الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 136924 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة البقرة آية ١٨٣ - ١٨٥)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٨٣ ) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١٨٤ ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ١٨٥ )

( بيان)

سياق الآيات الثلاث يدلّ أوّلاً على أنّها جميعاً نازلة معاً فإنّ قوله تعالى:( أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) ، في أوّل الآية الثانية ظرف متعلّق بقوله: الصيام في الآية الاُولى، وقوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضَانَ ) ، في الآية الثالثة إمّا خبر لمبتدء محذوف وهو الضمير الراجع إلى قوله أيّاماً معدودات، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف، والتقدير شهر رمضان هو الّذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله: كتب عليكم الصيام، في الآية الاُولى وعلى أيّ تقدير هو بيان وأيضاًح للأيّام المعدودات الّتي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعاً كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم شهر رمضان.

وسياق الآيات يدلّ ثانياً على أنّ شطراً من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزله التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أنّ الآيتين الاُوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدّمة الّتي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها واستقرارها عن القلق والاضطراب، إذا كان غرض المتكلّم بيان ما لا يؤمن فيه التخلّف والتأبيّ عن القبول، لكون ما يأي من الحكم أو الخبر ثقيلاً شاقّاً بطبعه على المخاطب

٢

، ولذلك ترى الآيتين الاُوليين تألّف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب، ويحصل به تطيّب النفس، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والآجل.

ولذلك لمّا ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام أردفه بقوله: كما كتب على الّذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقّكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حقّ الاُمم السابقة عليكم ولستم أنتم متفرّدين فيه، على أنّ في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوي الّتي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر، - وأنتم المؤمنون - وهو قوله تعالى: لعلّكم تتّقون، على أنّ هذا العمل الّذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إنّما هو في أيّام قلائل معيّنة معدودة، وهو قوله تعالى: أيّاماً معدودات، فإنّ في تنكير، أيّاماً، دلالة على التحقير، وفي التوصيف بالعدل إشعار بهوان الأمر كما في قوله تعالى:( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يوسف - ٣٠، على أنّا راعينا جانب من يشقّ عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدّلة من فدية لا تشقّه ولا يستثقلها، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً أو على سفرإلى قوله: فدية طعام مسكين اه. وإذا كان هذا العمل مشتملاً على خيركم ومراعي فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل وتثبّط، فإنّ من تطوّع خيراً فهو خير له من أن يأتي به عن كره وهو قوله تعالى: فمن تطوّع خيراً فهو خير له الخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ، وعلي هذا فقوله تعالى في الآية الاُولى: كتب عليكم الصيام، إخبار عن تحقّق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) الآية البقرة - ١٧٨، وقوله تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ

٣

الْأَقْرَبِينَ ) البقرة - ١٨٥، فإن بين القصاص في القتلي والوصيّة للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقاً، وهو أنّ القصاص في القتلى أمر يوافق حسّ الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشحّ الغريزي الّذي في الطباع أن ترى القاتل حيّاً سالماً يعيش ولا يعباء بما جنى من القتل، وكذلك حسّ الشفقة والرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحّم على الوالدين والأقربين، وخاصّة عند الموت والفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، والوصيّة حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الإنباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدّمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنّه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو الأكل والشرب والجماع، ولذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، وهم عامّة الناس من المكلّفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحنّ بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم، ولهذا السبب كان قوله: كتب عليكم القصاص اه، وقوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إنشاءً للحكم من غير حاجة الى تمهيد مقدّمة بخلاف قوله: كتب عليكم الصيام فإنّه إخبار عن الحكم وتمهيد لإنشائه بقوله: فمن شهد منكم، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الإيمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربّهم به من الحكم و إن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم، وقد صدّرت آية القصاص بذلك أيضاً لما سمعت أنّ النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من الملّيّين وغيرهم يرون القصاص.

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) اه، الكتابة معروفة المعنى ويكنّى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقوله تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس - ١٢، وقوله تعالى:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) المائدة - ٤٥. والصيام والصوم في اللّغة مصدران بمعنى الكفّ عن الفعل: كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك، وربّما يقال: إنّه الكفّ عمّا تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصّة ثمّ غلب

٤

استعماله في الشرع في الكفّ عن اُمور مخصوصة: من طلوع الفجر إلى المغرب بالنيّة، والمراد بالّذين من قبلكم الاُمم الماضية ممّن سبق ظهور الإسلام من اُمم الأنبياء كاُمّة موسى وعيسى وغيرهم، فإنّ هذا المعنى هو المعهود من إطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اُطلقت، وليس قوله: كما كتب على الّذين من قبلكم، في مقام الإطلاق من حيث الأشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدلّ على أنّ جميع اُمم الأنبياء كان مكتوباً عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أنّ الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الّذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيّات والأوصاف، فالتنظير في الآية إنّما هو من حيث أصل الصوم والكفّ لا من حيث خصوصيّاته.

والمراد بالّذين من قبلكم، الاُمم السابقة من الملّيّين في الجملة، ولم يعيّن القرآن من هم، غير أنّ ظاهر قوله: كما كتب، أنّ هؤلاء من أهل الملّة وقد فرض عليهم ذلك، ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدلّ على وجوب الصوم وفرضه، بل الكتاباًن إنّما يمدحانه ويعظّمان أمره، لكنّهم يصومون أيّاماً معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللّحم والصوم عن اللّبن والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصّة صوم زكريّا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام.

بل الصوم عبادة مأثوره عن غير الملّيّين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيّين، والوثنيّون من الهند يصومون حتّى اليوم، بل كونه عبادة قربيّة ممّا يهتدي إليه الإنسان بفطرته كما سيجئ.

وربّما يقال: إنّ المراد بالّذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الأنبياء استناداً إلى روايات لا تخلو عن ضعف.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، كان أهل الأوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نائرة غضبها إذا أجرموا جرماً أو عصوا معصية، وأذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الربّ ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد، وإنّ الله سبحانه أمنع جانباً من أن يتصوّر في حقّه فقر أو حاجة أو

٥

تأثّر أو أذيّ، وبالجملة هو سبحانه برئ من كلّ نقص، فما تعطيه العبادات من الأثر الجميل، أيّ عبادة كانت وأيّ أثر كان، إنّما يرجع إلى العبد دون الربّ تعالى وتقدّس، كما أنّ المعاصي أيضاً كذلك، قال تعالى:( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) الإسراء - ٧، هذا هو الّذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي إلى الإنسان الّذي لا شأن له إلّا الفقر والحاجة. قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله: لعلّكم تتّقون، وكون التقوي مرجوّ الحصول بالصيام ممّا لا ريب فيه فإنّ كلّ إنسان يشعر بفطرته أنّ من أراد الاتّصال بعالم الطهارة والرفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانيّة فأوّل ما يلزمه أن يتنزّه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدّس عن الإخلاد إلى الأرض، وبالجملة أن يتّقي ما يبعدّه الاشتغال به عن الربّ تبارك وتعالى فهذه تقوى إنّما تحصل بالصوم والكفّ عن الشهوات، وأقرب من ذلك وأمسّ لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة أن يتّقي ما يعمّ به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتّى يحصل له التدرّب على اتّقاء المحرّمات واجتنابها، وتتربّى على ذلك إرادته في الكفّ عن المعاصي والتقرّب إلى الله سبحانه، فإنّ من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع.

