الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 136927 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أوّلاً الخصلتين: أعني الإنعام والهداية حيث أتى بمن البيانيّة في قوله وممّن هدينا واجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، ووصفهم بما فيه غاية التذلّل في العبوديّة، ثمّ وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذمّ، والفريق الثاني غير الأوّل لأنّ الفريق الأوّل رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، وإذ وصف الفريق الثاني وعرّفهم بأنّهم اتّبعوا الشهوات وسوف يلقون غيّاً فالفريق الأوّل وهم الأنبياء ما كانوا يتّبعون الشهوات ولا يلحقهم غيّ، ومن البديهيّ أنّ من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتّى أنّهم لو كانوا قبل نبوّتهم ممّن يتّبع الشهوات لكانوا بذلك ممّن يلحقهم الغيّ لمكان الإطلاق في قوله: أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات وسوف يلقون غيّاً.

وهذا الوجه قريب من قول من استدلّ على عصمة الأنبياء من طريق العقل بأنّ إرسال الرسل وإجراء المعجزات على أيديهم تصديق لقولهم. فلا يصدر عنهم كذب وكذا تصديق لأهليّتهم للتبليغ، والعقل لا يعدّ إنساناً يصدر منه المعاصي والأفعال المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلاً للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمّن تصديق عدم خطائهم في تلقّي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم للتكاليف المتوجّهة إليهم بالطاعة.

ولا يرد عليه: أنّ الناس وهم عقلاء يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم الإجتماعيّة بالتبليغ ممّن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ، فإنّ ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إمّا لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور والتقصير، وإمّا لأنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسّر من الأمر المطلوب، والقبض على اليسير والغضّ عن الكثير وشئ من الأمرين لا يليق بساحته تعالى.

ولا يرد عليه أيضاً: ظاهر قوله تعالى:( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة - ١٢٢، فإنّ الآية وإن كانت في حقّ العامّة من المسلمين ممّن ليس بمعصوم لكنّه إذن لهم في تبليغ ما تعلّموا من الدين وتفقّهوا فيه، لاتصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجّيّة لقولهم على الناس والمحذور إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

١٤١

وممّا يدلّ على عصمتهمعليهم‌السلام قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) النساء - ٦٤، حيث جعل كون الرسول مطاعاً غاية للإرسال، وقصر الغاية فيه، وذلك يستدعي بالملازمة البيّنة تعلّق إرادته تعالى بكلّ ما يطاع فيه الرسول وهو قوله أو فعله لأنّ كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقّق من الرسول خطاء في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد إلّا الحقّ.

وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولاً أو فعلاً والمعصية مبغوضة منهيّ عنها لكان بعينه متعلّق إرادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريداً غير مريد، آمراً وناهياً، محبّاً ومبغضاً بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات والأفعال علوّاً كبيراً وهو باطل وإن قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فإنّ تكليف مالا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال لأنّه تكليف ولا تكليف وإرادة ولا إرادة وحبّ ولاحبّ ومدح وذمّ بالنسبة إلى فعل واحد!

وممّا يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى:( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء - ١٦٥، فإنّ الآية ظاهرة في أنّ الله سبحانه يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وأن لا قاطع للعذر إلّا الرسلعليهم‌السلام ، ومن المعلوم أنّ قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجّتهم إنّما يصحّ إذا لم يتحقّق في ناحيتهم مالا يوافق إرادة الله ورضاه: من قول أو فعل، وخطاء أو معصية وإلّا كان للناس أن يتمسّكوا به ويحتجّوا على ربّهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى.

فإن قلت: الّذي يدلّ عليه ما مرّ من الآيات الكريمة هو أنّ الأنبياءعليهم‌السلام لا يقع منهم خطاء ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شئ فإنّ العصمة على ما ذكره القوم قوّة تمنع الإنسان عن الوقوع في الخطاء، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة، وليست القوّة مجرّد صدور الفعل أو عدم صدوره وإنّما هي مبدء نفسانيّ تصدر عنه الفعل كما تصدر الأفعال عن الملكات النفسانيّة.

قلت: نعم لكنّ الّذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقّق الخطاء

١٤٢

والمعصية من النبيّعليه‌السلام ولا يضرّ في ذلك عدم ثبوت قوّة تصدر عنها الفعل صواباً أو طاعة وهو ظاهر.

ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوّة رادعة بما مرّ في البحث عن الإعجاز من دلالة قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًاً ) الطلاق - ٣، وكذا قوله تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، على أنّ كلّاً من الحوادث يحتاج إلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقّق به، فهذه الأفعال الصادرة عن النبيّعليه‌السلام على وتيرة واحدة صواباً وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبيّعليه‌السلام وفي نفسه وهي القوّة الرادعة، وتوضيحه: أنّ أفعال النبيّ المفروض صدورها طاعة أفعال اختياريّة من نوع الأفعال الاختياريّة الصادرة عنّا الّتي بعضها طاعة وبعضها معصية ولا شكّ أنّ الفعل الاختياريّ إنّما هو اختياريّ بصدوره عن العلم والمشيّة، وإنّما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلميّة الّتي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبوديّة بامتثال الأمر مثلاً تحقّقت الطاعة، وإن كان المطلوب - أعني الصورة العلميّة الّتي يضاف إليها المشيّة - اتّباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه تحقّقت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الّذي يصدر عنه الفعل، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبوديّة وامتثال الأمر الإلهيّ لما صدر إلّا الطاعة، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية (والعياذ بالله) لم يتحقّق إلّا المعصية، وعلى هذا فصدور الأفعال عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصف الطاعة دائماً ليس إلّا لأن العلم الّذي يصدر عنه فعله بالمشيّة صورة علميّة صالحة غير متغيّرة، وهو الإذعان بوجوب العبوديّة دائماً، ومن المعلوم أنّ الصورة العلميّة والهيئة النفسانيّة الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانيّة كملكة العفّة والشجاعة والعدالة ونحوها، ففي النبيّ ملكة نفسانيّة يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد وهي القوّة الرادعة عن المعصية.

ومن جهة اُخرى النبيّ لا يخطئ في تلقّي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانيّة لا تخطئ في تلقّي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أنّ هذه الأفعال وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إلّا الصواب والطاعة تحقّقت منه من غير توسّط سبب من الأسباب يكون معه، ولا انضمام من شئ إلى نفس النبيّ كان معنى

١٤٣

ذلك أن تصدر أفعاله الاختياريّة على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبيّعليه‌السلام فيه، ولازم ذلك إبطال علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإرادته في تأثيرها في أفعاله وفي ذلك خروج الأفعال الاختياريّة عن كونها اختياريّة، وهو ينافي افتراض كونه فرداً من أفراد الإنسان الفاعل بالعلم والإرادة، فالعصمة من الله سبحانه إنّما هي بإيجاد سبب في الإنسان النبيّ يصدر عنه أفعاله الاختياريّة صواباً وطاعة وهو نوع من العلم الراسخ وهو الملكة كما مرّ.

