الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131701 / تحميل: 8010
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

والعشرين جزئاً، وللتوأم جزئان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسةٌ، وللمسبل ستّة، وللمعلّي سبعة، وهو أكثر القداح نصيباً، وأمّا الثلاثة الأخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتمّ هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء والسهام.

قوله تعالى: ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) ، وقرء إثمٌ كثيرٌ بالثاء المثلّثة، والإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حالٌ في الشئ أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الّذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور اُخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاُخرى وهذان على هذه الصفة.

أمّا شرب الخمر فمضرّاته الطبّيّة وآثاره السيّئة في المعدة والأمعاء والكبد والرئة وسلسلة الأعصاب والشرائين والقلب والحواسّ كالباصرة والذائقة وغيرها ممّا ألّف فيه تأليفات من حذّاق الأطّباء قديماً وحديثاً، ولهم في ذلك إحصائآت عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة الّتي يستتبعها هذا السمّ المهلك.

وأمّا مضرّاته الخلقيّة: من تشويه الخلق وتأديته الإنسان إلى الفحش، والإضرار والجنايات، والقتل وإفشآء السرّ، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الإنسانيّة الّتي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصّة ناموس العفّة في الأعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقلّ ما يتّفق جناية من هذه الجنايات الّتي قد ملأت الدنيا ونغّصت عيشة الإنسان إلّا وللخمر فيها صنعٌ مستقيماً أو غير مستقيم.

وأمّا مضرّته في الإدراك وسلبه العقل وتصرّفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان وتغييره مجرى الإدراك حين السكر وبعد الصحو فممّا لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الإثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاُخر.

والشريعة الإسلاميّة كما مرّت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفّظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشدّ النهى كالخمر، والميسر،

٢٠١

والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشدّ الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال وقول الكذب والزور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي الّتي تهدّد الإنسانيّة، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامّة إلّا وهي أمرّ من سابقتها، وكلّما زاد الحمل ثقلاً وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجّة البيضآء والشريعة الغرّاء إلّا البناء على العقل والمنع عمّا يفسده من اتّباع الهوى لكفاها فخراً، وللكلام تتمّة سنتعرّض لها في سورة المائدة انشاء الله.

ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانيّة يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانيّة أسرع من شيوع الحقّ والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشقّ تركها والجرى على نواميس السعادة الإنسانيّة، ولذلك إنّ الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، وكلّفهم بالرفق والإمهال.

ومن جملة تلك العادات الشائعة السيّئة شرب الخمر فقد اُخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبّر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرّات:

إحداها: قوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) الأعراف - ٣٣، والآية مكّيّة حرّم فيها الإثم صريحاً، وفي الخمر إثم غير أنّه لم يبيّن أنّ الإثم ما هو وأنّ في الخمر إثماً كبيراً.

ولعلّ ذلك إنّما كان نوعاً من الإرفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) النحل ٦٧، والآية أيضاً مكّيّة، وكأنّ الناس لم يكونوا متنبهّين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتّى نزلت قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) النساء - ٤٣، والآية مدنيّة وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد.

والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة وآيتى المائدة فإنّهما

٢٠٢

تدلّان على النهي المطلق، ولا معنى للنهى الخاصّ بعد ورود النهى المطلق، على أنّه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإنّ التدريج سلوكٌ من الأسهل إلى الأشقّ لا بالعكس.

ثمّ نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وهذه الآية بعد آية النساء كما مرّ بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعيّة على الإثم في الخمر( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) وتقدّم نزول آية الأعراف المكّيّة الصريحة في تحريم الإثم.

ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإنّ قوله تعالى:( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) لا يدلّ على أزيد من أنّ فيه إثماً والإثم هو الضرر، وتحريم كلّ ضارّ لا يدلّ على تحريم ما فيه مضرّة من جهة ومنفعة من جهة اُخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعاً لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصرّ على شربها آخرون، كأنّهم رأوا أنّهم يتيّسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيداً للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ - إلى قوله تعالى -فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

وجه الفسادأمّا أوّلاً: فإنّه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقاً وليس الإثم هو الضرر ومجرّد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٧، وقوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) المائدة - ٢٩، وقوله تعالى:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) النور - ١١، وقوله تعالى:( وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ) النساء - ١١١، إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا ثانياً: فإنّ الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلّم ذلك فإنّها تعللّه بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النصّ.

٢٠٣

وأمّا ثالثاً: فهب أنّ الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنّها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنيّة قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحاً فما عذر من سمع التحريم في آية مكّيّة حتّى يجتهد في آية مدنيّة.

على أنّ آية الأعراف تدلّ على تحريم مطلق الإثم وهذه الآية قيّدت الإثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أنّ الخمر فرد تامّ ومصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرّم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالإثم ولم يصف الإثم في شئ من ذلك بالكبر إلّا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٨، وبالجملة لا شكّ في دلالة الآية على التحريم.

ثمّ نزلت آيتا المائدة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) المائدة - ٩١، وذيل الكلام يدلّ على أنّ المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلّيّة حتّى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كلّه في الخمر.

وأمّا الميسر: فمفاسده الإجتماعيّة وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرّض لشأنه في سورة المائدة إنشاء الله.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، قد مرّ الكلام في معنى الإثم، وأمّا الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، والكبر يقابل الصغر كما أنّ الكثرة تقابل القلّة، فهما وصفان إضافيّان بمعنى أنّ الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولاصغر كما لا يكون كثرة ولاقلّة، ويشبه أن يكون أوّل ما تنبّه الناس لمعنى الكبر إنّما تنبّهوا له في الأحجام الّتي هي من الكمّيّات المتّصلة وهي جسمانيّة، ثمّ انتقلوا

٢٠٤

من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى:( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) المدّثر - ٣٥، وقال تعالى:( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) الكهف - ٥، وقال تعالى:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) الشورى - ١٣، والعظم في معناه كالكبر، غير أنّ الظاهر أنّ العظمة مأخوذة من العظم الّذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإنّ كبر جسم الحيوان كان راجعاً إلى كبر العظام المركّبة المؤلّفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصّل فأشتقّ منه كالموادّ الأصليّة.

والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الاُمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أنّ الخير والشرّ يطلقان على الاُمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات الماليّة بالبيع والشرى والعمل والتفكّه والتلهّي، ولمّا قوبل ثانياً بين الإثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع وإلغاء جهة الكثرة فيها فإنّ العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: وإثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشئ لتناوله ثمّ أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلاميّة به مجيئه لمعاني مختلفة، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الأثر والعفو بمعنى التوسّط في الإنفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم.

والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مرّ في قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية.

قوله تعالى: ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ - إلى قوله -فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ، الظرف أعني قوله تعالى: في الدنيا والآخرة، متعلّق بقوله: تتفكّرون وليس بظرف له، والمعنى لعلّكم تتفكّرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وأنّ الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقرّكم وهو الدار الآخرة الّتي ترجعون فيه إلى ربّكم فيجازيكم بأعمالكم الّتي عملتموها في الدنيا.

وفي الآيةأوّلاً: حثّ على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكّر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفرديّة و

٢٠٥

الإجتماعيّة، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان وشقاوته.

وثانياً: أنّ القرآن وإن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أيّ شرط وقيد، غير أنّه لا يرضي أن يؤخذ الأحكام والمعارف الّتي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكّر وتعقّل يكشف عن حقيقة الأمر، وتنوّر يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى.

وكأنّ المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام والقوانين، وإيضاح اُصول المعارف والعلوم.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ) ، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثمّ قيل ولو شاء الله لأعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتّى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والأمر على ذلك، فإنّ ههنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) النساء - ١٠ وقوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) النساء - ٢، فالظاهر أنّ الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيّد ماسننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائيّ، وفي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خيرٌ - حيث نكّر الإصلاح - دلالة على أنّ المرضيّ عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كلّ إصلاح ولو كان إصلاحاً في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاحٌ لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلاً -: والله يعلم المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ) ، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعاً بإلغاء جميع الصفات المميّزة الّتي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي

٢٠٦

والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والوليّ القويّ، وبين الغنيّ المثرى والفقير المعدم، وكذا كلّ ناقص وتامّ، وقد قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات - ١٠.

فالّذي تجوّزه الآية في مخالطة الوليّ لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الإجتماعيّة بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ً ) النساء - ٢، وهذه المحاذاة من الشواهد على أنّ في الآية نوعاً من التخفيف والتسهيل كما يدلّ عليه أيضاً ذيلها، وكما يدلّ عليه أيضاً بعض الدلالة قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: أنّ المخالطة إن كانت (وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإنّ ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لاصورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتّى يؤاخذكم بمجرّد المخالطة فإنّ الله سبحانه يميّز المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنّها لمكان تضمينه معنى يميّز، والعنت هو الكلفة والمشقّة.

( بحث روائي)

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال: سأل المهدىّ أبا الحسنعليه‌السلام عن الخمر: هل هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : بل هي محرّمة فقال: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ - إلى ان قال - فأمّا الإثم فإنّها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما

٢٠٧

أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشميّة، فقلت له: صدقت يا أميرالمؤمنين الحمد لله الّذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فو الله ما صبر المهديّ أن قال لى: صدقت يا رافضيّ.

اقول: وقد مرّ ما يتبيّن به معنى هذه الرواية.

وفي الكافي أيضاً عن أبى بصير عن أحدهماعليهما‌السلام قال: إنّ الله جعل للمعصية بيتاً، ثمّ جعل للبيت باباً، ثمّ جعل للباب غلقاً، ثمّ جعل للغلق مفتاحاً، فمفتاح المعصية الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الخمر رأس كلّ إثم.

وفيه عن إسماعيل قال: أقبل أبوجعفرعليه‌السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شابّ منهم: فقال يا عمّ ما أكبر الكبائر؟ قالعليه‌السلام : شرب الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى البلاد عن أحدهماعليهما‌السلام قال: ما عصي الله بشئ أشدّ من شرب المسكر، إنّ أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على اُمّه وابنته، واُخته وهو لا يعقل.

وفي الاحتجاج: سأل زنديق أباعبداللهعليه‌السلام : لم حرّم الله الخمر ولالذّة أفضل منها؟ قال: حرّمها لأنّها أمّ الخبائث ورأس كلّ شرّ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربّه ولا يترك معصية إلّا ركبها الحديث.

اقول: والروايات تفسّر بعضها بعضاً، والتجارب والاعتبار يساعدانها.

وفي الكافي عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومشتريها وآكل ثمنها.

وفي الكافي والمحاسن عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.

اقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى:( وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة - ٣.

٢٠٨

وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقّ، ومنّان، ومكذّب بالقدر، ومدمن خمر.

وفي الأماليّ لابن الشيخ بإسناده عن الصادقعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أقسم ربّي جلّ جلاله لا يشرب عبدٌ لي خمراً في الدنيا إلّا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذّباً بعد أو مغفوراً له. ثمّ قال: إنّ شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودّاً وجهه، مزرقة عيناه، مائلاً شدقه، سائلاً لعابه، والغاً لسانه من قفاه.

وفي تفسير القمّيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: حقّ على الله أن يسقي من يشرب الخمر ممّا يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهنّ صديدٌ، والصديد قيحٌ ودمٌ غليظ يؤذي أهل النار حرّه ونتنه.

