تعالى يخبرنا أنّ الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنّما أوجده حملة الدين ممّن اُوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغياً بينهم وظلماً وعتوّاً، قال تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ - إلى أن قال -وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى - ١٤، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس - ١٩، والكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) الاعراف - ٢٤.

فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإنّ الدين فطريّ وما كان كذلك لا تضلّ فيه الخلقة ولا يتبدّل فيه حكمها كما قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم - ٣٠ فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.

( الإنسان بعد الدنيا)

ثمّ إنّه يخبرنا أنّ الإنسان سيرتحل من الدنيا الّتي فيه حياته الإجتماعيّة وينزل داراً اُخرى سمّاها البرزخ، ثمّ داراً اُخرى سمّاها الآخرة غير أنّ حياته بعد هذه الدنيا حياة انفراديّة، ومعنى كون الحياة انفراديّة، أنّها لا ترتبط بالاجتماع التعاونيّ، والتشارك والتناصر، بل السّلطنة هناك في جميع أحكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثّر فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر أصلاً، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعيّ المشهود في المادّة لم يكن بدّ عن حكومة التعاون والتشارك، لكنّ الإنسان خلّفه وراء ظهره، وأقبل إلى ربّه، وبطل عنه جميع علومه العمليّة، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرّف والمدنيّة والاجتماع التعاونيّ ولا سائر أحكامه الّتي يحكم بها في الدنيا، وليس له إلّا صحابة عمله، ونتيجة حسناته وسيّآته، ولا يظهر له إلّا حقيقة الأمر ويبدو له النباء العظيم الّذي هم فيه مختلفون، قال تعالى:( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا )

١٢٦

مريم - ٨٠، وقال تعالى:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) الانعام - ٩٤، وقال تعالى:( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يونس - ٣٠، وقال تعالى:( مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) الصافات - ٢٦، وقال تعالى:( يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار ) إبراهيم - ٤٨، وقال تعالى:( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ) النجم - ٤١، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدلّ على أنّ الإنسان يبدّل بعد الموت نحو حياته فلا يحيى حياة إجتماعيّة مبنيّة على التعاون والتناصر، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العمليّة، ولايجنى إلّا ثمرة عمله ونتيجة سعيه، ظهر له ظهوراً فيجزى به جزاء.

قوله تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، الناس معروف وهو الأفراد المجتمعون من الإنسان، والاُمّة هي الجماعة من الناس، وربّما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا ) النحل - ١٢٠، وربّما يطلق على زمان معتدّ به كقوله تعالى:( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) يوسف - ٤٥، أي بعد سنين وقوله تعالى:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ) هود - ٨، وربّما يطلق على الملّة والدين كما قال بعضهم في قوله تعالى:( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) المؤمنون - ٥٢، وفي قوله تعالى:( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء - ٩٢، وأصل الكلمة من أمّ يأمّ إذا قصد فاُطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كلّ جماعة، بل على جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، وهو المصحّح لإطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا اُطلقت.

وكيف كان فظاهر الآية يدلّ على أنّ هذا النوع قد مرّ عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتّحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في اُمور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والآراء، والدليل على نفي الاختلاف

١٢٧

قوله تعالى:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ، فقد رتّب بعثة الأنبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم اُمّة واحدة فالاختلاف في اُمور الحياة ناش بعد الاتّحاد والوحدة، والدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: وما اختلف فيه إلّا الّذين اُوتوه بغياً بينهم فالاختلاف في الدين إنّما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.

وهذا هو الّذي يساعد عليه الاعتبار، فإنّا نشاهد النوع الإنسانيّ لا يزال يرقى في العلم والفكر، ويتقدّم في طريق المعرفة والثقافة، عاماً بعد عام، وجيلاً بعد جيل، وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوماً بعد يوم، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج، والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، والاستفادة من مزايا الحياة، وكلّما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه أقّل عرفاناً برموز الحياة، وأسرار الطبيعة، وينتهي بنا هذا السلوك إلى الإنسان الأوّليّ الّذي لا يوجد عنده إلّا النزر القليل من المعرفة بشئون الحياة وحدود العيش، كأنّهم ليس عندهم إلّا البديهيّات ويسير من النظريّات الفكريّة الّتي تهيّئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذّي بالنبات أو شئ من الصيد والإيواء إلى الكهوف والدفاع بالحجارة والأخشاب ونحو ذلك، فهذا حال الإنسان في أقدم عهوده، ومن المعلوم أنّ قوماً حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهوراً يعتّد به، ولا يبدو فيهم الفساد بدوّاً مؤثّراً، كالقطيع من الغنم لا همّ لأفراده إلّا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب.

غير أنّ الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما أشرنا إليه فيما مرّ لا يحبسه هذا الاجتماع القهريّ من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف والتغالب والتغلّب، وهو كلّ يوم يزداد علماً وقوّة على طرق الاستفادة، ويتنبّه بمزايا جديدة، ويتيقّظ لطرق دقيقة في الانتفاع، وفيهم الأقوياء واُولوا السطوة وأرباب القدرة، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم، وهو منشأ ظهور الاختلاف الاختلاف الفطريّ الّذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع والمدنيّة.

ولا ضير في تزاحم حكمين فطريّين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، ويعدّل

١٢٨

أمرهما، ويصلح شأنّهما، وذلك كالإنسان تتسابق قواه في أفعالها، ويؤدّي ذلك إلى التزاحم، كما أنّ جاذبة التغذّي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة، وهناك عقل يعدل بينهما، ويقضي لكلّ بما يناسبه، ويقدّر فعل كلّ واحدة من هذه القوى الفعّالة بما لا يزاحم الاُخرى في فعلها.

والتنافي بين حكمين فطريّين فيما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الإنسان إلى المدنيّة ثمّ سلوكها إلى الاختلاف يؤدّيان إلى التنافي، ولكنّ الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتبشير والإنذار، وإنزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وبهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالآية أنّ الناس كانوا اُمّة واحدة على الهداية، لأنّ الاختلاف إنّما ظهر بعد نزول الكتاب بغياً بينهم، والبغي من حملة الكتاب، وقد غفل هذا القائل عن أنّ الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافاً واحداً، وقد مرّ بيانه، وعن أنّ الناس لو كانوا على الهداية فإنّها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوّز لبعث الأنبياء وإنزال الكتاب وحملهم على البغي بالاختلاف، وإشاعة الفساد، وإثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الأخلاق مع استبطانها؟

ويظهر به أيضاً: فساد ما ذكره آخرون أنّ المراد بها أنّ الناس كانوا اُمّة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتّب قوله تعالى: فبعث الله النبيّين الخ، وقد غفل هذا القائل عن أنّ الله سبحانه يذكر أنّ هذا الضلال الّذي ذكره وهو الّذي أشار إليه بقوله سبحانه: فهدى الله الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، إنّما نشاء عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب، وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والإنزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي فما المصحّح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب وعلماء الدين؟

ويظهر به أيضاً ما في قول آخرين أنّ المراد بالناس بنو إسرائيل حيث أنّ الله يذكر أنّهم اختلفوا في الكتاب بغياً بينهم، قال تعالى:( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) الجاثية - ١٦، وذلك أنّه تفسير من غير دليل، ومجرّد اتّصاف قوم بصفة

١٢٩

لا يوجب انحصارها فيهم.

وأفسد من ذلك قول من قال: إنّ المراد بالناس في الآية هو آدمعليه‌السلام ، والمعنى أنّ آدمعليه‌السلام كان اُمّة واحدة على الهداية ثمّ اختلف ذرّيّته، فبعث الله النبيين الخ، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كلّه ولا بعضه.

