الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131635 / تحميل: 8002
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

النساء - ٣١، وقال تعالى:( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) النجم - ٣٢.

وأيضاً: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى:( إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) المائدة - ٢٩، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبيّ وأئمّة أهل البيت، وكذا من الطاعات ما ينقل السيّئآت إلى الغير كما سيجئ.

وأيضاً: من المعاصي ما ينقل مثل سيّئآت الغير إلى الإنسان لاعينها، قال تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) النحل - ٢٥، وقال:( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ) العنكبوت - ١٣، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لاعينها، قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس - ١٢.

وأيضاً: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى:( ذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) الإسراء - ٧٥، وقال تعالى:( يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) الاحزاب - ٣٠، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالانفاق في سبيل الله، قال تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) البقرة - ٢٦١، ومثله ما في قوله تعالى:( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ) القصص - ٥٤، وما في قوله تعالى:( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد - ٢٨، على أنّ الحسنة مضاعفة عند الله مطلقاً، قال تعالى:( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) الانعام - ١٦٠.

وأيضاً: من الحسنات ما يبدّل السيّئآت إلى الحسنات، قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وأيضاً: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور - ٢١، ويمكن الحصول على مثلها في السيّئآت كظلم أيتام الناس

١٨١

حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم، قال تعالى:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) النساء - ٩.

وأيضاً: من الحسنات ما يدفع سيّئآت صاحبها إلى غيره، ويجذب حسنات الغير إليه، كما أنّ من السيّئآت ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، ويجذب سيّئآته إليه، وهذا من عجيب الأمر في باب الجزاء والاستحقاق، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال - ٣٧.

وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوّعة سنورد كلّاً منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إنشاء الله العزيز.

وبالتأمّل في الآيات السابقة والتدبّر فيها يظهر: أنّ في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاماً يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، وذلك أنّ فعل الأكل مثلاً من حيث أنّه مجموع حركات جسمانيّة فعليّة وانفعاليّة، إنّما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلاً ولا يتخطّاه إلى غيره، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدّله من صورة إلى صورة اُخرى مثلاً، ولا يتعدّاه إلى غيره، ولا يتبدّل بغيره، ولا ينقلب عن هويّته وذاته، وكذا إذا ضرب زيد عمراً كانت الحركة الخاصّة ضرباً لاغير وكان زيد ضارباً لاغير، وكان عمرو مضروباً لاغير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى:( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) البقرة - ٥٧، وقال تعالى:( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) الفاطر - ٤٣، وقال تعالى:( انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) الأنعام - ٢٤، وقال تعالى:( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) المؤمن - ٧٤.

وبالجملة: عالم المجازاة ربّما بدّل الفعل من غير نفسه، وربّما نقل الفعل وأسنده إلى غير فاعله، وربّما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسمانيّ.

١٨٢

ولا ينبغي لمتوهّم أن يتوهّم أن هذا يبطل حجّة العقول في مورد الأعمال وآثارها ويفسد الحكم العقليّ فلا يستقرّ شئ منه على شئ، وذلك أنّا نرى أنّ الله سبحانه وتعالى فيما حكاه في كتابه يستدلّ هو أو ملائكته الموكّلة على الاُمور على المجرمين في حال الموت والبرزخ، وكذا في القيامة والنار والجنّة بحجج عقليّة تعرفها العقول. قال تعالى:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) الزمر - ٧٠، وقد تكرّر في القرآن الإخبار بأنّ الله سيحكم بين الناس بالحقّ يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى:( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ) إبراهيم - ٢٢.

ومن هنا نعلم: أنّ حجّة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البيّن على ما أشرنا إليه.

والّذي يحلّ به هذه العقدة: أنّ الله تكلّم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إيّاهم وبياناته لهم مجرى العقول الإجتماعيّة، وتمسّك بالاُصول والقوانين الدائرة في عالم العبوديّة والمولويّة، فعدّ نفسه مولى والناس عبيداً والأنبياء رسلاً إليهم، وواصلهم بالأمر والنهي والبعث والزجر، والتبشير والإنذار، والوعد والوعيد، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك.

وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرّح أنّ الأمر أعظم ممّا يتوهّمه الناس أو يخيّل إليهم، غير أنّه شئ لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزّل منزلة قريبة من اُفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف - ٤.

١٨٣

فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيّات ما نبّأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الأحكام الكلّيّة العقلائيّة الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد، ومن لطيف الأمر: أنّ هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العاديّة قابلة التطبيق على الأحكام العقلائيّة المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإنّ العقل العمليّ الاجتماعيّ لا يأبى مثلاً التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتّب على عمله من المضارّ والمفاسد الإجتماعيّة كأن يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الإجتماعيّة الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنّ سنّة سيّئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنّته، ففي المثال الأوّل يقضي بأنّ المعاصي الّتي كانت ترى ظاهراً أفعالاً للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائيّ، وفي المثال الثاني بأنّ السيّئآت الّتي عملها التابعون لتلك السنّة السيّئة أفعال فعلها أوّل من سنّ تلك السنّة المتبوعة، في عين أنّها أفعال للتابعين فيها، فهي أفعال لهم معاً، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤاخذون.

وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعيّن المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للإنسان، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات، كلّ ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.

فالقرآن الكريم يعلّل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيراً أو شرّاً، وإسناد الفعل إلى غير فاعله، وجعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، ويوضحها بالقوانين العقلائيّة الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الأفهام العامّة، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحسّ، وكانت الأحكام الإجتماعيّة العقلائيّة محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، وسينكشف على الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى:( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الاعراف - ٥٣، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - إلى أن قال -بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس - ٣٩.

١٨٤

وبهذا الّذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال - ٨، وقوله تعالى:( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) الانعام - ١٦٤، وقوله تعالى:( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور - ٢١، وقوله تعالى:( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) النجم - ٣٩، وقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) يونس - ٤٤، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وذلك أنّ الآيات السابقة تحكم بأنّ معاصي المقتول المظلوم إنّما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، وكذا تحكم بأنّ من اتّبع سنّة سيّئة ففعل معصية على الاتّباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو وفعله المتبوع: فالمعصية معصيتان. وكذا تحكم بأنّ من أعان ظالماً على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، وفاعل كمثله، فهؤلاء وأمثالهم من مصاديق قوله تعالى:( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) الآية ونظائرها من حيث الجزاء، لا أنّهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) الزمر - ٧٠، فقوله: وهو أعلم بما يفعلون، يدلّ أو يشعر بأنّ توفية كلّ نفس ما عملت إنّما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه ويحاسبه من أفعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم ولا عقل، فإنّ الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) الملك - ١٠، وفي الآخرة أيضاً حيث قال( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) الإسراء - ٧٢، وقال تعالى:( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) الهمزة - ٧، وقال تعالى في تصديق هذا السلب:( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ ) الاعراف - ٣٨، فأثبت لكلّ من المتبوعين وتابعيهم الضعف من العذاب، أمّا المتبوعين فلضلالهم وإضلالهم، وأما التابعين فلضلالهم وإقامتهم أمر متبوعيهم بالتبعيّة

١٨٥

ثمّ ذكر أنّهم جميعاً لا يعلمون.