اقول: ربّما تأيّدت هذه الروايات بقوله تعالى:( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) الدخان - ٤٩. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.

وفي الكافي عن الوشّا عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.

اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عبّاس: إنّ نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبيّ فقالوا: إنّا لا ندري ما هذه النفقة الّتي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به ولا مالاً يأكل حتّى يتصدّق به.

وفي الدرّ المنثور أيضاً عن يحيى: أنّه بلغه أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا: يارسول الله إنّ لنا أرقّاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله: ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : العفو الوسط.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر والصادقعليه‌السلام : الكفاف. وفي رواية أبي

٢٠٩

بصير: القصد.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.

وفي المجمع عن الباقرعليه‌السلام : العفو ما فضل عن قوت السنة.

اقول: والروايات متوافقة، والأخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في فضل الصدقة وكيفيّتها وموردها وكمّيّتها فوق حدّ الإحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله.

وفي تفسير القمّيّ: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّه لمّا نزلت: إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً، أخرج كلّ من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال: لمّا أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم إلّا بالّتي هي أحسن، وإنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتدّ ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

اقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.

٢١٠

( سورة البقرة آية ٢٢١)

وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٢٢١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) ، قال الراغب في المفردات: أصل النكاح للعقد ثمّ استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثمّ استعير للعقد لأنّ أسماء الجماع، كلّها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، وهو جيّد غير أنّه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجيّة دون العقد اللفظيّ المعهود.

والمشركات اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتّخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنّه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والإيمان، فالقول بتعدّد الإله واتّخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهرٌ وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوّة - وخاصّة - إنّهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه وهو شركٌ، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلّا المخلصون وهو الغفلة عن الله والإلتفات إلى غير الله عزّت ساحته، فكلّ ذلك من الشرك، غير أنّ إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أنّ من ترك من المؤمنين شيئاً من الفرائض فقد كفر به لكنّه لا يسمّى كافراً، قال تعالى:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ - إلى أن قال -وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) آل عمران - ٩٧، وليس تارك الحجّ كافراً بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافرٌ بالحجّ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهّرين، و

٢١١

كالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل الأفعال المشاركة لها في مادّتها، وهو ظاهرٌ فللتوصيف والتسمية حكم، ولإسناد الفعل حكم آخر.

على أنّ لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنّما اُطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفّار كقوله تعالى:( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) البيّنة - ١، وقوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) التوبة - ٢٨، وقوله تعالى:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ) التوبة - ٧، وقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) التوبة - ٣٦، وقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥ إلى غير ذلك من الموارد.

وأمّا قوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) البقرة - ١٣٥، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضاً لهم بل الظاهر أنّهم غيرهم بقرينة قوله تعالى:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) آل عمران - ٦٧، ففي إثبات الحنف لهعليه‌السلام تعريض لأهل الكتاب، وتبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حاقّ الوسط إلى مادّيّة اليهود محضاً أو إلى معنويّة النصارى محضاً بل هوعليه‌السلام غير يهوديّ ولا نصرانيّ ومسلم لله غير متّخذ له شريكاً المشركين عبدة الأوثان.

وكذا قوله تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦، وقوله تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) فصّلت - ٧، وقوله تعالى:( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) النحل - ١٠٠، فإنّ هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعدّ المورد الّذي يصدق وصف الشرك عليه مشركاً غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذّ منهم وهم الأولياء المقرّبون من صالحي عبدالله.

فقد ظهر من هذا البيان على طوله: أنّ ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيّين دون أهل الكتاب.

٢١٢

ومن هنا يظهر: فساد القول بأنّ الآية ناسخةٌ لآية المائدة وهي قوله تعالى:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) المائدة - ٦.

أو أنّ الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، وآية الممتحنة أعني قوله تعالى:( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) الممتحنة - ١٠، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأنّ آية المائدة ناسخةٌ لآيتي البقرة والممتحنة.

وجه الفساد: أنّ هذه الآية أعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلّا الكتابيّة فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتّى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن أخذ فيها عنوان الكوافر وهو أعمّ من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإنّ الظاهر أنّ إطلاق الكافر يشمل الكتابيّ بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) البقرة - ٩٨ إلّا أنّ ظاهر الآية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أنّ من آمن من الرجال وتحته زوجةٌ كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أي إبقاؤها على الزوجيّة السابقة إلّا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائيّ للكتابيّة.

ولو سلّم دلالة الآيتين أعني: آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابيّة ابتدائاً لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لأنّ آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبّر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخيّة بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.

على أنّ سورة البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكّة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.

٢١٣

قوله تعالى: ( وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) ، الظاهر أنّ المراد بالاُمّة المؤمنة المملوكة الّتي تقابل الحرّة وقد كان الناس يستذلّون الإماء ويعيّرون من تزوّج بهنّ، فتقييد الاُمّة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الإماء واستذلالهنّ، والتحرّز عن التزوّج بهنّ يدلّ على أنّ المراد أنّ المؤمنة وإن كانت أمة خيرٌ من المشركة وإن كانت حرّة ذات حسب ونسب ومال ممّا يعجب الإنسان بحسب العادة.

وقيل: إنّ المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية أمة الله وعبده، وهو بعيدٌ.

قوله تعالى: ( وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ) الخ، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) ، إشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو أنّ المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزيّنة للكفر والفسوق، والمعمية عن إبصار طريق الحقّ والحقيقة، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى البوار، والسلوك بالأخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار والمؤمنون - بخلافهم - بسلوكهم سبيل الإيمان، وتلبّسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنّة والمغفرة بإذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الإيمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدّي إلى الجنّة والمغفرة.