ويظهر به أيضاً فساد قول بعضهم: إنّ كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى:( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) الفتح - ٧، فهو دالّ على الثبوت، والمعنى: أنّ الناس اُمّة واحدة من حيث كونهم مدنيّين طبعاً فإنّ الإنسان مدنيّ بالطبع لايتمّ حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجوديّة، واتّساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتمّ له الكمال إلّا بالاجتماع والتعاون بين الأفراد والمبادلة في المساعي، فيأخذ كلّ من نتائج عمله ما يستحقّه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره، ويأخذ بدله بقيّة ما يحتاج إليه ويستحقّه في وجوده، فهذا حال الإنسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتاً من الأوقات، يدلّ عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعيّ المدنيّ وكونه اجتماعيّاً مدنيّاً لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير أن ذلك يؤدّي إلى الاختلاف، واختلال نظام الاجتماع، فشرّع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، وبلّغها إليهم ببعث النبيّين مبشّرين ومنذرين، وإنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.

فمحصّل المعنى أنّ الناس اُمّة واحدة مدنيّة بالطبع لاغنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف، فلذلك بعث الله الأنبياء وأنزل الكتاب.

ويردّ عليهأوّلاً: أنّه أخذ المدنيّة طبعاً أوّليّاً للإنسان، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازماً ذاتيّاً لهذا النوع، وقد عرفت فيما مرّ أنّ الأمر ليس كذلك، بل أمر تصالحيّ اضطراريّ، وأنّ القرآن أيضاً يدلّ على خلافه.

وثانياً: أنّ تفريع بعث الأنبياء وإنزال الكتب على مجرّد كون الإنسان مدنيّاً بالطبع غير مستقيم إلّا بعد تقييد هذه المدنيّة بالطبع بكونها مؤدّية إلى الاختلاف، وظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير وهو خلاف الظاهر، والقائل مع ذلك لا يرضى بتقدير

١٣٠

الاختلاف في الكلام.

وثالثاً: أنّه مبنيّ على أخذ الاختلاف الّذي تذكره الآية وتتعرّض به اختلافاً واحداً، والآية كالنصّ في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثمّ تقول وما اختلف فيه أي في الكتاب إلّا الّذين اُوتوه أي علموا الكتاب وحملوه بغياً بينهم، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخّر عن نزوله، والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس، فأخذ الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي وعلم، والآخر بخلافه.

قوله تعالى: ( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) الخ، عبّر تعالى بالبعث دون الإرسال وما في معناه لأنّ هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأوّليّ حال خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الّذي هو الإقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك، وهذه النكتة لعلّها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيّين دون أن يعبّر بالمرسلين أو الرسل، على أنّ البعث وإنزال الكتاب كما تقدّم بيانه حقيقتهما بيان الحقّ للناس وتبنيهم بحقيقة أمر وجودهم وحياتهم، وإنبائهم أنّهم مخلوقون لربّهم، وهو الله الّذي لا إله إلّا هو، وأنّهم سالكون كادحون إلى الله مبغوثون ليوم عظيم، واقفون في منازل من منازل السير، لاحقيقة له إلّا اللّعب وغرور، فيجب أن يراعو ذالك في هذه الحياة وأفعالها، وأن يجعلو نصب أعينهم أنّهم من أين، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبيّ الّذي معناه: من استقرّ عنده النبأ دون الرسول، ولذالك عبّر بالبنيّين. وفي أسناد بعث النبيّين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقّيهم الوحى وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجئ زيادة توضيح لهذا في آخر البيان، وأمّا التبشير والإنذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنّة لمن اتّقى، والوعيد بعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن كذّب وعصى فهما أمسّ مراتب الدعوة بحال الإنسان المتوسّط الحال، وإن كان بعض الصالحين من عباده و أوليائه لا تعلّق نفوسهم بغير ربّهم من ثواب أو عقاب.

١٣١

قوله تعالى: ( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ، الكتاب فعال بمعنى المكتوب، والكتاب بحسب المتعارف من إطلاقه وإن استلزم كتابه بالقلم لكن اكون العهود والفرامين المفترضة إنّما يبرم بالكتابة غالباً شاع إطلاقه على كلّ حكم مفروض واجب الاتّباع أو كلّ بيان بل كلّ معنى لا يقبل النقض في إبرامه وقد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن. وبهذا المعنى سمّي القرآن كتاباًوهو كلام ألهيّ. قال تعالى:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ) ص - ٢٩، وقال تعالى:( إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ) النساء - ١٠٣ وفي قوله تعالى فيما اختلفوا فيه، دلالة على أنّ المعنى: كان الناس اُمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله الخ كما مرّ.

واللّام في الكتاب إمّا للجنس وإمّا للعهد الذهنيّ والمراد به كتاب نوحعليه‌السلام لقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى - ١٣، فإنّ الآية في مقام الامتنان وتبيّن أنّ الشريعة النازلة على هذه الاُمّة جامعة لمتفرّقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء السالفين مع ما يختصّ بوحيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالشريعة مختصّة بهؤلاء الأنبياء العظام: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولمّا كان قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدلّ على أنّ الشرع إنّما كان بالكتاب دلّت الآيتان بالانضمامأوّلاً: على أنّ لنوحعليه‌السلام كتاباً متضمّناً لشريعة، وأنّه المراد بقوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إمّا وحدة أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللّام للعهد أو الجنس.

وثانياً: أنّ كتاب نوح أوّل كتاب سماويّ متضمّن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله: شرع لكم الآية.

وثالثاً: أنّ هذا العهد الّذي يشير تعالى إليه بقوله: كان الناس اُمّة واحدة الآية كان قبل بعثة نوحعليه‌السلام وقد حكم فيه كتابهعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ -الي قوله-بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ، قد مرّ أنّ المراد

١٣٢

به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) الروم - ٣٠، نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.

وفي قوله تعالى:( إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ) ، دلالة على أنّ المراد بالجملة هو الإشارة إلى الأصل في ظهور الاختلاف الدينيّ في الكتاب لا أنّ كلّ من انحرف عن الصراط المستقيم أو تديّن بغير الدين يكون باغياً وإن كان ضالّاً عن الصراط السويّ، فإنّ الله سبحانه لا يعذّر الباغي، وقد عذّر من اشتبه عليه الأمر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلاً، قال تعالى:( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الشورى - ٤٢، وقال تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - إلى أن قال -وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة - ١٠٦، وقال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) النساء - ٩٨.

على أنّ الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة، ولكن تنافي التعمّد والبغي، ولذلك خصّ البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الإلهيّة، قال تعالى:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة - ٣٩، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قيّد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثمّ أوقع عليه الوعيد، وبالجملة فالمراد بالآية أنّ هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.

قوله تعالى: ( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) بيان لما اختلف فيه وهو الحقّ الّذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دلّ عليه قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب بالحقّ، وعند ذلك عنت الهداية الإلهيّة بشأن الاختلافين معاً: الاختلاف في شأن الحياة، والاختلاف في الحقّ والمعارف الإلهيّة الّذي كان عامله الأصليّ بغى حملة الكتاب، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: بإذنه دلالة على أنّ هداية الله تعالى

١٣٣

لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاماً منهم، وايجاباً على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإنّ الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، والمعنى إنّما هداهم الله بإذنه لأنّ له أن يهديهم وليس مضطرّاً موجباً على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي الّذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

وقد تبيّن من الآيةأوّلاً: حدّ الدين ومعرّفه، وهو أنّه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمّن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الاُخرويّ، والحياة الدائمة الحقيقيّة عند الله سبحانه، فلا بدّ في الشريعة من قوانين تتعرّض لحال المعاش على قدر الاحتياج.

وثانياً: أن الدين أوّل ما ظهر ظهر رافعاً للاختلاف الناشي عن الفطرة ثمّ استكمل رافعاً للاختلاف الفطريّ وغير الفطريّ معاً.

وثالثاً: أن الدين لا يزال يستكمل حتّى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختماً فلا دين بعده، وبالعكس إذا كان دين من الأديان خاتماً كان مستوعباً لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى:( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وقال تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقال تعالى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) حم السجدة - ٤٢.

ورابعاً: أنّ كلّ شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.