( كلام في النبوّة)

والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة (وهي وصف إرشاد الناس بالوحي) في كلامه كثيراً عبّر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: وهما الرسول والنبيّ، قال تعالى:( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) الزمر - ٦٩، وقال تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ) المائدة - ١٠٩، ومعنى الرسول حامل الرسالة، ومعنى النبيّ حامل النبأ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه وبين خلقه و للنبيّ شرف العلم بالله وبما عنده.

وقد قيل أنّ الفرق بين النبيّ والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الّذي يبهث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة، والنبيّ هو الّذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.

لكن هذا الفرق لا يؤيّده كلامه تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ) مريم - ٥١، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرّج من الخاصّ إلى العامّ كما لا يخفى.

وكذا قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ) الحجّ - ٥٢، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبيّ ثمّ جعل كلّاً منهما مرسلاً لكن قوله تعالى:( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) الزمر - ٦٩، وكذا قوله تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها

١٤٤

أنّ كلّ مبعوث من الله بالإرسال إلى الناس نبيّ ولا ينافي ذلك ما مرّ من قوله تعالى: وكان رسولاً نبيّاً الآية، فإنّ اللّفظين قصد بهما معناهما من غير أن يصيرا اسمين مهجورى المعنى فالمعنى وكان رسولاً خبيراً بآيات الله ومعارفه، وكذا قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ) الآية لإمكان أن يقال: إنّ النبيّ والرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير أنّ النبيّ بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصّة زائدة على اصل نباء النبوّة كما يشعر به أمثال قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) يونس - ٤٧، وقوله تعالى:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) الاسراء - ١٥، وعلى هذا فالنبيّ هو الّذي يبيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم من اُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصّة مشتملة على اتمام حجّة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء - ١٦٥، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد ممّا يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، ولازمه هو الّذي أشرنا إليه من أنّ للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبيّ شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام من الفرق بينهما.

ثمّ إنّ القرآن صريح في أنّ الأنبياء كثيرون وأنّ الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) المؤمن - ٧٨، إلى غير ذلك والّذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم بضعة وعشرون نبيّاً وهم: آدم، ونوح، وإدريس، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، واسماعيل، واليسع، وذوالكفل، والياس، ويونس، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وايّوب، وزكريّا، ويحيى، وإسماعيل صادق الوعد، وعيسى، ومحمّد صلّى لله عليهم أجمعين.

وهناك عدّة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية، قال سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ً ) البقرة - ٢٤٦، وقال تعالى:

١٤٥

( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) البقرة - ٢٥٩، وقال تعالى:( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) يس - ١٤، وقال تعالى:( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ً) الكهف - ٦٥، وقال تعالى:( وَالْأَسْبَاطِ ) البقرة - ١٣٦، وهناك من لم يتّضح كونه نبيّاً كفتى موسى في قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ ) الكهف - ٦١، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرّح بأسمائهم.

وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والّذي يشتمل من الروايات على بيان عدّتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية أبي ذرّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبيّاً.

واعلم: أنّ سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليهم، قال تعالى:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) الاحقاف - ٣٥، وسيجئ أنّ معنى العزم فيهم الثبات على العهد الأوّل المأخوذ منهم وعدم نسيانه، قال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) الأحزاب - ٧، وقال تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) طه - ١١٥.

وكلّ واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب، قال تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى - ١٣، وقال تعالى:( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ) الأعلى - ١٩، وقال تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ - إلى أن قال -وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ - إلى أن قال -وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) المائدة - ٥١.

والآيات تبيّن أنّ لهم شرائع وأنّ لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتباً، وأمّا كتاب نوح فقد عرفت أنّ الآية أعني قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) الخ، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصىّ به نوحاً الآية تدلّ عليه،

١٤٦

وهذا الّذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داودعليه‌السلام ، قال تعالى:( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، وشيث، وإدريس، فإنّها كتب لا تشتمل على الأحكام والشرائع.

واعلم أنّ من لوازم النبوّة الوحي وهو نوع تكليم إلهيّ تتوقّف عليه النبوّة قال تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) النساء - ١٦٣، وسيجيئ استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إنشاء الله.

( بحث روائي)

في المجمع عن الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان الناس قبل نوح اُمّة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالّين فبعث الله النبيّين.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في الآية قال: وكان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلّالاً، وذلك إنّه لمّا انقرض آدم وصالح ذرّيّته، وبقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين الله الّذي كان عليه آدم وصالح ذرّيّته وذلك أنّ قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتّقيّة والكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالة حتّى لم يبق على الأرض معهم إلّا من هو سلف، ولحق الوصيّ بجزيرة من البحر ليعبدالله فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا قد فرغ من الأمر، وكذّبوا، إنّما هو شئ يحكم الله في كلّ عام ثمّ قرء: فيها يفرق كلّ أمر حكيم، فيحكم الله تبارك وتعالى: ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت: أفضلّالاً كانوا قبل النبيّين أم على هدى؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله الّتي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم الله، أمّا تسمع بقول إبراهيم: لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين أي ناسياً للميثاق.

اقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسّر معنى كونهم ضلّالاً المذكور في أوّل الحديث، وأنّهم إنّما خلوا عن الهداية التفصيليّة إلى المعارف

١٤٧

الإلهيّة، وأمّا الهداية الإجماليّة فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قولهعليه‌السلام في رواية المجمع المنقولة آنفاً: على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلّالاً ١ه.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي ناسياً للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمّل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإن لم يكن ذاكراً له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.

وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الّذي أتى أباعبدالله فقال: من أين أثبتّ أنبياء ورسلاً؟ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّا لمّا أثبتنا: أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، فثبت أنّ له سفراء في خلقه يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبون بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد، من إحياء الموتى، وإبراء الاكمه والأبرص فلا يخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.

اقول: والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلاث في مسائل ثلاث من النبوّة.

أحداها: الحجّة على النبوّة العامّة وبالتأمّل فيما ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجد أنّه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس اُمّة واحدة الآية.

وثانيتها: الحجّة على لزوم تأييد النبيّ بالمعجزة، وما ذكرهعليه‌السلام منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الإعجاز في بيان قوله تعالى:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) البقرة - ٢٣.

وثالثتها: مسألة عدم خلوّ الأرض عن الحجّة وسيأتي بيانه إنشاء الله.

١٤٨

وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثيّ عن أبي ذرّ رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيّون؟ قال: مأة وأربعة وعشرون ألف نبيّ، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلثمأة وثلاثة عشر جمّاً غفيراً، قلت من كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً؟ قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، ثمّ قال يا أباذرّ أربعة من الأنبياء سريانيّون: آدم، وشيث، وأخنوخ وهو إدريس وهو أوّل من خطّ بالقلم، ونوح، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوّل نبيّ من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستّمأة نبيّ، قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مأة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان.