فإن قلت: ظاهر هذه الآيات الّتي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا والآخرة ينافي آيات اُخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى:( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) فصّلت - ٣، وكالآيات الّتي تحتجّ عليهم ولا معنى للاحتجاج على من لا علم له ولا فقه للاستدلال، على أنّ نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة ولا مناص من إثبات العقل والإدراك لهم فيه، على أنّ ههنا آيات تثبت لهم العلم واليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى:( قَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق - ٢٢، وقوله تعالى:( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) السجدة - ١٢.

قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتّباع ما عندهم من العلم، ومعنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث وعدم انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) الاسراء - ١٣، وقوله تعالى:( قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) الزخرف - ٣٨، إلى غير ذلك من الآيات، وسيجئ إستيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى:( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) البقرة - ٢٤٢.

وقد أجاب الإمام الغزاليّ عن إشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: إنّ نقل الحسنات والسيّئآت بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلاً طاعات نفسه في ديوان غيره، ولم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة وهو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائماً إلّا أنّ حقيقته لا تنكشف لكافّة الخلائق إلّا يوم القيامة، وما لا يعلمه الإنسان فليس بموجود له وإن كان موجوداً في نفسه، فإذا علمه صار موجوداً له كأنّه وجد الآن في حقّه.

١٨٦

فقد سقط بهذا قول من قال: إنّ المعدوم كيف ينقل والعرض كيف ينقل؟. فنقول: المنقول ثواب الطاعة لا نفس الطاعة، ولكن لمّا كانت الطاعة يراد لثوابها عبّر عن نقل أثرها بنقل نفسها، وأثر الطاعة ليس أمراً خارجاً عن الإنسان لاحقاً به حتّى يشكل بأنّ نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، ونقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، وإن كان جوهراً فما هذا الجوهر؟! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإنّ للطاعات تأثيراً في القلب بالتنوير وللمعاصي تأثيراً فيه بالقسوة والظلمة، وبأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور والمعرفة والمشاهدة، وبالظلم والقسوة يستعدّ القلب للحجاب والبعد، وبين آثار الطاعات والمعاصي تعاقب وتضادّ كما قال تعالى:( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( اتّبع السيّئة الحسنة تمحقها ) والآثام تمحيصات للذنوب، ولذلك قالعليه‌السلام : إنّ الرجل ليثاب حتّى بالشوكة تصيب رجله، وقالعليه‌السلام : الحدود كفّارات.

فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انمحاء أثر النور الّذي كان في قلبه من الطاعات الّتي كان عملها، والمظلوم يتألّم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيّئآت الّتي أورثت ظلمة في قلبه فيتنوّر قلبه نوع تنوّر، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، وما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم وهذا معنى نقل الحسنات والسيّئآت.

فإن قال قائل: ليس هذا نقلاً حقيقيّاً إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم وحدوث نور آخر في قلب المظلوم، وبطلان الظلمة من قلب المظلوم وحدوث ظلمة اُخرى في قلب الظالم وليس هذا نقلاً حقيقة.

قلنا إسم النقل قد يطلق على مثل هذا الأمر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل الظلّ من موضع إلى موضع آخر، وانتقل نور الشمس أو السراج من الأرض إلى الحائط إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلّا أنّه كنّى بالطاعة عن ثوابها كما يكنّى بالسبب عن المسبّب، وسمّى إثبات الوصف في محلّ وإبطال مثله في محلّ آخر بالنقل، وكلّ ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخّصاً.

١٨٧

أقول: محصّل ما أفاده أنّ إطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حقّ أيّ القاتل والمقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لأثر الطاعة في القلب واستعارة اسم النقل لإمحاء شئ وإثبات شئ آخر في محلّ آخر، وإذا اطّرد هذا الوجه في سائر أحكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات، وقد عرفت أنّه سبحانه قرّر هذه الأحكام على ما يراه العقل العمليّ الاجتماعيّ، ويبني عليه أحكامه من المصالح والمفاسد، ولاريب أنّ هذه الأحكام العقليّة إنّما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلاً بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل وما يشبه ذلك باعتقاد أنّ الجرم عين الجرم والحسنة عين الحسنة وهكذا.

هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الّذي هو موطن أحكام العقل العمليّ، وأمّا بالنسبة إلى غير هذا الظرف وهو ظرف الحقائق فالجميع مجازات إلّا بحسب التحليل بمعنى أنّ نفس هذه المفاهيم لمّا كانت مفاهيم اعتباريّة مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى والتشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك.

ومن احكام الاعمال: أنّها محفوظة مكتوبة متجسّمة كما قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) آل عمران - ٣٠، وقال تعالى:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) الاسراء - ١٣، وقال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) يس - ١٢، وقال تعالى:( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق - ٢٢، وقد مرّ البحث عن تجسّم الأعمال.

ومن أحكام الاعمال: أنّ بينها وبين الحوادث الخارجيّة ارتباطاً، ونعني بالأعمال الحسنات والسيّئآت الّتي هي عناوين الحركات الخارجيّة دون الحركات والسكنات الّتي هي آثار الأجسام الطبيعيّة فقد قال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى - ٣٠، وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ) الرعد - ١١، وقال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الأنفال -

١٨٨

٥٣، والآيات ظاهرة في أنّ بين الأعمال والحوادث ارتباطاً ما شرّاً أو خيراً.

ويجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف - ٩٦، وقوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم - ٤١.

فالحوادث الكونيّة تتبع الأعمال بعض التبعيّة، فجرى النوع الإنسانيّ على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الّذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، وانفتاح أبواب البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبوديّة، وتمادّيّه في الغيّ والضلالة وفساد النيّات وشناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البرّ والبحر وهلاك الاُمم بفشوّ الظلم وارتفاع الأمن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الإنسان وأعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونيّة كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك، وقد عدّ الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل.

فالاُمّة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيّئآت أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى:( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) المؤمن - ٢١، وقال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) الاسراء - ١٦، وقال تعالى:( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) المؤمنون - ٤٤، هذا كلّه في الاُمّة الطالحة، والاُمّة الصالحة على خلاف ذلك.

والفرد كالاُمّة يؤخذ بالحسنة والسيّئة والنقم والمثلات غير أنّ الفرد ربّما ينعم بنعمة أسلافه كما أنّه يؤخذ بمظالم غيره كابآئه وأجداده، قال تعالى حكاية عن يوسفعليه‌السلام :( قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ

١٨٩

أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) يوسف - ٩٠، والمراد به ما أنعم الله عليه من الملك والعزّة وغيرهما، وقال تعالى:( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ) القصص - ٨١، وقال تعالى:( وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) مريم - ٥٠، وكأنّه الذرّيّة الصالحة المنعّمة كما قال تعالى:( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) الزخرف - ٢٨، وقال تعالى:( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) الكهف - ٨٢، وقال تعالى:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) النساء - ٩، والمراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه.

وبالجملة إذا أفاض الله نعمة على اُمّة أو على فرد من أفراد الإنسان فإن كان المنعم عليه صالحاً كان ذلك نعمةً أنعمها عليه وامتحاناً يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول:( قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) النمل - ٤٠، وقال تعالى:( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم - ٧، والآية كسابقتها تدلّ على أنّ نفس الشكر من الأعمال الصالحة الّتي تستتبع النعم.

وإن كان المنعم عليه طالحاً كانت النعمة مكراً في حقّه واستدراجاً وإملائاً يملى عليه كما قال تعالى:( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) الأنفال - ٣٠، وقال تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) القلم - ٤٥، وقال تعالى:( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) الدخان - ١٧.