وخامساً: السبب في بعث الأنبياء وإنزال الكتب، وبعبارة اُخرى العلّة في الدعوة الدينيّة، وهو أنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنّه سالك نحو الاجتماع المدنيّ، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكّن من رفع الاختلاف، وكيف يدفع شئ ما يجذ به إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوّة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال كمال حقيقيّ داخل في الصنع والإيجاد فما هو مقدّمته كذلك، وقد

١٣٤

قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، فبيّن أنّ من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كلّ شئ إلى ما يتمّ به خلقه، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى أيضاً:( كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الأسراء - ٢٠، وهذه الآية تفيد أنّ شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء: يمد كلّ من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقّه، وأنّ عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلّا أن يمتنع ممتنع بسوء حظّ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى.

ومن المعلوم أنّ الإنسان غير متمكّن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإنّ فطرته هي المؤدّية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الإجتماعيّة؟.

وإذا كانت الطبيعة الإنسانيّة هي المؤدّية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحريّ به وهي قاصرة عن تدارك ما أدّت إليه وإصلاح ما أفسدته، فالإصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الإلهيّة الّتي هي النبوّة بالوحي، ولذا عبّر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كلّه إلّا إلى نفسه مع أنّ قيام الأنبياء كسائر الاُمور له ارتباطات بالمادّة بالروابط الزمانيّة والمكانيّة.

فالنبوّة حالة إلهيّة (وإن شئت قل غيبيّة) نسبتها إلى هذه الحالة العموميّة من الإدراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف الّتي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الإنسان، وهذا الإدراك والتلقّي من الغيب هو المسمّى في لسان القرآن بالوحي، والحالة الّتي يتّخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوّة.

ومن هناك يظهر أنّ هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدنيّ من جهة وإلى الاختلاف من جهة اُخرى، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدء حجّة على وجود النبوّة وبعبارة اُخرى دليل النبوّة العامّة.

تقريره: أنّ نوع الإنسان مستخدم بالطبع، وهذا الاستخدام الفطريّ يؤدّيه إلى

١٣٥

الاجتماع المدنيّ وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الّذي يقضي التكوين والإيجاد برفعه ولا يرتفع إلّا بقوانين تصلح الحياة الإجتماعيّة برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين: إمّا بفطرته وإمّا بأمر ورائه لكنّ الفطرة غير كافية فإنّها هي المؤدّية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة، وهو التفهيم الإلهيّ غير الطبيعي المسمّى بالنبوّة والوحي، وهذه الحجّه مؤلّفة من مقدّمات مصرّح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدّم، وكلّ واحدة من هذه المقدّمات تجربيّة، بيّنتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوّعة الّتي ظهرت وانقرضت في طيّ القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانيّة الّتي يذكرها التاريخ.

فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤدّ إلى الاجتماع وقضى بحياة فرديّة، ولا اجتماعه المكوّن خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين إجتماعيّة، ولا أنّ فطرته وعقله الّذي يعدّه عقلاً سليماً قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادّة الفساد، وناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الإجتماعيّة، وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الإنسانيّة، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملائين من الناس، وسلطان التحكّم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الّذي يسمّى عصر المدنيّة والّرقى والثقافة والعلم، فما ظنّك بالقرون الخالية، أعصار الجهل والظلمة؟.

وأمّا أنّ الصنع والايجاد يسوق كلّ موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كلّ موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثراً لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلّم تثبته التجربة والبحث، وأمّا أنّ التعليم والتربية الدينيّين الصادرين من مصدر النبوّة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدّقه البحث والتجربة معاً: أمّا البحث: فلانّ الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الأخلاق ومحاسن الأفعال فصلاح العالم الإنسانيّ مفروض فيه، وأمّا التجربة: فالإسلام

١٣٦

أثبت ذلك في اليسير من الزمان الّذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أنّ جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدنيّ اليوم الّتي تضمّن حياة الحضارة والرّقي مرهونة التقدّم الإسلاميّ وسريانه في العالم الدنيويّ على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شكّ، وسنستوفي البحث عنه إنشاء الله في محلّ آخرأليق به.

وسادساً: أنّ الدين الّذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنسانيّ، قضاء القرآن بختم النبوّة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أنّ الاستكمال الفرديّ والاجتماعيّ للإنسان هو هذا المقدار الّذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه.

وهذا من ملاحم القرآن الّتي صدقها جريان تاريخ الإنسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرناً تقدّم فيها النوع في الجهات الطبيعيّ من اجتماعه تقدّماً باهراً، وقطع بعداً شاسعاً غير أنّه وقف من جهة معارفه الحقيقيّة، وأخلاقه الفاضلة موقفة الّذي كان عليه، ولم يتقدّم حتّى قدماً واحداً، أو رجع أقداماً خلفه القهقري، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحيّ والجسميّ معاً.

وقد اشتبه الأمر على من يقول: إنّ جعل القوانين العامّة لمّا كان لصلاح حال البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدّل بتبدّل الاجتماعيّات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال، ولاشكّ أنّ النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن، وتشريع قوانين الإسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسىعليه‌السلام وموسىعليه‌السلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبيّ موجباً لنسخ شرائع الإسلام ووضع قوانين اُخر قابلة الانطباق على مقتضيّات العصر الحاضر.

والجواب عنه: أنّ الدين كما مرّ لم يعتبر في تشريعه مجرّد الكمال المادّيّ الطبيعيّ للإنسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الإنسانيّ، وبني أساسه على الكمال الروحيّ والجسميّ معاً، وابتغى السعادة المادّيّة والمعنويّة جميعاً، ولازم ذلك أن يعتبر فيه

١٣٧

حال الفرد الاجتماعيّ المتكامل بالتكامل الدينيّ دون الفرد الاجتماعيّ المتكامل بالصنعة والسياسة، وقد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإنّهم لولوعهم في الأبحاث الإجتماعيّة المادّيّة (والمادّة متحوّلة متكاملة كالاجتماع المبنيّ عليها) حسبوا أنّ الاجتماع الّذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الّذي اعتبروه اجتماع مادّيّ جسمانيّ، فحكموا عليه بالتغيّر والنسخ حسب تحوّل الاجتماع المادّيّ، وقد عرفت أنّ الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم والروح جميعاً، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد دينيّ أو اجتماع دينيّ جامع للتربية الدينيّة والحياة المادّيّة الّتي سمحت به دنيا اليوم ثمّ لينظر هل يوجد عنده شئ من النقص المفتقر إلى التتميم، والوهن المحتاج إلى التقوية؟.

وسابعاً: أنّ الأنبياءعليهم‌السلام معصومون عن الخطاء.

( كلام في عصمة الأنبياء)

توضيح هذه النتيجة: أنّ العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطاء في تلقّي الوحي، والعصمة عن الخطاء في التبليغ والرسالة، والعصمة عن المعصية وهي ما فيه هتك حرمة العبوديّة ومخالفة مولويّة، ويرجع بالأخرة إلى قول أو فعل ينافي العبوديّة منافاه مّا، ونعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطاء أو المعصية.

وأمّا الخطاء في غير باب المعصية وتلقّي الوحي والتبليغ، وبعبارة اُخرى في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به كالخطاء في الاُمور الخارجيّة نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواسّ وإدراكاتها أو الاعتباريّات من العلوم، ونظير الخطاء في تشخيص الاُمور التكوينيّة من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث.

وكيف كان فالقرآن يدلّ على عصمتهمعليهم‌السلام في جميع الجهات الثلاث:

أمّا العصمة عن الخطاء في تلقّي الوحي وتبليغ الرسالة: فيدلّ عليه قوله تعالى في الآية:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

١٣٨

فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) فإنّه ظاهر في أنّ الله سبحانه إنّما بعثهم بالتبشير والإنذار وإنزال الكتاب (وهذا هو الوحي) ليبيّنوا للناس الحقّ في الاعتقاد والحقّ في العمل، وبعبارة اُخرى لهداية الناس إلى حقّ الاعتقاد وحقّ العمل، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، وقد قال تعالى:( لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه - ٥٢، فبيّن أنّه لا يضلّ في فعله ولا يخطئ في شأنه فإذا أراد شيئاً فإنّما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطاء، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضلّ في سلوكه، وكيف لا وبيده الخلق والأمر وله الملك والحكم، وقد بعث الأنبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ولابدّ أن يكون، وبالرسالة لتبليغها للناس ولابدّ أن يكون! وقال تعالى أيضاً:( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق - ٣، وقال أيضاً:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) يوسف - ٢١.