اقول: والرواية وخاصّة صدرها المتعرّض لعدد الأنبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصّة والعامّة في كتبهم، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والأمالي عن الرضا عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن زيد بن عليّ عن آبائه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة، والسيّد في الإقبال عن السجّادعليه‌السلام ، وفي البصائر عن الباقرعليه‌السلام .

وفي الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: وكان رسولاً نبيّاً الآية قال: النبيّ الّذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الّذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، ومن الممكن أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى:( فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ) الشعراء - ١٣، وليس معناها أنّ معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود أنّ النبوّة والرسالة مقامان خاصّة أحدهما الرؤيا وخاصّة الآخر مشاهدة ملك الوحي، وربّما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصّتان، وربّما كانت نبوّة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخصّ من النبوّة مصداقاً لا مفهوماً كما يصرّح به الحديث السابق عن أبي ذرّ حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم؟

١٤٩

فقد تبيّن أنّ كلّ رسول نبيّ ولا عكس، وبذلك يظهر الجواب عمّا اعترضه بعضهم على دلالة قوله تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، أنّه إنّما يدلّ على ختم النبوّة دون ختم الرسالة مستدلّاً بهذه الرواية ونظائرها.

والجواب: أنّ النبوّة أعمّ مصداقاً من الرسالة وارتفاع الأعمّ يستلزم ارتفاع الأخصّ ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوّة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.

وفي العيون عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: إنّما سمّي اُولوا العزم أولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أنّ كلّ نبيّ كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، وكلّ نبيّ كان في أيّام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى، وكلّ نبيّ كان في زمن موسى كان على شريعه موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيّام عيسى وكلّ نبيّ كان في أيّام عيسى وبعده كان على شريعه عيسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم، وهم أفضل الأنبياء والرسلعليهم‌السلام وشريعة محمّد لا تنسخ إلى يوم القيامة، ولا نبيّ بعده إلى يوم القيامة فمن ادّعى بعده النبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكلّ من سمع ذلك منه.

اقول: وروي هذا المعنى صاحب قصص الأنبياء عن الصادقعليه‌السلام .

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى: فأصبر كما صبر اُولوا العزم من الرسل الآية، وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريمعليهم‌السلام ، ومعنى اُولي العزم أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله وأقرّوا بكلّ نبيّ كان قبلهم وبعدهم: وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والأذى.

اقول: وروي من طرق أهل السنّة والجماعة عن ابن عبّاس وقتادة أنّ اُولي العزم من الأنبياء خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما رويناه من طرق أهل البيت، وهناك أقوال اُخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنّهم ستّة: نوح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيّوب، وذهب بعضهم إلى أنّهم

١٥٠

الّذين اُمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين، وذهب بعضهم إلى أنّهم أربعة: إبراهيم، ونوح، وهود، ورابعهم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه أقوال خالية عن الحجّة وقد ذكرنا الوجه في ذلك.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الأنبياء مستخفين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء الحديث.

اقول: وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام بطرق كثيرة.

وفي الصافي عن المجمع عن عليّعليه‌السلام بعث الله نبيّا أسود لم يقصّ علينا قصّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي النهج قالعليه‌السلام في خطبة له يذكر فيها آدمعليه‌السلام : فأهبطه إلى دار البليّة وتناسل الذرّيّة، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقّه واتّخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسىّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبيّ مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة إو محجّة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلّة عددهم ولا كثرة المكذّبين لهم: من سابق سمّي له من بعده، أو غابر عرفّه من قبله، على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمّداً لإنجاز عدته، وتمام بنوّته الخطبة.

اقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كلّ جانب، وقوله: واتر إليهم، أي أرسل واحداً بعد واحد، والأوصاب جمع وصب وهو المرض، والأحداث جمع الحدث وهو النازلة، وقوله نسلت القرون أي مضت، وإنجاز العدة تصديق الوعد، والمراد به الوعد الّذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبشّر به عيسى

١٥١

عليه‌السلام وغيره من الأنبياءعليهم‌السلام ، قال تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ) الأنعام - ١١٥.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبدالله بن الوليد قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : قال الله تعالى لموسىعليه‌السلام : وكتبنا له في الألواح من كلّ شئ فعلمنا أنّه لم يكتب لموسى الشيئ كلّه، وقال تعالى لعيسى: لاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه، وقال الله تعالى لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شئ.

اقول: وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبدالله بن الوليد بطريقين، وقولهعليه‌السلام قال الله لموسى الخ إشارة إلى أنّ قوله تعالى في الألواح من كلّ شئ يفسّر قوله تعالى في حقّ التوراة:( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كلّ شئ لم يصحّ قوله: في الألواح من كلّ شئ فهذا الكلام شاهد على أنّ المراد من تفصيل كلّ شئ تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.

( بحث فلسفي)

مسألة النبوّة العامّة بالنظر إلى كون النبوّة نحو تبليغ للأحكام وقوانين مجعولة مشرّعة وهي اُمور اعتباريّة غير حقيقيّة، وإن كانت مسألة كلاميّة غير فلسفيّة فإنّ البحث الفلسفيّ إنّما ينال الأشياء من حيث وجوداتها الخارجيّة وحقائقها العينيّة ولا يتناول الاُمور المجعولة الاعتباريّة.

لكنّها بالنظر إلى جهة اُخرى مسألة فلسفيّة وبحث حقيقيّ، وذلك أنّ الموادّ الدينيّة: من المعارف الأصليّة والأحكام الخلقيّة والعمليّة لها ارتباط بالنفس الإنسانيّة من جهة أنّها تثبت فيها علوماً راسخة أو أحوالاً تؤدّي إلى ملكات راسخة، وهذه العلوم والملكات تكون صوراً للنفس الإنسانيّة تعيّن طريقها إلى السعادة والشقاوة، والقرب والبعد من الله سبحانه، فإنّ الإنسان بواسطة الأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلّق إلّا بما هيّئ له عند الله سبحانه من القرب والزلفى، والرضوان والجنان وبواسطة الأعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه

١٥٢

صوراً لا تتعلّق إلّا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤدّيها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار إلى دار البوار ومهاد النار وهذا سير حقيقيّ.

وعلى هذا فالمسألة حقيقيّة والحجّة الّتي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من الكتاب العزيز حجّة برهانيّة.

توضيح ذلك: أنّ هذه الصور للنفس الإنسانيّة الواقعة في طريق الاستكمال، والإنسان نوع حقيقيّ بمعنى أنّه موجود حقيقيّ مبدأ لآثار وجوديّة عينيّة، والعلل الفيّاضة للموجودات أعطتها قابليّة النيل إلى كمالها الأخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان، والواجب تعالى تامّ الإفاضة فيجب أن يكون هناك إفاضة لكلّ نفس مستعدّة بما يلائم استعدادها من الكمال، ويتبدّل به قوّتها إلى الفعليّة، من الكمال الّذي يسمّى سعادة إن كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الّذي يسمّى شقاوة إن كانت ذات رذائل وهيئات ردّية.

واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الأفعال الاختياريّة المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد، والخوف والرجاء، والرغبة إلى المنافع، والرهبة من المضارّ، وجب أن تكون هذه الإفاضة أيضاً متعلّقة بالدعوة الدينيّة بالتبشير والإنذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، وخساراً للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، والدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها وهو النبيّ المبعوث من عنده تعالى.

فإن قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتّباع الإنسان للحقّ في الاعتقاد والعمل، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى، فأيّ حاجة إلى بعث الأنبياء.؟

قلت: العقل الّذي يدعو إلى ذلك، ويأمر به هو العقل العمليّ الحاكم بالحسن والقبح، دون العقل النظريّ المدرك لحقائق الأشياء كما مرّ بيانه سابقاً، والعقل العمليّ يأخذ مقدّمات حكمه من الإحساسات الباطنة، والإحساسات الّتي هي بالفعل في الإنسان في بادي حاله هي إحساسات القوي الشهويّة والغضبيّة، وأمّا القوّة الناطقة القدسيّة فهي بالقوّة، وقد مرّ أنّ هذا الإحساس الفطريّ يدعو إلى الاختلاف، فهذه الّتي بالفعل لا تدع الإنسان يخرج من القوّة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الإنسان فكلّ قوم

١٥٣

أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عمّا قليل إلى التوحّش والبربريّة مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهيّ بنبوّة تؤيّد العقل.

( بحث اجتماعي)

فإن قلت: هب أنّ العقل لا يستقلّ بالعمل في كلّ فرد أو في كلّ قوم في جميع التقادير ولكنّ الطبيعة يميل دائماً إلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقرّ بالأخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين وهو الأصل المعروف بتبعيّة المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادّة يؤدّي بالأخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الإنسانيّة جالب لسعادة النوع المجتمع الأفراد، ويشهد به ما نشاهده ويؤيّده التاريخ أنّ الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل وتتمنّى الصلاح وتتوجّه إلى السعادة اللذيذة عند الإنسان، فمنها ما بلغ مبتغاه واُمنيّته كما في بعض الاُمم مثل سويسره، ومنها ما هو في الطريق ولمّا يتمّ له شرائط الكمال وهي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.

قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها وسعادتها ممّا لا يسع أحداً إنكاره، والاجتماع المنتهى إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجّه إلى الكمال لكنّ الّذي ينبغي الإمعان فيه أنّ هذا التمايل والتوجّه لا يستوجب فعليّة الكمال والسعادة الحقيقيّة، لما ذكرنا من فعليّة الكمال الشهويّ والغضبيّ في الإنسان وكون مبادي السعادة الحقيقيّة فيه بالقوّة، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الإعتراض من كون الاجتماعات المدنيّة المنقرضة والحاضرة متوجّهة إلى الكمال، ونيل بعضها إلى المدنيّة الفاضلة السعيدة، وقرب البعض الآخر أو بعده، فإنّ الّذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو الكمال الجسميّ وليس الكمال الجسميّ هو كمال الإنسان، فإنّ الإنسان ليس هو الجسم بل هو مركّب من جسم وروح، مؤلّف من جهتين مادّيّة ومعنويّة له حياة في البدن وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال، يحتاج إلى كمال وسعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعدّ كماله الجسميّ الموضوع على أساس الحياة الطبيعيّة كمالاً له

١٥٤

وسعادة بالنسبة إليه، وحقيقته هذه الحقيقة.

فتبيّن أنّ الاجتماع بحسب التجربة إنّما يتوجّه بالفعل إلى فعليّة الكمال الجسمانيّ دون فعليّة الكمال الإنسانيّ، وإن كان في قصدها هداية الإنسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الّذي في تقوية جانبه هلاك الإنسانيّة وانحلال تركيبه، وضلاله عن صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتمّ له إلّا بتأييد من النبوّة، والهداية الإلهيّة.

فإن قلت: لو صحّت هذه الدعوة النبويّة ولها ارتباط بالهداية التكوينيّة لكان لازمها فعليّة التأثير في الاجتماعات الإنسانيّة، كما أنّ هداية الإنسان بل كلّ موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعليّ جار في الخلقة والتكوين، فكان من اللازم أن يتلبّس به الاجتماعات، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، وليس كذلك، فكيف يكون إصلاحاً حقيقيّاً ولا يقبله الاجتماعات الإنسانيّة؟ فليست الدعوة الدينيّة في رفعها اختلافات الحياة إلّا فرضيّة غير قابلة الانطباق على الحقيقة.

قلت: أوّلا أثر الدعوة الدينيّة مشهود معاين، لا يرتاب فيه إلّا مكابر، فإنّها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربّت اُلوفاً واُلوفاً من الأفراد في جانب السعادة، وأضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والردّ والانقياد والاستكبار، والإيمان والكفر، مضافاً إلى بعض الاجتماعات الدينيّة المنعقدة أحياناً من الزمان، على أنّ الدنيا لم تقض عمرها بعد، ولمّا ينقرض العالم الإنسانيّ، ومن الممكن أن يتحوّل الاجتماع الإنسانيّ يوماً إلى اجتماع دينيّ صالح، فيه حياة الإنسانيّة الحقيقيّة وسعادة الفضائل والأخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلّا الله سبحانه، ويسار فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعدّ مثل هذا التأثير العظيم هيّناً لا يعبأ به.

وثانياً: أنّ الأبحاث الإجتماعيّة وكذا علم النفس وعلم الأخلاق تثبت أنّ الأفعال المتحقّقة في الخارج لها ارتباط بالأحوال والملكات من الأخلاق ترتضع من ثدى الصفات النفسانيّة، ولها تأثير في النفوس، فالأفعال آثار النفوس وصفاتها، ولها آثار في النفوس في صفاتها، ويستنج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات والأخلاق،

١٥٥

وأصل وراثتها، فهي تتّسع وجوداً بالسراية عرضاً، وتتّسع ببقاء وجودها بالوراثة طولاً.

فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الإجتماعات الإنسانيّة من أقدم عهودها، في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بدّ أن تكون ذات أثر عميق في حياة الإنسان الإجتماعيّة من حيث الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة الدينيّة آثار في النفوس وإن لم تجبها ولم تؤمن بها.

بل حقيقة الأمر: أنّ ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والاُمم الحيّة من آثار النبوّة والدين، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإنّ الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به اُمم وجماعات هامّة، وهو الداعي الوحيد الّذي يدعو إلى الإيمان، والأخلاق الفاضلة والعدل والصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإن كان قليلاً بقايا من آثاره ونتائجه، فإنّ التدابير العامّة في الاجتماعات المتكّونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو إلى الرقيّة في جميع الشؤون الإنسانيّة، وثانيها القوانين المدنيّة وهي تجري وتحكم في الأفعال فحسب، وتدعو إلى الحرّيّة فيما وراء ذلك من الأخلاق وغيرها، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والأخلاق والأفعال جميعاً ويدعو إلى إصلاح الجميع.

