الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 126409
تحميل: 7209


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126409 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النساء - ٣١، وقال تعالى:( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) النجم - ٣٢.

وأيضاً: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى:( إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) المائدة - ٢٩، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبيّ وأئمّة أهل البيت، وكذا من الطاعات ما ينقل السيّئآت إلى الغير كما سيجئ.

وأيضاً: من المعاصي ما ينقل مثل سيّئآت الغير إلى الإنسان لاعينها، قال تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) النحل - ٢٥، وقال:( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ) العنكبوت - ١٣، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لاعينها، قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس - ١٢.

وأيضاً: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى:( ذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) الإسراء - ٧٥، وقال تعالى:( يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) الاحزاب - ٣٠، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالانفاق في سبيل الله، قال تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) البقرة - ٢٦١، ومثله ما في قوله تعالى:( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ) القصص - ٥٤، وما في قوله تعالى:( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد - ٢٨، على أنّ الحسنة مضاعفة عند الله مطلقاً، قال تعالى:( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) الانعام - ١٦٠.

وأيضاً: من الحسنات ما يبدّل السيّئآت إلى الحسنات، قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وأيضاً: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور - ٢١، ويمكن الحصول على مثلها في السيّئآت كظلم أيتام الناس

١٨١

حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم، قال تعالى:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) النساء - ٩.

وأيضاً: من الحسنات ما يدفع سيّئآت صاحبها إلى غيره، ويجذب حسنات الغير إليه، كما أنّ من السيّئآت ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، ويجذب سيّئآته إليه، وهذا من عجيب الأمر في باب الجزاء والاستحقاق، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال - ٣٧.

وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوّعة سنورد كلّاً منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إنشاء الله العزيز.

وبالتأمّل في الآيات السابقة والتدبّر فيها يظهر: أنّ في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاماً يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، وذلك أنّ فعل الأكل مثلاً من حيث أنّه مجموع حركات جسمانيّة فعليّة وانفعاليّة، إنّما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلاً ولا يتخطّاه إلى غيره، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدّله من صورة إلى صورة اُخرى مثلاً، ولا يتعدّاه إلى غيره، ولا يتبدّل بغيره، ولا ينقلب عن هويّته وذاته، وكذا إذا ضرب زيد عمراً كانت الحركة الخاصّة ضرباً لاغير وكان زيد ضارباً لاغير، وكان عمرو مضروباً لاغير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى:( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) البقرة - ٥٧، وقال تعالى:( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) الفاطر - ٤٣، وقال تعالى:( انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) الأنعام - ٢٤، وقال تعالى:( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) المؤمن - ٧٤.

وبالجملة: عالم المجازاة ربّما بدّل الفعل من غير نفسه، وربّما نقل الفعل وأسنده إلى غير فاعله، وربّما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسمانيّ.

١٨٢

ولا ينبغي لمتوهّم أن يتوهّم أن هذا يبطل حجّة العقول في مورد الأعمال وآثارها ويفسد الحكم العقليّ فلا يستقرّ شئ منه على شئ، وذلك أنّا نرى أنّ الله سبحانه وتعالى فيما حكاه في كتابه يستدلّ هو أو ملائكته الموكّلة على الاُمور على المجرمين في حال الموت والبرزخ، وكذا في القيامة والنار والجنّة بحجج عقليّة تعرفها العقول. قال تعالى:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) الزمر - ٧٠، وقد تكرّر في القرآن الإخبار بأنّ الله سيحكم بين الناس بالحقّ يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى:( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ) إبراهيم - ٢٢.

ومن هنا نعلم: أنّ حجّة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البيّن على ما أشرنا إليه.

والّذي يحلّ به هذه العقدة: أنّ الله تكلّم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إيّاهم وبياناته لهم مجرى العقول الإجتماعيّة، وتمسّك بالاُصول والقوانين الدائرة في عالم العبوديّة والمولويّة، فعدّ نفسه مولى والناس عبيداً والأنبياء رسلاً إليهم، وواصلهم بالأمر والنهي والبعث والزجر، والتبشير والإنذار، والوعد والوعيد، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك.

وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرّح أنّ الأمر أعظم ممّا يتوهّمه الناس أو يخيّل إليهم، غير أنّه شئ لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزّل منزلة قريبة من اُفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف - ٤.

١٨٣

فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيّات ما نبّأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الأحكام الكلّيّة العقلائيّة الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد، ومن لطيف الأمر: أنّ هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العاديّة قابلة التطبيق على الأحكام العقلائيّة المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإنّ العقل العمليّ الاجتماعيّ لا يأبى مثلاً التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتّب على عمله من المضارّ والمفاسد الإجتماعيّة كأن يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الإجتماعيّة الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنّ سنّة سيّئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنّته، ففي المثال الأوّل يقضي بأنّ المعاصي الّتي كانت ترى ظاهراً أفعالاً للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائيّ، وفي المثال الثاني بأنّ السيّئآت الّتي عملها التابعون لتلك السنّة السيّئة أفعال فعلها أوّل من سنّ تلك السنّة المتبوعة، في عين أنّها أفعال للتابعين فيها، فهي أفعال لهم معاً، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤاخذون.

وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعيّن المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للإنسان، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات، كلّ ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.

فالقرآن الكريم يعلّل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيراً أو شرّاً، وإسناد الفعل إلى غير فاعله، وجعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، ويوضحها بالقوانين العقلائيّة الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الأفهام العامّة، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحسّ، وكانت الأحكام الإجتماعيّة العقلائيّة محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، وسينكشف على الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى:( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الاعراف - ٥٣، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - إلى أن قال -بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس - ٣٩.

١٨٤

وبهذا الّذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال - ٨، وقوله تعالى:( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) الانعام - ١٦٤، وقوله تعالى:( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور - ٢١، وقوله تعالى:( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) النجم - ٣٩، وقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) يونس - ٤٤، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وذلك أنّ الآيات السابقة تحكم بأنّ معاصي المقتول المظلوم إنّما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، وكذا تحكم بأنّ من اتّبع سنّة سيّئة ففعل معصية على الاتّباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو وفعله المتبوع: فالمعصية معصيتان. وكذا تحكم بأنّ من أعان ظالماً على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، وفاعل كمثله، فهؤلاء وأمثالهم من مصاديق قوله تعالى:( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) الآية ونظائرها من حيث الجزاء، لا أنّهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) الزمر - ٧٠، فقوله: وهو أعلم بما يفعلون، يدلّ أو يشعر بأنّ توفية كلّ نفس ما عملت إنّما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه ويحاسبه من أفعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم ولا عقل، فإنّ الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) الملك - ١٠، وفي الآخرة أيضاً حيث قال( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) الإسراء - ٧٢، وقال تعالى:( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) الهمزة - ٧، وقال تعالى في تصديق هذا السلب:( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ ) الاعراف - ٣٨، فأثبت لكلّ من المتبوعين وتابعيهم الضعف من العذاب، أمّا المتبوعين فلضلالهم وإضلالهم، وأما التابعين فلضلالهم وإقامتهم أمر متبوعيهم بالتبعيّة

١٨٥

ثمّ ذكر أنّهم جميعاً لا يعلمون.

فإن قلت: ظاهر هذه الآيات الّتي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا والآخرة ينافي آيات اُخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى:( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) فصّلت - ٣، وكالآيات الّتي تحتجّ عليهم ولا معنى للاحتجاج على من لا علم له ولا فقه للاستدلال، على أنّ نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة ولا مناص من إثبات العقل والإدراك لهم فيه، على أنّ ههنا آيات تثبت لهم العلم واليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى:( قَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق - ٢٢، وقوله تعالى:( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) السجدة - ١٢.

قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتّباع ما عندهم من العلم، ومعنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث وعدم انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) الاسراء - ١٣، وقوله تعالى:( قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) الزخرف - ٣٨، إلى غير ذلك من الآيات، وسيجئ إستيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى:( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) البقرة - ٢٤٢.