قوله تعالى: ( أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) ، منصوب على الظرفيّة بتقدير، في ومتعلّق بقوله: الصيام، وقد مرّ أنّ تنكير أيّام واتّصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقّة تشجيعاّ للمكلّف، وقد مرّ أنّ قوله: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن الخ بيان للأيّام فالمراد بالأيّام المعدودات شهر رمضان.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد بالأيّام المعدودات ثلثة أيّام من كلّ شهر وصوم يوم عاشوراء: وقال بعضهم: والثلاثة الأيّام هي الأيّام البيض من كلّ شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها، ثمّ نزل قوله تعالى: شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن الخ، فنسخ ذلك واستقرّ الفرض على صوم شهر رمضان، واستندوا

٦

في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنّة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض.

والّذي يظهر به بطلان هذا القولأوّلاً: أنّ الصيام كما قيل: عبادة عامّة شاملة، ولو كان الأمر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثمّ في نسخه أحد وليس كذلك، على أنّ لحوق يوم عاشوراء بالأيّام الثلاثة من كلّ شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيداً من الأعياد الإسلاميّة ممّا ابتدعه بنو اُميّة لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرّيّة رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطفّ ثمّ تبرّكوا باليوم فاتّخذوه عيداً وشرّعوا صومه تبرّكاً به ووضعوا له فضائل وبركات، ودسّوا أحاديث تدلّ على أنّه كان عيداً إسلاميّاً بل من الأعياد العامّة الّتي كانت تعرفه عرب الجاهليّة واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى، وكلّ ذلك لم يكن، وليس اليوم ذا شأن ملّيّ حتّى يصير عيداً ملّيّاً قوميّاً مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتّى يصير يوماً إسلاميّاً كيوم المبعث ويوم مولد النّبيّ، ولا هو ذو جهة دينيّة حتّى يصير عيداً دينيّاً كمثل عيد الفطر وعيد الأضحى فما باله عزيزاً بلا سبب؟.

وثانياً: أنّ الآية الثالثة من الآيات أعني قوله: شهر رمضان الخ، تأبى بسياقها أن تكون نازلة وحدها وناسخاً لما قبلها فإنّ ظاهر السياق أنّ قوله شهر رمضان خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدءٌ لخبر محذوف كما مرّ ذكره فيكون بياناً للأيّام المعدودات ويكون جميع الآيات الثلاث كلاماً واحداً مسوقاً لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان، وأمّا جعل قوله: شهر رمضان مبتدئاً خبره قوله: الذى اُنزل فيه القرآن فإنّه وإن أوجب استقلال الآيه وصلاحيّتها لأن تنزل وحدها غير أنّها لا تصلح حينئذ لأن تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها وبين سابقتها، مع أنّ النسخ مشروط بالتنافى والتباين.

وأضعف من هذا القول قول آخرين - على ما يظهر منهم -: إنّ الآية الثانية أعني قوله تعالى: أيّاماً معدودات إلخ، ناسخة للآية الاُولى أعني قوله تعالى: كتب عليكم الصيام

٧

كما كتب على الّذين من قبلكم إلخ، وذلك أنّ الصوم كان مكتوباً على النصارى ثمّ زادوا فيه ونقصوا بعد عيسىعليه‌السلام حتّى استقرّ على خمسين يوماً، ثمّ شرعه الله في حقّ المسلمين بالآية الاُولى فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس يصومونها في صدر الإسلام حتّى نزل قوله تعالى: أيّاماً معدودات إلخ، فنسخ الحكم واستقرّ الحكم على غيره.

وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلاناً، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الإشكال، وكون الآية الثانية من متمّمات الآية الاُولى أظهر وأجلي، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية.

قوله تعالى: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، الفاء للتفريع والجملة متفرّعة على قوله: كتب عليكم، وقوله: معدودات اه، أي إنّ الصيام مكتوب مفروض، والعدد مأخوذ في الفرض، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الأيّام المعدودات الّتي هي أيّام شهر رمضان كعارض المرض والسفر، فإنّه لا يرفع اليد عن صيام عدّة من أيّام اُخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلّف من الصيام عدداً، وهذا هو الّذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: ولتكملوا العدّة، فقوله تعالى: أيّاماً معدودات، كما يفيد معنى التحقير كما مرّ يفيد كون العدد ركناً مأخوذاً في الفرض والحكم.

ثمّ إنّ المرض خلاف الصحّة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأنّ المسافر ينكشف لسفره عن داره الّتي يأوي إليها ويكنّ فيها، وكأنّ قوله تعالى: أو على سفر، ولم يقل: مسافراً للإشارة إلى اعتبار فعليّة التلبّس حالاً دون الماضي والمستقبل.

وقد قال قوم - وهم المعظم من علماء أهل السنّة والجماعة -: إنّ المدلول عليه بقوله تعالى: فمن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيّران بين الصيام والإفطار، وقد عرفت أنّ ظاهر قوله تعالى: فعدّة من أيّام اُخر هو عزيمة الإفطار دون الرخصة، وهو المرويّ عن أئمّة

٨

أهل البيت، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرّحمن بن عوف وعمر بن الخطّاب وعبدالله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: فعدّة من أيّام اُخر.

وقد قدّروا لذلك في الآية تقديراً فقالوا: إنّ التقدير فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدّة من أيّام اُخر.

ويرد عليهأوّلاً: أنّ التقدير كما صرّحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه.

وثانياً: أنّ الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدلّ على الرخصة فإنّ المقام كما ذكروه مقام التشريع، وقولنا: فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر غاية ما يدلّ عليه أنّ الإفطار لا يقع معصية بل جائزاً بالجواز بالمعنى الأعمّ من الوجوب والاستحباب والإباحة، وأمّا كونه جائزاً بمعنى عدم كونه الزاميّاً فلا دليل عليه من الكلام ألبتّة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرّع الحكيم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ، الإطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقّة، والفدية هي البدل وهي هنا بدل ماليّ وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكيناً جائعاً من أوسط ما يطعم الإنسان، وحكم الفدية أيضاً فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله: وعلى الّذين، الظاهر في الوجوب التعيينيّ دون الرخصة والتخيير.

وقد ذكر بعضهم: أنّ الجملة تفيد الرخصة ثمّ نسخت فهو سبحانه وتعالى خيّر المطيقين للصوم من الناس كلّهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفّروا عن كلّ يوم بطعام مسكين، لأنّ الناس كانوا يومئذ غير متعوّدين بالصوم ثمّ نسخ ذلك بقوله: فمن شهد منكم الشهر، فليصمه وقد ذكر بعض هؤلاء: أنّه نسخ حكم غير العاجزين، وأمّا مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله، من جواز الفديه.

٩

ولعمري إنّه ليس إلّا لعباً بالقرآن وجعلاً لآياته عضين، وأنت إذا تأمّلت الآيات الثلاث وجدتها كلاماً موضوعاً على غرض واحد ذا سياق واحد متّسق الجمل رائق البيان، ثمّ إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتّساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختلّ السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضاً، وينقض آخره أوّله فتارة يقول: كتب عليكم الصّيام واُخرى يقول: يجوز على القادرين منكم الإفطار والفدية، واُخرى يقول: يجب عليكم جميعاً الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة، ولم يكن في الآية حكم غيرالقادرين، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قوله: يطيقون، كان دالّا على القدرة قبل النسخ فصار يدلّ بعد النسخ على عدم القدرة، وبالجملة يجب على هذا أن يكون قوله: وعلى الّذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخاً لقوله: كتب عليكم الصيام، في أوّلها لمكان التنافي، ويبقى الكلام وجهه تقييده بالإطاقة من غير سبب ظاهر، ثمّ قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخاً لقوله: وعلى الّذين يطيقونه في وسطها، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقاً شاملاً للقادر والعاجز جميعاً، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الّذي يراد بقاؤه وهذا من أفحش الفساد.

وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: شهر رمضان إلخ لقوله: أيّاماً معدودات الخ، ونسخ قوله: أيّاماً معدودات الخ، لقوله: كتب عليكم الصيام، وتأمّلت معنى الآيات شاهدت عجباً.

قوله تعالى: ( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) ، التطوّع تفعّل من الطوع مقابل الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة، ومعنى باب التفعّل الأخذ والقبول فمعنى التطوّع التلبّس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلاً إلزاميّاً أو غير إلزاميّ، وأمّا اختصاص التطوّع استعمالاً بالمستحبّات والمندوبات فممّا حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية أنّ الفعل الّذي يؤتى به بالطوع هو الندب وأمّا الواجب ففيه شوب كره لمكان الإلزام الّذي فيه.

١٠

وبالجملة التطوّع كما قيل: لا دلاله فيه مادّة وهيئه على الندب وعلى هذا فالفاء للتفريع والجملة متفرّعة على المحصّل من معنى الكلام السابق، والمعنى والله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيّاً فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صفّ الاُمم الّتي قبلكم، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعاً لاكرهاً، فإنّ من أتى بالخير طوعاً كان خيراً له من أن يأتي به كرهاً.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله: فمن تطوّع خيراً من قبيل وضع السبب موضع المسبّب أعني وضع كون التطوّع بمطلق الخير خيراً مكان كون التطوّع بالصوم خيراً نظير قوله تعالى:( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) أي فاصبر ولا تحزن فإنّهم لا يكذّبونك.

وربّما يقال: إنّ الجملة أعني قوله تعالى: فمن تطوّع خيراً فهو خير له، مرتبطة بالجملة الّتي تتلوها أعني قوله: وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، والمعنى أنّ من تطوّع خيراً من فدية طعام مسكين بأن يؤدّي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيراً له.

ويرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوّع بالمستحبّات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فإنّه لا يظهر لتفرّع التطوّع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع أنّ قوله: فمن تطوّع خيراً، لا دلالة له على التطوّع بالزيادة فإنّ التطوّع بالخير غير التطوّع بالزيادة.

قوله تعالى: ( وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، جملة متمّمة لسابقتها والمعنى بحسب التقدير - كما مرّ - تطوّعوا بالصوم المكتوب عليكم فإنّ التطوّع بالخير خير والصوم خير لكم، فالتطوّع به خير على خير.

وربّما يقال: إنّ الجملة أعني قوله: وأن تصوموا خير لكم، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإنّ ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحبّ عليهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء.

١١

ويرد عليه: عدم الدليل عليهأوّلا ، واختلاف الجملتين أعني قوله: فمن كان منكم الخ، وقوله: وأن تصوموا خير لكم، بالغيبة والخطابثانياً ، وأنّ الجملة الاُولى مسوقه لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: فعدّة من أيّام اُخر، تعيّن الصوم في أيّام اُخر كما مرّثالثاً ، وأنّ الجملة الاُولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حقّ المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتّى يكون قوله: وأن تصوموا خير لكم بياناً لأحد طرفي التخيير بل إنّما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدّة من أيّام اُخر وحينئذ لا سبيل إلى استفاده ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرّد قوله: وأن تصوموا خير لكم، من غير قرينة ظاهرةرابعاً ، وأنّ المقام ليس مقام بيان الحكم حتّى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيّاً بل المقام - كما مرّ سابقاً - مقام ملاك التشريع وأنّ الحكم المشّرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله:( فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة - ٥٤، وقوله تعالى:( فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الجمعة - ٩، وقوله تعالى:( تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الصف - ١١، والآيات في ذلك كثيرة خامساً:

قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى ) ، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمريّة العربيّة بين شعبان وشوّال ولم يذكر اسم شئ من الشهور في القرآن إلّا شهر رمضان.

والنزول هو الورود على المحلّ من العلوّ، والفرق بين الإنزال والتنزيل أنّ الإنزال دفعيّ والتنزيل تدريجيّ، والقرآن اسم للكتاب المنزّل على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار كونه مقروّاً كما قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف، - ٣، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه.

والآية تدلّ على نزول القرآن في شهر رمضان، وقد قال تعالى:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ) الإسراء - ١٠٦، وهو ظاهر في نزوله تدريجاً في مجموع مدّة الدعوة وهي ثلاث وعشرون سنة تقريباً، والمتواتر من التاريخ يدلّ على

١٢

ذلك، ولذلك ربّما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين.

وربّما اُجيب عنه: بأنّه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثمّ نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجوماً وعلى مكث في مدّة ثلاث وعشرين سنة - مجموع مدّة الدعوة - وهذا جواب مأخوذ من الروايات الّتي سننقل بعضها في البحث عن الروايات.

وقد اُورد عليه: بأنّ تعقيب قوله تعالى: اُنزل فيه القرآن بقوله: هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدّة سنين.

واُجيب: بأنّ كونه هادياً من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال وفارقاً أذا التبس حقّ بباطل لا ينافي بقائه مدّة على حال الشّأنيّة من غير فعليّة التأثير حتّى يحلّ أجله ويحين حينه، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنيّة المنتظمة الّتي كلّما حان حين مادّة من موادّها اُجريت وخرجت من القوّة إلى الفعل.

والحقّ أنّ حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات الّتي لا يستقيم أن تتقدّم على مقام التخاطب ولو زماناً يسيراً، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى:( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) المجادلة - ١، وقوله تعالى:( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) الجمعة - ١١، وقوله تعالى:( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) الأحزاب - ٢٣، على أنّ في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.

وربّما اُجيب عن إلاشكال: أنّ المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أنّ أوّل ما نزل منه نزل فيه. ويرد عليه: أنّ المشهور عندهم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما بعث بالقرآن، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان أكثر من ثلثين يوماً وكيف يخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن، على أنّ أوّل سورة اقرء باسم ربّك، يشهد على أنّها أوّل سورة نزلت وأنّها نزلت بمصاحبة البعثة، وكذا سورة المدّثّر تشهد أنّها نزلت في أوّل الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدّاً أن تكون أوّل آية

١٣

نزلت في شهر رمضان، على أنّ قوله تعالى: اُنزل فيه القرآن، غير صريح الدلالة على أنّ المراد بالقرآن أوّل نازل منه ولا قرينة تدلّ عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، ونظير هذه الآية قوله تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) الدخان - ٣، وقوله:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر - ١، فإنّ ظاهر هذه الآيات لايلائم كون المراد من إنزال القرآن أوّل إنزاله أو إنزال أوّل بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدلّ على ذلك.

والّذي يعطيه التدبّر في آيات الكتاب أمر آخر فإنّ الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدالّ على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة - ١٨٥ وقوله تعالى:( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) الدخان - ٣، وقوله تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر - ١، واعتبار الدفعة إمّا بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى:( كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ) يونس - ٢٤، فإنّ المطر إنّما ينزل تدريجاً لكنّ النظر ههنا معطوف إلى أخذه مجموعاً واحداً، ولذلك عبّر عنه بالإنزال دون التنزيل، وكقوله تعالى:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) ص - ٢٩، وإمّا لكون الكتاب ذا حقيقة اُخرى وراء ما نفهمه بالفهم العاديّ الّذي يقضى فيه بالتفرّق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحّح لكونه واحداً غير تدريجيّ ونازلاً بالإنزال دون التنزيل. وهذا الاحتمال الثاني هو اللّائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود - ١، فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وقطعة قطعة فالإحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرء عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل.