فلو كان في الدنيا خير مرجوّ أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين وتربيته.

ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الاُمم الّتي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة، وأهملت أمر الدين والأخلاق، فإنّهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبّة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقيّة والفطريّة مع وجود أصل الفطرة فيهم، ولو كانت أصل الفطرة كافيه، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئاً من ذلك.

على أنّ التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات الّتي عملتها الاُمم المسيحيّة بعد الحروب الصليبيّة، فاقتبسوا مهمّات النكات من القوانين العامّة الإسلاميّة فتقلّدوها وتقدّموا بها، والحال أنّ المسلمين اتّخذوها ورائهم ظهريّا، فتأخّر هؤلاء وتقدّم

١٥٦

أولئك، والكلام طويل الذيل.

وبالجملة الأصلان المذكوران، أعني السراية والوراثة، وهما التقليد الغريزيّ في الإنسان والتحفّظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الدينيّ في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعليّ.

فإن قلت: فعلى هذا فما فائدة الفطرة فإنّها لا تغني طائلاً وإنّما أمر السعادة بيد النبوّة؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدّعيه النبوّة.

قلت: ما قدّمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الإنسان وكماله يكفي في حلّ هذه الشبهة، فإن السعادة والكمال الّذي تجلبه النبوّة إلى الإنسان ليس أمراً خارجاً عن هذا النوع، ولا غريباً عن الفطرة فإنّ الفطرة هي الّتي تهتدي إليه، لكن هذا الاهتداء لا يتمّ لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، وهذا المعين الّذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوّة ليس أيضاً أمراً خارجاً عن الإنسانيّة وكمالها، منضّماً إلى الإنسان كالحجر الموضوع في جنب الإنسان مثلاً، وإلّا كان ما يعود منه إلى الإنسان أمراً غير كماله وسعادته كالثقل الّذي يضيفه الحجر إلى ثقل الإنسان في وزنه، بل هو أيضاً كمال فطريّ للإنسان مذخور في هذا النوع، وهو شعور خاصّ وإدراك مخصوص مكمون في حقيقتة لا يهتدي إليه بالفعل إلّا آحاد من النوع أخذتهم العناية الإلهيّة كما أنّ للبالغ من الإنسان شعوراً خاصّاً بلذّة النكاح، لا تهتدي إليه بالفعل بقيّة الأفراد غير البالغين بالفعل، وإن كان الجميع من البالغ وغير البالغ مشتركين في الفطرة الإنسانيّة، والشعور شعور مرتبط بالفطرة.

وبالجملة لا حقيقة النبوّة أمر زائد على إنسانيّة الإنسان الّذي يسمّى نبيّاً، وخارج عن فطرته، ولا السعادة الّتي تهتدي سائر الاُمّة إليها أمر خارج عن إنسانيّتهم وفطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الإنسانيّ، وإلّا لم تكن كمالاً وسعادة بالنسبة إليهم.

فإن قلت: فيعود الإشكال على هذا التقرير إلى النبوّة، فإنّ الفطرة على هذا كافية وحدها والنبوّة غير خارجة عن الفطرة.

١٥٧

فإنّ المتحصّل من هذا الكلام، هو أنّ النوع الإنسانيّ المتمدّن بفطرته والمختلف في اجتماعه يتميّز من بين أفراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، وعقولهم سليمة عن الاُوهام والتهوّسات ورذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، وسلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع، وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس، وعمران الدنيا والآخرة، فإنّ النبيّ هو الإنسان الصالح الّذي له نبوغ اجتماعيّ.

قلت: كلّا! وإنّما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوّة، ولا ما تستتبعه:

أمّا أوّلا: فلأنّ ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممّن لا قدم له في البحث الدينيّ، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد.

فذكر أنّ النبوّة نبوغ خاصّ إجتماعيّ استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل، وهذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، وما يصلح به هذا الاجتماع المختلّ، وما يسعد به الإنسان الاجتماعيّ.

فهذا النابغة الاجتماعيّ هو النبيّ، والفكر الصالح المترشّح من قواه الفكريّة هو الوحي، والقوانين الّتي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، وروحه الطاهر الّذي يفيض هذه الأفكار إلى قواه الفكريّة ولا يخون العالم الإنسانيّ باتّباع الهوى هو الروح الأمين وهو جبرئيل، والموحي الحقيقيّ هو الله سبحانه، والكتاب الّذي يتضمّن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماويّ، والملائكة هي القوى الطبيعيّة أو الجهات الداعية إلى الخير، والشيطان هي النفس الأمّارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشرّ والفساد، وعلى هذا القياس.

وهذا فرض فاسد، وقد مرّ في البحث عن الإعجاز، أنّ النبوّة بهذا المعنى لأن تسمّى لعبة سياسيّة أولى بها من أن تسمّى نبوّة إلهيّة.

وقد تقدّم أنّ هذا الفكر الّذي يسمّي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاصّ نبوّة من خواصّ العقل العمليّ، الّذي يميّز بين خير الأفعال وشرّها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان ومن هدايا الفطرة المشتركة، وتقدّم أيضاً أنّ هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الإختلاف، وإذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث

١٥٨

هو كذلك على رفع الاختلاف، واحتاج فيه إلى متمّم يتمّم أمره، وقد عرفت أنّه يجب أن يكون هذا المتمّم نوعاً خاصّاً من الشعور يختصّ به بحسب الفعليّة بعض الآحاد من الإنسان وتهتدي به الفطرة إلى سعادة الإنسان الحقيقيّة في معاشه ومعاده.

ومن هنا يظهرّ أنّ هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكريّ، بمعنى أنّ ما يجده الإنسان من النتائج الفكريّة من طريق مقدّماتها العقليّة غير ما يجده من طريق الشعور النبويّ، والطريق غير الطريق.

ولا يشكّ الباحثون في خواصّ النفس في أنّ في الإنسان شعوراً نفسيّاً باطنيّاً، ربّما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له باباً إلى عالم وراء هذا العالم، ويعطيه عجائب من المعارف والمعلومات، وراء ما يناله العقل والفكر، صرّح به جميع علماء النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من أوروبه مثل جمز الإنجليزيّ وغيره.

فقد تحصّل أنّ باب الوحي النبويّ غير باب الفكر العقليّ، وأنّ النبوّة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.

وأما ثانياً: فلأنّ المأثور من كلام هؤلاء الأنبياء المدّعين لمقام النبوّة والوحي مثل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعيسى وموسى وإبراهيم ونوحعليهم‌السلام وغيرهم - وبعضهم يصدّق بعضاً - وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الّذي فسرّوا به النبوّة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق، فإنّ صريح الكتاب والسنّة وما نقل من الأنبياء العظامعليهم‌السلام أنّ هذه الحقائق وآثارها أمور خارجة عن سنخ الطبيعة، ونشأة المادّة، وحكم الحسّ، بحيث لا يعدّ إرجاعها إلى الطبيعة وحكمها إلّا تأويلاً بما لا يقبله طبع الكلام، ولا يرتضيه ذوق التخاطب.