ويدلّ على العصمة عن الخطاء أيضاً قوله تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) الجن - ٢٨، فظاهره أنّه سبحانه يختصّ رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيّدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم، والإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغيّر بتغيير الشياطين وكلّ مغيّر غيرهم، ليتحقّق إبلاغهم رسالات ربّهم، ونظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم - ٦٤، دلّت الآيات على أنّ الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبيّ إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أيّ مغيّر يغيّره.

وهذان الوجهان من الاستدلال وإن كانا ناهضين على عصمة الأنبياءعليهم‌السلام في تلقّي الوحي وتبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قرّرنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضاً بأنّ الفعل دالّ كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدلّ بفعله على أنّه يراه حسناً جائزاً كما لو قال:

١٣٩

إنّ الفعل الفلانيّ حسن جائز فلو تحقّقت معصية من النبيّ وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضاً منه فإنّ فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلّغاً لكلا المتناقضين وليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحقّ فإنّ المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحقّ لكون كلّ منهما مبطلاً للآخر فعصمة النبيّ في تبليغ رسالته لا تتمّ إلّا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى.

ويدلّ على عصمتهم مطلقاً قوله تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الانعام - ٩٠، فجميعهمعليهم‌السلام كتب عليهم الهداية، وقد قال تعالى:( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ) الزمر - ٣٧.

وقال تعالى:( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) الكهف - ١٧، فنفى عن المهتدين بهدايته كلّ مضلّ يؤثّر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، وكلّ معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ) يس - ٦٢، فعدّ كلّ معصية ضلالاً حاصلاً بإضلال الشيطان بعد ما عدّها عبادة للشيطان فإثبات هدايته تعالى في حقّ الأنبياءعليهم‌السلام ثمّ نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثمّ عدّ كلّ معصية ضلالاً تبرئة منه تعالى لساحة انبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطاء في فهمهم الوحي وإبلاغهم إيّاه.

ويدلّ عليها أيضاً قوله تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٨، وقال أيضاً:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) الحمد - ٧، فوصف هؤلاء الّذين أنعم عليهم من النبيّين بأنّهم ليسوا بضالّين، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالّين وكذا لو صدر عنهم خطاء في الفهم أو التبليغ، ويؤيّد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء:( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) مريم - ٥٩، فجمع في الأنبياء

١٤٠

أوّلاً الخصلتين: أعني الإنعام والهداية حيث أتى بمن البيانيّة في قوله وممّن هدينا واجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، ووصفهم بما فيه غاية التذلّل في العبوديّة، ثمّ وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذمّ، والفريق الثاني غير الأوّل لأنّ الفريق الأوّل رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، وإذ وصف الفريق الثاني وعرّفهم بأنّهم اتّبعوا الشهوات وسوف يلقون غيّاً فالفريق الأوّل وهم الأنبياء ما كانوا يتّبعون الشهوات ولا يلحقهم غيّ، ومن البديهيّ أنّ من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتّى أنّهم لو كانوا قبل نبوّتهم ممّن يتّبع الشهوات لكانوا بذلك ممّن يلحقهم الغيّ لمكان الإطلاق في قوله: أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات وسوف يلقون غيّاً.

وهذا الوجه قريب من قول من استدلّ على عصمة الأنبياء من طريق العقل بأنّ إرسال الرسل وإجراء المعجزات على أيديهم تصديق لقولهم. فلا يصدر عنهم كذب وكذا تصديق لأهليّتهم للتبليغ، والعقل لا يعدّ إنساناً يصدر منه المعاصي والأفعال المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلاً للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمّن تصديق عدم خطائهم في تلقّي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم للتكاليف المتوجّهة إليهم بالطاعة.

ولا يرد عليه: أنّ الناس وهم عقلاء يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم الإجتماعيّة بالتبليغ ممّن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ، فإنّ ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إمّا لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور والتقصير، وإمّا لأنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسّر من الأمر المطلوب، والقبض على اليسير والغضّ عن الكثير وشئ من الأمرين لا يليق بساحته تعالى.

ولا يرد عليه أيضاً: ظاهر قوله تعالى:( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة - ١٢٢، فإنّ الآية وإن كانت في حقّ العامّة من المسلمين ممّن ليس بمعصوم لكنّه إذن لهم في تبليغ ما تعلّموا من الدين وتفقّهوا فيه، لاتصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجّيّة لقولهم على الناس والمحذور إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

١٤١

وممّا يدلّ على عصمتهمعليهم‌السلام قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) النساء - ٦٤، حيث جعل كون الرسول مطاعاً غاية للإرسال، وقصر الغاية فيه، وذلك يستدعي بالملازمة البيّنة تعلّق إرادته تعالى بكلّ ما يطاع فيه الرسول وهو قوله أو فعله لأنّ كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقّق من الرسول خطاء في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد إلّا الحقّ.

وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولاً أو فعلاً والمعصية مبغوضة منهيّ عنها لكان بعينه متعلّق إرادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريداً غير مريد، آمراً وناهياً، محبّاً ومبغضاً بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات والأفعال علوّاً كبيراً وهو باطل وإن قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فإنّ تكليف مالا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال لأنّه تكليف ولا تكليف وإرادة ولا إرادة وحبّ ولاحبّ ومدح وذمّ بالنسبة إلى فعل واحد!

وممّا يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى:( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء - ١٦٥، فإنّ الآية ظاهرة في أنّ الله سبحانه يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وأن لا قاطع للعذر إلّا الرسلعليهم‌السلام ، ومن المعلوم أنّ قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجّتهم إنّما يصحّ إذا لم يتحقّق في ناحيتهم مالا يوافق إرادة الله ورضاه: من قول أو فعل، وخطاء أو معصية وإلّا كان للناس أن يتمسّكوا به ويحتجّوا على ربّهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى.

فإن قلت: الّذي يدلّ عليه ما مرّ من الآيات الكريمة هو أنّ الأنبياءعليهم‌السلام لا يقع منهم خطاء ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شئ فإنّ العصمة على ما ذكره القوم قوّة تمنع الإنسان عن الوقوع في الخطاء، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة، وليست القوّة مجرّد صدور الفعل أو عدم صدوره وإنّما هي مبدء نفسانيّ تصدر عنه الفعل كما تصدر الأفعال عن الملكات النفسانيّة.

قلت: نعم لكنّ الّذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقّق الخطاء

١٤٢

والمعصية من النبيّعليه‌السلام ولا يضرّ في ذلك عدم ثبوت قوّة تصدر عنها الفعل صواباً أو طاعة وهو ظاهر.

ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوّة رادعة بما مرّ في البحث عن الإعجاز من دلالة قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًاً ) الطلاق - ٣، وكذا قوله تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، على أنّ كلّاً من الحوادث يحتاج إلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقّق به، فهذه الأفعال الصادرة عن النبيّعليه‌السلام على وتيرة واحدة صواباً وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبيّعليه‌السلام وفي نفسه وهي القوّة الرادعة، وتوضيحه: أنّ أفعال النبيّ المفروض صدورها طاعة أفعال اختياريّة من نوع الأفعال الاختياريّة الصادرة عنّا الّتي بعضها طاعة وبعضها معصية ولا شكّ أنّ الفعل الاختياريّ إنّما هو اختياريّ بصدوره عن العلم والمشيّة، وإنّما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلميّة الّتي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبوديّة بامتثال الأمر مثلاً تحقّقت الطاعة، وإن كان المطلوب - أعني الصورة العلميّة الّتي يضاف إليها المشيّة - اتّباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه تحقّقت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الّذي يصدر عنه الفعل، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبوديّة وامتثال الأمر الإلهيّ لما صدر إلّا الطاعة، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية (والعياذ بالله) لم يتحقّق إلّا المعصية، وعلى هذا فصدور الأفعال عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصف الطاعة دائماً ليس إلّا لأن العلم الّذي يصدر عنه فعله بالمشيّة صورة علميّة صالحة غير متغيّرة، وهو الإذعان بوجوب العبوديّة دائماً، ومن المعلوم أنّ الصورة العلميّة والهيئة النفسانيّة الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانيّة كملكة العفّة والشجاعة والعدالة ونحوها، ففي النبيّ ملكة نفسانيّة يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد وهي القوّة الرادعة عن المعصية.