وإذا اُنزلت النوازل وكرّت المصائب والبلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحاً كان ذلك فتنة ومحنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيّب، وكان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة والمحكّ، قال تعالى:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) العنكبوت - ٤ وقال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ) آل عمران - ١٤٠.

وإن كان المصاب طالحاً كان ذلك أخذاً بالنقمة وعقاباً بالأعمال، والآيات السابقة

١٩٠

دالّة على ذلك.

فهذا حكم العمل يظهر في الكون ويعود إلى عامله، وأمّا قوله تعالى:( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) الزخرف - ٣٥، فغير ناظر إلى هذا الباب بل المراد به (والله أعلم) ذمّ الدنيا ومتاعها وأنّها لا قدر لها ولمتاعها عند الله سبحانه، ولذلك يؤثر للكافر، وأنّ القدر للآخرة ولو لا أنّ أفراد الإنسان أمثال والمساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصّها الله بالكافر.

فإن قيل: الحوادث العامّة والخاصّة كالسيول والزلازل والأمراض المسرية والحروب والأجداب لها علل طبيعيّة مطّردة إذا تحقّقت تحقّقت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، وعليه فلا محلّ للتعليل بالأعمال الحسنة والسيّئة بل هو فرضيّة دينيّة، وتقدير لا يطابق الواقع.

قلت: هذا إشكال فلسفيّ غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيريّ المتعلّق بما يستفاد من كلامه تعالى وسنتعرّض له تفصيلاً في بحث فلسفيّ على حدة في تفسير قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) الاعراف - ٩٦.

وجملة القول فيه: أنّ الشبهة ناشئة عن سوء الفهم وعدم التنبّه لمقاصد القرآن وأهله، فهم لا يريدون بقولهم:( إنّ الأعمال حسنة كانت أو سيّئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيراً أو شرّاً ) ، إبطال العلل الطبيعيّة وإنكار تأثيرها، ولا تشريك الأعمال مع العوامل المادّيّة، كما أنّ اللهيّين لا يريدون بإثبات الصانع إبطال قانون العلّيّة والمعلوليّة العامّ وإثبات الاتّفاق والمجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعيّة واستناد بعض الاُمور إليه والبعض الآخر إليها، بل مرادهم إثبات علّة في طول علّة، وعامل معنويّ فوق العوامل المادّيّة، وإسناد التأثير إلى كلتا العلّتين لكن بالترتيب: أوّلاً وثانياً، نظير الكتابة المنسوبة إلى الإنسان وإلى يده.

١٩١

ومغزى الكلام: هو أنّ سائق التكوين يسوق الإنسان إلى سعادته الوجوديّة وكماله الحيويّ كما مرّ الكلام فيه في البحث عن النبوّة العامّة، ومن المعلوم أنّ من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الأعمال، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقّفه أو إشراف سائره إلى الهلاك والبوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدنيّ يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من أعضائه فإن وفّق له أصلح المحلّ وإن عجز عنه تركه مفلّجاً لا يستفاد به.

وقد دلّت المشاهدة والتجربة على أنّ الصنع والتكوين جهّز كلّ موجود نوعيّ بما يدفع به الآفات والفسادات المتوجّهة إليه، ولا معنى لاستثناء الإنسان في نوعه وفرده عن هذه الكلّيّة! ودلّتا أيضاً على أنّ التكوين يعارض كلّ موجود نوعيّ باُمور غير ملائمة تدعوه إلى إعمال قواه الوجوديّة ليكمل بذلك في وجوده ويوصله إلى غايته وسعادته الّتي هيّأها له، فما بال الإنسان لا يعتنى في شأنه بذلك؟

وهذا هو الّذي يدلّ عليه قوله تعالى( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الدخان - ٣٩، وقوله تعالى:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ص - ٢٧، فكما أنّ صانعاً من الصنّاع إذا صنع شيئاً لعباً ومن غير غاية مثلاً انقطعت الرابطة بينه وبين مصنوعه بمجرّد إيجاده، ولم يبال: إلى ما يؤل أمره؟ وماذا يصادفه من الفساد والآفة؟ لكنّه لو صنعه لغاية كان مراقباً لأمره شاهداً على رأسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية الّتي صنعه لأجلها وركّب أجزائه للوصول إليها أصلح حاله وتعرّض لشأنه بزيادة ونقيصة أو بإبطاله من رأس وتحليل تركيبه والعود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السماوات والأرض وما بينهما ومن جملتها الإنسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثاً، ولم يوجده هبائاً، بل للرجوع إليه كما قال تعالى:( فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون - ١١٥، وقال تعالى:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم - ٤٢، ومن الضروريّ حينئذ أن تتعلّق العناية الربّانيّة

١٩٢

إلى إيصال الإنسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة والإرشاد، ثمّ بالامتحان والابتلاء، ثمّ بإهلاك من بطل في حقّه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية، فإنّ في ذلك إتقاناً للصنع في الفرد والنوع وختماً للأمر في اُمّة وإراحة لآخرين، قال تعالى:( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) الانعام - ١٣٣، (أنظر إلى موضع قوله تعالى: وربّك الغنيّ ذو الرحمة).

وهذه السنّة الربّانيّة أعني سنّة الابتلاء والانتقام هي الّتي أخبر الله عنها أنّها سنّة غير مغلوبة ولا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) الشورى - ٣١، وقال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧٣.

ومن أحكام الاعمال من حيث السعادة والشقاء: أنّ قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، ومن خواصّ قبيل السعادة كلّ صفة وخاصّة جميلة كالفتح والظفر والثبات والاستقرار والأمن والتأصّل والبقاء، كما أنّ مقابلاتها من الزهوق والبطلان والتزلزل والخوف والزوال والمغلوبيّة وما يشاكلها من خواصّ قبيل الشقاء.

والآيات القرآنيّة في هذا المعنى كثيرة متكثّرة، ويكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلاً:( كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقوله تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، وقوله تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢، وقوله تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧٣، وقوله تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يوسف - ٢١، إلى غير ذلك من الآيات.

١٩٣

وتذييل الكلام في هذه الآية الأخيرة بقوله: ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، مشعر بأنّ هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون بها، ولو كانت هي الغلبة الحسّيّة الّتي يعرفها كلّ أحد لم يجهلها الأكثرون، وإنّما جهلها من جهلها، وأنكرها من أنكرها من جهتين:

الأولى: أنّ الإنسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه ممّا يشهده ولا يغيب عنه، يتكلّم عن الحال ويغفل عن المستقبل، ويحسب دولة يوم دولة، ويعدّ غلبة ساعة غلبة، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياساً يحكم به على عامّة الوجود، لكنّ الله سبحانه، وهو المحيط بالزمان والمكان، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيّوم على كلّ شئ إذا حكم حكم فصلاً، وإذا قضى قضى حقّاً، والاُولى، والعقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتاً، ولا يعجل في أمر، فمن الممكن (بل الواقع ذلك) أن يقدّر فساد يوم مقدّمة يتوسّل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح اُمّة، فيظنّ الجاهل أنّ الأمر أعجزه تعالى وأنّ الله سبحانه مسبوقٌ مغلوب (ساء ما يحكمون)، لكنّ الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، ويحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العليّ العظيم، قال تعالى:( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) آل عمران - ١٩٦.