وأوضح منه قوله تعالى:( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ

١٤

رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الأعراف - ٥٣، وقوله تعالى:( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - إلى أن قال -بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس - ٣٩ فإنّ الآيات الشريفة وخاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طارٍ على الكتاب فنفس الكتاب شئ والتفصيل الّذي يعرضه شئ آخر، وأنّهم إنّما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعاربأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.

وأوضح منه قوله تعالى:( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف - ٤. فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عرض عليه جعله مقرّواً عربيّاً، وإنّما اُلبس لباس القراءة والعربيّة ليعقله الناس وإلّا فإنّه - وهو في أمّ الكتاب - عند الله، عليّ لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربيّ المبين وفي هذا المساق أيضاً قوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) الواقعة - ٨٠، فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلّا المطهّرون من عباد الله وأنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار وهو الّذي عبّر عنه في آيات الزخرف، بأمّ الكتاب وفي سورة البروج، باللّوح المحفوظ، حيث قال تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج - ٢٢، وهذا اللّوح إنّما كان محفوظاً لحفظه من ورود التغيّر عليه، ومن المعلوم أنّ القرآن المنزّل تدريجاً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الّذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الّذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزّل، وإنّما هذا بمنزله اللباس لذاك.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين

١٥

- ونحن نسمّيه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبّس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحّح لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب كما في قوله تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، إلى غير ذلك وهذا الّذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن، وقوله: إنّا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: إنّا أنزلناه في ليلة القدر، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة كما اُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدعوة النبويّة.

وهذا هو الّذي يلوح من نحو قوله تعالى:( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه - ١١٤، وقوله تعالى:( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) القيامة - ١٩، فإنّ الآيات ظاهره في أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقرائة قبل قضاء الوحي، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به - إنشاء الله تعالى -.

وبالجملة فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنيّة لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزّل على النبيّ تدريجاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامّة أو تناولها أيدى الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة اُنزلت على النبيّ إنزالاً فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، وسيجئ بعض من الكلام المتعلّق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) آل عمران - ٧. فهذا ما يهدي إليه التدبّر ويدلّ عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، والغالب من المتكلّمين والحسّيّون من باحثي هذا العصر لمّا أنكروا أصالة ماوراء المادّة المحسوسة اضطرّوا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالّة على كون القرآن هدى ورحمة ونوراً وروحاً ومواقع النجوم وكتاباً مبيناً، وفي لوح محفوظ، ونازلاً من عند الله، وفي صحف مطهّره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعراً منثوراً.

١٦

ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان:

قال ما محصّله: إنّه لا ريب أن بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مقارناً لنزول أوّل ما نزل من القرآن وأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ والإنذار، ولا ريب أنّ هذه الواقعة إنّما وقعت باللّيل لقوله تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) الدخان - ٢، ولا ريب أنّ الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة - ١٨٥.

وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لمّا نزلت سورة الحمد فيها، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأنّ القرآن نزل فيها جميعاً فصحّ أن يقال: أنزلناه في ليلة (على أنّ القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكلّ بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماويّة أيضاً كالتوراة والإنجيل والزبور باصطلاح القرآن)

قال: وذلك: أنّ أوّل ما نزل من القرآن قوله تعالى: إقرء بإسم ربّك إلخ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، نزل والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرئيل فأوحى إليه: قوله تعالى: إقرأ باسم ربّك الّذي خلق الخ، ولمّا تلقّى الوحى خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربّه فترائى له وعلّمه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين إلى آخر سورة الحمد، ثمّ علّمه كيفيّة الصلاة ثمّ غاب عن نظره فصحا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجد ممّا كان يشاهده أثراً إلّا ما كان عليه من التعب الّذي عرضه من ضغطة جبرئيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنّه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثمّ لمّا دخل البيت نام ليلته من شدّة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ) المدّثر - ٢.

قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر: وأمّا ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أنّ البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلّا في بعض كتب الشيعة الّتي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.

١٧

قال: وهناك روايات اُخرى في تأييد هذه الأخبار تدلّ على أنّ معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنّه نزل فيه قبل بعثة النبيّ من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرئيل هناك على الملائكة حتّى ينزل بعد البعثة على رسول الله، وهذه أوهام خرافيّة دسّت في الأخبار مردودة أوّلاً بمخالفة الكتاب، وثانياً أنّ مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه، انتهى ملخّصاً.

ولست أدرى أيّ جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام أجزائه - تقبل الإصلاح حتّى تنطبق على الحقّ والحقيقة بوجه؟ فقد اتّسع الحزق على الراتق.

ففيهأوّلاً أن هذا التقوّل العجيب الّذي تقوّله في البعثة ونزول القرآن أوّل ما نزل وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل عليه: إقرء باسم ربّك، وهو في الطريق، ثمّ نزلت عليه سورة الحمد ثمّ علم الصلاة، ثمّ دخل البيت ونام تعباناً، ثمّ نزلت عليه سورة المدّثّر صبيحة الليلة فاُمر بالتبليغ، كلّ ذلك تقوّل لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنّة قائمة، وإنّما هي قصّة تخيّليّة لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجئ.

وثانياً: أنّه ذكر أنّ من المسلّم أنّ البعثة ونزول القرآن والأمر بالتبليغ مقارنة زماناً ثمّ فسّر ذلك بأنّ النبوّة ابتدأت بنزول القرآن، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّاً غير رسول ليلة واحدة فقط ثمّ في صبيحة اللّيلة اُعطي الرسالة بنزول سورة المدّثّر، ولا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنّة، وليس من المسلّم ذلك. أمّا السنّة فلأنّ لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخّر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شئ من جوامع الحديث مطلقاً إذ لا شئ من كتب الحديث ممّا ألّفته العامّة أو الخاصّة إلّا وتأليفه متأخّر عن عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرنين فصاعداً فهذا في السنّة، والتاريخ - على خلوّه من هذه التفاصيل - حاله أسوء والدسّ الّذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضاً.

وأمّا الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوّله ظاهرة فإنّ سورة اقرء باسم ربّك - وهي أوّل سورة نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما ذكره أهل النقل، ويشهد به الآيات الخمس الّتي في صدرها و

١٨

لم يذكر أحد أنّها نزلت قطعات ولا أقلّ من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي بمرئى من القوم وأنّه كان منهم من ينهاه عن الصلاة ويذكر أمره في نادي القوم (ولا ندري كيف كانت هذه الصلاة الّتي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتقرّب بها إلى ربّه في بادئ أمره إلّا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) العلق - ١٨، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنّه كان هناك من ينهي مصلّياً عن الصلاة، ويذكر أمره في النادي، ولا ينتهي عن فعاله، وقد كان هذا المصلّي هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله تعالى بعد ذلك:( كَلَّا لَا تُطِعْهُ ) العلق - ١٩.

فقد دلّت السورة على أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي قبل نزول أوّل سورة من القرآن، وقد كان على الهدى وربّما أمر بالتقوى، وهذا ه والنبوّة ولم يسّم أمره ذلك انذاراً، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّاً وكان يصلّي ولمّا ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولمّا يؤمر بالتبليغ.

وأمّا سورة الحمد فإنّها نزلت بعد ذلك بزمان، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكره هذا الباحث لكان حقّ الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين إلخ، أويقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل: الحمد لله ربّ العالمين إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالك يوم الدين، لخروج بقيّة الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف.

نعم وقع في سورة الحجر - وهي من السور المكّيّة كما تدلّ عليه مضامين آياتها، وسيجئ بيانه - قوله تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الحجر - ٨٧. والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنّها لم تعدّ قرآناً بل سبعاً من آيات القرآن وجزئاً منه بدليل قولة تعالى:( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ) الآية الزمر - ٢٣.