وقد أجاب الإمام الغزاليّ عن إشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: إنّ نقل الحسنات والسيّئآت بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلاً طاعات نفسه في ديوان غيره، ولم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة وهو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائماً إلّا أنّ حقيقته لا تنكشف لكافّة الخلائق إلّا يوم القيامة، وما لا يعلمه الإنسان فليس بموجود له وإن كان موجوداً في نفسه، فإذا علمه صار موجوداً له كأنّه وجد الآن في حقّه.

١٨٦

فقد سقط بهذا قول من قال: إنّ المعدوم كيف ينقل والعرض كيف ينقل؟. فنقول: المنقول ثواب الطاعة لا نفس الطاعة، ولكن لمّا كانت الطاعة يراد لثوابها عبّر عن نقل أثرها بنقل نفسها، وأثر الطاعة ليس أمراً خارجاً عن الإنسان لاحقاً به حتّى يشكل بأنّ نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، ونقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، وإن كان جوهراً فما هذا الجوهر؟! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإنّ للطاعات تأثيراً في القلب بالتنوير وللمعاصي تأثيراً فيه بالقسوة والظلمة، وبأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور والمعرفة والمشاهدة، وبالظلم والقسوة يستعدّ القلب للحجاب والبعد، وبين آثار الطاعات والمعاصي تعاقب وتضادّ كما قال تعالى:( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( اتّبع السيّئة الحسنة تمحقها ) والآثام تمحيصات للذنوب، ولذلك قالعليه‌السلام : إنّ الرجل ليثاب حتّى بالشوكة تصيب رجله، وقالعليه‌السلام : الحدود كفّارات.

فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انمحاء أثر النور الّذي كان في قلبه من الطاعات الّتي كان عملها، والمظلوم يتألّم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيّئآت الّتي أورثت ظلمة في قلبه فيتنوّر قلبه نوع تنوّر، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، وما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم وهذا معنى نقل الحسنات والسيّئآت.

فإن قال قائل: ليس هذا نقلاً حقيقيّاً إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم وحدوث نور آخر في قلب المظلوم، وبطلان الظلمة من قلب المظلوم وحدوث ظلمة اُخرى في قلب الظالم وليس هذا نقلاً حقيقة.

قلنا إسم النقل قد يطلق على مثل هذا الأمر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل الظلّ من موضع إلى موضع آخر، وانتقل نور الشمس أو السراج من الأرض إلى الحائط إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلّا أنّه كنّى بالطاعة عن ثوابها كما يكنّى بالسبب عن المسبّب، وسمّى إثبات الوصف في محلّ وإبطال مثله في محلّ آخر بالنقل، وكلّ ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخّصاً.

١٨٧

أقول: محصّل ما أفاده أنّ إطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حقّ أيّ القاتل والمقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لأثر الطاعة في القلب واستعارة اسم النقل لإمحاء شئ وإثبات شئ آخر في محلّ آخر، وإذا اطّرد هذا الوجه في سائر أحكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات، وقد عرفت أنّه سبحانه قرّر هذه الأحكام على ما يراه العقل العمليّ الاجتماعيّ، ويبني عليه أحكامه من المصالح والمفاسد، ولاريب أنّ هذه الأحكام العقليّة إنّما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلاً بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل وما يشبه ذلك باعتقاد أنّ الجرم عين الجرم والحسنة عين الحسنة وهكذا.

هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الّذي هو موطن أحكام العقل العمليّ، وأمّا بالنسبة إلى غير هذا الظرف وهو ظرف الحقائق فالجميع مجازات إلّا بحسب التحليل بمعنى أنّ نفس هذه المفاهيم لمّا كانت مفاهيم اعتباريّة مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى والتشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك.

ومن احكام الاعمال: أنّها محفوظة مكتوبة متجسّمة كما قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) آل عمران - ٣٠، وقال تعالى:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) الاسراء - ١٣، وقال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) يس - ١٢، وقال تعالى:( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق - ٢٢، وقد مرّ البحث عن تجسّم الأعمال.

ومن أحكام الاعمال: أنّ بينها وبين الحوادث الخارجيّة ارتباطاً، ونعني بالأعمال الحسنات والسيّئآت الّتي هي عناوين الحركات الخارجيّة دون الحركات والسكنات الّتي هي آثار الأجسام الطبيعيّة فقد قال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى - ٣٠، وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ) الرعد - ١١، وقال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الأنفال -

١٨٨

٥٣، والآيات ظاهرة في أنّ بين الأعمال والحوادث ارتباطاً ما شرّاً أو خيراً.

ويجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف - ٩٦، وقوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم - ٤١.

فالحوادث الكونيّة تتبع الأعمال بعض التبعيّة، فجرى النوع الإنسانيّ على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الّذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، وانفتاح أبواب البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبوديّة، وتمادّيّه في الغيّ والضلالة وفساد النيّات وشناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البرّ والبحر وهلاك الاُمم بفشوّ الظلم وارتفاع الأمن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الإنسان وأعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونيّة كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك، وقد عدّ الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل.

فالاُمّة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيّئآت أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى:( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) المؤمن - ٢١، وقال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) الاسراء - ١٦، وقال تعالى:( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) المؤمنون - ٤٤، هذا كلّه في الاُمّة الطالحة، والاُمّة الصالحة على خلاف ذلك.

والفرد كالاُمّة يؤخذ بالحسنة والسيّئة والنقم والمثلات غير أنّ الفرد ربّما ينعم بنعمة أسلافه كما أنّه يؤخذ بمظالم غيره كابآئه وأجداده، قال تعالى حكاية عن يوسفعليه‌السلام :( قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ

١٨٩

أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) يوسف - ٩٠، والمراد به ما أنعم الله عليه من الملك والعزّة وغيرهما، وقال تعالى:( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ) القصص - ٨١، وقال تعالى:( وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) مريم - ٥٠، وكأنّه الذرّيّة الصالحة المنعّمة كما قال تعالى:( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) الزخرف - ٢٨، وقال تعالى:( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) الكهف - ٨٢، وقال تعالى:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) النساء - ٩، والمراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه.

وبالجملة إذا أفاض الله نعمة على اُمّة أو على فرد من أفراد الإنسان فإن كان المنعم عليه صالحاً كان ذلك نعمةً أنعمها عليه وامتحاناً يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول:( قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) النمل - ٤٠، وقال تعالى:( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم - ٧، والآية كسابقتها تدلّ على أنّ نفس الشكر من الأعمال الصالحة الّتي تستتبع النعم.

وإن كان المنعم عليه طالحاً كانت النعمة مكراً في حقّه واستدراجاً وإملائاً يملى عليه كما قال تعالى:( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) الأنفال - ٣٠، وقال تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) القلم - ٤٥، وقال تعالى:( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) الدخان - ١٧.

وإذا اُنزلت النوازل وكرّت المصائب والبلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحاً كان ذلك فتنة ومحنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيّب، وكان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة والمحكّ، قال تعالى:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) العنكبوت - ٤ وقال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ) آل عمران - ١٤٠.

وإن كان المصاب طالحاً كان ذلك أخذاً بالنقمة وعقاباً بالأعمال، والآيات السابقة

١٩٠

دالّة على ذلك.

فهذا حكم العمل يظهر في الكون ويعود إلى عامله، وأمّا قوله تعالى:( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) الزخرف - ٣٥، فغير ناظر إلى هذا الباب بل المراد به (والله أعلم) ذمّ الدنيا ومتاعها وأنّها لا قدر لها ولمتاعها عند الله سبحانه، ولذلك يؤثر للكافر، وأنّ القدر للآخرة ولو لا أنّ أفراد الإنسان أمثال والمساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصّها الله بالكافر.

فإن قيل: الحوادث العامّة والخاصّة كالسيول والزلازل والأمراض المسرية والحروب والأجداب لها علل طبيعيّة مطّردة إذا تحقّقت تحقّقت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، وعليه فلا محلّ للتعليل بالأعمال الحسنة والسيّئة بل هو فرضيّة دينيّة، وتقدير لا يطابق الواقع.

قلت: هذا إشكال فلسفيّ غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيريّ المتعلّق بما يستفاد من كلامه تعالى وسنتعرّض له تفصيلاً في بحث فلسفيّ على حدة في تفسير قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) الاعراف - ٩٦.