والثانية: أنّ غلبة المعنويّات غير غلبة الجسمانيّات، فإنّ غلبة الجسمانيّات وقهرها أن تتسلّط على الأفعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرّيّة الاختيار، وبسط الكره والإجبار كما كان ذلك دأب المتغلّبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقاً، ويأسرون آخرين، ويفعلون ما يشائون بالتحكّم والتهكّم، وقد دلّ التجارب وحكم البرهان على أنّ الكره والقسر لا يدوم، وأنّ سلطة الأجانب لا يستقرّ على الاُمم الحيّة استقراراً مؤبّداً، وإنّما هي رهينة أيّام قلائل.

وأمّا غلبة المعنويّات فبأن توجد لها قلوب تستكنّها، وبأن تربّى أفراداً تعتقدها

١٩٤

وتؤمن بها، فليس فوق الإيمان التامّ درجة ولا كإحكامه حصن، فإذا استقرّ الإيمان بمعنى من المعاني فإنّه سوف يظهر دهراً وإن استخفى يوماً أو برهة، ولذلك نجد أنّ الدول المعظّمة والمجامع الحيّة اليوم تعتني بشأن التبليغ أكثر ممّا تعتني بشأن العدّة والقوّة فسلاح المعنى أشدّ بأساً.

هذا في المعنويّات الصوريّة الوهميّة الّتي بين الناس في شؤونهم الإجتماعيّة الّتي لا تتجاوز حدّ الخيال والوهم، وأمّا المعنى الحقّ الّذي يدعو إليه سبحانه فإنّ أمره أوضح وأبين.

فالحقّ من حيث نفسه لا يقابل إلّا الضلال والباطل، وما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال، ومن المعلوم أنّ الباطل لا يقاوم الحقّ فالغلبة لحجّة الحقّ على الباطل.

والحقّ من حيث تأثيره وإيصاله إلى الغاية أيضاً غير مختلف ولا متخلّف، فإنّ المؤمن لو غلب على عدوّ الحقّ في ظاهر الحياة كان فائزاً مأجوراً، وإن غلب عليه عدوّ الحقّ، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره والاضطرار، ووافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى:( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آل عمران - ٢٨، وإن قتله كان ذلك له حياة طيّبة لا موتاً، قال تعالى:( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ ) البقرة - ١٥٤.

فالمؤمن منصور غير مغلوب أبداً، إمّا ظاهراً وباطناً، وإمّا باطناً فقط، قال تعالى:( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) التوبة - ٥٢.

ومن هنا يظهر: أنّ الحقّ هو الغالب في الدنيا ظاهراً وباطناً معاً، أمّا ظاهراً: فإنّ الكون كما عرفت يهدي النوع الإنسانيّ هداية تكوينيّة إلى الحقّ والسعادة، وسوف يبلغ غايته، فإنّ الظهور المترائى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، وإنّما هو مقدّمة لظهور الحقّ ولمّا ينقض سلسلة الزمان ولمّا يفن الدهر، والنظام الكونيّ غير مغلوب البتّة، وأمّا باطناً: فلمّا عرفت أنّ الغلبة لحجّة الحقّ.

وأمّا أنّ لحقّ القول الفعل كلّ صفة جميلة كالثبات والبقاء والحسن، ولباطل القول والفعل كلّ صفة ذميمة كالتزلزل والزوال والقبح والسوء فوجهه ما أشرنا إليه في

١٩٥

سابق الأبحاث: أنّ المستفاد من قوله تعالى:( ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) المؤمن - ٦٢، وقوله تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة - ٧، وقوله تعالى:( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) النساء - ٧٩، أنّ السيّئآت أعدام وبطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الّذي هو الخالق الفاطر المفيض للوجود بخلاف الحسنات، ولذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كلّ جمال وحسن، ومنبع كلّ خير وسعادة كالثبات والبقاء، والبركة والنفع دون السيّئ من القول والفعل، قال تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الرعد- ١٩.

ومن أحكام الاعمال: أنّ الحسنات من الأقوال والأفعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيّئآت من الأفعال والأقوال، وقد مرّ أنّ الله سبحانه وضع ما بيّنه للناس على أساس العقل (ونعني بالعقل ما يدرك به الإنسان الحقّ والباطل، ويميّز به الحسن من السيّئ).

ولذلك أوصى باتّباعه ونهى عن كلّ ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر والقمار واللهو والغشّ والغرر في المعاملات، وكذا نهى عن الكذب والافتراء والبهتان والخيانة والفتك وجميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإنّ هذه الأفعال والأعمال توجب خبط العقل الإنسانيّ في عمله وقد ابتنيت الحياة الإنسانيّة على سلامة الإدراك والفكر في جميع شئون الحياة الفرديّة والإجتماعيّة.

وأنت إذا حلّلت المفاسد الإجتماعيّة والفرديّة حتّى في المفاسد المسلّمة الّتي لا ينكرها منكرٌ وجدت أنّ الأساس فيها هي الأعمال الّتي يبطل بها حكومة العقل، وأنّ بقيّة المفاسد وإن كثرت وعظمت مبنيّة عليها، ولتوضيح الأمر في هذا المقام محلّ آخر سيأتي إنشاء الله تعالى.

١٩٦

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: كنت رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا ابن عبّاس أرض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك فإنّ ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين وقد قرأت القرآن؟ قال وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

اقول: وفي الرواية إشعار بأنّ التقدير يعمّ التشريع والتكوين وإنّما يختلف باختلاف الاعتبار، وأمّا كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، وقد مرّ أنّ عسى في القرآن بمعناه اللّغويّ وهو الترجّي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسّرين: كلّ شئ في القرآن عسى فإنّ عسى من الله واجب! وأعجب منه ما نقل عن بعض آخر: أنّ كلّ شئ من القرآن عسى فهو واجب إلّا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربّه إن طلقكنّ، وفي بني إسرائيل عسى ربّكم أن يرحمكم.

وفي الدرّ المنثورأيضاً: أخرج ابن جرير من طريق السدّي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سريّة وفيهم سبعة نفر عليهم عبدالله بن جحش الأسدي، وفيهم عمّار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقّاص، وعتبة بن صفوان السلّميّ حليف لبنى نوفل، وسهل بن بيضآء، وعامر بن فهيرة. وواقد بن عبدالله اليربوعيّ حليف لعمر بن الخطّاب، وكتب مع ابن جحش كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتّى ينزل ملل فلمّا نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه أن سر حتّى تنزل بطن نخلة فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإنّي موص وماض لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقّاص، وعتبة بن غزوان، أضلّا راحلة لهما، وسار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبدالله بن المغيرة بن عثمان، وعمرو الحضرميّ فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، وعبدالله بن المغيرة وانفلت المغيرة، وقتل عمرو الحضرميّ قتله واقد بن عبدالله فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما

١٩٧

غنموا من الأموال، قال المشركون: محمّد يزعم أنّه يتّبع طاعة الله وهو أوّل من استحلّ الشهر الحرام فأنزل الله:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير ) ٌ لا يحلّ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمّداً، والفتنة وهي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: وصدّ عن سبيل الله وكفر به.