١٩

ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدلّ على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضاً على قوله تعالى:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) الحجر - ٩٥، ويدلّ ذلك على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد كفّ عن الإنذار مدّة ثمّ أمر به ثانياً بقولة تعالى: فاصدع.

وأمّا سورة المدّثّر وما تشتمل عليه من قوله:( قُمْ فَأَنذِرْ ) المدّثّر - ٢، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فأنذر، حال قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر الآية، لاشتمال هذه السورة أيضاً على قوله تعالى:( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) إلى آخر الآيات المدّثّر - ١١، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: وأعرض عن المشركين الخ، وإن كانت السورة نازلة نجوماً فظاهر السياق أنّ صدرها قد نزل في بدء الرسالة.

وثالثاً: أنّ قوله: إنّ الروايات الدالّة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثمّ نزول الآيات نجوماً على رسول الله أخبار مجعولة خرافيّة لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها، وأنّ المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة، وبالبيت المعمور كرة الأرض خطأ وفرية.

أمّاأوّلاً: فلأنّه لا شئ من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.

وأمّاثانياً: فلأنّ الأخبار خالية عن كون النزول الجمليّ قبل البعثة بل الكلمة ممّا أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبّت.

وأمّاثالثاً: فلأنّ قوله: إنّ اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسيرشنيع - وإنّه اُضحوكة - وليت شعري: ما هو الوجه المصحّح - على قوله - لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحاً محفوظاً؟ أذلك لكون هذا العالم محفوظاً عن التغيّر والتحوّل؟ فهو عالم الحركات، سيّال الذات، متغيّر الصفات! أو لكونه محفوظاً عن الفساد تكويناً أو تشريعاً؟ فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظاً عن اطّلاع غير أهله عليه؟ كما يدلّ عليه: قوله تعالى:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، فإدراك المدركين فيه على السواء!.

وبعد اللّتيّا والّتي: لم يأت هذا الباحث في توجيه نزول القرآن في شهر رمضان

٢٠

بوجه محصّل يقبله لفظ الآية، فإنّ حاصل توجيهه: أنّ معنى: اُنزل فيه القرآن: كأنّما اُنزل فيه القرآن، ومعنى: إنّا أنزلناه في ليلة: كأنّا أنزلناه في ليلة، وهذا شئ لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق!.

ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إنّ معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مرّ بيانه سابقاً.

وفي كلامه جهات اُخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.

قوله تعالى: ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) الناس - وهم الطبقة الدانية من الإنسان الّذين سطح فهمهم المتوسّط أنزل السطوح - يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقّهم كما قال تعالى:( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، وقال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت - ٤٣، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الاُمور المعنويّة بالبيّنة والبرهان، ولا فرق الحقّ من الباطل بالحجّة إلّا بمبيّن يبيّن لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأمّا الخاصّة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدّون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهيّة والركون إلى فرقان الحقّ فالقرآن بيّنات وشواهد من الهدى والفرقان في حقّهم فهو يهديهم إليه ويميّز لهم الحقّ ويبيّن لهم كيف يميّز، قال تعالى:( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة - ١٦.

ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبيّنات من الهدى، وهو التقابل بين العامّ والخاصّ فالهدى لبعض والبيّنات من الهدى لبعض آخر.

قوله تعالى: ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) الشهادة هي الحضور مع تحمّل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنّما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكلّ. وأمّا كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا

٢١

دليل عليه إلّا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية.

قوله تعالى: ( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) إيراد هذه الجملة في الآية ثانياً ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أنّ الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأنّ الحكم هو الّذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.

قوله تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) كأنّه بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام عدّة من أيّام اُخر لمكان وجوب إكمال العدّة، واللّام في قوله: لتكملوا العدّة، للغاية، وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملاً على معنى الغاية، والتقدير وإنّما أمرناكم بالإفطار والقضاء لنخفّف عنكم ولتكملوا العدّة، ولعلّ إيراد قوله: ولتكملوا العدّة هو الموجب لإسقاط معنى قوله: وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهّم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية(١) أنّهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإنّ تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الّذي اُنزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلّيّة وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى أنّ التلبّس بالصوم لإظهار كبريائه تعالى بما نزّل عليهم القرآن وأعلن ربوبيّته وعبوديّتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحقّ، وفرق لهم بكتابه بين الحقّ والباطل. ولمّا كان الصوم إنّما يتّصف بكونه شكراً لنعمه إذا كان مشتملاً على حقيقة معنى الصوم وهو الإخلاص لله سبحانه في التنزّه عن ألواث الطبيعة والكفّ عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتّصافه بالتكبير لله فإنّ صورة الصوم والكفّ سواء اشتمل على إخلاص النيّة أو لم يشتمل يدلّ على تكبيره تعالى وتعظيمه فرّق بين التكبير والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجّي دون التكبير فقال: ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون كما قال: في أوّل الآيات: لعلّكم تتّقون.

_______________________________________

(١) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح

٢٢

( بحث روائي)

في الحديث القدسيّ، قال الله تعالى: الصوم لي وأنا اُجزي به.

أقول: وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنّه هو العبادة الوحيدة الّتي تألّفت من النفي، وغيره كالصلاة والحجّ وغيرهما متألّف من الإثبات أو لايخلو من الإثبات، والفعل الوجوديّ لا يتمحّض في إظهار عبوديّة العبد ولا ربوبيّة الربّ سبحانه، لأنّه لا يخلو عن شوب النّقص المادّيّ وآفة المحدوديّة وإثبات الإنّيّة ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه: كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الّذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإخلاد إلى الأرض والتنزّه بالكفّ عن شهوات النفس فإنّ النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمراً بين العبد والربّ لا يطّلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا اُجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالّا على أنّه لا يوسّط في إعطاء الأجر بينه وبين الصائم أحداً كما أنّ العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربّه في الاطّلاع عليه أحد نظير ما ورد: أنّ الصدقة إنّما يأخذها الله من غير توسيطه أحداً، قال تعالى:( وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) التوبة - ١٠٣، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أنّ أجر الصائم القرب منه تعالى.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : كان رسول الله أوّل ما بعث يصوم حتّى يقال: ما يفطر، ويفطر حتّى يقال، ما يصوم، ثمّ ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً وهو صوم داود، ثمّ ترك ذلك وصام الثلاثة الأيّام الغرّ، ثمّ ترك ذلك وفرقها في كلّ عشرة يوماً خميسين بينهما أربعاء فقبضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يعمل ذلك.

وعن عنبسة العابد، قال: قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة أيّام من كلّ شهر.

أقول: والأخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الّذي كان يصومه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا صوم رمضان.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ

٢٣

عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) قال: هي للمؤمنين خاصّة.

وعن جميل قال: سألت الصادقعليه‌السلام عن قول الله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القتال، يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام. قال: فقال: هذه كلّها يجمع الضلّال والمنافقين وكلّ من أقرّ بالدعوة الظاهرة.

وفي الفقيه عن حفص قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام ، يقول إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الاُمم قبلنا فقلت له: فقول الله عزّوجلّ: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم؟ قال: إنّما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الاُمم ففضّل الله هذه الاُمّة وجعل صيامه فرضاً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى اُمّته.

أقول: والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمّد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلاً عن العالمعليه‌السلام وكأنّ الروايتين واحدة، وعلى أيّ حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى: كما كتب على الّذين من قبلكم، الأنبياء خاصّة ولو كان كذلك - والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب - كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم.