وقد تبيّن بما ذكرنا أن الأمر الّذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الإنسانيّ وهو الشعور الباطنيّ الّذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوّة الّتي يمتاز بها النبيّ من غيره أمر وراء الشعور الفكريّ الّذي يشترك فيه جميع أفراد الإنسان.

فإن قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطنيّ أمراً خارقاً للعادة فإنّه أمر لا يعرفه أفراد الإنسان من أنفسهم وإنّما هو أمر يدّعيه الشاذّ النادر منهم، فكيف يمكن

١٥٩

أن يسوق الجميع إلى اصلاح شأنهم ويهدي النوع إلى سعادته الحقيقيّة؟! وقد مرّ سابقاً أنّ كلّ ما فرض هادياً للإنسان إلى سعادته وكماله النوعيّ وجب أن يهديه بالارتباط والاتّحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الإنسان إليه.

قلت: كون هذا الأمر خارقاً للعادة ممّا لا ريب فيه، وكذا كونه أمراً من قبيل الإدراكات الباطنيّة ونحو شعور مستور عن الحواسّ الظاهريّة ممّا لا ريب فيه، لكنّ العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة ولا الأمر المستور عن الحواسّ الظاهرة وإنّما يدفع المحال، وللعقل طريق إلى تصديق الاُمور الخارقة للعادة المستورة عن الحواسّ الظاهرة فإنّ له أن يستدلّ على الشئ من طريق علله وهو الاستدلال اللمّيّ، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الإنّي فيثبت بذلك وجوده، والنبوّة بالمعنى الّذي ذكرنا يمكن أن يستدلّ عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الّذي يأتي به النبيّ على سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، وتارة من جهة اللوازم وهو أنّ النبوّة لما كانت أمراً خارقاً للعادة فدعواها ممّن يدّعيها هي دعوى أنّ الّذي وراء الطبيعة وهو الهها الّذي يهديها إلى سعادتها ويهدي النوع الإنسانيّ منها إلى كماله وسعادته يتصرّف في بعض أفراد النوع تصرّفاً خارقاً للعادة وهو التصرّف بالوحى، ولو كان هذا التصرّف الخارق للعادة جائزاً جاز غيره من خوارق العادة، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوّة من النبيّ حقّاً وكان النبيّ واجداً لها لكان من الجائز أن يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوّته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاكّ في نبوّة هذا المدّعى للنبوّة، وهذا الأمر الخارق للعادة هي الآية المعجزة وقد تكلّمنا في الإعجاز في تفسير قوله تعالى:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه ِ ) الآية البقرة - ٢٣.

فإن قلت: هب أنّ هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطنيّ المسمّى بوحى النبوّة وأثبتها النبيّ بالإعجاز، وكان على الناس أن يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرّع الّذي جاء به النبيّ، لكن ما المؤمّن عن الغلط؟ وما الّذي يصون النبيّ عن الوقوع في الخطاء في تشريعه وهو إنسان طبعه طبع سائر الأفراد في جواز الوقوع في الخطاء؟.

١٦٠

ومن المعلوم أنّ وقوع الخطاء في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعيّ في سدّ طريق استكمال النوع الإنسانيّ، وإضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حلّ هذه العقدة، فإنّ الّذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعليّة أعني الأمر الروحي الّذي يرفع الاختلاف إنّما هو الناموس التكوينيّ الّذي هو الإيصال التكوينيّ لكلّ نوع من الأنواع الوجوديّة إلى كماله الوجوديّ وسعادته الحقيقيّة، فإنّ السبب الّذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجوداً حقيقيّاً كسائر الأنواع الخارجيّة هو الّذي يهديه هداية تكوينيّة خارجيّة إلى سعادته، ومن المعلوم أنّ الاُمور الخارجيّة من حيث أنّها خارجيّة لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني: أنّ الوجود الخارجيّ لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح أنّ ما في الخارج هو ما في الخارج! وإنّما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقيّة والاُمور الفكريّة من جهة تطبيقها على الخارج فإنّ الصدق والكذب من خواصّ القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض أنّ الّذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد والتكوين لزم أن لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته الّتي هي روح النبوّة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبيّ، ولا هذا الشعور الّذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.

فظهر: أنّ هذا الروح النبويّ لا يحلّ محلّاً إلّا بمصاحبة العصمة، وهي المصونيّة عن الخطاء في أمر الدين والشريعة المشرّعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ هذه عصمة في تلقّي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبوديّة، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإنّ كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينيّة وقوعاً تكوينيّاً،

١٦١

ولا خطاء ولا غلط في التكوين.

وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنّه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطنيّ مثل الشعور الفطريّ المشترك أعني الشعور الفكريّ في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغيّر والتأثّر؟ فإنّ الشعور الفطريّ وإن كان أمراً غير مادّيّ، ومن الاُمور القائمة بالنفس المجرّدة عن المادّة إلّا أنّه من جهة ارتباطه بالمادّة يقبل الشدّة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطنيّ أمر متعلّق بالبدن المادّيّ نحواً من التعلّق، وإن سلّم أنّه غير مادّيّ في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكريّ في قبول التغيّر والفساد، ومع إمكان عروض التغيّر والفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتّة.

والجواب: أنّا بيّنّا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنسانيّ نحو سعادته الحقيقيّة إنّما يتحقّق بيد الصنع والإيجاد الخارجيّ دون العقل الفكريّ، ولا معنى لتحقّق الخطاء في الوجود الخارجيّ.

وأمّا كون هذا الشعور الباطنيّ في معرض التغيّر والفساد لكونه متعلّقاً نحو تعلّق بالبدن فلا نسلّم كون كلّ شعور متعلّق بالبدن معرضاً للتغيّر والفساد، وإنّما القدر المسلّم من ذلك هذا الشعور الفكريّ (وقد مرّ أنّ الشعور النبويّ ليس من قبيل الشعور الفكريّ) وذلك أنّ من الشعور شعور الإنسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغيّر والخطاء فإنّه علم حضوريّ معلومه عين المعلوم الخارجيّ، وتتمّة هذا الكلام موكول إلى محلّه.

فقد تبيّن ممّا مرّ اُمور:أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدّن والاختلاف.

ثانيها: أنّ هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكريّ من القوانين المقرّرة.

ثالثها: أنّ رافع هذا الاختلاف إنّما هو الشعور النبويّ الّذي يوجده الله سبحانه

١٦٢

في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أنّ سنخ هذا الشعور الباطنيّ الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكريّ المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أنّ هذا الشعور الباطنيّ لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنسانيّ في سعادته الحقيقيّة.

سادسها: أنّ هذه النتائج (ويهمّنا من بينها الثلثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكريّ سنخاً، وكون النبيّ معصوماً غير غالط في تلقّي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العامّ المشاهد في هذه العالم الطبيعيّ، وهو سير كلّ واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجوديّة الّتي جهّزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبّس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهّز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحقّ ويتلبّس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة، فلا بدّ أن يكون الوجود يهيّئ له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينيّة ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مرّ بيانه.