ومن جهة اُخرى النبيّ لا يخطئ في تلقّي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانيّة لا تخطئ في تلقّي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أنّ هذه الأفعال وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إلّا الصواب والطاعة تحقّقت منه من غير توسّط سبب من الأسباب يكون معه، ولا انضمام من شئ إلى نفس النبيّ كان معنى

١٤٣

ذلك أن تصدر أفعاله الاختياريّة على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبيّعليه‌السلام فيه، ولازم ذلك إبطال علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإرادته في تأثيرها في أفعاله وفي ذلك خروج الأفعال الاختياريّة عن كونها اختياريّة، وهو ينافي افتراض كونه فرداً من أفراد الإنسان الفاعل بالعلم والإرادة، فالعصمة من الله سبحانه إنّما هي بإيجاد سبب في الإنسان النبيّ يصدر عنه أفعاله الاختياريّة صواباً وطاعة وهو نوع من العلم الراسخ وهو الملكة كما مرّ.

( كلام في النبوّة)

والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة (وهي وصف إرشاد الناس بالوحي) في كلامه كثيراً عبّر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: وهما الرسول والنبيّ، قال تعالى:( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) الزمر - ٦٩، وقال تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ) المائدة - ١٠٩، ومعنى الرسول حامل الرسالة، ومعنى النبيّ حامل النبأ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه وبين خلقه و للنبيّ شرف العلم بالله وبما عنده.

وقد قيل أنّ الفرق بين النبيّ والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الّذي يبهث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة، والنبيّ هو الّذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.

لكن هذا الفرق لا يؤيّده كلامه تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ) مريم - ٥١، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرّج من الخاصّ إلى العامّ كما لا يخفى.

وكذا قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ) الحجّ - ٥٢، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبيّ ثمّ جعل كلّاً منهما مرسلاً لكن قوله تعالى:( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) الزمر - ٦٩، وكذا قوله تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها

١٤٤

أنّ كلّ مبعوث من الله بالإرسال إلى الناس نبيّ ولا ينافي ذلك ما مرّ من قوله تعالى: وكان رسولاً نبيّاً الآية، فإنّ اللّفظين قصد بهما معناهما من غير أن يصيرا اسمين مهجورى المعنى فالمعنى وكان رسولاً خبيراً بآيات الله ومعارفه، وكذا قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ) الآية لإمكان أن يقال: إنّ النبيّ والرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير أنّ النبيّ بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصّة زائدة على اصل نباء النبوّة كما يشعر به أمثال قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) يونس - ٤٧، وقوله تعالى:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) الاسراء - ١٥، وعلى هذا فالنبيّ هو الّذي يبيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم من اُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصّة مشتملة على اتمام حجّة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء - ١٦٥، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد ممّا يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، ولازمه هو الّذي أشرنا إليه من أنّ للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبيّ شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام من الفرق بينهما.

ثمّ إنّ القرآن صريح في أنّ الأنبياء كثيرون وأنّ الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) المؤمن - ٧٨، إلى غير ذلك والّذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم بضعة وعشرون نبيّاً وهم: آدم، ونوح، وإدريس، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، واسماعيل، واليسع، وذوالكفل، والياس، ويونس، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وايّوب، وزكريّا، ويحيى، وإسماعيل صادق الوعد، وعيسى، ومحمّد صلّى لله عليهم أجمعين.

وهناك عدّة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية، قال سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ً ) البقرة - ٢٤٦، وقال تعالى:

١٤٥

( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) البقرة - ٢٥٩، وقال تعالى:( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) يس - ١٤، وقال تعالى:( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ً) الكهف - ٦٥، وقال تعالى:( وَالْأَسْبَاطِ ) البقرة - ١٣٦، وهناك من لم يتّضح كونه نبيّاً كفتى موسى في قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ ) الكهف - ٦١، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرّح بأسمائهم.

وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والّذي يشتمل من الروايات على بيان عدّتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية أبي ذرّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبيّاً.

واعلم: أنّ سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليهم، قال تعالى:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) الاحقاف - ٣٥، وسيجئ أنّ معنى العزم فيهم الثبات على العهد الأوّل المأخوذ منهم وعدم نسيانه، قال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) الأحزاب - ٧، وقال تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) طه - ١١٥.

وكلّ واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب، قال تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى - ١٣، وقال تعالى:( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ) الأعلى - ١٩، وقال تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ - إلى أن قال -وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ - إلى أن قال -وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) المائدة - ٥١.

والآيات تبيّن أنّ لهم شرائع وأنّ لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتباً، وأمّا كتاب نوح فقد عرفت أنّ الآية أعني قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) الخ، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصىّ به نوحاً الآية تدلّ عليه،

١٤٦

وهذا الّذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داودعليه‌السلام ، قال تعالى:( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، وشيث، وإدريس، فإنّها كتب لا تشتمل على الأحكام والشرائع.

واعلم أنّ من لوازم النبوّة الوحي وهو نوع تكليم إلهيّ تتوقّف عليه النبوّة قال تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) النساء - ١٦٣، وسيجيئ استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إنشاء الله.

( بحث روائي)

في المجمع عن الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان الناس قبل نوح اُمّة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالّين فبعث الله النبيّين.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في الآية قال: وكان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلّالاً، وذلك إنّه لمّا انقرض آدم وصالح ذرّيّته، وبقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين الله الّذي كان عليه آدم وصالح ذرّيّته وذلك أنّ قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتّقيّة والكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالة حتّى لم يبق على الأرض معهم إلّا من هو سلف، ولحق الوصيّ بجزيرة من البحر ليعبدالله فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا قد فرغ من الأمر، وكذّبوا، إنّما هو شئ يحكم الله في كلّ عام ثمّ قرء: فيها يفرق كلّ أمر حكيم، فيحكم الله تبارك وتعالى: ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت: أفضلّالاً كانوا قبل النبيّين أم على هدى؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله الّتي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم الله، أمّا تسمع بقول إبراهيم: لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين أي ناسياً للميثاق.

اقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسّر معنى كونهم ضلّالاً المذكور في أوّل الحديث، وأنّهم إنّما خلوا عن الهداية التفصيليّة إلى المعارف

١٤٧

الإلهيّة، وأمّا الهداية الإجماليّة فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قولهعليه‌السلام في رواية المجمع المنقولة آنفاً: على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلّالاً ١ه.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي ناسياً للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمّل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإن لم يكن ذاكراً له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.

وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الّذي أتى أباعبدالله فقال: من أين أثبتّ أنبياء ورسلاً؟ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّا لمّا أثبتنا: أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، فثبت أنّ له سفراء في خلقه يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبون بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد، من إحياء الموتى، وإبراء الاكمه والأبرص فلا يخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.

اقول: والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلاث في مسائل ثلاث من النبوّة.

أحداها: الحجّة على النبوّة العامّة وبالتأمّل فيما ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجد أنّه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس اُمّة واحدة الآية.

وثانيتها: الحجّة على لزوم تأييد النبيّ بالمعجزة، وما ذكرهعليه‌السلام منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الإعجاز في بيان قوله تعالى:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) البقرة - ٢٣.

وثالثتها: مسألة عدم خلوّ الأرض عن الحجّة وسيأتي بيانه إنشاء الله.

١٤٨

وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثيّ عن أبي ذرّ رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيّون؟ قال: مأة وأربعة وعشرون ألف نبيّ، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلثمأة وثلاثة عشر جمّاً غفيراً، قلت من كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً؟ قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، ثمّ قال يا أباذرّ أربعة من الأنبياء سريانيّون: آدم، وشيث، وأخنوخ وهو إدريس وهو أوّل من خطّ بالقلم، ونوح، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوّل نبيّ من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستّمأة نبيّ، قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مأة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان.