وجملة القول فيه: أنّ الشبهة ناشئة عن سوء الفهم وعدم التنبّه لمقاصد القرآن وأهله، فهم لا يريدون بقولهم:( إنّ الأعمال حسنة كانت أو سيّئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيراً أو شرّاً ) ، إبطال العلل الطبيعيّة وإنكار تأثيرها، ولا تشريك الأعمال مع العوامل المادّيّة، كما أنّ اللهيّين لا يريدون بإثبات الصانع إبطال قانون العلّيّة والمعلوليّة العامّ وإثبات الاتّفاق والمجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعيّة واستناد بعض الاُمور إليه والبعض الآخر إليها، بل مرادهم إثبات علّة في طول علّة، وعامل معنويّ فوق العوامل المادّيّة، وإسناد التأثير إلى كلتا العلّتين لكن بالترتيب: أوّلاً وثانياً، نظير الكتابة المنسوبة إلى الإنسان وإلى يده.

١٩١

ومغزى الكلام: هو أنّ سائق التكوين يسوق الإنسان إلى سعادته الوجوديّة وكماله الحيويّ كما مرّ الكلام فيه في البحث عن النبوّة العامّة، ومن المعلوم أنّ من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الأعمال، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقّفه أو إشراف سائره إلى الهلاك والبوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدنيّ يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من أعضائه فإن وفّق له أصلح المحلّ وإن عجز عنه تركه مفلّجاً لا يستفاد به.

وقد دلّت المشاهدة والتجربة على أنّ الصنع والتكوين جهّز كلّ موجود نوعيّ بما يدفع به الآفات والفسادات المتوجّهة إليه، ولا معنى لاستثناء الإنسان في نوعه وفرده عن هذه الكلّيّة! ودلّتا أيضاً على أنّ التكوين يعارض كلّ موجود نوعيّ باُمور غير ملائمة تدعوه إلى إعمال قواه الوجوديّة ليكمل بذلك في وجوده ويوصله إلى غايته وسعادته الّتي هيّأها له، فما بال الإنسان لا يعتنى في شأنه بذلك؟

وهذا هو الّذي يدلّ عليه قوله تعالى( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الدخان - ٣٩، وقوله تعالى:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ص - ٢٧، فكما أنّ صانعاً من الصنّاع إذا صنع شيئاً لعباً ومن غير غاية مثلاً انقطعت الرابطة بينه وبين مصنوعه بمجرّد إيجاده، ولم يبال: إلى ما يؤل أمره؟ وماذا يصادفه من الفساد والآفة؟ لكنّه لو صنعه لغاية كان مراقباً لأمره شاهداً على رأسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية الّتي صنعه لأجلها وركّب أجزائه للوصول إليها أصلح حاله وتعرّض لشأنه بزيادة ونقيصة أو بإبطاله من رأس وتحليل تركيبه والعود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السماوات والأرض وما بينهما ومن جملتها الإنسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثاً، ولم يوجده هبائاً، بل للرجوع إليه كما قال تعالى:( فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون - ١١٥، وقال تعالى:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم - ٤٢، ومن الضروريّ حينئذ أن تتعلّق العناية الربّانيّة

١٩٢

إلى إيصال الإنسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة والإرشاد، ثمّ بالامتحان والابتلاء، ثمّ بإهلاك من بطل في حقّه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية، فإنّ في ذلك إتقاناً للصنع في الفرد والنوع وختماً للأمر في اُمّة وإراحة لآخرين، قال تعالى:( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) الانعام - ١٣٣، (أنظر إلى موضع قوله تعالى: وربّك الغنيّ ذو الرحمة).

وهذه السنّة الربّانيّة أعني سنّة الابتلاء والانتقام هي الّتي أخبر الله عنها أنّها سنّة غير مغلوبة ولا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) الشورى - ٣١، وقال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧٣.

ومن أحكام الاعمال من حيث السعادة والشقاء: أنّ قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، ومن خواصّ قبيل السعادة كلّ صفة وخاصّة جميلة كالفتح والظفر والثبات والاستقرار والأمن والتأصّل والبقاء، كما أنّ مقابلاتها من الزهوق والبطلان والتزلزل والخوف والزوال والمغلوبيّة وما يشاكلها من خواصّ قبيل الشقاء.