وكان حقّ الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنّة الخ ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على أنّ المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجوديّة إلى ربّهم، لا يستقلّون في شئ من الاُمور دون ربّهم تبارك وتعالى وهو وليّهم كما قال سبحانه:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٦٨.

وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالدعوة إلى الجنّة والمغفرة هو الحكم المشرّع في صدر الآية بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ الخ، فإنّ جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والاُنس به

٢١٤

إلّا البعد من الله سبحانه، وحثّهم بمخالطة من في مخالطته التقرّب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة أمره ونهيه دعوة من الله إلى الجنّة، ويؤيّد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ويبيّن آياته للناس لعلّهم يتذكّرون، ويمكن أن يراد بالدعوة الأعمّ من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.

( بحث روائي)

في المجمع في الآية: نزلت في مرئد بن أبى مرئد الغنويّ بعثه رسول الله إلى مكّة ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان قويّاً شجاعاً، فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى وكانت بينهما خلّة في الجاهليّة، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال: حتّى أستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجع استأذن في التزوّج بها.

اقول: وروي هذا المعنى السيوطيّ في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس.

وفي الدرّ المنثور أخرج الواحديّ من طريق السديّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس في هذه الآية: ولأمة مؤمنة خير من مشركة، قال. نزلت في عبدالله بن رواحة وكانت له أمة سودآء وإنّه غضب عليها فلطمها ثمّ إنّه فزع فأتي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره خبرها، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ماهي يا عبدالله؟ قال: تصوم وتصلّي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله فقال يا عبدالله، هذه مؤمنة فقال عبدالله: فو الّذي بعثك بالحقّ لاُعتقها ولأتزوّجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمةً، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبةً في أحسابهم فأنزل الله فيهم: ولأمة مؤمنة خير من مشركة.

وفيه أيضاً عن مقاتل في الآية ولأمة مؤمنة، قال بلغنا أنّها كانت أمة لحذيفة فأعتقها وتزوّجها حذيفة.

اقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول لجواز وقوع عدّة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، وهنا روايات متعارضة مرويّة في كون قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ، الآية ناسخاً لقوله تعالى: والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخاً به، ستمرّ بك في تفسير الآية من سورة المائدة.

٢١٥

( سورة البقرة آية ٢٢٢ - ٢٢٣)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( ٢٢٢ ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٢٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) الخ المحيض مصدر كالحيض يقال: حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصّة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.

والأذى هو الضرر على ما قيل، لكنّه لا يخلو عن نظر، فإنّه لو كان هو الضرر بعينه لصحّ مقابلته مع النفع كما أنّ الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضرّ وضارّ، ولو قيل دواء موذٍ أفاد معنى آخر، وأيضاً قال تعالى:( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ) آل عمران - ١١١، ولو قيل لن يضرّوكم إلّا ضرراً لفسد الكلام، وأيضاً كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) الأحزاب - ٥٧، وقوله تعالى:( لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) الصفّ - ٥، فالظاهر أنّ الأذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.

وتسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلاً من عمل خاصّ من طبعها يؤثّر به في مزاج الدم الطبيعيّ الّذي يحصّله جهاز التغذية فيفسد مقداراً منه عن الحال الطبيعيّ وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللّبن للإرضاع، وأمّا على قولهم: إنّ الأذى هو الضرر فقد قيل: إنّ المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن إتيانهنّ في هذه الحال فاُجيب بأنّه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الأطبّاء أنّ الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم و

٢١٦

إعداده للحمل، والوقاع يختلّ به نظام هذا العمل فيضرّ بنتائج هذا العمل الطبيعيّ من الحمل وغيره.

قوله تعالى: ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ ) ، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنّب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزّته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدّى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محلّ الدم على ما سنبيّن.

وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتّى: فكانت اليهود تشدّد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهنّ في المحيض، وأمر من قرب منهنّ في المجلس والمضجع والمسّ وغيره ذلك، وأمّا النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهنّ أو الاقتراب منهنّ بوجه، وأمّا المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير أنّ العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهنّ في هذه الحال، وغيرهم ربّما كانوا يستحبّون إتيان النساء في المحيض ويعتقدون أنّ الولد المرزوق حينئذ يصير سفّاحاً ولوعاً في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويّين.

وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وإن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكّده قوله تعالى ثانياً: ولا تقربوهنّ، إلّا أنّ قوله تعالى أخيراً فأتوهنّ من حيث أمركم الله - ومن المعلوم أنّه محلّ الدم - قرينة على أنّ قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الإتيان من محلّ الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتّع والاستلذاذ.

فالإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقاً وسطاً بين التشديد التامّ الّذي عليه اليهود والإهمال المطلق الّذي عليه النصارى، وهو المنع عن إتيان محلّ الدم والإذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه أنّ المحيض الأوّل أريد به المعنى المصدريّ والثاني زمان الحيض

٢١٧

فالثاني غير الأوّل، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) ، الطهارة - وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملّة الإسلام ذات أحكام وخواصّ مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينيّة، وقد صار اللّفظان بكثرة الاستعمال من الحقائق الشرعيّة أو المتشرّعة على ما اصطلح عليه في فنّ الاُصول.

وأصل الطهارة بحسب المعنى ممّا يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنّها من المعاني الّتي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.

فإنّ أساس الحياة مبنيّ على التصرّف في المادّيّات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كلّ شئ بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصّيّة والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذّي والتوليد.

وربّما عرض للشئ عارض يوجب تغيّره عمّا كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللّون، فأوجب ذلك تنفّر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمّى بالنجاسة وبها يستقذر الإنسان الشئ فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاُولي من الفائدة والجدوى الّذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديّان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفةً توجب كراهتها واستقذارها.

وقد كان أوّل ما تنبّه الإنسان لهذيين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثمّ أخذ في تعميمها للاُمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالأنساب والأفعال والأخلاق والعقائد والأقوال.