١٦٣

( سورة البقرة آية ٢١٤)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ )

( بيان)

قد مرّ أنّ هذه الآيات آخذة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدلّ عليه الآيات السابقة، وهو أنّ الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلّموا له ولا يتّبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائاً، ولا يبدّلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتّباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحلّ عليهم غضب من ربّهم كما حلّ ببني إسرائيل حيث بدّلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإنّ المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب ربّ العالمين إلّا بالثبات والتسليم.

وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإنّ أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة، وإنّما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلاميّة أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانياً

وكلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحقّ أنّ أم لإفاده الترديد، وأنّ الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنّها دلالة وضعيّة، فالمعنى في المورد مثلاً: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على

١٦٤

نعمة الدين، والاتّفاق والاتّحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثّل الشئ ويحضره ويشخّصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصّة الّتي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيليّة كما قال تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ) الفرقان - ٩، وإنّما قالوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مجنون وساحر وكذّاب ونحو ذلك، وحيث أنّه تعالى يبيّن المثل الّذي ذكره بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء إلخ فالمراد به المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) إلى آخره لمّا اشتدّ شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الّذي دلّ عليه بقوله: ولمّا يأتكم مثل الّذين، بيّن ذلك بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء والبأساء هو الشدّة المتوجّهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الّذي يحتاج إليه في حياته، والضرّاء هي الشدّة الّتي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من زلّ بمعنى عثر، كرّرت اللفظة للدلالة على التكرار كأنّ الأرض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصّر وصرصر، وصّل وصلصل، وكبّ وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادّهاش.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محلّ الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين لكنّ الثاني أنسب للسياق، فإنّ كون الجملة غاية يعلّل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كلّ المناسبة.

قوله تعالى: ( مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه ) ، الظاهر أنّه مقول قول الرسول والّذين آمنوا معه جميعاً، ولا ضير في أن يتفّوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الّذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

١٦٥

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافّات - ١٧٢، وقال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقد قال تعالى أيضاً:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف - ١١٠، وهو أشدّ لحناً من هذه الآية.

والظاهر أيضاً أنّ قوله تعالى: ألا إنّ نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمّة لقول الرسول والّذين آمنوا معه

والآية (كما مرّت إليه الإشارة سابقاً) تدلّ على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الاُمّة كما جرى في الاُمم السابقة.

وتدل أيضاً على اتّحاد الوصف والمثل بتكرّر الحوادث الماضية غابراً، وهو الّذي يسمّى بتكرّر التاريخ وعوده.

١٦٦

( سورة البقرة آية ٢١٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) ، قالوا: إنّ الآية واقعة على اُسلوب الحكمة، فإنّهم إنّما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللّغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحقّ بالسؤال إنّما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرّض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحقّ السؤال.

والّذي ذكروه وجه بليغ غير أنّهم تركوا شيئاً، وهو أنّ الآية مع ذلك متعرّضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنّها تعرّضت لذلك: أوّلاً بقولها: من خير، إجمالاً، وثانياً بقولها: وما تفعّلوا من خير فإنّ الله به عليم، ففي الآية دلالة على أنّ الّذي ينفق به هو المال كائناً ما كان، من قليل أو كثير، وأنّ ذلك فعل خير والله به عليم، لكنّهم كان عليهم أن يسألوا عمّن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بما في قوله تعالى: ماذا له ينفقون ليس هو السؤال عن المهيّة فإنّه اصطلاح منطقيّ لا ينبغي أن ينزّل عليه الكلام العربيّ ولا سيّما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفيّة، وأنّهم كيف ينفقونه، وفي أيّ موضع يضعونه، فاُجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أنّ السؤال وإن كان بلفظ ما إلّا أنّ

١٦٧

المقصود هو السؤال عن الكيفيّة فإنّ من المعلوم أنّ الّذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوماً لم يذهب إليه الوهم، وتعيّن أنّ السؤال عن الكيفيّة، نظير قوله تعالى:( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة - ٧٠، فكان من المعلوم أنّ البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب المهيّة، فكان من المتعيّن أن يكون سؤالاً عن الصفة الّتي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك اُجيب بالمطابقة بقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) الآية البقرة - ٧١.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإنّ ما وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب المهيّة الّتي اصطلح عليها المنطق، وهي الحدّ المؤلّف من الجنس والفصل القريبين، لكنّه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيّة، حتّى يصحّ لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقّين للانفاق: ماذا اُنفق: أي على من اُنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والأقربين، فإنّ ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرّف الشئ سواء كان معرّفاً بالحدّ والمهيّة، أو معرّفاً بالخواصّ والأوصاف، فهي أعمّ ممّا اصطلح عليه في المنطق لا أنّها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفيّة الشيئ، ومنه يعلم أنّ قوله تعالى:( يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) وقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عمّا يعرّف الشئ ويخصّه والجواب بذلك.

وأمّا قول القائل: إنّ المهيّة لمّا كانت معلومة تعيّن حمل ما على السؤال عن الكيفيّة دون المهيّة فهو من أوضح الخطاء، فإنّ ذلك لا يوجب تغيّر معنى الكلمة ممّا وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إنّ السؤال كان عن الأمرين جميعاً: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

وكيف كان لا ينبغي الشكّ في أنّ في الآية تحويلاً ما للجواب إلى جواب آخر تنبيهاً على أنّ الأحقّ هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلّا فكون الإنفاق من الخير

١٦٨

والمال ظاهر، والتحوّل من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحوّل إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصّة به كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١ وقوله تعالى:( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران - ١١٧ وقوله تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة - ٢٦١، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء - ٨٩، وقوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان - ٥٧، وقوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات - ١٦٠، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أوّل الآية إيماء إلى أنّ الإنفاق وإن كان مندوباً إليه من قليل المال وكثيره، غير أنّه ينبغي أن يكون خيراً يتعلّق به الرغبة وتقع عليه المحبّة كما قال تعالى:( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران - ٩٢، وكما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) البقرة - ٢٦٧.

وايماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشرّ كالإنفاق بالمنّ والأذى كما قال تعالى:( ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) البقرة - ٢٦٢، وقوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة - ٢١٩.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منهنّ: يسئلونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الأنفال، ويسألونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلّا عمّا كان ينفعهم.

١٦٩

في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح - وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير - فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيّان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلّا السؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه.

ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوّع، والزكوة سوى ذلك كلّه.

ونظيرها في ذلك أيضاً ما رواه عن السدّي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة - ١٠٣، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلّا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

١٧٠

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مرّ مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدلّ على فرض القتال على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجّهاً إليهم إلّا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى:( يْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور - ٦١، وغير ذلك من الآيات والأدلّة.

ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيّلة بقوله:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين.