وفي الكافي عمّن سأل الصادقعليه‌السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شئ واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به.

وفي الجوامع عنهعليه‌السلام : الفرقان كلّ آية محكمة في الكتاب.

وفي تفسيري العيّاشيّ والقمّىّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرقان هو كلّ أمر محكم في القرآن، والكتاب هو جملة القرآن الّذي يصدّق فيه من كان قبله من الأنبياء.

أقول: واللّفظ يساعد على ذلك، وفي بعض الأخبار أنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب بل شهر رمضان الحديث، وهو واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضاً من المفسّرين.

والأخبار الواردة في عدّ أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أنّ لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبيّ وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بحيث يستبعد جدّاً

٢٤

نسبة التجريد إلى الراوي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لأبي عبداللهعليه‌السلام إنّ ابن أبي يعفور، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال: وما هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اُسافر؟ قال: إنّ الله يقول: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلّا لحجّ أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.

أقول: وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابيّ بالأخذ بالإطلاق.

وفي الكافي عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: فأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال: آخرون: لا يصوم، وقال: قوم إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإنّ الله عزّوجلّ يقول: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قالعليه‌السلام : ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر.

أقول: والأخبار عن أئمّة أهل البيت في تعيّن الإفطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله، وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، قال: الشيخ الكبير الّذي لا يستطيع والمريض.

وفي تفسيره أيضاً عن الباقرعليه‌السلام في الآية، قال: الشيخ الكبير والّذي يأخذه العطاش.

وفي تفسيره أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير.

أقول: والروايات فيه كثيرة عنهمعليهم‌السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيّام السنة غير أيّام شهر رمضان ممّن لا يقدر على عدّة أيّام اُخر فإنّ

٢٥

المريض في قوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً، لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش مرض العطش.

وفي تفسيره أيضاً عن سعيد عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ في الفطر تكبيراً، قلت: ما التكبير إلّا في يوم النحر، قال: فيه تكبير ولكنّه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد.

وفي الكافي عن سعيد النقّاش قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنّه مسنون، قال: قلت: وأين هو؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد ثمّ يقطع، قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الله اكبر. الله اكبر. لا إله إلّا الله والله الكبر. الله اكبر على ما هدانا. وهو قول الله ولتكملوا العدّة يعني الصلاة ولتكبّروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول: الله اكبر. لا إله إلّا الله والله اكبر. ولله الحمد، قال: وفي رواية التكبير الآخر أربع مرّات.

أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، وقولهعليه‌السلام : يعني الصلاة لعلّه يريد: أنّ المعنى ولتكملوا العدّة أي عدّة أيّام الصوم بصلاة العيد ولتكبّروا الله مع الصلوات على ما هديكم، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، فإنّه استفادة حكم استحبابيّ من مورد الوجوب نظير ما مرّ في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاُولى منه هذا، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الأخيرة يؤيّد ما قيل: إنّ قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عديّ بعلي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن ابن أبي عمير عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له، جعلت فداك ما يتحدّث به عندنا أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صام تسعة وعشرين أكثر ممّا صام ثلاثين أحقّ هذا؟ قال ما خلق الله من هذا حرفاً فما صام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ثلاثين لأنّ الله يقول: ولتكملوا العدّة فكان رسول الله ينقصه؟.

أقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الإنكاريّ، والرواية تدلّ على

٢٦

ما قدّمناه: أنّ ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.

وفي محاسن البرقيّ عن بعض أصحابنا رفعه في قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم قال: التكبير التعظيم، والهداية الولاية.

أقول: وقوله: والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق: ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمّى تأويلاً كما ورد في بعض الروايات أنّ اليسر هو الولاية، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله.

وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبدالله، قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن، وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره فقال أبوعبدالله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة، ثمّ قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان واُنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان واُنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان واُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.

أقول: ما رواهعليه‌السلام عن النبيّ رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور بعدّة طرق عن وائلة بن الأسقع عن النبيّ.

وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلاً يسأل أباعبدالله عن ليلة القدر فقال أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ سنة؟ فقال أبوعبداللهعليه‌السلام لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس، قال: شهر رمضان واللّيلة المباركة وليلة القدر فإنّ ليلة القدر هي اللّيلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثمّ نزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلاً رسلاً.

أقول: وروي هذا المعنى عن غيره أيضاً كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنّه إنّما استفاد ذلك من الآيات القرآنيّة كقوله تعالى:( وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) آل عمران - ٥٨، وفي قوله تعالى:( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ )

٢٧

الطور - ٥، وقوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، وقوله تعالى:( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ) حم السجدة - ١٢، وجميع ذلك ظاهر إلّا ما ذكره في مواقع وأنّه السماء الاُولى وموطن القرآن فإنّ فيه خفاءً، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أنّ البيت المعمور في السماء، وسيجئ الكلام فيه في محلّه إنشاء الله تعالى، وممّا يجب أن يعلم أنّ الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الإشارة والرمز شائع فيه، ولا سيّما في أمثال هذه الحقائق: من اللّوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور، فممّا يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن.

٢٨

( سورة البقرة آية ١٨٦)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( ١٨٦ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرقّ اُسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلّم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية، بالأمر، ثمّ قوله: عبادي، ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثمّ حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإنّي قريب ولم يقل: فقل إنّه قريب، ثمّ التأكيد بإنّ ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل الدالّ على القرب ليدلّ على ثبوت القرب ودوامه، ثمّ الدلالة على تجدّد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدالّ عليهما، ثمّ تقييده الجواب أعني قوله: اُجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيّد به شيئاً بل هو عينه، وفيه دلالة على أنّ دعوة الداعي مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن - ٦٠، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرّر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلّم سبع مرّات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.

والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعوّ نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو درّ من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.

ثمّ إنّ العبوديّة كما مرّ سابقاً هي المملوكيّة ولا كلّ مملوكيّة بل مملوكيّة الإنسان فالعبد هو من الإنسان أو كلّ ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.

٢٩

وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجدّ مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنّه تعالى يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم لا يستقلّون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والأفعال وساير ما ينسب إليهم من الأزواج والأولاد والمال والجاه وغيرها، فكلّ ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، وأثره، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقّه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنّما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أيّاًما كان وتمليكه فالله عزّ اسمه، هو الّذي أضاف نفوسهم وأعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، وهو الّذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهو الّذي خلق كلّ شئ وقدّره تقديراً.

فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه، وهو الحائل بين الشئ وبين كلّ ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حقّ فهو أقرب إلى خلقه من كلّ شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ) الواقعة - ٨٥، وقال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق - ١٦، وقال تعالى:( أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الأنفال - ٢٤، والقلب هو النفس المدركة.

وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكاً حقيقيّاً وكونهم عباداً له هو الموجب لكونه تعالى قريباً منهم على الإطلاق وأقرب إليهم من كلّ شئ عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كلّ تصرّف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي أنّ لله سبحانه أن يجيب أيّ دعاء دعى به أحد من خلقه ويرفع بالإعطاء والتصرّف حاجته الّتي سأله فيها فإنّ الملك عام، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيّد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: إنّ الله لمّا خلق الأشياء وقدّر التقادير تمّ الأمر، وخرج زمام التصرّف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأنّ الأمر مفروغ عنه. ولا كما يقوله جماعة من هذه الاُمّة: أن لا صنع لله في أفعال عباده وهم القدريّة الّذين سمّاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجوس هذه الاُمّة فيما رواه الفريقان من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدريّة مجوس هذه الاُمّة.