هذا ملخّص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأمّا النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أنّ النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختصّ استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد،

٢١٨

وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصّان بالمعقولات والمعنويّات، وأمّا القذارة والرجس فلفظان قريباً المعنى من النجاسة، لكنّ الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذرور تترك ناحية من الإبل وتستبعد ويقال: رجل قاذورةٌ لا يخالّ الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجلٌ مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشئ بالكسر وتقذّرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشئ تبعّد الإنسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكأنّ الأصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعاريّة.

وقد اعتبر الإسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعمّمهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلّيّة، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى:( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْن َ ) الآية، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى:( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) المدّثّر - ٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقال تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) المائدة - ٤١، وقال تعالى:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩.

وقد عدّت الشريعة الإسلاميّة عدّة أشياء نجسةً كالدم والبول والغائط والمنيّ من الإنسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعياناً نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة وفي الأكل وفي الشرب، وقد عدّ من الطهارة أموراً كالطهارة الخبثيّة المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، وكالطهارة الحدثيّة المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقرّرة شرعاً المشروحة في كتب الفقه.

وقد مرّ بيان أنّ الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الأصل الواحد في فروعه.

ومن هنا يظهر: أنّ أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقيّة المعارف الكلّيّة طهارات للإنسان، وبعد ذلك اُصول الأخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة

٢١٩

المذكورة آنفاً كقوله تعالى:( يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) الأحزاب - ٣٣، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.

ولنرجع إلى ماكنّا فيه فقوله تعالى: حتّى يطهرن، أي ينقطع عنهنّ الدم، وهو الطهر بعد الحيض، وقوله تعالى: فإذا تطهّرن أي، يغسلن محلّ الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، أمرٌ يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهيّ البارع، وتقييد الأمر بالإتيان بقوله أمركم الله، لتتميم هذا التأدّب فإنّ الجماع ممّا يعدّ بحسب بادي النظر لغواً ولهواً فقيده بكونه ممّا أمر الله به أمراً تكوينيّاً للدلالة على أنّه ممّا يتمّ به نظام النوع الإنسانيّ في حياته وبقائه فلا ينبغي عدّه من اللغو واللهو بل هو من أصول النواميس التكوينيّة.

وهذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، تماثل قوله تعالى:( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) البقرة - ١٨٧، وقوله تعالى:( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ) البقرة - ٢٢٣، من حيث السياق، فالظاهر أنّ المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكوينيّ المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما أنّ المراد بالكتابة في قوله تعالى: وابتغوا ما كتب الله لكم أيضاً ذلك، وهو ظاهرٌ، ويمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإجاب الكفائيّ المتعلّق بالازدواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائيّة الّتي لا تتمّ حياة النوع إلّا به لكنّه بعيد.

وقد استدلّ بعض المفسّرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهنّ، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنّه مبنيّ إمّا على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهنّ وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجّيّته، وإمّا على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ وهو مقطوع الضعف. على أنّ الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى: فأتوهنّ فهو واقعٌ عقيب الحظر

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كانت ربّما استفيد الندب إليها من مثل قوله تعالى:( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم ) المؤمن: ٨٢، وقوله:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) الآية ١٢٢ من السورة إلّا أنّ إرادتها من قوله:( السائحون ) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثاً: أنّ هذه الصفات الشريفة هي الّتى يتمّ بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعيّ بالجنّـة المستتبع للبشارة الإلهيّـة والنبويّـة وهى الملازمة للقيام بحقّ الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

قوله تعالى: ( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى ) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الثانية الّتى تبيّن سبب استغفار ابراهيم لأبيه مع كونه كافراً أنّه تبرّأ منه بعد ذلك لمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله، فدلّ ذلك على أنّ تبيّن كون المشركين أصحاب الجحيم إنّما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازماً لكونهم أعداء لله فإذا تبيّن للنبىّ والّذين آمنوا أنّ المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروريّ وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغواً لا يترتّب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنّه تارة يفرض الله تعالى عدوّاً للعبد مبغضاً له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذلّلاً غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوّاً لله محارباً له مستكبراً مستعلياً كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنّه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلّا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبّس بلباس الذلّة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلّا الهزؤ بمقام الربوبيّـة واللعب بمقام العبوديّـة وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفى الجواز بنفى الحقّ بدليل قوله:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا ) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبيّن لهم كذا وكذا، وقد تقدّم في ذيل قوله

٤٢١

تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) الآية ١٧ من السورة أنّ حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحقّ.

والمعنى أنّ النبيّ والّذين آمنوا بعد ما ظهر وتبيّن بتبيين الله لهم أنّ المشركين أعداء لله مخلّدون في النار لم يكن لهم حقّ يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى منهم، وأمّا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنّه ظنّ أنّه ليس بعدوّ معاند لله وإن كان مشركاً فاستعطفه بوعد وعدها إيّاه فاستغفر له فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله معاند على شركه وضلاله تبرّء منه.

وقوله:( إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنّه تحمّل جفوة أبيه ووعده وعداً حسناً لكونه حليماً واستغفر له لكونه أوّاهاً، والأوّاه هو الكثير التأوّه خوفاً من ربّه وطمعاً فيه.

قوله تعالى: ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) إلى آخر الآيتين الآيتان متّصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين.

أمّا الآية الاُولى أعني قوله:( وما كان الله ليضلّ ) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتّقوا ما بيّن الله لهم أن يتّقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أنّ المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودّد إليهم فعلى المؤمنين أن يتّقوا ذلك وإلّا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدّمناه في تفسير قوله تعالى:( اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) المائدة: ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدّمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) الأنفال: ٥٣ وما في معناه من الآيات، وهى جميعاً تهتف بأنّ من السنّة الإلهيّـة أن تستمرّ على العبد نعمته وهدايته حتّى يغيّر هو ما عنده بالكفران والتعدّى فيسلب الله منه النعمة والهداية.