والكره بضمّ الكاف المشقّة الّتي يدركها الإنسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقّة الّتي تحمّل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على

١٧١

فعل ما يكرهه، قال تعالى:( لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًاً ) النساء - ١٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًاً ) فصّلت - ١١، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إمّا لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضارّ الماليّة وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الإجتماعيّة لا محالة كان كرهاً وشاقّاً للمؤمنين بالطبع، فإنّ الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أنّ فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنّه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر واُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أنّ من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

وإمّا لأنّ المؤمنين كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار مع ما لهم من العدّة والقوّة لا يتمّ على صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم في تأخيره حتّى يتمّ لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنّهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإنّ لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلّا ظاهره وهذا وجه آخر.

وإمّا لأنّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبّون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفّار من الهلاك الأبديّ والبوار الدائم، فبيّن ذلك أنّهم مخطئون في ذلك، فإنّ الله - وهو المشّرع لحكم القتال - يعلم أنّ الدعوة غير مؤثّرة في تلك النفوس الشقيّة الخاسرة، وأنّه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانيّة كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الّذي لا ينجع فيه علاجٌ دون

١٧٢

أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إلّا أنّ الأوّل أنسب نظراً إلى ما اُشير إليه من آيات العتاب، على أنّ التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مرّ من الوجه يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مرّ فيما مرّ أنّ أمثال عسى ولعلّ في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجيّ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلّم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنّما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنّه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبّين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطائهم في الأمرين جميعاً، بيان ذلك: أنّه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، كان معناه أنّه لا عبرة بكرهكم وحبّكم فإنّهما ربّما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنّما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط، وأمّا من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحبّ الاعتزال، فالّذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطائه في الأمرين جميعاً، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبّك اهتديت، عسى أن تكره شيئاً وهو خير لك وعسى أن تحبّ شيئاً وهو شرّ لك لأنّك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولمّا كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبّين للسلم كما يشعر به أيضاً قوله تعالى سابقاً: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم، نبّههم الله بالخطائين بالجملتين المستقلّتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبّوا.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطائهم، فإنّه تعالى تدرّج في بيان ذلك إرفاقاً بأذهانهم، فأخذ أوّلاً بإبداء احتمال خطائهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلمّا اعتدلت أذهانهم بحصول الشكّ فيها، وزوال صفة الجهل المركّب كرّ عليهم ثانياً بأنّ هذا الحكم الّذي كرهتموه أنتم إنّما شرّعه

١٧٣

الله الّذي لا يجهل شيئاً من حقائق الاُمور، والّذي ترونه مستند إلى نفوسكم الّتي لا تعلم شيئاً إلّا ما علّمها الله إيّاه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلّموا إليه سبحانه الأمر.

والآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفى العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالّة على هذا المعنى كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران - ٥، وقوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ١٩٠.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمّة بأنّه صدّ عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أنّ إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأنّ الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأنّ هناك قتلاً، وأنّه إنّما وقع خطائاً لقوله تعالى في آخر الآيات( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفّار خطائاً من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفّار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصّة عبدالله بن جحش وأصحابه.

قوله تعالى: ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصدّ هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصّة الحجّ، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

والآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٦، وليس بصواب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والّذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين - وهم أهل المسجد

١٧٤

الحرام - منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحقّ للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر ممّا طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلّا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتّى للتعليل أي ليردّوكم.

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتدّ بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط)

والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلّا إلى العمل كقوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر - ٦٥، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمّد - ٣٣، وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود - ١٦، ويقرب منه قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣.

وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إنّ أصله من الحبط بالتحريك وهو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه وربّما أدّى إلى هلاكه.

والّذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدّنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وخسران سعى الكافر، وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت - وهو الله سبحانه - يبتهج به عند النعمة،

١٧٥

ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، تبيّن الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى،( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال الّتي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة، والأفعال القربيّة الّتي كان المرتد عملها وأتى بها حال الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط وارد في مورد الّذين لا عمل عباديّ، ولا فعل قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران - ٢٢، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والإرتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيويّة ولا اُخرويّة، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة وإن مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

١٧٦

ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية وربّما أيّده قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، فإنّ الآية تبيّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله الّتي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف: أن لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

وهنا مسألة اُخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيّئة حكمها؟ نعم الحسنات ربّما كفّرت السيّئآت بنصّ القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيّئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المنافي، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شئ منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٠٢، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط

١٧٧

بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنسانيّ من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئآت من المعاصي الّتي تقطع رابطة المولويّة والعبوديّة من أصلها فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ نوع الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيّئة.

نعم الحسنة ربّما كفّرت السيّئة كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٩، وقال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة - ٢٠٣، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣٠، بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة كما قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وهنا مسألة اُخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى إنّه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحقّ ذلك إلّا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقرّ عليه، فيكتب ما يستحقّه حال العمل.

وقد استدلّ أصحاب كلّ قول بما يناسبه من الآيات، فإنّ فيها ما يناسب كلّاً من هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربّما استدلّ ببعض وجوه عقليّة ملفّقة.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) البقرة - ٢٦، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانيّة ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور الّتي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه

١٧٨

حسنة حصل في ذاته صورة معنويّة مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنويّة تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئآت كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الّذي بيّناه سابقاً.

وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيّناه فيما مرّ كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة وترتّب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الإجتماعيّة وترتّب المدح والذمّ عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذمّ العاصي والمسئ بمجرّد صدور الفعل عن فاعله، غير أنّهم يرون ما يجازونه به من المدح والذمّ قابلاً للتغيّر والتحوّل لكونهم يرون الفاعل ممكن التغيّر والزوال عمّا هو عليه من الانقياد والتمرّد، فلحوق المدح والذمّ على فاعل الفعل فعليّ عندهم بتحقّق الفعل غير أنّه موقوف البقاء على عدم تحقّق ما ينافيه، وأمّا ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قطّ فإنّما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغيّر قطّ بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

ومن هنا يعلم: أنّ في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحقّ لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

وأنّ الحقّ أوّلاً: أنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرّد صدور الفعل الموجب له لكنّه قابل للتحوّل والتغيّر بعد، وإنّما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

وثانياً: أنّ حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقّق عند صدور المعصية ويتحتّم عند الموت.

وثالثاً: أنّ الحبط كما يتعلّق بالأعمال الاُخرويّة كذلك يتعلّق بالأعمال الدنيويّة.

ورابعاً: أنّ التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

١٧٩

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)

من أحكام الأعمال: أنّ من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) آل عمران - ٢٢، وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئآت الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) الزمر - ٥٥، وقال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤.

وأيضاً: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقّة مع الرسول، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمّد - ٣٣، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات - ٢.

وكذا من الطاعات ما يكفّر بعض السيّئآت كالصلوات المفروضة، قال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود - ١١٤، وكالحجّ، قال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة - ٢٠٣، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481