٣٠

بل الملك لله سبحانه على الإطلاق ولا يملك شئ شيئاً إلّا بتمليك منه سبحانه وإذن فما شائه وملكه وأذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملّك ولم يأذن فيه لا يقع وإن بذل في طريق وقوعه كلّ جهد وعناية، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥.

فقد تبيّن: أن قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب اُجيب دعوة الدّاع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عباداً لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم، وإطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكلّ دعاء دعي به فإنّه مجيبه إلّا أنّ ههنا أمراً وهو أنّه تعالى قيّد قوله: اُجيب دعوة الدّاع بقوله إذا دعان، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيّد بشئ يدلّ على اشتراط الحقيقة دون التجوّز والشبه، فإنّ قولنا: أصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالماً يدلّ على لزوم اتّصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الّذي يجب الإصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقّق بعلمه وعمل بما علم كان هو الّذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان، يدلّ على أنّ وعد الإجابة المطلقة، إنّما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطريّ والغريزيّ مواطئاً لسانه قلبه، فإنّ حقيقة الدعاء والسؤال هو الّذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الّذي يدور كيفما اُدير صدقاً أو كذباً جدّاً أو هزلاً حقيقة أو مجازاً، ولذلك ترى أنّه تعالى عدّ ما لا عمل للّسان فيه سؤالاً، قال تعالى:( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم - ٣٤، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لساناً فطريّاً وجوديّاً، وقال تعالى:( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن - ٢٩، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.

فالسؤال الفطريّ من الله سبحانه لا يتخطّى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين وهما الّذان ذكرهما بقوله: دعوة الدّاع إذا دعان.

٣١

فإمّا أن يكون لم يتحقّق هناك دعاء، وإنّما التبس الأمر على الداعي التباساً كأن يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر مثل أن يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميّت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لاُعيدت حياته ولكنّه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.

وإمّا أنّ السؤال متحقّق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلّق بالأسباب العاديّة أو باُمور وهميّة توهّمها كافية في أمره أو مؤثّرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإنّ الله الّذي يجيب الدعوات هو الّذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.

فهذا ملخّص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات النازلة في هذا الباب كقوله تعالى:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) الفرقان - ٧٧، وقوله تعالى:( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٤١، وقوله تعالى:( قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٦٤، فالآيات دالّة على أنّ للإنسان دعاء غريزيّا وسؤالاً فطريّاً يسأل به ربّه، غير أنّه إذا كان في رخاءٍ ورفاه تعلّقت نفسه بالأسباب فأشركها لربّه، فالتبس عليه الأمر وزعم أنّه لا يدعو ربّه ولا يسأل عنه، مع أنّه لا يسأل غيره فإنّه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولمّا وقع الشدّة وطارت الأسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبيّن له أن لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلّا الله، فعاد إلى توحيده الفطريّ ونسي كلّ سبب من الأسباب، ووجّه وجهه نحو الربّ الكريم فكشف شدّته وقضى حاجته وأظلّه بالرخاء، ثمّ إذا تلبّس به ثانياً عاد إلى ما كان عليه أوّلاً من الشرك والنسيان.

٣٢

وكقوله تعالى:( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) المؤمن - ٦٠، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة وتزيد على ذلك حيث تسمّي الدعآء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث أنّها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار إنّما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.

وبذلك يظهر معنى آيات اُخر من هذا الباب كقوله تعالى:( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن - ١٤، وقوله تعالى:( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف - ٥٦، وقوله تعالى:( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الأنبياء - ٩٠، وقوله تعالى:( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف - ٥٥، وقوله تعالى:( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا - إلى قوله -وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) مريم - ٤، وقوله تعالى:( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) الشورى - ٢٦، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على أركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطاة القلب اللسان والانقطاع عن كلّ سبب دون الله والتعلّق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرّع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك ممّا تشتمل عليه الروايات.

قوله تعالى: ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) تفريع على ما يدلّ عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: أنّ الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شئ، وهو ذو عناية بهم وبما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه - وصفته هذه الصفة - فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنّه قريب مجيب لعلّهم يرشدون في دعائه.

( بحث روائي)

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، وفي عدّة الداعي في الحديث القدسيّ: يا موسى سلني كلّ ما تحتاج إليه حتّى علف شاتك وملح عجينك.

٣٣

وفي المكارم عنهعليه‌السلام الدعاء أفضل من قرائة القرآن لأنّ الله عزّوجلّ قال:( قل ما يعبؤ بكم ربّي لو لا دعائكم) وروي ذلك عن الباقر والصادقعليهما‌السلام .

وفي عدّة الداعي في رواية محمّد بن عجلان عن محمّد بن عبيدالله بن عليّ بن الحسين عن ابن عمّه الصادق عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ آمل أمل غيري بالأياس ولأكسونّه ثوب المذلّة في الناس ولأبعدنّه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغنيّ الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلّقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ الحديث.

وفي عدّة الداعي أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم اُعطه وإن دعاني لم اُجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له.

أقول: وما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء وليس إبطالاً لسببيّة الأسباب الوجوديّة الّتي جعلها الله تعالى وسائل متوسّطة بين الأشياء وبين حوائجها الوجوديّة لا عللاً فيّاضة مستقلّة دون الله سبحانه، وللإنسان شعور باطنيّ بذلك فإنّه يشعر بفطرته أنّ لحاجته سبباً معطياً لا يتخلّف عنه فعله، ويشعر أيضاً أنّ كلّ ما يتوجّه إليه من الأسباب الظاهريّة يمكن أن يتخلّف عنه أثره فهو يشعر بأنّ المبدء الّذي يبتدئ عنه كلّ أمر، والركن الّذي يعتمد عليه ويركن إليه كلّ حاجة في تحقّقها ووجودها غير هذه الأسباب ولازم ذلك أن لا يركن الركون التامّ إلى شئ من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقيّ ويعتصم بذلك السبب الظاهريّ، والإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجّه والتفات فإذا سأل أو طلب شيئاً من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنّه سأل ربّه واتّصل حاجته - الّتي شعر بها بشعوره الباطنيّ من طريق الأسباب - إلى ربّه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطريّ باطنيّ وإنّما هو أمر صوّره له تخيّله لعلل اوجبت هذا التخيّل من غير

٣٤

شعور باطنيّ بالحاجة، وهذا من الموارد الّتي يخالف فيها الباطن الظاهر.

ونظير ذلك: أنّ الإنسان كثيراً ما يحبّ شيئاً ويهتمّ به حتّى إذا وقع وجده ضارّاً بما هو أنفع منه وأهمّ وأحبّ فترك الأوّل وأخذ بالثاني، وربّما هرب من شئ حتّى إذا صادفه وجده أنفع وخيراً ممّا كان يتحفّظ به فأخذ الأوّل وترك الثاني، فالصبيّ المريض إذا عرض عليه الدواء المرّ امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحّة، فهو بشعوره الباطنيّ الفطريّ يسأل الصحّة فيسأل الدواء وإن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطريّ والشعور الباطنيّ وله نظام آخر بحسب تخيّله والنظام الفطريّ لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط، وأمّا النظام التخيّليّ فكثيراً ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربّما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخياليّة شيئاً، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئاً آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرّر معنى الأحاديث، وهو اللّائح من قول عليّعليه‌السلام فيما سيأتي: أنّ العطيّة على قدر النيّة الحديث.

وفي عدّة الدّاعي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

وفي الحديث القدسيّ: أنا عند ظنّ عبدي بي، فلا يظنّ بي إلّا خيراً.