والآيات القرآنيّة في هذا المعنى كثيرة متكثّرة، ويكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلاً:( كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقوله تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، وقوله تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢، وقوله تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧٣، وقوله تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يوسف - ٢١، إلى غير ذلك من الآيات.

١٩٣

وتذييل الكلام في هذه الآية الأخيرة بقوله: ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، مشعر بأنّ هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون بها، ولو كانت هي الغلبة الحسّيّة الّتي يعرفها كلّ أحد لم يجهلها الأكثرون، وإنّما جهلها من جهلها، وأنكرها من أنكرها من جهتين:

الأولى: أنّ الإنسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه ممّا يشهده ولا يغيب عنه، يتكلّم عن الحال ويغفل عن المستقبل، ويحسب دولة يوم دولة، ويعدّ غلبة ساعة غلبة، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياساً يحكم به على عامّة الوجود، لكنّ الله سبحانه، وهو المحيط بالزمان والمكان، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيّوم على كلّ شئ إذا حكم حكم فصلاً، وإذا قضى قضى حقّاً، والاُولى، والعقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتاً، ولا يعجل في أمر، فمن الممكن (بل الواقع ذلك) أن يقدّر فساد يوم مقدّمة يتوسّل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح اُمّة، فيظنّ الجاهل أنّ الأمر أعجزه تعالى وأنّ الله سبحانه مسبوقٌ مغلوب (ساء ما يحكمون)، لكنّ الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، ويحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العليّ العظيم، قال تعالى:( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) آل عمران - ١٩٦.

والثانية: أنّ غلبة المعنويّات غير غلبة الجسمانيّات، فإنّ غلبة الجسمانيّات وقهرها أن تتسلّط على الأفعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرّيّة الاختيار، وبسط الكره والإجبار كما كان ذلك دأب المتغلّبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقاً، ويأسرون آخرين، ويفعلون ما يشائون بالتحكّم والتهكّم، وقد دلّ التجارب وحكم البرهان على أنّ الكره والقسر لا يدوم، وأنّ سلطة الأجانب لا يستقرّ على الاُمم الحيّة استقراراً مؤبّداً، وإنّما هي رهينة أيّام قلائل.

وأمّا غلبة المعنويّات فبأن توجد لها قلوب تستكنّها، وبأن تربّى أفراداً تعتقدها

١٩٤

وتؤمن بها، فليس فوق الإيمان التامّ درجة ولا كإحكامه حصن، فإذا استقرّ الإيمان بمعنى من المعاني فإنّه سوف يظهر دهراً وإن استخفى يوماً أو برهة، ولذلك نجد أنّ الدول المعظّمة والمجامع الحيّة اليوم تعتني بشأن التبليغ أكثر ممّا تعتني بشأن العدّة والقوّة فسلاح المعنى أشدّ بأساً.

هذا في المعنويّات الصوريّة الوهميّة الّتي بين الناس في شؤونهم الإجتماعيّة الّتي لا تتجاوز حدّ الخيال والوهم، وأمّا المعنى الحقّ الّذي يدعو إليه سبحانه فإنّ أمره أوضح وأبين.

فالحقّ من حيث نفسه لا يقابل إلّا الضلال والباطل، وما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال، ومن المعلوم أنّ الباطل لا يقاوم الحقّ فالغلبة لحجّة الحقّ على الباطل.

والحقّ من حيث تأثيره وإيصاله إلى الغاية أيضاً غير مختلف ولا متخلّف، فإنّ المؤمن لو غلب على عدوّ الحقّ في ظاهر الحياة كان فائزاً مأجوراً، وإن غلب عليه عدوّ الحقّ، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره والاضطرار، ووافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى:( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آل عمران - ٢٨، وإن قتله كان ذلك له حياة طيّبة لا موتاً، قال تعالى:( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ ) البقرة - ١٥٤.

فالمؤمن منصور غير مغلوب أبداً، إمّا ظاهراً وباطناً، وإمّا باطناً فقط، قال تعالى:( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) التوبة - ٥٢.