اقول: والرواية وخاصّة صدرها المتعرّض لعدد الأنبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصّة والعامّة في كتبهم، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والأمالي عن الرضا عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن زيد بن عليّ عن آبائه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة، والسيّد في الإقبال عن السجّادعليه‌السلام ، وفي البصائر عن الباقرعليه‌السلام .

وفي الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: وكان رسولاً نبيّاً الآية قال: النبيّ الّذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الّذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، ومن الممكن أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى:( فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ) الشعراء - ١٣، وليس معناها أنّ معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود أنّ النبوّة والرسالة مقامان خاصّة أحدهما الرؤيا وخاصّة الآخر مشاهدة ملك الوحي، وربّما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصّتان، وربّما كانت نبوّة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخصّ من النبوّة مصداقاً لا مفهوماً كما يصرّح به الحديث السابق عن أبي ذرّ حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم؟

١٤٩

فقد تبيّن أنّ كلّ رسول نبيّ ولا عكس، وبذلك يظهر الجواب عمّا اعترضه بعضهم على دلالة قوله تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، أنّه إنّما يدلّ على ختم النبوّة دون ختم الرسالة مستدلّاً بهذه الرواية ونظائرها.

والجواب: أنّ النبوّة أعمّ مصداقاً من الرسالة وارتفاع الأعمّ يستلزم ارتفاع الأخصّ ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوّة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.

وفي العيون عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: إنّما سمّي اُولوا العزم أولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أنّ كلّ نبيّ كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، وكلّ نبيّ كان في أيّام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى، وكلّ نبيّ كان في زمن موسى كان على شريعه موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيّام عيسى وكلّ نبيّ كان في أيّام عيسى وبعده كان على شريعه عيسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم، وهم أفضل الأنبياء والرسلعليهم‌السلام وشريعة محمّد لا تنسخ إلى يوم القيامة، ولا نبيّ بعده إلى يوم القيامة فمن ادّعى بعده النبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكلّ من سمع ذلك منه.

اقول: وروي هذا المعنى صاحب قصص الأنبياء عن الصادقعليه‌السلام .

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى: فأصبر كما صبر اُولوا العزم من الرسل الآية، وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريمعليهم‌السلام ، ومعنى اُولي العزم أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله وأقرّوا بكلّ نبيّ كان قبلهم وبعدهم: وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والأذى.

اقول: وروي من طرق أهل السنّة والجماعة عن ابن عبّاس وقتادة أنّ اُولي العزم من الأنبياء خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما رويناه من طرق أهل البيت، وهناك أقوال اُخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنّهم ستّة: نوح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيّوب، وذهب بعضهم إلى أنّهم

١٥٠

الّذين اُمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين، وذهب بعضهم إلى أنّهم أربعة: إبراهيم، ونوح، وهود، ورابعهم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه أقوال خالية عن الحجّة وقد ذكرنا الوجه في ذلك.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الأنبياء مستخفين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء الحديث.

اقول: وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام بطرق كثيرة.

وفي الصافي عن المجمع عن عليّعليه‌السلام بعث الله نبيّا أسود لم يقصّ علينا قصّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي النهج قالعليه‌السلام في خطبة له يذكر فيها آدمعليه‌السلام : فأهبطه إلى دار البليّة وتناسل الذرّيّة، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقّه واتّخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسىّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبيّ مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة إو محجّة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلّة عددهم ولا كثرة المكذّبين لهم: من سابق سمّي له من بعده، أو غابر عرفّه من قبله، على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمّداً لإنجاز عدته، وتمام بنوّته الخطبة.

اقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كلّ جانب، وقوله: واتر إليهم، أي أرسل واحداً بعد واحد، والأوصاب جمع وصب وهو المرض، والأحداث جمع الحدث وهو النازلة، وقوله نسلت القرون أي مضت، وإنجاز العدة تصديق الوعد، والمراد به الوعد الّذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبشّر به عيسى

١٥١

عليه‌السلام وغيره من الأنبياءعليهم‌السلام ، قال تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ) الأنعام - ١١٥.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبدالله بن الوليد قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : قال الله تعالى لموسىعليه‌السلام : وكتبنا له في الألواح من كلّ شئ فعلمنا أنّه لم يكتب لموسى الشيئ كلّه، وقال تعالى لعيسى: لاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه، وقال الله تعالى لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شئ.

اقول: وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبدالله بن الوليد بطريقين، وقولهعليه‌السلام قال الله لموسى الخ إشارة إلى أنّ قوله تعالى في الألواح من كلّ شئ يفسّر قوله تعالى في حقّ التوراة:( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كلّ شئ لم يصحّ قوله: في الألواح من كلّ شئ فهذا الكلام شاهد على أنّ المراد من تفصيل كلّ شئ تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.

( بحث فلسفي)

مسألة النبوّة العامّة بالنظر إلى كون النبوّة نحو تبليغ للأحكام وقوانين مجعولة مشرّعة وهي اُمور اعتباريّة غير حقيقيّة، وإن كانت مسألة كلاميّة غير فلسفيّة فإنّ البحث الفلسفيّ إنّما ينال الأشياء من حيث وجوداتها الخارجيّة وحقائقها العينيّة ولا يتناول الاُمور المجعولة الاعتباريّة.

لكنّها بالنظر إلى جهة اُخرى مسألة فلسفيّة وبحث حقيقيّ، وذلك أنّ الموادّ الدينيّة: من المعارف الأصليّة والأحكام الخلقيّة والعمليّة لها ارتباط بالنفس الإنسانيّة من جهة أنّها تثبت فيها علوماً راسخة أو أحوالاً تؤدّي إلى ملكات راسخة، وهذه العلوم والملكات تكون صوراً للنفس الإنسانيّة تعيّن طريقها إلى السعادة والشقاوة، والقرب والبعد من الله سبحانه، فإنّ الإنسان بواسطة الأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلّق إلّا بما هيّئ له عند الله سبحانه من القرب والزلفى، والرضوان والجنان وبواسطة الأعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه

١٥٢

صوراً لا تتعلّق إلّا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤدّيها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار إلى دار البوار ومهاد النار وهذا سير حقيقيّ.

وعلى هذا فالمسألة حقيقيّة والحجّة الّتي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من الكتاب العزيز حجّة برهانيّة.

توضيح ذلك: أنّ هذه الصور للنفس الإنسانيّة الواقعة في طريق الاستكمال، والإنسان نوع حقيقيّ بمعنى أنّه موجود حقيقيّ مبدأ لآثار وجوديّة عينيّة، والعلل الفيّاضة للموجودات أعطتها قابليّة النيل إلى كمالها الأخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان، والواجب تعالى تامّ الإفاضة فيجب أن يكون هناك إفاضة لكلّ نفس مستعدّة بما يلائم استعدادها من الكمال، ويتبدّل به قوّتها إلى الفعليّة، من الكمال الّذي يسمّى سعادة إن كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الّذي يسمّى شقاوة إن كانت ذات رذائل وهيئات ردّية.

واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الأفعال الاختياريّة المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد، والخوف والرجاء، والرغبة إلى المنافع، والرهبة من المضارّ، وجب أن تكون هذه الإفاضة أيضاً متعلّقة بالدعوة الدينيّة بالتبشير والإنذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، وخساراً للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، والدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها وهو النبيّ المبعوث من عنده تعالى.