٤٢٢

وأمّا الآية الثانية أعنى قوله:( إنّ الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) فذيلها بيان لعلّة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهى عن تولّى أعداء الله أو وجوب التبرّى منهم إذ لا ولىّ ولا نصير حقيقة إلّا الله سبحانه وقد بيّنه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولّى عليه تعالى أو من أذن في تولّيهم له من أوليائه وليس لهم أن يتعدّوا ذلك إلى تولّى أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أنّ الله سبحانه هو الّذى يملك كلّ شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كلّ أمر فهو الولىّ لا ولىّ غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلّة في الآيات الأربع أنّ الحكم عامّ وهو وجوب التبرّى أو حرمة التولّى لأعداء الله سواء كان التولّى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدوّ مشركاً أو كافراً أو منافقاً أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرّين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين ) إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الّذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشقّ معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حرّ شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحقّ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أنّ المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرّجاً من العسرة والمشقّة الّتى واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمّن مضى فأمّا تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الّذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلّفه أي جعله خلفه فهو مخلّف. انتهى والرحب هو السعة الّتى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدريّة.

و الآيتان وإن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاُخرى

٤٢٣

فالاُولى تبيّن التوبة على النبيّ والمهاجرين والأنصار والثانية تبيّن توبة الثلاثة المخلّفين مضافاً إلى أنّ نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الاُولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضاً ومدلولاً غير أنّ السياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد ومتّصلتان كلاماً واحداً تبيّن فيه توبته تعالى للنبىّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا، ومن الدليل عليه قوله:( لقد تاب الله على النبيّ - إلى أن قال -وعلى الثلاثة ) الخ فالآية الثانية غير مستقلّة عن الاُولى بحسب اللفظ وإن استقلّت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معاً وتعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال والامتزاج.

ولعلّ الغرض الأصلىّ بيان توبة الله سبحانه لاُولئك الثلاثة المخلّفين وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإنّ الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبيّ والمهاجرين والأنصار ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ) وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) فليس إلّا أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالاً ثمّ اُشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته فذُكرت عند ذلك توبته الخاصّـة به.

ولو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكراراً من غير نكتة ظاهرة.

على أنّ في الآية الاُولى دلالة واضحة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له في ذلك ذنب

٤٢٤

ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإنّ في الكلام مدحاً للمهاجرين والأنصار باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعاً يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيؤول معنى الآية إلى أنّ الله - اُقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعاً إلى النبيّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا فأمّا توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنّهم اتّبعوا النبيّ في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيّـام مسيرهم إلى تبوك - اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتّبعوه تاب الله عليهم إنّه بهم لرؤوف رحيم.

وأمّا الثلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أنّ الناس لم يعاشروهم ولا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيساً يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغمّ عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه بالتوبة والإنابة فلمّا كان ذلك كلّه تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنّه هو التوّاب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثمّ بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبيّن بذلك كلّه أوّلاً: أنّ المراد بالتوبة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى اُمّته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى اُمّته.

وأيضاً فإنّ من فضله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن: كلّما ذكر اُمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفاً له كما في قوله:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقرة: ٢٨٥ وقوله:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبة ٢٦، وقوله:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه جاهدوا ) التوبة ٨٨ إلى غير ذلك من الموارد.

وثانياً: أنّ المراد بما ذكر ثانياً وثالثاً من التوبه بقوله:( ثمّ تاب عليهم ) في

٤٢٥

الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالاً بقوله:( لقد تاب الله ) .

وثالثاً: أنّ المراد بالتوبة في قوله:( ثمّ تاب عليهم ) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مراراً في الأبحاث السابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الربّ تعالى، وأنّه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاُولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك أمّا في الآية الاُولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنباً يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاُولى منه تعالى دون الثانية، وأمّا في الآية الثانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:( ليتوبوا ) وهو الاستغفار، اُخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلّا التوبة الاُولى منه.

وربّما أيّد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم:( إنّه بهم رؤوف رحيم ) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعاً: أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( ليتوبوا ) توبة الثلاثة الّذين خلّفوا المترتّب على توبته تعالى الاُولى عليهم، فالمعنى ثمّ تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنّه هو التوّاب الرحيم.

فان قلت: فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصّة ثابتة نقلاً غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلّا أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الإجمال:( لقد تاب الله ) وهو أعمّ بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد:( إنّ الله هو التوّاب الرحيم ) وخاصّـة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله:( وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ) فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجاً من الله يأمنون فيه وقد هداهم

٤٢٦

الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردّهم الله من بابه خائبين وهو التوّاب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عزّ من قائل:( إنّما التوبة على الله للّذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم ) النساء: ١٧.

وربّما قيل: إنّ معنى( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) ثمّ سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: إنّ المراد بالتوبة في( ليتوبوا ) الرجوع إلى حالتهم الاُولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: إنّ الضمير في( ليتوبوا ) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ الله قابل التوب.

وخامساً: أنّ الظنّ يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظيّـة بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثمّ لمّا عدّ كلّ من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولاً توسّع في معنى الصدق فعدّ الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج وصادقاً إذا عمل بما اعتقده وصادقاً إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجدّ.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى واطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعيّة هي المصاحبة في العمل وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه آلوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم فإنّه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاصّ نفسانيّ والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببيّـة فقوله:( ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا

٤٢٧

للتمتّع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشدّ الغضب، والموطئ الأرض الّتى توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حقّ التخلّف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل المدينة والأعراب الّذين حولها ثمّ تذكر أنّ الله قابل هذا السلب منهم بأنّه يكتب لهم في كلّ مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كلّ أرض يطئونها فيغيطون به الكفّـار أو نيل نالوه منهم عملاً صالحاً فإنّهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:( ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ) الخ.

