الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138821 / تحميل: 8842
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

والعشرين جزئاً، وللتوأم جزئان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسةٌ، وللمسبل ستّة، وللمعلّي سبعة، وهو أكثر القداح نصيباً، وأمّا الثلاثة الأخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتمّ هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء والسهام.

قوله تعالى: ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) ، وقرء إثمٌ كثيرٌ بالثاء المثلّثة، والإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حالٌ في الشئ أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الّذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور اُخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاُخرى وهذان على هذه الصفة.

أمّا شرب الخمر فمضرّاته الطبّيّة وآثاره السيّئة في المعدة والأمعاء والكبد والرئة وسلسلة الأعصاب والشرائين والقلب والحواسّ كالباصرة والذائقة وغيرها ممّا ألّف فيه تأليفات من حذّاق الأطّباء قديماً وحديثاً، ولهم في ذلك إحصائآت عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة الّتي يستتبعها هذا السمّ المهلك.

وأمّا مضرّاته الخلقيّة: من تشويه الخلق وتأديته الإنسان إلى الفحش، والإضرار والجنايات، والقتل وإفشآء السرّ، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الإنسانيّة الّتي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصّة ناموس العفّة في الأعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقلّ ما يتّفق جناية من هذه الجنايات الّتي قد ملأت الدنيا ونغّصت عيشة الإنسان إلّا وللخمر فيها صنعٌ مستقيماً أو غير مستقيم.

وأمّا مضرّته في الإدراك وسلبه العقل وتصرّفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان وتغييره مجرى الإدراك حين السكر وبعد الصحو فممّا لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الإثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاُخر.

والشريعة الإسلاميّة كما مرّت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفّظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشدّ النهى كالخمر، والميسر،

٢٠١

والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشدّ الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال وقول الكذب والزور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي الّتي تهدّد الإنسانيّة، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامّة إلّا وهي أمرّ من سابقتها، وكلّما زاد الحمل ثقلاً وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجّة البيضآء والشريعة الغرّاء إلّا البناء على العقل والمنع عمّا يفسده من اتّباع الهوى لكفاها فخراً، وللكلام تتمّة سنتعرّض لها في سورة المائدة انشاء الله.

ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانيّة يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانيّة أسرع من شيوع الحقّ والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشقّ تركها والجرى على نواميس السعادة الإنسانيّة، ولذلك إنّ الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، وكلّفهم بالرفق والإمهال.

ومن جملة تلك العادات الشائعة السيّئة شرب الخمر فقد اُخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبّر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرّات:

إحداها: قوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) الأعراف - ٣٣، والآية مكّيّة حرّم فيها الإثم صريحاً، وفي الخمر إثم غير أنّه لم يبيّن أنّ الإثم ما هو وأنّ في الخمر إثماً كبيراً.

ولعلّ ذلك إنّما كان نوعاً من الإرفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) النحل ٦٧، والآية أيضاً مكّيّة، وكأنّ الناس لم يكونوا متنبهّين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتّى نزلت قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) النساء - ٤٣، والآية مدنيّة وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد.

والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة وآيتى المائدة فإنّهما

٢٠٢

تدلّان على النهي المطلق، ولا معنى للنهى الخاصّ بعد ورود النهى المطلق، على أنّه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإنّ التدريج سلوكٌ من الأسهل إلى الأشقّ لا بالعكس.

ثمّ نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وهذه الآية بعد آية النساء كما مرّ بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعيّة على الإثم في الخمر( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) وتقدّم نزول آية الأعراف المكّيّة الصريحة في تحريم الإثم.

ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإنّ قوله تعالى:( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) لا يدلّ على أزيد من أنّ فيه إثماً والإثم هو الضرر، وتحريم كلّ ضارّ لا يدلّ على تحريم ما فيه مضرّة من جهة ومنفعة من جهة اُخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعاً لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصرّ على شربها آخرون، كأنّهم رأوا أنّهم يتيّسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيداً للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ - إلى قوله تعالى -فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

وجه الفسادأمّا أوّلاً: فإنّه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقاً وليس الإثم هو الضرر ومجرّد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٧، وقوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) المائدة - ٢٩، وقوله تعالى:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) النور - ١١، وقوله تعالى:( وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ) النساء - ١١١، إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا ثانياً: فإنّ الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلّم ذلك فإنّها تعللّه بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النصّ.

٢٠٣

وأمّا ثالثاً: فهب أنّ الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنّها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنيّة قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحاً فما عذر من سمع التحريم في آية مكّيّة حتّى يجتهد في آية مدنيّة.

على أنّ آية الأعراف تدلّ على تحريم مطلق الإثم وهذه الآية قيّدت الإثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أنّ الخمر فرد تامّ ومصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرّم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالإثم ولم يصف الإثم في شئ من ذلك بالكبر إلّا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٨، وبالجملة لا شكّ في دلالة الآية على التحريم.

ثمّ نزلت آيتا المائدة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) المائدة - ٩١، وذيل الكلام يدلّ على أنّ المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلّيّة حتّى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كلّه في الخمر.

وأمّا الميسر: فمفاسده الإجتماعيّة وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرّض لشأنه في سورة المائدة إنشاء الله.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، قد مرّ الكلام في معنى الإثم، وأمّا الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، والكبر يقابل الصغر كما أنّ الكثرة تقابل القلّة، فهما وصفان إضافيّان بمعنى أنّ الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولاصغر كما لا يكون كثرة ولاقلّة، ويشبه أن يكون أوّل ما تنبّه الناس لمعنى الكبر إنّما تنبّهوا له في الأحجام الّتي هي من الكمّيّات المتّصلة وهي جسمانيّة، ثمّ انتقلوا

٢٠٤

من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى:( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) المدّثر - ٣٥، وقال تعالى:( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) الكهف - ٥، وقال تعالى:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) الشورى - ١٣، والعظم في معناه كالكبر، غير أنّ الظاهر أنّ العظمة مأخوذة من العظم الّذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإنّ كبر جسم الحيوان كان راجعاً إلى كبر العظام المركّبة المؤلّفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصّل فأشتقّ منه كالموادّ الأصليّة.

والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الاُمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أنّ الخير والشرّ يطلقان على الاُمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات الماليّة بالبيع والشرى والعمل والتفكّه والتلهّي، ولمّا قوبل ثانياً بين الإثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع وإلغاء جهة الكثرة فيها فإنّ العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: وإثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشئ لتناوله ثمّ أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلاميّة به مجيئه لمعاني مختلفة، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الأثر والعفو بمعنى التوسّط في الإنفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم.

والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مرّ في قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية.

قوله تعالى: ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ - إلى قوله -فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ، الظرف أعني قوله تعالى: في الدنيا والآخرة، متعلّق بقوله: تتفكّرون وليس بظرف له، والمعنى لعلّكم تتفكّرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وأنّ الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقرّكم وهو الدار الآخرة الّتي ترجعون فيه إلى ربّكم فيجازيكم بأعمالكم الّتي عملتموها في الدنيا.

وفي الآيةأوّلاً: حثّ على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكّر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفرديّة و

٢٠٥

الإجتماعيّة، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان وشقاوته.

وثانياً: أنّ القرآن وإن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أيّ شرط وقيد، غير أنّه لا يرضي أن يؤخذ الأحكام والمعارف الّتي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكّر وتعقّل يكشف عن حقيقة الأمر، وتنوّر يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى.

وكأنّ المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام والقوانين، وإيضاح اُصول المعارف والعلوم.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ) ، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثمّ قيل ولو شاء الله لأعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتّى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والأمر على ذلك، فإنّ ههنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) النساء - ١٠ وقوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) النساء - ٢، فالظاهر أنّ الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيّد ماسننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائيّ، وفي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خيرٌ - حيث نكّر الإصلاح - دلالة على أنّ المرضيّ عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كلّ إصلاح ولو كان إصلاحاً في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاحٌ لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلاً -: والله يعلم المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ) ، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعاً بإلغاء جميع الصفات المميّزة الّتي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي

٢٠٦

والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والوليّ القويّ، وبين الغنيّ المثرى والفقير المعدم، وكذا كلّ ناقص وتامّ، وقد قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات - ١٠.

فالّذي تجوّزه الآية في مخالطة الوليّ لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الإجتماعيّة بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ً ) النساء - ٢، وهذه المحاذاة من الشواهد على أنّ في الآية نوعاً من التخفيف والتسهيل كما يدلّ عليه أيضاً ذيلها، وكما يدلّ عليه أيضاً بعض الدلالة قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: أنّ المخالطة إن كانت (وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإنّ ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لاصورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتّى يؤاخذكم بمجرّد المخالطة فإنّ الله سبحانه يميّز المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنّها لمكان تضمينه معنى يميّز، والعنت هو الكلفة والمشقّة.

( بحث روائي)

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال: سأل المهدىّ أبا الحسنعليه‌السلام عن الخمر: هل هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : بل هي محرّمة فقال: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ - إلى ان قال - فأمّا الإثم فإنّها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما

٢٠٧

أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشميّة، فقلت له: صدقت يا أميرالمؤمنين الحمد لله الّذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فو الله ما صبر المهديّ أن قال لى: صدقت يا رافضيّ.

اقول: وقد مرّ ما يتبيّن به معنى هذه الرواية.

وفي الكافي أيضاً عن أبى بصير عن أحدهماعليهما‌السلام قال: إنّ الله جعل للمعصية بيتاً، ثمّ جعل للبيت باباً، ثمّ جعل للباب غلقاً، ثمّ جعل للغلق مفتاحاً، فمفتاح المعصية الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الخمر رأس كلّ إثم.

وفيه عن إسماعيل قال: أقبل أبوجعفرعليه‌السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شابّ منهم: فقال يا عمّ ما أكبر الكبائر؟ قالعليه‌السلام : شرب الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى البلاد عن أحدهماعليهما‌السلام قال: ما عصي الله بشئ أشدّ من شرب المسكر، إنّ أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على اُمّه وابنته، واُخته وهو لا يعقل.

وفي الاحتجاج: سأل زنديق أباعبداللهعليه‌السلام : لم حرّم الله الخمر ولالذّة أفضل منها؟ قال: حرّمها لأنّها أمّ الخبائث ورأس كلّ شرّ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربّه ولا يترك معصية إلّا ركبها الحديث.

اقول: والروايات تفسّر بعضها بعضاً، والتجارب والاعتبار يساعدانها.

وفي الكافي عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومشتريها وآكل ثمنها.

وفي الكافي والمحاسن عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.

اقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى:( وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة - ٣.

٢٠٨

وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقّ، ومنّان، ومكذّب بالقدر، ومدمن خمر.

وفي الأماليّ لابن الشيخ بإسناده عن الصادقعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أقسم ربّي جلّ جلاله لا يشرب عبدٌ لي خمراً في الدنيا إلّا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذّباً بعد أو مغفوراً له. ثمّ قال: إنّ شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودّاً وجهه، مزرقة عيناه، مائلاً شدقه، سائلاً لعابه، والغاً لسانه من قفاه.

وفي تفسير القمّيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: حقّ على الله أن يسقي من يشرب الخمر ممّا يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهنّ صديدٌ، والصديد قيحٌ ودمٌ غليظ يؤذي أهل النار حرّه ونتنه.

اقول: ربّما تأيّدت هذه الروايات بقوله تعالى:( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) الدخان - ٤٩. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.

وفي الكافي عن الوشّا عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.

اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عبّاس: إنّ نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبيّ فقالوا: إنّا لا ندري ما هذه النفقة الّتي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به ولا مالاً يأكل حتّى يتصدّق به.

وفي الدرّ المنثور أيضاً عن يحيى: أنّه بلغه أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا: يارسول الله إنّ لنا أرقّاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله: ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : العفو الوسط.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر والصادقعليه‌السلام : الكفاف. وفي رواية أبي

٢٠٩

بصير: القصد.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.

وفي المجمع عن الباقرعليه‌السلام : العفو ما فضل عن قوت السنة.

اقول: والروايات متوافقة، والأخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في فضل الصدقة وكيفيّتها وموردها وكمّيّتها فوق حدّ الإحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله.

وفي تفسير القمّيّ: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّه لمّا نزلت: إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً، أخرج كلّ من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال: لمّا أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم إلّا بالّتي هي أحسن، وإنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتدّ ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

اقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.

٢١٠

( سورة البقرة آية ٢٢١)

وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٢٢١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) ، قال الراغب في المفردات: أصل النكاح للعقد ثمّ استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثمّ استعير للعقد لأنّ أسماء الجماع، كلّها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، وهو جيّد غير أنّه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجيّة دون العقد اللفظيّ المعهود.

والمشركات اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتّخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنّه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والإيمان، فالقول بتعدّد الإله واتّخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهرٌ وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوّة - وخاصّة - إنّهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه وهو شركٌ، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلّا المخلصون وهو الغفلة عن الله والإلتفات إلى غير الله عزّت ساحته، فكلّ ذلك من الشرك، غير أنّ إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أنّ من ترك من المؤمنين شيئاً من الفرائض فقد كفر به لكنّه لا يسمّى كافراً، قال تعالى:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ - إلى أن قال -وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) آل عمران - ٩٧، وليس تارك الحجّ كافراً بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافرٌ بالحجّ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهّرين، و

٢١١

كالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل الأفعال المشاركة لها في مادّتها، وهو ظاهرٌ فللتوصيف والتسمية حكم، ولإسناد الفعل حكم آخر.

على أنّ لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنّما اُطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفّار كقوله تعالى:( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) البيّنة - ١، وقوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) التوبة - ٢٨، وقوله تعالى:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ) التوبة - ٧، وقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) التوبة - ٣٦، وقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥ إلى غير ذلك من الموارد.

وأمّا قوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) البقرة - ١٣٥، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضاً لهم بل الظاهر أنّهم غيرهم بقرينة قوله تعالى:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) آل عمران - ٦٧، ففي إثبات الحنف لهعليه‌السلام تعريض لأهل الكتاب، وتبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حاقّ الوسط إلى مادّيّة اليهود محضاً أو إلى معنويّة النصارى محضاً بل هوعليه‌السلام غير يهوديّ ولا نصرانيّ ومسلم لله غير متّخذ له شريكاً المشركين عبدة الأوثان.

وكذا قوله تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦، وقوله تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) فصّلت - ٧، وقوله تعالى:( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) النحل - ١٠٠، فإنّ هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعدّ المورد الّذي يصدق وصف الشرك عليه مشركاً غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذّ منهم وهم الأولياء المقرّبون من صالحي عبدالله.

فقد ظهر من هذا البيان على طوله: أنّ ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيّين دون أهل الكتاب.

٢١٢

ومن هنا يظهر: فساد القول بأنّ الآية ناسخةٌ لآية المائدة وهي قوله تعالى:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) المائدة - ٦.

أو أنّ الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، وآية الممتحنة أعني قوله تعالى:( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) الممتحنة - ١٠، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأنّ آية المائدة ناسخةٌ لآيتي البقرة والممتحنة.

وجه الفساد: أنّ هذه الآية أعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلّا الكتابيّة فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتّى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن أخذ فيها عنوان الكوافر وهو أعمّ من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإنّ الظاهر أنّ إطلاق الكافر يشمل الكتابيّ بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) البقرة - ٩٨ إلّا أنّ ظاهر الآية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أنّ من آمن من الرجال وتحته زوجةٌ كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أي إبقاؤها على الزوجيّة السابقة إلّا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائيّ للكتابيّة.

ولو سلّم دلالة الآيتين أعني: آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابيّة ابتدائاً لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لأنّ آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبّر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخيّة بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.

على أنّ سورة البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكّة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.

٢١٣

قوله تعالى: ( وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) ، الظاهر أنّ المراد بالاُمّة المؤمنة المملوكة الّتي تقابل الحرّة وقد كان الناس يستذلّون الإماء ويعيّرون من تزوّج بهنّ، فتقييد الاُمّة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الإماء واستذلالهنّ، والتحرّز عن التزوّج بهنّ يدلّ على أنّ المراد أنّ المؤمنة وإن كانت أمة خيرٌ من المشركة وإن كانت حرّة ذات حسب ونسب ومال ممّا يعجب الإنسان بحسب العادة.

وقيل: إنّ المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية أمة الله وعبده، وهو بعيدٌ.

قوله تعالى: ( وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ) الخ، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) ، إشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو أنّ المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزيّنة للكفر والفسوق، والمعمية عن إبصار طريق الحقّ والحقيقة، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى البوار، والسلوك بالأخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار والمؤمنون - بخلافهم - بسلوكهم سبيل الإيمان، وتلبّسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنّة والمغفرة بإذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الإيمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدّي إلى الجنّة والمغفرة.

وكان حقّ الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنّة الخ ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على أنّ المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجوديّة إلى ربّهم، لا يستقلّون في شئ من الاُمور دون ربّهم تبارك وتعالى وهو وليّهم كما قال سبحانه:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٦٨.

وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالدعوة إلى الجنّة والمغفرة هو الحكم المشرّع في صدر الآية بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ الخ، فإنّ جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والاُنس به

٢١٤

إلّا البعد من الله سبحانه، وحثّهم بمخالطة من في مخالطته التقرّب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة أمره ونهيه دعوة من الله إلى الجنّة، ويؤيّد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ويبيّن آياته للناس لعلّهم يتذكّرون، ويمكن أن يراد بالدعوة الأعمّ من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.

( بحث روائي)

في المجمع في الآية: نزلت في مرئد بن أبى مرئد الغنويّ بعثه رسول الله إلى مكّة ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان قويّاً شجاعاً، فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى وكانت بينهما خلّة في الجاهليّة، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال: حتّى أستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجع استأذن في التزوّج بها.

اقول: وروي هذا المعنى السيوطيّ في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس.

وفي الدرّ المنثور أخرج الواحديّ من طريق السديّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس في هذه الآية: ولأمة مؤمنة خير من مشركة، قال. نزلت في عبدالله بن رواحة وكانت له أمة سودآء وإنّه غضب عليها فلطمها ثمّ إنّه فزع فأتي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره خبرها، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ماهي يا عبدالله؟ قال: تصوم وتصلّي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله فقال يا عبدالله، هذه مؤمنة فقال عبدالله: فو الّذي بعثك بالحقّ لاُعتقها ولأتزوّجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمةً، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبةً في أحسابهم فأنزل الله فيهم: ولأمة مؤمنة خير من مشركة.

وفيه أيضاً عن مقاتل في الآية ولأمة مؤمنة، قال بلغنا أنّها كانت أمة لحذيفة فأعتقها وتزوّجها حذيفة.

اقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول لجواز وقوع عدّة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، وهنا روايات متعارضة مرويّة في كون قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ، الآية ناسخاً لقوله تعالى: والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخاً به، ستمرّ بك في تفسير الآية من سورة المائدة.

٢١٥

( سورة البقرة آية ٢٢٢ - ٢٢٣)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( ٢٢٢ ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٢٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) الخ المحيض مصدر كالحيض يقال: حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصّة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.

والأذى هو الضرر على ما قيل، لكنّه لا يخلو عن نظر، فإنّه لو كان هو الضرر بعينه لصحّ مقابلته مع النفع كما أنّ الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضرّ وضارّ، ولو قيل دواء موذٍ أفاد معنى آخر، وأيضاً قال تعالى:( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ) آل عمران - ١١١، ولو قيل لن يضرّوكم إلّا ضرراً لفسد الكلام، وأيضاً كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) الأحزاب - ٥٧، وقوله تعالى:( لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) الصفّ - ٥، فالظاهر أنّ الأذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.

وتسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلاً من عمل خاصّ من طبعها يؤثّر به في مزاج الدم الطبيعيّ الّذي يحصّله جهاز التغذية فيفسد مقداراً منه عن الحال الطبيعيّ وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللّبن للإرضاع، وأمّا على قولهم: إنّ الأذى هو الضرر فقد قيل: إنّ المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن إتيانهنّ في هذه الحال فاُجيب بأنّه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الأطبّاء أنّ الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم و

٢١٦

إعداده للحمل، والوقاع يختلّ به نظام هذا العمل فيضرّ بنتائج هذا العمل الطبيعيّ من الحمل وغيره.

قوله تعالى: ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ ) ، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنّب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزّته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدّى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محلّ الدم على ما سنبيّن.

وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتّى: فكانت اليهود تشدّد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهنّ في المحيض، وأمر من قرب منهنّ في المجلس والمضجع والمسّ وغيره ذلك، وأمّا النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهنّ أو الاقتراب منهنّ بوجه، وأمّا المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير أنّ العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهنّ في هذه الحال، وغيرهم ربّما كانوا يستحبّون إتيان النساء في المحيض ويعتقدون أنّ الولد المرزوق حينئذ يصير سفّاحاً ولوعاً في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويّين.

وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وإن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكّده قوله تعالى ثانياً: ولا تقربوهنّ، إلّا أنّ قوله تعالى أخيراً فأتوهنّ من حيث أمركم الله - ومن المعلوم أنّه محلّ الدم - قرينة على أنّ قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الإتيان من محلّ الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتّع والاستلذاذ.

فالإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقاً وسطاً بين التشديد التامّ الّذي عليه اليهود والإهمال المطلق الّذي عليه النصارى، وهو المنع عن إتيان محلّ الدم والإذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه أنّ المحيض الأوّل أريد به المعنى المصدريّ والثاني زمان الحيض

٢١٧

فالثاني غير الأوّل، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) ، الطهارة - وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملّة الإسلام ذات أحكام وخواصّ مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينيّة، وقد صار اللّفظان بكثرة الاستعمال من الحقائق الشرعيّة أو المتشرّعة على ما اصطلح عليه في فنّ الاُصول.

وأصل الطهارة بحسب المعنى ممّا يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنّها من المعاني الّتي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.

فإنّ أساس الحياة مبنيّ على التصرّف في المادّيّات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كلّ شئ بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصّيّة والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذّي والتوليد.

وربّما عرض للشئ عارض يوجب تغيّره عمّا كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللّون، فأوجب ذلك تنفّر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمّى بالنجاسة وبها يستقذر الإنسان الشئ فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاُولي من الفائدة والجدوى الّذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديّان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفةً توجب كراهتها واستقذارها.

وقد كان أوّل ما تنبّه الإنسان لهذيين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثمّ أخذ في تعميمها للاُمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالأنساب والأفعال والأخلاق والعقائد والأقوال.

هذا ملخّص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأمّا النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أنّ النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختصّ استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد،

٢١٨

وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصّان بالمعقولات والمعنويّات، وأمّا القذارة والرجس فلفظان قريباً المعنى من النجاسة، لكنّ الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذرور تترك ناحية من الإبل وتستبعد ويقال: رجل قاذورةٌ لا يخالّ الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجلٌ مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشئ بالكسر وتقذّرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشئ تبعّد الإنسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكأنّ الأصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعاريّة.