ومن هنا يظهر: أنّ الحقّ هو الغالب في الدنيا ظاهراً وباطناً معاً، أمّا ظاهراً: فإنّ الكون كما عرفت يهدي النوع الإنسانيّ هداية تكوينيّة إلى الحقّ والسعادة، وسوف يبلغ غايته، فإنّ الظهور المترائى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، وإنّما هو مقدّمة لظهور الحقّ ولمّا ينقض سلسلة الزمان ولمّا يفن الدهر، والنظام الكونيّ غير مغلوب البتّة، وأمّا باطناً: فلمّا عرفت أنّ الغلبة لحجّة الحقّ.

وأمّا أنّ لحقّ القول الفعل كلّ صفة جميلة كالثبات والبقاء والحسن، ولباطل القول والفعل كلّ صفة ذميمة كالتزلزل والزوال والقبح والسوء فوجهه ما أشرنا إليه في

١٩٥

سابق الأبحاث: أنّ المستفاد من قوله تعالى:( ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) المؤمن - ٦٢، وقوله تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة - ٧، وقوله تعالى:( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) النساء - ٧٩، أنّ السيّئآت أعدام وبطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الّذي هو الخالق الفاطر المفيض للوجود بخلاف الحسنات، ولذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كلّ جمال وحسن، ومنبع كلّ خير وسعادة كالثبات والبقاء، والبركة والنفع دون السيّئ من القول والفعل، قال تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الرعد- ١٩.

ومن أحكام الاعمال: أنّ الحسنات من الأقوال والأفعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيّئآت من الأفعال والأقوال، وقد مرّ أنّ الله سبحانه وضع ما بيّنه للناس على أساس العقل (ونعني بالعقل ما يدرك به الإنسان الحقّ والباطل، ويميّز به الحسن من السيّئ).

ولذلك أوصى باتّباعه ونهى عن كلّ ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر والقمار واللهو والغشّ والغرر في المعاملات، وكذا نهى عن الكذب والافتراء والبهتان والخيانة والفتك وجميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإنّ هذه الأفعال والأعمال توجب خبط العقل الإنسانيّ في عمله وقد ابتنيت الحياة الإنسانيّة على سلامة الإدراك والفكر في جميع شئون الحياة الفرديّة والإجتماعيّة.

وأنت إذا حلّلت المفاسد الإجتماعيّة والفرديّة حتّى في المفاسد المسلّمة الّتي لا ينكرها منكرٌ وجدت أنّ الأساس فيها هي الأعمال الّتي يبطل بها حكومة العقل، وأنّ بقيّة المفاسد وإن كثرت وعظمت مبنيّة عليها، ولتوضيح الأمر في هذا المقام محلّ آخر سيأتي إنشاء الله تعالى.

١٩٦

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: كنت رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا ابن عبّاس أرض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك فإنّ ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين وقد قرأت القرآن؟ قال وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

اقول: وفي الرواية إشعار بأنّ التقدير يعمّ التشريع والتكوين وإنّما يختلف باختلاف الاعتبار، وأمّا كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، وقد مرّ أنّ عسى في القرآن بمعناه اللّغويّ وهو الترجّي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسّرين: كلّ شئ في القرآن عسى فإنّ عسى من الله واجب! وأعجب منه ما نقل عن بعض آخر: أنّ كلّ شئ من القرآن عسى فهو واجب إلّا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربّه إن طلقكنّ، وفي بني إسرائيل عسى ربّكم أن يرحمكم.

وفي الدرّ المنثورأيضاً: أخرج ابن جرير من طريق السدّي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سريّة وفيهم سبعة نفر عليهم عبدالله بن جحش الأسدي، وفيهم عمّار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقّاص، وعتبة بن صفوان السلّميّ حليف لبنى نوفل، وسهل بن بيضآء، وعامر بن فهيرة. وواقد بن عبدالله اليربوعيّ حليف لعمر بن الخطّاب، وكتب مع ابن جحش كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتّى ينزل ملل فلمّا نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه أن سر حتّى تنزل بطن نخلة فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإنّي موص وماض لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقّاص، وعتبة بن غزوان، أضلّا راحلة لهما، وسار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبدالله بن المغيرة بن عثمان، وعمرو الحضرميّ فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، وعبدالله بن المغيرة وانفلت المغيرة، وقتل عمرو الحضرميّ قتله واقد بن عبدالله فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما

١٩٧

غنموا من الأموال، قال المشركون: محمّد يزعم أنّه يتّبع طاعة الله وهو أوّل من استحلّ الشهر الحرام فأنزل الله:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير ) ٌ لا يحلّ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمّداً، والفتنة وهي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: وصدّ عن سبيل الله وكفر به.