ثمّ ذكر أنّ نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كلّ واد قطعوه فإنّه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله:( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) غاية متعلّقة بقوله:( كتب لهم ) أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنّما خصّ جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأنّ رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأنّ الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأنّ المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقّها وقيام الدعوة الدينيّـة به.

وههنا معنى آخر وهو أنّ جزاء العمل في الحقيقة إنّما هو نفس العمل عائداً إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيّئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسناً ثمّ يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربّما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) السياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله:( فرقة منهم ) الضمير للمؤمنين الّذين ليس لهم أن ينفروا كافّة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافّة

٤٢٨

بل يحضّضهم أن ينف طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله( رجعوا ) للطائفة المتفقّهين، وفي قوله:( إليهم ) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقّههم ورجوعهم إلى اوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمنى البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً فهلّا نفر وخرج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقّقوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاُصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون ويتّقون.

ومن هنا يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالتفقّه تفهّم جميع المعارف الدينيّـة من اُصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليّـة وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرّعة، والدليل عليه قوله:( لينذروا قومهم ) فإنّ ذلك أمر إنّما يتمّ بالتفقّه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانياً: أنّ النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينىّ بدلالة من الآية.

وثالثاً: أنّ سائر المعاني المحتملة الّتى ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) نفرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه، وقول بعضهم في( فلو لا نفر ) : أي إلى الجهاد، والمراد بقوله:( ليتفقهوا ) أي الباقون المتخلّفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اُولئك المتخلّفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرّض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّـار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) أمر بالجهاد العامّ الّذى فيه توسّع الإسلام حتّى يشيع في الدنيا فإنّ قتال كلّ طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفّـار لا ينتهى إلّا باتّساع الإسلام اتّساعاً باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعاً.

والمراد بقوله:( وليجدوا فيكم غلظة ) أي الشدّة في ذات الله وليس يعنى بها

٤٢٩

الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاُصول الدينيّـة تذمّ ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كلّ تعدّ واعتداء وجفاء كما مرّ في سورة البقرة.

وفي قوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائماً مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربّهم منهم، وهو أنّه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتّقون.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاريّ: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لقى عبّاد البصريّ علىّ بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له: يا علىّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته إنّ الله يقول:( إنّ الله اشترى ) الخ، فقال علىّ بن الحسينعليه‌السلام إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

أقول: يريدعليه‌السلام ما في الآية الثانية:( التائبون العابدون ) الآية من الأوصاف.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سياحة اُمّتى في المساجد.

أقول: وروى عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ السائحين هم الصائمون، وعن أبى اُمامة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سياحة اُمّتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدّم الكلام فيه.

وفي المجمع:( التائبين العابدين ) إلى آخرها بالياء عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٤٣٠

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبى أميّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أى عمّ قل لا إله إلّا الله اُحاجّ لك بها عند الله فقال أبوجهل وعبدالله بن أبى اُميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب؟ وجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه وأبوجهل وعبدالله يعانوانه(١) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلّمهم هو: على ملّة عبدالمطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى من طرق أهل السنّة، وفى بعضها أنّ المسلمين لمّا رأوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر لعمّه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتّفقت الرواية عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكّن بذلك من حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما روى بالنقل الصحيح من أشعاره شئ كثير يدلّ على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر قال: الأوّاه الدّعاء.

وفي المجمع في قوله تعالى:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية عن الحسن.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الاُسارى(٢) قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتّى يؤذن لكم

____________________

(١) أي يفسرانه.

(٢) يعنى يوم بدر.

٤٣١

ولكن ما كان الله ليعذّب قوماً بذنب أذنبوه حتّى يبيّن لهم ما يتّقون. قال: حتّى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنّهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتّصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدّم توضيحه.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمّـد الطيّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) قال: يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.

أقول: ورواه أيضاً عن عبد الأعلى عنهعليه‌السلام ، ورواه البرقىّ أيضاً في المحاسن.

وفى تفسير القمّىّ:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهم أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمّىّ في تفسيره في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوّا له عدّة ) الآية: ٤٦ من السورة، وروى قراءة( بالنبيّ ) في المجمع عنه وعن الرضاعليهما‌السلام .

وفي المجمع في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) وقرء علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمّـد بن علىّ الباقرو جعفر بن محمّـد الصادقعليهم‌السلام وأبو عبد الرحمن السلمىّ. خالفوا.

وفيه في قوله:( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار ) الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة.

وفيه في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك

٤٣٢

ومرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة، وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتّى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيؤون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدّمت القصّة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمّىّ في الآية ٤٦ من السورة، ورويت القصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله ) قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثمّ قال:( وكونوا مع الصادقين ) يعنى مع محمّـد وأهل بيتهعليهم‌السلام .

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد روى في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن ابن عبّـاس، وأيضاً عن ابن عساكر عن أبى جعفر في قوله:( وكونوا مع الصادقين ) قالا: مع علىّ بن أبى طالب.

وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبدالله (عيه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عزّوجلّ:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم.

٤٣٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، وهو ممّا يدلّ على أن المراد بالتفقّه في الآية أعمّ من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أنّ هناك أقوالاً اُخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.