وقد اعتبر الإسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعمّمهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلّيّة، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى:( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْن َ ) الآية، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى:( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) المدّثّر - ٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقال تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) المائدة - ٤١، وقال تعالى:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩.

وقد عدّت الشريعة الإسلاميّة عدّة أشياء نجسةً كالدم والبول والغائط والمنيّ من الإنسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعياناً نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة وفي الأكل وفي الشرب، وقد عدّ من الطهارة أموراً كالطهارة الخبثيّة المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، وكالطهارة الحدثيّة المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقرّرة شرعاً المشروحة في كتب الفقه.

وقد مرّ بيان أنّ الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الأصل الواحد في فروعه.

ومن هنا يظهر: أنّ أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقيّة المعارف الكلّيّة طهارات للإنسان، وبعد ذلك اُصول الأخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة

٢١٩

المذكورة آنفاً كقوله تعالى:( يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) الأحزاب - ٣٣، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.

ولنرجع إلى ماكنّا فيه فقوله تعالى: حتّى يطهرن، أي ينقطع عنهنّ الدم، وهو الطهر بعد الحيض، وقوله تعالى: فإذا تطهّرن أي، يغسلن محلّ الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، أمرٌ يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهيّ البارع، وتقييد الأمر بالإتيان بقوله أمركم الله، لتتميم هذا التأدّب فإنّ الجماع ممّا يعدّ بحسب بادي النظر لغواً ولهواً فقيده بكونه ممّا أمر الله به أمراً تكوينيّاً للدلالة على أنّه ممّا يتمّ به نظام النوع الإنسانيّ في حياته وبقائه فلا ينبغي عدّه من اللغو واللهو بل هو من أصول النواميس التكوينيّة.

وهذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، تماثل قوله تعالى:( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) البقرة - ١٨٧، وقوله تعالى:( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ) البقرة - ٢٢٣، من حيث السياق، فالظاهر أنّ المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكوينيّ المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما أنّ المراد بالكتابة في قوله تعالى: وابتغوا ما كتب الله لكم أيضاً ذلك، وهو ظاهرٌ، ويمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإجاب الكفائيّ المتعلّق بالازدواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائيّة الّتي لا تتمّ حياة النوع إلّا به لكنّه بعيد.

وقد استدلّ بعض المفسّرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهنّ، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنّه مبنيّ إمّا على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهنّ وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجّيّته، وإمّا على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ وهو مقطوع الضعف. على أنّ الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى: فأتوهنّ فهو واقعٌ عقيب الحظر

٢٢٠

لا يدلّ على الوجوب، ولو كان بالأمر في قوله تعالى: من حيث أمركم الله، فهو إن كان أمراً تكوينيّاً كان خارجاً عن الدلالة اللفظيّة، وإن كان أمراً تشريعيّاً كان للإيجاب الكفائيّ، والدلالة على النهي عن الضدّ على تقدير التسليم إنّما هي للأمر الإيجابيّ العينيّ المولويّ.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهّر هو الأخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الأصل الّذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصّة في مورد الطهارة والنجاسة فالائتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كلّ ما نهى عنه تطهّر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عزّ شأنه، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، فإنّ من اللّازم أن ينطبق ما ذكره من العلّة على كلّ ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في الميحض، وقوله: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، والآية أعني قوله: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، مطلقة غير مقيّدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مرّ بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهّرين، كما جئ بصيغة المبالغة في قوله: التوّابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعاً، أعني: إنّ الله يحبّ جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كلّ أمر ونهي من تكاليفه أو باتّخاذ كلّ اعتقاد من الاعتقادات الحقّة، ويحبّ جميع أنواع التطهّر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهّر بالأعمال الصالحة أو العلوم الحقّة، ويحبّ تكرار التوبة وتكرار التطهّر.

قوله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) ، الحرث مصدرٌ بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الأرض الّتي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنّى من أسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربّما استعمل في المكان أيضاً، قال تعالى:( يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ) آل عمران - ٣٧، فإن كان بمعنى المكان كان لمعنى من أيّ محلّ شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أيّ زمان شئتم،

٢٢١

وكيف كان يفيد الإطلاق بحسب معناه وخاصّة من حيث تقييده بقوله: شئتم، وهذا هو الّذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدلّ على الوجوب إذ لا معنى لإيجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلّف ومشيّته.

ثمّ إنّ تقديم قوله تعالى: نساءكم حرث لكم، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانياً بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أنّ المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الّذي يقصدن منه دون المكان الّذي يقصد منهنّ، فإن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرّض للآية الإطلاق الزمانيّ ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن الآية، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيّدٌ بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أنّ المحيض أذىً وأنّه السبب لتشريع حرمة إتيانهنّ في المحيض والمحيض أذى دائماً، ودلالتها أيضاً على أنّ تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحبّ التطهّر دائماً، ويمتنّ على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى:( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) المائدة - ٦.

ومن المعلوم أنّ هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، المشتمل أوّلاً على التوسعة، وهو سبب كان موجوداً مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثّر شيئاً فلا يتصوّر تأثيره بعد استقرار التشريع وثانياً على مثل التذييل الّذي هو قوله تعالى: وقدّموا لأنفسكم واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين، ومن هذا البيان يظهر: أنّ آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدّمت عليها نزولاً أو تأخّرت.

فمحصّل معنى الآية: أنّ نسبة النساء إلى المجتمع الإنسانيّ نسبة الحرث إلى الإنسان فكما أنّ الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور وتحصيل ما يتغذّى به من الزاد لحفظ الحياة وإبقائها كذلك النساء يحتاج اليهنّ النوع في بقاء النسل ودوام النوع لأنّ الله سبحانه جعل تكوّن الإنسان وتصوّر مادّته بصورته في طباع أرحامهنّ، ثمّ جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادّة الأصليّة مائلة منعطفة إليهنّ، وجعل بين الفريقين مودّة ورحمة،

٢٢٢

وإذا كان كذلك كان الغرض التكوينيّ من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محلّ دون محلّ إذا كان ممّا يؤدّي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمراً آخر واجباً في نفسه لا يجوز إهماله، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدّموا لأنفسكم.

ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الإطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدّموا لأنفسكم، بالتسمية قبل الجماع.

قوله تعالى: ( وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، قد ظهر: أنّ المراد من قوله: قدّموا لأنفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال والنساء بذلك الحثّ على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الإنسان وبقائه إلّا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقواهم العامّ، قال تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات - ٥٦، فلو أمرهم بشئ ممّا يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنّما يريد توصّلهم بذلك إلى عبادة ربّهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغيّ والغفلة.

فالمراد بقوله: قدّموا لأنفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدّمة أفراد جديدي الوجود والتكوّن إلى المجتمع الإنسانيّ الّذي لا يزال يفقد أفراداً بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيّتهم في نفسه بل للتوصّل به إلى إبقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى أنفسهم وإلى صالحي آبائهم المتسبّبين إليهم كما قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس - ١٢.

وبهذا الّذي ذكرنا يتأيّد: أنّ المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى:( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) النبأ - ٤١، وقال تعالى أيضاً:( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ) المزّمل - ٢٠، فقوله تعالى:( وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ) الخ، مماثل السياق

٢٢٣

لقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر - ١٨، فالمراد (والله أعلم) بقوله تعالى: وقدّموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: واتّقوا الله، التقوى بالأعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدّي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: واعلموا أنّكم ملاقوه إلخ الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أنّ المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، وإطلاق الأمر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفّظ والاتّقاء شائع في الكلام، قال تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الأنفال - ٢٤، أي اتّقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولمّا كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصّة بالإيمان ذيل تعالى كلامه بقوله: وبشّر المؤمنين، كما صدّر آية الحشر بقوله: يا أيّها الّذين آمنوا.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وأبوداود والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجة وأبو يعلى وابن المنذر وأبو حاتم والنحاس في ناسخه وأبو حيّان والبيهقيّ في سننه عن أنس: أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فأنزل الله: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض الآية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كلّ شئ إلّا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلّا خالفنا فيه، فجاء اُسيد بن خضيّر وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إنّ اليهود قالت: كذا وكذا أفلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى ظنّنا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هديّة من لبن إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا أنّه لم يحد عليهما.

وفي الدرّ المنثور عن السدّي في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: الّذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح.

٢٢٤

أقول: وروي مثله عن مقاتل أيضاً.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام في حديث في قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله الآية، قالعليه‌السلام : هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.

وفي الكافي: سئل عن الصادقعليه‌السلام : ما لصاحب المرئه الحائض منها؟ فقالعليه‌السلام : كلّ شئ ما عدا القبل بعينه.

وفيه أيضاً عنهعليه‌السلام : في المرئه ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيّامها، قالعليه‌السلام : إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثمّ يمسّها إن شآء، قبل أن تغتسل، وفي رواية: والغسل أحبّ إلىّ.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدّاً وهي تؤيّد قرائة يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدّم كما قيل: إنّ الفرق بين يطهرن ويتطهّرن أنّ الثاني قبول الطهارة، ففيه معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الأوّل فإنّه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، والمراد بالتطهّر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك، وإن كان هو الغسل بضمّ الغين أفاد استحباب الإتيان بعد الغسل كما أفادهعليه‌السلام بقوله: والغسل أحبّ إلىّ، لاحرمة الإتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهّر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهى، فافهم ذلك.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ثمّ اُحدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنعه فأنزل الله في كتابه: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين.

اقول: والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وفي بعضها: أنّ أوّل من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنّة.

وفيه عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفرعليه‌السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلمّا همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفرعليه‌السلام : اُخبرك - أطال الله بقاك وأمتعنا بك -: إنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتّى يرقّ قلوبنا وتسلو أنفسنا عن

٢٢٥

الدنيا وهوّن علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثمّ نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجّار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفرعليه‌السلام إنّما هي القلوب، مرّة تصعب ومرّة تسهل ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام أمّا إنّ أصحاب محمّد قالوا: يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال: فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنّا عندك فذكّرتنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتّى كنّا نعاين الآخرة والجنّة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت - وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحوّل عن الحالة الّتي كنّا عليها عندك، وحتّى كأنّا لم نكن على شئ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّا إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة الّتي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيّتم على الماء، ولو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقاً حتّى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتّنٌ توّاب، أمّا سمعت قول الله عزّوجلّ: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، وقال تعالى: استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه.

أقول: وروي مثله العيّاشيّ في تفسيره، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والإشراف على ما عند الله سبحانه، وقد مرّ شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ) البقرة - ١٥٦.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أنّكم تذنبون الخ، إشارة إلى سرّ القدر، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الأفعال وجزئيّات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الأسماء من الاقتضائات، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، وسائر آيات القدر، وقوله أما سمعت قول الله عزّوجلّ: إنّ الله يحبّ التوّابين الخ، من كلام أبى جعفرعليه‌السلام ، والخطاب لحمران، وفيه تفسير التوبة والتطهّر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس، ورينها عن القلب، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب،

٢٢٦

نظير ما ورد في قوله تعالى:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، من الاستدلال به على أنّ علم الكتاب عند المطهّرين من أهل البيت، والاستدلال على حرمة مسّ كتابة القرآن على غير طهارة.

وكما أنّ الخلقة تتنزّل آخذة من الخزائن الّتي عند الله تعالى حتّى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، كذلك أحكام المقادير لا تتنزّل إلّا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) آل عمران - ٧.