أقول: وذلك أنّ الدعاء مع اليأس أو التردّد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة كما مرّ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

وفي العدّة أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجئوا إليه في ملمّاتكم، وتضرّعوا إليه وادعوه، فإنّ الدعاء مخّ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب فإمّا أن يعجّله له في الدنيا أو يؤجّل له في الآخرة، وإمّا أن يكفّر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم.

وفي نهج البلاغة: في وصيّة لهعليه‌السلام لابنه الحسينعليه‌السلام : ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئآبيب رحمته، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النيّة، وربّما اُخرّت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت

٣٥

الشئ فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له.

اقول: قوله: فإنّ العطيّة على قدر النيّة يريدعليه‌السلام به: أنّ الاستجابة تطابق الدّعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الّذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنّ اللّفظ ربّما لا يطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة كما مرّ بيانه فهي أحسن جملة وأجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والإجابة.

وقد بيّنعليه‌السلام بها عدّة من الموارد الّتي يترآى فيها تخلّف الاستجابة عن الدعوة ظاهراً كالإبطاء في الإجابة، وتبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شئ آخر أصلح منه بحال السائل، فإنّ السّائل ربّما يسأل النعمة الهنيئة ولو اُوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لأنّ السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطؤ، وكذلك المؤمن المهتمّ بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم أنّ فيه سعادته وإنّما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.

وفي عدّة الداعي عن الباقرعليه‌السلام ما بسط عبد يده إلى الله عزّوجلّ إلّا استحيى الله أن يردّها صفراً حتّى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح بها على رأسه ووجهه، وفي خبر آخر على وجهه وصدره.

اقول: وقد روي في الدرّ المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدّة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبدالله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معلّلاً بأنّه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنّه تعالى فيها - تعالى عن ذلك وتقدّس.

٣٦

وهو قول فاسد، فإنّ حقيقة جميع العبادات البدنيّة هي تنزيل المعنى القلبيّ والتوجّه الباطنيّ إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادّة في قالب التجسّم، كما هو ظاهر في الصلاة والصوم والحجّ وغير ذلك وأجزائها وشرائطها، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنيّة، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجّه القلبيّ والمسألة الباطنيّة بمثل السؤال الّذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغنيّ المتعزّز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجتة بالذلّة والضراعة، وقد روى الشيخ في المجالس والأخبار مسنداً عن محمّد وزيد ابني عليّ بن الحسين عن أبيهما عن جدّهما الحسينعليه‌السلام عن النبيّ، وفي عدّة الداعي مرسلاً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.

وفي البحار عن عليّعليه‌السلام أنّه سمع رجلاً يقول: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، قالعليه‌السلام : أراك تتعوّذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى:( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ) ولكن قل: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن.

اقول: وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللّفظ وله نظائر في الروايات، وفيها: أنّ الحقّ في معنى كلّ لفظ هو الّذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك.

وفي عدّة الداعي عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه.

اقول: وفي العدة أيضاً عن عليّعليه‌السلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، والسرّ فيه عدم تحقّق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللّهو.

وفي دعوات الراونديّ: في التوراة يقول الله عزّوجلّ للعبد: إنّك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنّه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنّك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخّرتكما إلى يوم القيامة.

اقول: وذلك أنّ من سأل شيئاً لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكلّ ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه

٣٧

فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالماً لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبداً عوقب بما يريده على غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقّق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى:( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ) الإسراء - ١١.

وفي عدّة الداعي: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذرّ: يا أباذرّ ألا اُعلّمك كلمات ينفعك الله عزّوجلّ بهنّ؟ قلت بلى يا رسول الله، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أنّ الخلق كلّهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.

اقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة: يعني: ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتّى يستجيب دعائك في الشدّة ولا ينساك، وذلك أنّ من نسي ربّه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثمّ إذا دعا ربّه في الشدّة كان معنى عمله أنّه يذعن بالربوبيّة في حال الشدّة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو ربّ في كلّ حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربّه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق عن الصادقعليه‌السلام قالعليه‌السلام : من تقدّم في الدعاء اُستجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصوت لا نعرفه الحديث، وهو المستفاد من إطلاق قوله تعالى:( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة - ٦٧، ولا ينافي هذا ما ورد أنّ الدعاء لا يردّ مع الانقطاع، فإنّ مطلق الشدّة غير الانقطاع التامّ.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، إرشاد إلى التعلّق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإنّ هذه الأسباب العاديّة الّتي بين أيدينا إنّما سببيّتها محدودة على ما قدّر الله لها من الحدّ لا على ما يترآى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلّا الطريقيّة والوساطة في الإيصال، والأمر بيد الله تعالى، فإذن

٣٨

الواجب على العبد أن يتوجّه في حوائجه إلى جناب العزّة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب، وإن كان أبي الله أن يجري الاُمور إلّا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلّا بالله الّذي أفاض عليها السببيّة لا أنّها هداية إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكلّ ذلك أسباب؟

واعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنيّة فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باُذنه فمن يسأل ربّه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئاً من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير اُذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلّق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو باُذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفّل، وليس ذلك تقييداً للقدرة الإلهيّة غير المتناهية ولا سلباً للاختيار الواجبيّ، كما أنّ الانحصار الّذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعاً بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروريّ أنّ الإنسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون إلّا باليد، والرؤية والسمع هما الّذان يكونان بالعين والاُذن لا مطلقاً، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أنّ خصوصيّة الفعل يتوقّف على توسّط الأسباب فزيد مثلاً وهو فعل لله هو الإنسان الّذي ولّده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلّف واحد من هذه العلل والشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقّف على تحقّق جميعها، والمتوقّف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: وإذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلّة فهو بيان علّة قوله: وإذا سألت وسببه، والمعنى أنّ الحوادث مكتوبة مقدّرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأمّا هو تعالى: فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيّته نافذة وكلّ يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة بقوله: و

٣٩

لو أنّ الخلق كلّهم جهدوا الخ.

ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضاً إنّ الدعاء من القدر.

اقول: وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: أنّ الحاجة المدعوّ لها إمّا أن تكون مقضيّة مقدّرة أولا، وهي على الأوّل واجبة وعلى الثاني ممتنعة، وعلى أيّ حال لا معني لتأثير الدعاء، والجواب: أنّ فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن أسباب وجوده، والدعاء من أسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقّق سبب من أسباب الوجود فيتحقّق المسبّب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: إنّ الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات اُخر.

ففي البحار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لايردّ القضاء إلّا الدعاء.

وعن الصادقعليه‌السلام : الدعاء يردّ القضاء بعد ما اُبرم إبراماً.

وعن أبي الحسن موسىعليه‌السلام : عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء والطلب إلى الله عزّوجلّ يردّ البلاء، وقد قدّر وقضى فلم يبق إلّا إمضاؤه فإذا دعي الله وسأل صرف البلاء صرفاً.

وعن الصادقعليه‌السلام إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم وقد اُبرم إبراماً - فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يُفتح لصاحبه.

اقول: وفيها إشارة إلى الإصرار وهو من محقّقات الدعاء، فإنّ كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفائه.

وعن إسماعيل بن همّام عن أبي الحسنعليه‌السلام : دعوة العبد سرّاً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.

اقول: وفيها إشارة إلى إخفاء الدعاء وإسراره فإنّه أحفظ لإخلاص الطلب.

وفي المكارم عن الصادقعليه‌السلام : لا يزال الدعاء محجوباً حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً، من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا أستجيب له.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً - وقد قال له رجل من أصحابه إنّي لأجد آيتين في كتاب

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481