اقول: والروايات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة من طرقهم، وروي هذا المعنى أيضاً في المجمع، وفي بعض الروايات: أنّ السريّة كانت ثمانية تاسعهم أميرهم، وفي الدرّ المنثور أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقيّ من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدالله بن جحش إلى نخلة فقال له: كن بها حتّى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام، وكتب له كتاباً قبل أن يعلمه أنّه يسير، فقال اُخرج أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه، فما أمرتك به فامض له، ولا تستكرهنّ أحداً من أصحابك على الذهاب معك، فلمّا سار يومين فتح الكتاب فإذاً فيه: أن امض حتّى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتّصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين قرء الكتاب: سمعٌ وطاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإنّي ماض لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن كره ذلك منكم فليرجع فإنّ رسول الله قد نهاني أن أستكره منكم أحداً فمضى معه القوم، حتّى إذا كانوا بنجران أضلّ سعد بن أبي وقّاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا عليه يطلبانه، ومضى القوم حتّى نزلوا نخلة، فمرّ بهم عمرو بن الحضرميّ والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة بن عبدالله معهم تجارة قد مرّوا بها من الطائف، أدم وزيت، فلمّا رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبدالله وكان قد حلق رأسه فلمّا رأوه حليقاً، قال عمّار: ليس عليكم منه بأس، وائتمر القوم بهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخر يوم من جمادي، فقالوا: لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة مكّة الحرام فليمتنعنّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبدالله التميميّ عمرو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسر

١٩٨

عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وهرب المغيرة فأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئاً، فلمّا قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما قال سقط في أيديهم وظنّوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمّد الدم الحرام وأخذ المال، وأسر الرجال واستحلّ الشهر الحرام، فأنزل الله في ذلك: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلمّا نزل ذلك أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العير وفدى الأسيرين، فقال المسلمون: يا رسول الله! أتطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل الله: إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبدالله بن جحش.

اقول: وفي كون قوله تعالى: إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا الآية، نازلة في أمر أصحاب عبدالله بن جحش روايات اُخر، والآية تدلّ على عذر من فعل فعلاً قربيّاً فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، وتدلّ أيضاً على جواز تعلّق المغفرة بغير مورد الذنب.

وفي الروايات إشارة إلى أنّ المراد بالسائلين في قوله تعالى يسألونك، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، ويؤيّده أيضاً ما مرّ من رواية ابن عبّاس في البحث الروائيّ السابق: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كلّهنّ في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام الرواية، ويؤيّد ذلك أنّ الخطاب في الآية إنّما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم.

١٩٩

( سورة البقرة آية ٢١٩ - ٢٢٠)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢١٩ ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٢٠ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) ، الخمر على ما يستفاد من اللّغة هو كلّ مائع معمول للسكر، والأصل في معناه الستر، وسمّي به لأنّه يستر العقل ولا يدعه يميّز الحسن من القبح والخير من الشرّ، ويقال: لما تغطّي به المرأة رأسها الخمار، ويقال: خمّرت الأناء إذا غطّيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسمّيت الخميرة خميرة لأنّها تعجن أوّلاً ثمّ تغطّى وتخمّر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلّا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثمّ زاد الناس في أقسامه تدريجاً فصارت اليوم أنواعاً كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع خمرٌ.

والميسر لغة هو القمار ويسمّى المقامر ياسراً والأصل في معناه السهولة سمّي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاصّ من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمّى أيضاً: الأزلام والأقلام.

وأمّا كيفيّتة فهي أنّهم كانوا يشترون جزوراً وينحرونه، ثمّ يجزّئونه ثمانية وعشرين جزئاً، ثمّ يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلّى، والمنيح، والسنيح، والرغد، فللفذّ جزء من الثّمانية

٢٠٠

والعشرين جزئاً، وللتوأم جزئان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسةٌ، وللمسبل ستّة، وللمعلّي سبعة، وهو أكثر القداح نصيباً، وأمّا الثلاثة الأخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتمّ هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء والسهام.

قوله تعالى: ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) ، وقرء إثمٌ كثيرٌ بالثاء المثلّثة، والإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حالٌ في الشئ أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الّذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور اُخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاُخرى وهذان على هذه الصفة.

أمّا شرب الخمر فمضرّاته الطبّيّة وآثاره السيّئة في المعدة والأمعاء والكبد والرئة وسلسلة الأعصاب والشرائين والقلب والحواسّ كالباصرة والذائقة وغيرها ممّا ألّف فيه تأليفات من حذّاق الأطّباء قديماً وحديثاً، ولهم في ذلك إحصائآت عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة الّتي يستتبعها هذا السمّ المهلك.

وأمّا مضرّاته الخلقيّة: من تشويه الخلق وتأديته الإنسان إلى الفحش، والإضرار والجنايات، والقتل وإفشآء السرّ، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الإنسانيّة الّتي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصّة ناموس العفّة في الأعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقلّ ما يتّفق جناية من هذه الجنايات الّتي قد ملأت الدنيا ونغّصت عيشة الإنسان إلّا وللخمر فيها صنعٌ مستقيماً أو غير مستقيم.

وأمّا مضرّته في الإدراك وسلبه العقل وتصرّفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان وتغييره مجرى الإدراك حين السكر وبعد الصحو فممّا لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الإثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاُخر.

والشريعة الإسلاميّة كما مرّت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفّظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشدّ النهى كالخمر، والميسر،

٢٠١

والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشدّ الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال وقول الكذب والزور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي الّتي تهدّد الإنسانيّة، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامّة إلّا وهي أمرّ من سابقتها، وكلّما زاد الحمل ثقلاً وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجّة البيضآء والشريعة الغرّاء إلّا البناء على العقل والمنع عمّا يفسده من اتّباع الهوى لكفاها فخراً، وللكلام تتمّة سنتعرّض لها في سورة المائدة انشاء الله.

ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانيّة يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانيّة أسرع من شيوع الحقّ والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشقّ تركها والجرى على نواميس السعادة الإنسانيّة، ولذلك إنّ الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، وكلّفهم بالرفق والإمهال.

ومن جملة تلك العادات الشائعة السيّئة شرب الخمر فقد اُخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبّر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرّات:

إحداها: قوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) الأعراف - ٣٣، والآية مكّيّة حرّم فيها الإثم صريحاً، وفي الخمر إثم غير أنّه لم يبيّن أنّ الإثم ما هو وأنّ في الخمر إثماً كبيراً.

ولعلّ ذلك إنّما كان نوعاً من الإرفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) النحل ٦٧، والآية أيضاً مكّيّة، وكأنّ الناس لم يكونوا متنبهّين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتّى نزلت قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) النساء - ٤٣، والآية مدنيّة وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد.

والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة وآيتى المائدة فإنّهما

٢٠٢

تدلّان على النهي المطلق، ولا معنى للنهى الخاصّ بعد ورود النهى المطلق، على أنّه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإنّ التدريج سلوكٌ من الأسهل إلى الأشقّ لا بالعكس.

ثمّ نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وهذه الآية بعد آية النساء كما مرّ بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعيّة على الإثم في الخمر( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) وتقدّم نزول آية الأعراف المكّيّة الصريحة في تحريم الإثم.

ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإنّ قوله تعالى:( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) لا يدلّ على أزيد من أنّ فيه إثماً والإثم هو الضرر، وتحريم كلّ ضارّ لا يدلّ على تحريم ما فيه مضرّة من جهة ومنفعة من جهة اُخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعاً لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصرّ على شربها آخرون، كأنّهم رأوا أنّهم يتيّسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيداً للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ - إلى قوله تعالى -فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

وجه الفسادأمّا أوّلاً: فإنّه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقاً وليس الإثم هو الضرر ومجرّد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٧، وقوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) المائدة - ٢٩، وقوله تعالى:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) النور - ١١، وقوله تعالى:( وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ) النساء - ١١١، إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا ثانياً: فإنّ الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلّم ذلك فإنّها تعللّه بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النصّ.

٢٠٣

وأمّا ثالثاً: فهب أنّ الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنّها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنيّة قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحاً فما عذر من سمع التحريم في آية مكّيّة حتّى يجتهد في آية مدنيّة.

على أنّ آية الأعراف تدلّ على تحريم مطلق الإثم وهذه الآية قيّدت الإثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أنّ الخمر فرد تامّ ومصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرّم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالإثم ولم يصف الإثم في شئ من ذلك بالكبر إلّا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٨، وبالجملة لا شكّ في دلالة الآية على التحريم.

ثمّ نزلت آيتا المائدة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) المائدة - ٩١، وذيل الكلام يدلّ على أنّ المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلّيّة حتّى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كلّه في الخمر.

وأمّا الميسر: فمفاسده الإجتماعيّة وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرّض لشأنه في سورة المائدة إنشاء الله.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، قد مرّ الكلام في معنى الإثم، وأمّا الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، والكبر يقابل الصغر كما أنّ الكثرة تقابل القلّة، فهما وصفان إضافيّان بمعنى أنّ الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولاصغر كما لا يكون كثرة ولاقلّة، ويشبه أن يكون أوّل ما تنبّه الناس لمعنى الكبر إنّما تنبّهوا له في الأحجام الّتي هي من الكمّيّات المتّصلة وهي جسمانيّة، ثمّ انتقلوا

٢٠٤

من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى:( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) المدّثر - ٣٥، وقال تعالى:( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) الكهف - ٥، وقال تعالى:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) الشورى - ١٣، والعظم في معناه كالكبر، غير أنّ الظاهر أنّ العظمة مأخوذة من العظم الّذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإنّ كبر جسم الحيوان كان راجعاً إلى كبر العظام المركّبة المؤلّفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصّل فأشتقّ منه كالموادّ الأصليّة.

والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الاُمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أنّ الخير والشرّ يطلقان على الاُمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات الماليّة بالبيع والشرى والعمل والتفكّه والتلهّي، ولمّا قوبل ثانياً بين الإثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع وإلغاء جهة الكثرة فيها فإنّ العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: وإثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشئ لتناوله ثمّ أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلاميّة به مجيئه لمعاني مختلفة، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الأثر والعفو بمعنى التوسّط في الإنفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم.

والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مرّ في قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية.

قوله تعالى: ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ - إلى قوله -فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ، الظرف أعني قوله تعالى: في الدنيا والآخرة، متعلّق بقوله: تتفكّرون وليس بظرف له، والمعنى لعلّكم تتفكّرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وأنّ الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقرّكم وهو الدار الآخرة الّتي ترجعون فيه إلى ربّكم فيجازيكم بأعمالكم الّتي عملتموها في الدنيا.

وفي الآيةأوّلاً: حثّ على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكّر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفرديّة و

٢٠٥

الإجتماعيّة، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان وشقاوته.

وثانياً: أنّ القرآن وإن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أيّ شرط وقيد، غير أنّه لا يرضي أن يؤخذ الأحكام والمعارف الّتي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكّر وتعقّل يكشف عن حقيقة الأمر، وتنوّر يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى.

وكأنّ المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام والقوانين، وإيضاح اُصول المعارف والعلوم.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ) ، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثمّ قيل ولو شاء الله لأعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتّى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والأمر على ذلك، فإنّ ههنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) النساء - ١٠ وقوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) النساء - ٢، فالظاهر أنّ الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيّد ماسننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائيّ، وفي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خيرٌ - حيث نكّر الإصلاح - دلالة على أنّ المرضيّ عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كلّ إصلاح ولو كان إصلاحاً في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاحٌ لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلاً -: والله يعلم المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ) ، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعاً بإلغاء جميع الصفات المميّزة الّتي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي

٢٠٦

والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والوليّ القويّ، وبين الغنيّ المثرى والفقير المعدم، وكذا كلّ ناقص وتامّ، وقد قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات - ١٠.

فالّذي تجوّزه الآية في مخالطة الوليّ لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الإجتماعيّة بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ً ) النساء - ٢، وهذه المحاذاة من الشواهد على أنّ في الآية نوعاً من التخفيف والتسهيل كما يدلّ عليه أيضاً ذيلها، وكما يدلّ عليه أيضاً بعض الدلالة قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: أنّ المخالطة إن كانت (وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإنّ ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لاصورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتّى يؤاخذكم بمجرّد المخالطة فإنّ الله سبحانه يميّز المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنّها لمكان تضمينه معنى يميّز، والعنت هو الكلفة والمشقّة.

( بحث روائي)

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال: سأل المهدىّ أبا الحسنعليه‌السلام عن الخمر: هل هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : بل هي محرّمة فقال: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ - إلى ان قال - فأمّا الإثم فإنّها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما

٢٠٧

أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشميّة، فقلت له: صدقت يا أميرالمؤمنين الحمد لله الّذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فو الله ما صبر المهديّ أن قال لى: صدقت يا رافضيّ.

اقول: وقد مرّ ما يتبيّن به معنى هذه الرواية.

وفي الكافي أيضاً عن أبى بصير عن أحدهماعليهما‌السلام قال: إنّ الله جعل للمعصية بيتاً، ثمّ جعل للبيت باباً، ثمّ جعل للباب غلقاً، ثمّ جعل للغلق مفتاحاً، فمفتاح المعصية الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الخمر رأس كلّ إثم.

وفيه عن إسماعيل قال: أقبل أبوجعفرعليه‌السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شابّ منهم: فقال يا عمّ ما أكبر الكبائر؟ قالعليه‌السلام : شرب الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى البلاد عن أحدهماعليهما‌السلام قال: ما عصي الله بشئ أشدّ من شرب المسكر، إنّ أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على اُمّه وابنته، واُخته وهو لا يعقل.

وفي الاحتجاج: سأل زنديق أباعبداللهعليه‌السلام : لم حرّم الله الخمر ولالذّة أفضل منها؟ قال: حرّمها لأنّها أمّ الخبائث ورأس كلّ شرّ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربّه ولا يترك معصية إلّا ركبها الحديث.

اقول: والروايات تفسّر بعضها بعضاً، والتجارب والاعتبار يساعدانها.

وفي الكافي عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومشتريها وآكل ثمنها.

وفي الكافي والمحاسن عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.

اقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى:( وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة - ٣.

٢٠٨

وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقّ، ومنّان، ومكذّب بالقدر، ومدمن خمر.

وفي الأماليّ لابن الشيخ بإسناده عن الصادقعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أقسم ربّي جلّ جلاله لا يشرب عبدٌ لي خمراً في الدنيا إلّا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذّباً بعد أو مغفوراً له. ثمّ قال: إنّ شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودّاً وجهه، مزرقة عيناه، مائلاً شدقه، سائلاً لعابه، والغاً لسانه من قفاه.