ومن هنا يستأنس ما مرّت إليه الإشارة: أنّ المراد بالتوبة والتطهّر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو إرجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه.

ويظهر أيضاً: معنى ما تقدّم نقله عن تفسير القمّيّ من قولهعليه‌السلام : أنزل الله على إبراهيمعليه‌السلام الحنيفيّة، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسةٌ في الرأس وخمسة في البدن، فأمّا الّتي في الرأس: فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى، وطمّ الشعر، والسواك، والخلال، وأمّا الّتي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، والختان، وقلم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنفيّة الطاهرة الّتي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، والأخبار في كون هذه الاُمور من الطهارة كثيرة، وفيها: أنّ النوره طهور.

وفي تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية: عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام أنّه قال: أيّ شئ تقولون في إتيان النساء في أعجازهنّ؟ قلت بلغني أنّ أهل المدينة لا يرون به بأساً، قالعليه‌السلام : إنّ اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، يعني من خلف أو قدّام، خلافاً لقول اليهود في أدبارهنّ.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام في الآية فقالعليه‌السلام : من قدامها ومن خلفها في القبل.

وفيه عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في

٢٢٧

دبرها فكره ذلك وقال: وإيّاكم ومحاشّ النساء، وقال: إنّما معنى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، أيّ ساعه شئتم.

وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ قال: كتبت إلى الرضاعليه‌السلام في مثله، فورد الجواب سألت عمّن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.

أقول: والروايات في هذه المعاني عن أئمّة أهل البيت كثيرة، مرويّة في الكافي والتهذيب وتفسيري العيّاشيّ والقمّيّ، وهي تدلّ جميعاً: أنّ الآية لاتدلّ على أزيد من الإتيان من قدامهنّ، وعلى ذلك يمكن أن يحمل قول الصادقعليه‌السلام في رواية العيّاشيّ عن عبدالله بن أبي يعفور، قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن إتيان النساء في أعجازهنّ قال: لا بأس ثمّ تلا هذه الآية: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم.

اقول: الظاهر أنّ المراد بالإتيان في أعجازهنّ هو الإتيان من الخلف في الفرج، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمّر بن خلّاد المتقدّم.

وفي الدرّ المنثور: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله، قال: كانت الأنصار تأتي نسائها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحاً كثيراً فتزوّج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلّا كما يفعل فأخبر بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُنزل:( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) أي قائماً وقاعداً ومضطجعاً بعد أن يكون في صمام واحد.

اقول: وقد روي في هذا المعنى بعدّة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، وقد مرّت الرواية فيه عن الرضاعليه‌السلام .

وقوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الإتيان في الفرج فقط، فإنّ الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الإتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدّة من الصحابة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول أئمّة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهمعليهم‌السلام إلّا أنّهمعليهم‌السلام لم يتمسّكوا فيه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم الآية، كما مرّ بيانه بل استدلّوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط:

٢٢٨

قال:( قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) الحجر - ٧١، حيث عرضعليه‌السلام عليهم بناته وهو يعلم أنّهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشئ من القرآن.

والحكم مع ذلك غير متّفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبدالله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدريّ وغيرهم: أنّهم كانوا لا يرون به بأساً وكانوا يستدلّون على جوازه بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية حتّى أنّ المنقول عن ابن عمر أنّ الآية إنّما نزلت لبيان جوازه.

ففي الدرّ المنثور عن الدار قطنيّ في غرائب مالك مسنداً عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك عليّ المصحف يا نافع! فقرأ حتّى أتى على، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله( سَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلّا في دبرها.

اقول: وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: وقال ابن عبد البرّ: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً: أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاويّ في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدريّ: أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فإنّكر الناس عليه ذلك، فأنزلت، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، الآية.

وفيه أيضاً أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجانيّ، قال: سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه.

وفيه أيضاً: أخرج الطحاويّ من طريق إصبغ بن الفرج عن عبدالله بن القاسم، قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشكّ في أنّه حلال يعني: وطى المرأة في دبرها ثمّ قرأ: نساؤكم حرث لكم، ثمّ قال: فأيّ شئ أبين من هذا؟

وفي سنن أبي داود عن ابن عبّاس قال: إنّ ابن عمر - والله يغفر له - أوهم أنّما

٢٢٩

كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل كتاب، وكان يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلّا على حرف، وذلك أسرّ ما تكون المرأة، وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذّذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلمّا قدم المهاجرون المدينة تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنّما كنّا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلّا فأجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عزّوجلّ: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد.

اقول: ورواه السيوطيّ في الدرّ المنثور بطرق اُخرى أيضاً عن مجاهد، عن ابن عبّاس.

وفيه أيضاً: أخرج ابن عبد الحكم: أنّ الشافعيّ ناظر محمّد بن الحسن في ذلك، فاحتجّ عليه ابن الحسن بأنّ الحرث إنّما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرّماً فالتزمه فقال: أرأيت لو وطأها بين ساقيها أو في أعكانها (الأعكان جمع عكنة بضمّ العين: ما انطوى وثنى من لحم البطن) أفي ذلك حرث: قال: لا، قال، أفيحرم؟ قال: لا، قال: فكيف تحتجّ بما لا تقولون به.

وفيه أيضاً: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عبّاس إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض؟ قال: بلى فأقرأ: ويسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهنّ من حيث أمركم الله فقال: ابن عبّاس: من حيث جاء الدم من ثمّ أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم؟ فقال: اي، ويحك، وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقّاً كان المحيض منسوخاً إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن أنّى شئتم من الليل والنهار.