فإن قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتّباع الإنسان للحقّ في الاعتقاد والعمل، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى، فأيّ حاجة إلى بعث الأنبياء.؟

قلت: العقل الّذي يدعو إلى ذلك، ويأمر به هو العقل العمليّ الحاكم بالحسن والقبح، دون العقل النظريّ المدرك لحقائق الأشياء كما مرّ بيانه سابقاً، والعقل العمليّ يأخذ مقدّمات حكمه من الإحساسات الباطنة، والإحساسات الّتي هي بالفعل في الإنسان في بادي حاله هي إحساسات القوي الشهويّة والغضبيّة، وأمّا القوّة الناطقة القدسيّة فهي بالقوّة، وقد مرّ أنّ هذا الإحساس الفطريّ يدعو إلى الاختلاف، فهذه الّتي بالفعل لا تدع الإنسان يخرج من القوّة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الإنسان فكلّ قوم

١٥٣

أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عمّا قليل إلى التوحّش والبربريّة مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهيّ بنبوّة تؤيّد العقل.

( بحث اجتماعي)

فإن قلت: هب أنّ العقل لا يستقلّ بالعمل في كلّ فرد أو في كلّ قوم في جميع التقادير ولكنّ الطبيعة يميل دائماً إلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقرّ بالأخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين وهو الأصل المعروف بتبعيّة المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادّة يؤدّي بالأخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الإنسانيّة جالب لسعادة النوع المجتمع الأفراد، ويشهد به ما نشاهده ويؤيّده التاريخ أنّ الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل وتتمنّى الصلاح وتتوجّه إلى السعادة اللذيذة عند الإنسان، فمنها ما بلغ مبتغاه واُمنيّته كما في بعض الاُمم مثل سويسره، ومنها ما هو في الطريق ولمّا يتمّ له شرائط الكمال وهي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.

قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها وسعادتها ممّا لا يسع أحداً إنكاره، والاجتماع المنتهى إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجّه إلى الكمال لكنّ الّذي ينبغي الإمعان فيه أنّ هذا التمايل والتوجّه لا يستوجب فعليّة الكمال والسعادة الحقيقيّة، لما ذكرنا من فعليّة الكمال الشهويّ والغضبيّ في الإنسان وكون مبادي السعادة الحقيقيّة فيه بالقوّة، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الإعتراض من كون الاجتماعات المدنيّة المنقرضة والحاضرة متوجّهة إلى الكمال، ونيل بعضها إلى المدنيّة الفاضلة السعيدة، وقرب البعض الآخر أو بعده، فإنّ الّذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو الكمال الجسميّ وليس الكمال الجسميّ هو كمال الإنسان، فإنّ الإنسان ليس هو الجسم بل هو مركّب من جسم وروح، مؤلّف من جهتين مادّيّة ومعنويّة له حياة في البدن وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال، يحتاج إلى كمال وسعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعدّ كماله الجسميّ الموضوع على أساس الحياة الطبيعيّة كمالاً له

١٥٤

وسعادة بالنسبة إليه، وحقيقته هذه الحقيقة.

فتبيّن أنّ الاجتماع بحسب التجربة إنّما يتوجّه بالفعل إلى فعليّة الكمال الجسمانيّ دون فعليّة الكمال الإنسانيّ، وإن كان في قصدها هداية الإنسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الّذي في تقوية جانبه هلاك الإنسانيّة وانحلال تركيبه، وضلاله عن صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتمّ له إلّا بتأييد من النبوّة، والهداية الإلهيّة.

فإن قلت: لو صحّت هذه الدعوة النبويّة ولها ارتباط بالهداية التكوينيّة لكان لازمها فعليّة التأثير في الاجتماعات الإنسانيّة، كما أنّ هداية الإنسان بل كلّ موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعليّ جار في الخلقة والتكوين، فكان من اللازم أن يتلبّس به الاجتماعات، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، وليس كذلك، فكيف يكون إصلاحاً حقيقيّاً ولا يقبله الاجتماعات الإنسانيّة؟ فليست الدعوة الدينيّة في رفعها اختلافات الحياة إلّا فرضيّة غير قابلة الانطباق على الحقيقة.

قلت: أوّلا أثر الدعوة الدينيّة مشهود معاين، لا يرتاب فيه إلّا مكابر، فإنّها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربّت اُلوفاً واُلوفاً من الأفراد في جانب السعادة، وأضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والردّ والانقياد والاستكبار، والإيمان والكفر، مضافاً إلى بعض الاجتماعات الدينيّة المنعقدة أحياناً من الزمان، على أنّ الدنيا لم تقض عمرها بعد، ولمّا ينقرض العالم الإنسانيّ، ومن الممكن أن يتحوّل الاجتماع الإنسانيّ يوماً إلى اجتماع دينيّ صالح، فيه حياة الإنسانيّة الحقيقيّة وسعادة الفضائل والأخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلّا الله سبحانه، ويسار فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعدّ مثل هذا التأثير العظيم هيّناً لا يعبأ به.

وثانياً: أنّ الأبحاث الإجتماعيّة وكذا علم النفس وعلم الأخلاق تثبت أنّ الأفعال المتحقّقة في الخارج لها ارتباط بالأحوال والملكات من الأخلاق ترتضع من ثدى الصفات النفسانيّة، ولها تأثير في النفوس، فالأفعال آثار النفوس وصفاتها، ولها آثار في النفوس في صفاتها، ويستنج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات والأخلاق،

١٥٥

وأصل وراثتها، فهي تتّسع وجوداً بالسراية عرضاً، وتتّسع ببقاء وجودها بالوراثة طولاً.

فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الإجتماعات الإنسانيّة من أقدم عهودها، في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بدّ أن تكون ذات أثر عميق في حياة الإنسان الإجتماعيّة من حيث الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة الدينيّة آثار في النفوس وإن لم تجبها ولم تؤمن بها.

بل حقيقة الأمر: أنّ ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والاُمم الحيّة من آثار النبوّة والدين، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإنّ الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به اُمم وجماعات هامّة، وهو الداعي الوحيد الّذي يدعو إلى الإيمان، والأخلاق الفاضلة والعدل والصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإن كان قليلاً بقايا من آثاره ونتائجه، فإنّ التدابير العامّة في الاجتماعات المتكّونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو إلى الرقيّة في جميع الشؤون الإنسانيّة، وثانيها القوانين المدنيّة وهي تجري وتحكم في الأفعال فحسب، وتدعو إلى الحرّيّة فيما وراء ذلك من الأخلاق وغيرها، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والأخلاق والأفعال جميعاً ويدعو إلى إصلاح الجميع.

فلو كان في الدنيا خير مرجوّ أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين وتربيته.

ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الاُمم الّتي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة، وأهملت أمر الدين والأخلاق، فإنّهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبّة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقيّة والفطريّة مع وجود أصل الفطرة فيهم، ولو كانت أصل الفطرة كافيه، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئاً من ذلك.

على أنّ التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات الّتي عملتها الاُمم المسيحيّة بعد الحروب الصليبيّة، فاقتبسوا مهمّات النكات من القوانين العامّة الإسلاميّة فتقلّدوها وتقدّموا بها، والحال أنّ المسلمين اتّخذوها ورائهم ظهريّا، فتأخّر هؤلاء وتقدّم

١٥٦

أولئك، والكلام طويل الذيل.

وبالجملة الأصلان المذكوران، أعني السراية والوراثة، وهما التقليد الغريزيّ في الإنسان والتحفّظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الدينيّ في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعليّ.

فإن قلت: فعلى هذا فما فائدة الفطرة فإنّها لا تغني طائلاً وإنّما أمر السعادة بيد النبوّة؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدّعيه النبوّة.

قلت: ما قدّمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الإنسان وكماله يكفي في حلّ هذه الشبهة، فإن السعادة والكمال الّذي تجلبه النبوّة إلى الإنسان ليس أمراً خارجاً عن هذا النوع، ولا غريباً عن الفطرة فإنّ الفطرة هي الّتي تهتدي إليه، لكن هذا الاهتداء لا يتمّ لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، وهذا المعين الّذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوّة ليس أيضاً أمراً خارجاً عن الإنسانيّة وكمالها، منضّماً إلى الإنسان كالحجر الموضوع في جنب الإنسان مثلاً، وإلّا كان ما يعود منه إلى الإنسان أمراً غير كماله وسعادته كالثقل الّذي يضيفه الحجر إلى ثقل الإنسان في وزنه، بل هو أيضاً كمال فطريّ للإنسان مذخور في هذا النوع، وهو شعور خاصّ وإدراك مخصوص مكمون في حقيقتة لا يهتدي إليه بالفعل إلّا آحاد من النوع أخذتهم العناية الإلهيّة كما أنّ للبالغ من الإنسان شعوراً خاصّاً بلذّة النكاح، لا تهتدي إليه بالفعل بقيّة الأفراد غير البالغين بالفعل، وإن كان الجميع من البالغ وغير البالغ مشتركين في الفطرة الإنسانيّة، والشعور شعور مرتبط بالفطرة.