وفي تفسير القمّيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: حقّ على الله أن يسقي من يشرب الخمر ممّا يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهنّ صديدٌ، والصديد قيحٌ ودمٌ غليظ يؤذي أهل النار حرّه ونتنه.

اقول: ربّما تأيّدت هذه الروايات بقوله تعالى:( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) الدخان - ٤٩. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.

وفي الكافي عن الوشّا عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.

اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عبّاس: إنّ نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبيّ فقالوا: إنّا لا ندري ما هذه النفقة الّتي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به ولا مالاً يأكل حتّى يتصدّق به.

وفي الدرّ المنثور أيضاً عن يحيى: أنّه بلغه أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا: يارسول الله إنّ لنا أرقّاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله: ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : العفو الوسط.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر والصادقعليه‌السلام : الكفاف. وفي رواية أبي

٢٠٩

بصير: القصد.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.

وفي المجمع عن الباقرعليه‌السلام : العفو ما فضل عن قوت السنة.

اقول: والروايات متوافقة، والأخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في فضل الصدقة وكيفيّتها وموردها وكمّيّتها فوق حدّ الإحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله.

وفي تفسير القمّيّ: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّه لمّا نزلت: إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً، أخرج كلّ من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال: لمّا أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم إلّا بالّتي هي أحسن، وإنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتدّ ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

اقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.

٢١٠

( سورة البقرة آية ٢٢١)

وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٢٢١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) ، قال الراغب في المفردات: أصل النكاح للعقد ثمّ استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثمّ استعير للعقد لأنّ أسماء الجماع، كلّها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، وهو جيّد غير أنّه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجيّة دون العقد اللفظيّ المعهود.

والمشركات اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتّخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنّه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والإيمان، فالقول بتعدّد الإله واتّخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهرٌ وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوّة - وخاصّة - إنّهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه وهو شركٌ، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلّا المخلصون وهو الغفلة عن الله والإلتفات إلى غير الله عزّت ساحته، فكلّ ذلك من الشرك، غير أنّ إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أنّ من ترك من المؤمنين شيئاً من الفرائض فقد كفر به لكنّه لا يسمّى كافراً، قال تعالى:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ - إلى أن قال -وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) آل عمران - ٩٧، وليس تارك الحجّ كافراً بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافرٌ بالحجّ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهّرين، و

٢١١

كالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل الأفعال المشاركة لها في مادّتها، وهو ظاهرٌ فللتوصيف والتسمية حكم، ولإسناد الفعل حكم آخر.

على أنّ لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنّما اُطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفّار كقوله تعالى:( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) البيّنة - ١، وقوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) التوبة - ٢٨، وقوله تعالى:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ) التوبة - ٧، وقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) التوبة - ٣٦، وقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥ إلى غير ذلك من الموارد.

وأمّا قوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) البقرة - ١٣٥، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضاً لهم بل الظاهر أنّهم غيرهم بقرينة قوله تعالى:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) آل عمران - ٦٧، ففي إثبات الحنف لهعليه‌السلام تعريض لأهل الكتاب، وتبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حاقّ الوسط إلى مادّيّة اليهود محضاً أو إلى معنويّة النصارى محضاً بل هوعليه‌السلام غير يهوديّ ولا نصرانيّ ومسلم لله غير متّخذ له شريكاً المشركين عبدة الأوثان.

وكذا قوله تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦، وقوله تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) فصّلت - ٧، وقوله تعالى:( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) النحل - ١٠٠، فإنّ هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعدّ المورد الّذي يصدق وصف الشرك عليه مشركاً غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذّ منهم وهم الأولياء المقرّبون من صالحي عبدالله.

فقد ظهر من هذا البيان على طوله: أنّ ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيّين دون أهل الكتاب.

٢١٢

ومن هنا يظهر: فساد القول بأنّ الآية ناسخةٌ لآية المائدة وهي قوله تعالى:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) المائدة - ٦.

أو أنّ الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، وآية الممتحنة أعني قوله تعالى:( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) الممتحنة - ١٠، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأنّ آية المائدة ناسخةٌ لآيتي البقرة والممتحنة.

وجه الفساد: أنّ هذه الآية أعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلّا الكتابيّة فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتّى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن أخذ فيها عنوان الكوافر وهو أعمّ من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإنّ الظاهر أنّ إطلاق الكافر يشمل الكتابيّ بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) البقرة - ٩٨ إلّا أنّ ظاهر الآية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أنّ من آمن من الرجال وتحته زوجةٌ كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أي إبقاؤها على الزوجيّة السابقة إلّا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائيّ للكتابيّة.

ولو سلّم دلالة الآيتين أعني: آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابيّة ابتدائاً لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لأنّ آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبّر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخيّة بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.

على أنّ سورة البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكّة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.

٢١٣

قوله تعالى: ( وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) ، الظاهر أنّ المراد بالاُمّة المؤمنة المملوكة الّتي تقابل الحرّة وقد كان الناس يستذلّون الإماء ويعيّرون من تزوّج بهنّ، فتقييد الاُمّة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الإماء واستذلالهنّ، والتحرّز عن التزوّج بهنّ يدلّ على أنّ المراد أنّ المؤمنة وإن كانت أمة خيرٌ من المشركة وإن كانت حرّة ذات حسب ونسب ومال ممّا يعجب الإنسان بحسب العادة.

وقيل: إنّ المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية أمة الله وعبده، وهو بعيدٌ.

قوله تعالى: ( وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ) الخ، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) ، إشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو أنّ المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزيّنة للكفر والفسوق، والمعمية عن إبصار طريق الحقّ والحقيقة، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى البوار، والسلوك بالأخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار والمؤمنون - بخلافهم - بسلوكهم سبيل الإيمان، وتلبّسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنّة والمغفرة بإذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الإيمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدّي إلى الجنّة والمغفرة.

وكان حقّ الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنّة الخ ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على أنّ المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجوديّة إلى ربّهم، لا يستقلّون في شئ من الاُمور دون ربّهم تبارك وتعالى وهو وليّهم كما قال سبحانه:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٦٨.

وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالدعوة إلى الجنّة والمغفرة هو الحكم المشرّع في صدر الآية بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ الخ، فإنّ جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والاُنس به

٢١٤

إلّا البعد من الله سبحانه، وحثّهم بمخالطة من في مخالطته التقرّب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة أمره ونهيه دعوة من الله إلى الجنّة، ويؤيّد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ويبيّن آياته للناس لعلّهم يتذكّرون، ويمكن أن يراد بالدعوة الأعمّ من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.

( بحث روائي)

في المجمع في الآية: نزلت في مرئد بن أبى مرئد الغنويّ بعثه رسول الله إلى مكّة ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان قويّاً شجاعاً، فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى وكانت بينهما خلّة في الجاهليّة، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال: حتّى أستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجع استأذن في التزوّج بها.

اقول: وروي هذا المعنى السيوطيّ في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس.

وفي الدرّ المنثور أخرج الواحديّ من طريق السديّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس في هذه الآية: ولأمة مؤمنة خير من مشركة، قال. نزلت في عبدالله بن رواحة وكانت له أمة سودآء وإنّه غضب عليها فلطمها ثمّ إنّه فزع فأتي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره خبرها، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ماهي يا عبدالله؟ قال: تصوم وتصلّي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله فقال يا عبدالله، هذه مؤمنة فقال عبدالله: فو الّذي بعثك بالحقّ لاُعتقها ولأتزوّجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمةً، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبةً في أحسابهم فأنزل الله فيهم: ولأمة مؤمنة خير من مشركة.