اقول: والروايات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة من طرقهم، وروي هذا المعنى أيضاً في المجمع، وفي بعض الروايات: أنّ السريّة كانت ثمانية تاسعهم أميرهم، وفي الدرّ المنثور أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقيّ من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدالله بن جحش إلى نخلة فقال له: كن بها حتّى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام، وكتب له كتاباً قبل أن يعلمه أنّه يسير، فقال اُخرج أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه، فما أمرتك به فامض له، ولا تستكرهنّ أحداً من أصحابك على الذهاب معك، فلمّا سار يومين فتح الكتاب فإذاً فيه: أن امض حتّى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتّصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين قرء الكتاب: سمعٌ وطاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإنّي ماض لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن كره ذلك منكم فليرجع فإنّ رسول الله قد نهاني أن أستكره منكم أحداً فمضى معه القوم، حتّى إذا كانوا بنجران أضلّ سعد بن أبي وقّاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا عليه يطلبانه، ومضى القوم حتّى نزلوا نخلة، فمرّ بهم عمرو بن الحضرميّ والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة بن عبدالله معهم تجارة قد مرّوا بها من الطائف، أدم وزيت، فلمّا رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبدالله وكان قد حلق رأسه فلمّا رأوه حليقاً، قال عمّار: ليس عليكم منه بأس، وائتمر القوم بهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخر يوم من جمادي، فقالوا: لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة مكّة الحرام فليمتنعنّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبدالله التميميّ عمرو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسر

١٩٨

عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وهرب المغيرة فأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئاً، فلمّا قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما قال سقط في أيديهم وظنّوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمّد الدم الحرام وأخذ المال، وأسر الرجال واستحلّ الشهر الحرام، فأنزل الله في ذلك: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلمّا نزل ذلك أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العير وفدى الأسيرين، فقال المسلمون: يا رسول الله! أتطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل الله: إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبدالله بن جحش.

اقول: وفي كون قوله تعالى: إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا الآية، نازلة في أمر أصحاب عبدالله بن جحش روايات اُخر، والآية تدلّ على عذر من فعل فعلاً قربيّاً فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، وتدلّ أيضاً على جواز تعلّق المغفرة بغير مورد الذنب.

وفي الروايات إشارة إلى أنّ المراد بالسائلين في قوله تعالى يسألونك، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، ويؤيّده أيضاً ما مرّ من رواية ابن عبّاس في البحث الروائيّ السابق: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كلّهنّ في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام الرواية، ويؤيّد ذلك أنّ الخطاب في الآية إنّما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم.

١٩٩

( سورة البقرة آية ٢١٩ - ٢٢٠)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢١٩ ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٢٠ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) ، الخمر على ما يستفاد من اللّغة هو كلّ مائع معمول للسكر، والأصل في معناه الستر، وسمّي به لأنّه يستر العقل ولا يدعه يميّز الحسن من القبح والخير من الشرّ، ويقال: لما تغطّي به المرأة رأسها الخمار، ويقال: خمّرت الأناء إذا غطّيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسمّيت الخميرة خميرة لأنّها تعجن أوّلاً ثمّ تغطّى وتخمّر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلّا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثمّ زاد الناس في أقسامه تدريجاً فصارت اليوم أنواعاً كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع خمرٌ.

والميسر لغة هو القمار ويسمّى المقامر ياسراً والأصل في معناه السهولة سمّي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاصّ من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمّى أيضاً: الأزلام والأقلام.

وأمّا كيفيّتة فهي أنّهم كانوا يشترون جزوراً وينحرونه، ثمّ يجزّئونه ثمانية وعشرين جزئاً، ثمّ يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلّى، والمنيح، والسنيح، والرغد، فللفذّ جزء من الثّمانية

٢٠٠