٤٣٤

( سورة التوبة آيه ١٢٤ - ١٢٩)  

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ ( ١٢٧ ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لاَإِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ )

( بيان)

هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنيّـة، يتحصّل بذلك أيضاً أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيّكم زادته هذه إيماناً ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟

وفيها وصفه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاً يحنّ به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكّل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً ) إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإنّ هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثراً من

٤٣٥

نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعى أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّاً مهيّئاً للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعاً لله ولا ميلاً وحناناً إلى الحقّ زاد شكّاً فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتاً في نفاقه.

وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرّق بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال:( فأمّا الّذين آمنوا ) وهم الّذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة( فزادتهم ) السورة النازلة( إيماناً ) فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّـة والحقائق الإلهيّـة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً( وهم يستبشرون ) .

( وأما الّذين في قلوبهم مرض ) وهم أهل الشكّ والنفاق( فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الانعام: ١٢٥ والمقابلة الواقعة بين( الّذين آمنوا ) و( الّذين في قلوبهم مرض ) يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنّما هو الشكّ أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال( وماتوا وهم كافرون ) .

والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً نظير ما يفيده قوله:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا

٤٣٦

خساراً ) أسرى: ٨٢.

قوله تعالى: ( أو لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ) الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكّرون ولا يعتبرون وهم يرون أنّهم يبتلون ويمتحنون كلّ عام مرّة أو مرّتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهيّـة وهم لا يتوبون ولا يتذكّرون ولو تفكّروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا أنّ الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبّد.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) الآية وهذه خصيصة اُخرى من خصائصهم وهى أنّهم عند نزول سورة قرآنيّـة - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا قول من يسمع حديثاً لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغيّر لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه ويظهر السرّ الّذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سرّه وأوقفه على باطن أمره كأنّه يستفسره هل يطّلع على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟

فقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أنّ الضمير في قوله في الآية السابقة:( فمنهم من يقول ) أيضاً للمنافقين، وقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره وانهتاك ستره، وقوله:( هل يراكم من أحد ) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.

وقوله:( ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون ) ظاهر السياق أنّ المعنى ثمّ انصرفوا من عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات الإلهيّـة والإيمان بها بسبب أنّهم قوم لا يفقهون الكلام الحقّ فالجملة حاليّة على ما يجوّزه بعضهممن خلوّا الجملة الحاليّة المصدّرة بالفعل الماضي عن قد.

وربّما احتمل كون قوله:( صرف الله قلوبهم ) دعاءً منه تعالى على المنافقين، وله

٤٣٧

نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشرّ.

قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله:( ما عنتّم ) مصدريّة التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وصفه بأنّه من أنفسهم والظاهر أنّ المراد به أنّه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدلّ على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصّـة، وخاصّـة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

والمعنى لقد جاءكم أيّها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنّه يشقّ عليه ضرّكم أو هلاككم وأنّه حريص عليكم جميعاً من مؤمن أو غير مؤمن، وأنّه رؤوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصّـة فيحقّ عليكم أن تطيعوا أمره لأنّه رسول لا يصدع إلّا عن أمر الله، وطاعته طاعة الله، وأن تأنسوا به وتحنّوا إليه لأنّه من أنفسكم، وأن تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم.

ومن هنا يظهر أنّ القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله( رسول ) و( من أنفسكم ) و( عزيز عليه ما عنتّم ) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدلّ عليه قوله في الآية التالية:( فإن تولّوا فقل حسبى الله ) .

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ) أي وإن تولّوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلّا هو أي هو كافىّ لا إله إلّا هو.

فقوله:( لا إله إلّا هو ) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه بربّه فهو كاف لا كافى سواه لأنّه الله لا إله غيره، ومن المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيئ بها للتعظيم نظير قوله:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه ) البقرة: ١١٦.

وقوله:( عليه توكّلت ) وفيه معنى الحصر تفسير يفسّر به قوله:( حسبى الله ) الدالّ على معنى التوكّل بالالتزام، وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة أنّ معنى التوكّل هو اتّخاذ العبد ربّه وكيلاً يحلّ محلّ نفسه ويتولّى تدبير اُموره أي انصرافه عن

٤٣٨

التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الّذى هو علّة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقيّ الّذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله:( وهو ربّ العرش العظيم ) أي الملك والسلطان الّذي يحكم به على كلّ شئ ويدبّر به كلّ أمر.

وإنّما قال تعالى:( فقل حسبي الله ) الآية ولم يقل: فتوكّل على الله لإرشاده إلى أن يتوكّل على ربّه وهو ذاكر هذه الحقائق الّتي تنوّر حقيقة معنى التوكّل، وأنّ انظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدر كه من الأسباب الظاهرة الّتي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربّه ويتوكّل عليه في حصول بغيته وغرضه.

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنّه تعالى يأمره بالتوكّل على ربّه فيما يهتمّ به من الأمر وهو ما تبيّنه الآية السابقة من شدّة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) وقال:( نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّـة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.

٤٣٩

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة بن أعين عن أبى جعفرعليه‌السلام ( وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) يقول شكّاً إلى شكّهم.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أخرج أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يلتق أبواي قطّ على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّـبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تنشعب شعبتان إلّا كنت في خيرهما.

أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعبّـاس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب وابن عمر وابن عبّـاس وعلى ومحمّـد بن علىّ الباقر وجعفر بن محمّـد الصادقعليه‌السلام وغيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباريّ في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أنّ اُبىّ بن كعب كان يقول: إنّ أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآية.

أقول: و الرواية مرويّـة من طريق آخر عن اُبىّ بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدّم من الروايات في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) الآية البقرة: ٢٨١ أنّها آخر آية نزلت من القرآن.

على أنّ لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلّا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحديث الدواة والقرطاس.

وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله -وهو ربّ العرش العظيم ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلّا أنّى أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فاُلحقت في آخر براءة.

أقول: وفي رواية أخرى أنّ عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بيّنه أبداً كذلك

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481