وبالجملة لا حقيقة النبوّة أمر زائد على إنسانيّة الإنسان الّذي يسمّى نبيّاً، وخارج عن فطرته، ولا السعادة الّتي تهتدي سائر الاُمّة إليها أمر خارج عن إنسانيّتهم وفطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الإنسانيّ، وإلّا لم تكن كمالاً وسعادة بالنسبة إليهم.

فإن قلت: فيعود الإشكال على هذا التقرير إلى النبوّة، فإنّ الفطرة على هذا كافية وحدها والنبوّة غير خارجة عن الفطرة.

١٥٧

فإنّ المتحصّل من هذا الكلام، هو أنّ النوع الإنسانيّ المتمدّن بفطرته والمختلف في اجتماعه يتميّز من بين أفراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، وعقولهم سليمة عن الاُوهام والتهوّسات ورذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، وسلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع، وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس، وعمران الدنيا والآخرة، فإنّ النبيّ هو الإنسان الصالح الّذي له نبوغ اجتماعيّ.

قلت: كلّا! وإنّما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوّة، ولا ما تستتبعه:

أمّا أوّلا: فلأنّ ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممّن لا قدم له في البحث الدينيّ، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد.

فذكر أنّ النبوّة نبوغ خاصّ إجتماعيّ استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل، وهذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، وما يصلح به هذا الاجتماع المختلّ، وما يسعد به الإنسان الاجتماعيّ.

فهذا النابغة الاجتماعيّ هو النبيّ، والفكر الصالح المترشّح من قواه الفكريّة هو الوحي، والقوانين الّتي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، وروحه الطاهر الّذي يفيض هذه الأفكار إلى قواه الفكريّة ولا يخون العالم الإنسانيّ باتّباع الهوى هو الروح الأمين وهو جبرئيل، والموحي الحقيقيّ هو الله سبحانه، والكتاب الّذي يتضمّن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماويّ، والملائكة هي القوى الطبيعيّة أو الجهات الداعية إلى الخير، والشيطان هي النفس الأمّارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشرّ والفساد، وعلى هذا القياس.

وهذا فرض فاسد، وقد مرّ في البحث عن الإعجاز، أنّ النبوّة بهذا المعنى لأن تسمّى لعبة سياسيّة أولى بها من أن تسمّى نبوّة إلهيّة.

وقد تقدّم أنّ هذا الفكر الّذي يسمّي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاصّ نبوّة من خواصّ العقل العمليّ، الّذي يميّز بين خير الأفعال وشرّها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان ومن هدايا الفطرة المشتركة، وتقدّم أيضاً أنّ هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الإختلاف، وإذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث

١٥٨

هو كذلك على رفع الاختلاف، واحتاج فيه إلى متمّم يتمّم أمره، وقد عرفت أنّه يجب أن يكون هذا المتمّم نوعاً خاصّاً من الشعور يختصّ به بحسب الفعليّة بعض الآحاد من الإنسان وتهتدي به الفطرة إلى سعادة الإنسان الحقيقيّة في معاشه ومعاده.

ومن هنا يظهرّ أنّ هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكريّ، بمعنى أنّ ما يجده الإنسان من النتائج الفكريّة من طريق مقدّماتها العقليّة غير ما يجده من طريق الشعور النبويّ، والطريق غير الطريق.

ولا يشكّ الباحثون في خواصّ النفس في أنّ في الإنسان شعوراً نفسيّاً باطنيّاً، ربّما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له باباً إلى عالم وراء هذا العالم، ويعطيه عجائب من المعارف والمعلومات، وراء ما يناله العقل والفكر، صرّح به جميع علماء النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من أوروبه مثل جمز الإنجليزيّ وغيره.

فقد تحصّل أنّ باب الوحي النبويّ غير باب الفكر العقليّ، وأنّ النبوّة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.

وأما ثانياً: فلأنّ المأثور من كلام هؤلاء الأنبياء المدّعين لمقام النبوّة والوحي مثل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعيسى وموسى وإبراهيم ونوحعليهم‌السلام وغيرهم - وبعضهم يصدّق بعضاً - وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الّذي فسرّوا به النبوّة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق، فإنّ صريح الكتاب والسنّة وما نقل من الأنبياء العظامعليهم‌السلام أنّ هذه الحقائق وآثارها أمور خارجة عن سنخ الطبيعة، ونشأة المادّة، وحكم الحسّ، بحيث لا يعدّ إرجاعها إلى الطبيعة وحكمها إلّا تأويلاً بما لا يقبله طبع الكلام، ولا يرتضيه ذوق التخاطب.

وقد تبيّن بما ذكرنا أن الأمر الّذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الإنسانيّ وهو الشعور الباطنيّ الّذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوّة الّتي يمتاز بها النبيّ من غيره أمر وراء الشعور الفكريّ الّذي يشترك فيه جميع أفراد الإنسان.

فإن قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطنيّ أمراً خارقاً للعادة فإنّه أمر لا يعرفه أفراد الإنسان من أنفسهم وإنّما هو أمر يدّعيه الشاذّ النادر منهم، فكيف يمكن

١٥٩

أن يسوق الجميع إلى اصلاح شأنهم ويهدي النوع إلى سعادته الحقيقيّة؟! وقد مرّ سابقاً أنّ كلّ ما فرض هادياً للإنسان إلى سعادته وكماله النوعيّ وجب أن يهديه بالارتباط والاتّحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الإنسان إليه.

قلت: كون هذا الأمر خارقاً للعادة ممّا لا ريب فيه، وكذا كونه أمراً من قبيل الإدراكات الباطنيّة ونحو شعور مستور عن الحواسّ الظاهريّة ممّا لا ريب فيه، لكنّ العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة ولا الأمر المستور عن الحواسّ الظاهرة وإنّما يدفع المحال، وللعقل طريق إلى تصديق الاُمور الخارقة للعادة المستورة عن الحواسّ الظاهرة فإنّ له أن يستدلّ على الشئ من طريق علله وهو الاستدلال اللمّيّ، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الإنّي فيثبت بذلك وجوده، والنبوّة بالمعنى الّذي ذكرنا يمكن أن يستدلّ عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الّذي يأتي به النبيّ على سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، وتارة من جهة اللوازم وهو أنّ النبوّة لما كانت أمراً خارقاً للعادة فدعواها ممّن يدّعيها هي دعوى أنّ الّذي وراء الطبيعة وهو الهها الّذي يهديها إلى سعادتها ويهدي النوع الإنسانيّ منها إلى كماله وسعادته يتصرّف في بعض أفراد النوع تصرّفاً خارقاً للعادة وهو التصرّف بالوحى، ولو كان هذا التصرّف الخارق للعادة جائزاً جاز غيره من خوارق العادة، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوّة من النبيّ حقّاً وكان النبيّ واجداً لها لكان من الجائز أن يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوّته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاكّ في نبوّة هذا المدّعى للنبوّة، وهذا الأمر الخارق للعادة هي الآية المعجزة وقد تكلّمنا في الإعجاز في تفسير قوله تعالى:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه ِ ) الآية البقرة - ٢٣.

فإن قلت: هب أنّ هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطنيّ المسمّى بوحى النبوّة وأثبتها النبيّ بالإعجاز، وكان على الناس أن يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرّع الّذي جاء به النبيّ، لكن ما المؤمّن عن الغلط؟ وما الّذي يصون النبيّ عن الوقوع في الخطاء في تشريعه وهو إنسان طبعه طبع سائر الأفراد في جواز الوقوع في الخطاء؟.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481