وفيه أيضاً عن مقاتل في الآية ولأمة مؤمنة، قال بلغنا أنّها كانت أمة لحذيفة فأعتقها وتزوّجها حذيفة.

اقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول لجواز وقوع عدّة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، وهنا روايات متعارضة مرويّة في كون قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ، الآية ناسخاً لقوله تعالى: والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخاً به، ستمرّ بك في تفسير الآية من سورة المائدة.

٢١٥

( سورة البقرة آية ٢٢٢ - ٢٢٣)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( ٢٢٢ ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٢٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) الخ المحيض مصدر كالحيض يقال: حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصّة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.

والأذى هو الضرر على ما قيل، لكنّه لا يخلو عن نظر، فإنّه لو كان هو الضرر بعينه لصحّ مقابلته مع النفع كما أنّ الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضرّ وضارّ، ولو قيل دواء موذٍ أفاد معنى آخر، وأيضاً قال تعالى:( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ) آل عمران - ١١١، ولو قيل لن يضرّوكم إلّا ضرراً لفسد الكلام، وأيضاً كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) الأحزاب - ٥٧، وقوله تعالى:( لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) الصفّ - ٥، فالظاهر أنّ الأذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.

وتسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلاً من عمل خاصّ من طبعها يؤثّر به في مزاج الدم الطبيعيّ الّذي يحصّله جهاز التغذية فيفسد مقداراً منه عن الحال الطبيعيّ وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللّبن للإرضاع، وأمّا على قولهم: إنّ الأذى هو الضرر فقد قيل: إنّ المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن إتيانهنّ في هذه الحال فاُجيب بأنّه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الأطبّاء أنّ الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم و

٢١٦

إعداده للحمل، والوقاع يختلّ به نظام هذا العمل فيضرّ بنتائج هذا العمل الطبيعيّ من الحمل وغيره.

قوله تعالى: ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ ) ، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنّب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزّته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدّى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محلّ الدم على ما سنبيّن.

وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتّى: فكانت اليهود تشدّد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهنّ في المحيض، وأمر من قرب منهنّ في المجلس والمضجع والمسّ وغيره ذلك، وأمّا النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهنّ أو الاقتراب منهنّ بوجه، وأمّا المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير أنّ العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهنّ في هذه الحال، وغيرهم ربّما كانوا يستحبّون إتيان النساء في المحيض ويعتقدون أنّ الولد المرزوق حينئذ يصير سفّاحاً ولوعاً في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويّين.

وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وإن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكّده قوله تعالى ثانياً: ولا تقربوهنّ، إلّا أنّ قوله تعالى أخيراً فأتوهنّ من حيث أمركم الله - ومن المعلوم أنّه محلّ الدم - قرينة على أنّ قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الإتيان من محلّ الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتّع والاستلذاذ.

فالإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقاً وسطاً بين التشديد التامّ الّذي عليه اليهود والإهمال المطلق الّذي عليه النصارى، وهو المنع عن إتيان محلّ الدم والإذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه أنّ المحيض الأوّل أريد به المعنى المصدريّ والثاني زمان الحيض

٢١٧

فالثاني غير الأوّل، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) ، الطهارة - وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملّة الإسلام ذات أحكام وخواصّ مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينيّة، وقد صار اللّفظان بكثرة الاستعمال من الحقائق الشرعيّة أو المتشرّعة على ما اصطلح عليه في فنّ الاُصول.

وأصل الطهارة بحسب المعنى ممّا يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنّها من المعاني الّتي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.

فإنّ أساس الحياة مبنيّ على التصرّف في المادّيّات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كلّ شئ بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصّيّة والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذّي والتوليد.

وربّما عرض للشئ عارض يوجب تغيّره عمّا كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللّون، فأوجب ذلك تنفّر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمّى بالنجاسة وبها يستقذر الإنسان الشئ فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاُولي من الفائدة والجدوى الّذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديّان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفةً توجب كراهتها واستقذارها.

وقد كان أوّل ما تنبّه الإنسان لهذيين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثمّ أخذ في تعميمها للاُمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالأنساب والأفعال والأخلاق والعقائد والأقوال.

هذا ملخّص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأمّا النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أنّ النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختصّ استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد،

٢١٨

وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصّان بالمعقولات والمعنويّات، وأمّا القذارة والرجس فلفظان قريباً المعنى من النجاسة، لكنّ الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذرور تترك ناحية من الإبل وتستبعد ويقال: رجل قاذورةٌ لا يخالّ الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجلٌ مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشئ بالكسر وتقذّرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشئ تبعّد الإنسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكأنّ الأصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعاريّة.

وقد اعتبر الإسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعمّمهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلّيّة، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى:( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْن َ ) الآية، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى:( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) المدّثّر - ٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقال تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) المائدة - ٤١، وقال تعالى:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩.

وقد عدّت الشريعة الإسلاميّة عدّة أشياء نجسةً كالدم والبول والغائط والمنيّ من الإنسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعياناً نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة وفي الأكل وفي الشرب، وقد عدّ من الطهارة أموراً كالطهارة الخبثيّة المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، وكالطهارة الحدثيّة المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقرّرة شرعاً المشروحة في كتب الفقه.

وقد مرّ بيان أنّ الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الأصل الواحد في فروعه.

ومن هنا يظهر: أنّ أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقيّة المعارف الكلّيّة طهارات للإنسان، وبعد ذلك اُصول الأخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة

٢١٩

المذكورة آنفاً كقوله تعالى:( يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) الأحزاب - ٣٣، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.

ولنرجع إلى ماكنّا فيه فقوله تعالى: حتّى يطهرن، أي ينقطع عنهنّ الدم، وهو الطهر بعد الحيض، وقوله تعالى: فإذا تطهّرن أي، يغسلن محلّ الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، أمرٌ يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهيّ البارع، وتقييد الأمر بالإتيان بقوله أمركم الله، لتتميم هذا التأدّب فإنّ الجماع ممّا يعدّ بحسب بادي النظر لغواً ولهواً فقيده بكونه ممّا أمر الله به أمراً تكوينيّاً للدلالة على أنّه ممّا يتمّ به نظام النوع الإنسانيّ في حياته وبقائه فلا ينبغي عدّه من اللغو واللهو بل هو من أصول النواميس التكوينيّة.

وهذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، تماثل قوله تعالى:( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) البقرة - ١٨٧، وقوله تعالى:( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ) البقرة - ٢٢٣، من حيث السياق، فالظاهر أنّ المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكوينيّ المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما أنّ المراد بالكتابة في قوله تعالى: وابتغوا ما كتب الله لكم أيضاً ذلك، وهو ظاهرٌ، ويمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإجاب الكفائيّ المتعلّق بالازدواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائيّة الّتي لا تتمّ حياة النوع إلّا به لكنّه بعيد.

وقد استدلّ بعض المفسّرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهنّ، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنّه مبنيّ إمّا على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهنّ وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجّيّته، وإمّا على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ وهو مقطوع الضعف. على أنّ الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى: فأتوهنّ فهو واقعٌ عقيب الحظر

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481