اقول: واستدلاله كما ترى مدخول، فإنّ آية المحيض لاتدلّ على أزيد من

٢٣٠

حرمة الإتيان من محلّ الدم عند المحيض فلو دلّت آية الحرث على جواز إتيان الأدبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلاً حتّى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على أنّك قد عرفت أنّ آية الحرث أيضاً لا تدلّ على ما راموه من جواز إتيان الأدبار، نعم يوجد في بعض الروايات المرويّة عن ابن عبّاس: الاستدلال على حرمة الإتيان من محاشيهنّ بالأمر الّذي في قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله الآية، وقد عرفت فيما مرّ من البيان أنّه من أفسد الاستدلال، وأنّ الآية تدلّ على حرمة الإتيان من محلّ الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه، وأنّ آية الحرث أيضاً غير دالّة إلّا على التوسعة من حيث الحرث، والمسألة فقهية إنّما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلّق بدلالة الآيات.

٢٣١

( سورة البقرة آية ٢٢٤ - ٢٢٧)

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٤ ) لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٢٥ ) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢٦ ) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا ) إلى آخر الآية، العرضة بالضمّ من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتّى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للأكل، ومنه ما يقال للهدف: إنّه عرضة للسهام، وللفتاة الصالحة للازدواج إنّها عرضة للنكاح، وللدابّة المعدّة للسفر إنّها عرضة للسفر وهذا هو الأصل في معناها، وأمّا العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضاً لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتّى يفيد كثرة العوأرض إلى غير ذلك من معانيها فهي ممّا لحقها من موارد استعمالها غير دخيلة في أصل المعنى.

والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتقّ من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتقّ من العمل اسمٌ لآلة العمل كالسبّابة للإصبع الّتي يسبّ بها.

ومعنى الآية (والله أعلم): ولا تجعلوا الله عرضة تتعلّق بها أيمانكم الّتي عقدتموها بحلفكم أن لا تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس فإنّ الله سبحانه لا يرضى أن يجعل اسمه ذريعة للامتناع عمّا أمر به من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، ويؤيّد هذا

٢٣٢

المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائيّ إنشاء الله.

وعلى هذا يصير قوله تعالى: أن تبرّوا لخ، بتقدير، لا، أي أن لا تبرّوا، وهو شائع مع أن المصدريّة كقوله تعالى( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ) النساء - ١٧٦، اي أن لا تضلّوا أو كراهة أن تضلّوا، ويمكن أن لا يكون بتقدير، لا، وقوله تعالى: أن تبرّوا، متعلّقاً بما يدلّ عليه قوله تعالى: ولا تجعلوا، من النهى أي ينهاكم الله عن الحلف الكذائيّ أو يبيّن لكم حكمه الكذائيّ أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهياً عن الإكثار من الحلف بالله سبحانه، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنّكم إن فعلتم ذلك أدّاكم إلى أن لا تبرّوا ولا تتّقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإنّ الحلّاف المكثر من اليمين لا يستعظم ما حلف به ويصغّر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنّه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنّهم لا يصدّقونه فيما يقول، ولا أنّه يوقّر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حدّ قوله تعالى:( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ) القلم - ١٠، والأنسب على هذا المعنى أيضاً عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبرّوا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدلّ عليه النهي في قوله ولا تجعلوا، كما مرّ.

وفي قوله تعالى: والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أنّ المعنى الأوّل أظهرها كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) إلى آخر الآية، اللغو من الأفعال مالا يستبعد أثراً، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومتعلّقاته، فلليمين أثرٌ من حيث إنّه لفظ، وأثر من حيث إنّه مؤكّد للكلام، وأثر من حيث إنّه عقد وأثر من حيث حنثه ومخالفة مؤدّاه، وهكذا إلّا أنّ المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصّة من حيث اليمين تدلّ على أنّ المراد بلغو اليمين ما لا يؤثّر في قصد الحالف، وهو اليمين الّذي لا يعقد صاحبه على شئ من قول: لا والله وبلى والله.

٢٣٣

والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما وأصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الإنسان المادّيّة ثمّ استعير لكلّ ما يجتلبه الإنسان بعمل من أعماله من خير أو شرّ ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعيّة وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالأعمال المناسبة لها، وكسب اللوم والذمّ، واللعن والطعن، والذنوب والآثام، ونوهما بالأعمال المستتبعة لذالك، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الإنسان المنفعة لنفسه، والكسب أعمّ ممّا يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيّده وكسب الوليّ للمولّى عليه ونحو ذلك.

وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الإنسان لاغير.

( كلام في معنى القلب في القرآن)

وهذا من الشواهد على أنّ المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس والروح، فإنّ التعقّل والتفكّر والحبّ والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحدٌ إلى القلب باعتقاد أنّه العضو المدرك في البدن على ما ربّما يعتقده العامّة كما ينسب السمع إلى الاُذن والإبصار إلى العين والذوق إلى اللسان، لكنّ الكسب والاكتساب ممّا لا ينسب إلّا إلى الإنسان البتّة.

ونظير هذه الآية قوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ) ق - ٣٣.

والظاهر: أن الإنسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمّل فيها ورأى أنّ الشعور والإدراك ربّما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أنّ مبدء الحياة هو القلب، أي إنّ الروح الّتي يعتقدها في الحيوان أوّل تعلّقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، وإنّ الآثار والخواصّ الروحيّة كالإحساسات الوجدانيّة مثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف

٢٣٤

وأمثال ذلك كلّها للقلب بعناية أنّه أوّل متعلّق للروح، وهذا لا ينافي كون كلّ عضو من الأعضاء مبدئاً لفعله الّذي يختصّ به كالدماغ للفكر والعين للإبصار والسمع للوعي والرئة للتنفّس ونحو ذلك، فإنّها جميعاً بمنزلة الآلات الّتي يفعل بها الأفعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.

وربّما يؤيّد هذا النظر: ما وجده التجارب العلميّ أنّ الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلّا أنّها تفقد الإدراك ولا تشعر بشئ وتبقى على تلك الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائيّة ووقوف القلب عن ضرباته.

وربّما أيّده أيضاً: أنّ الأبحاث العلميّة الطبيعيّة لم توفّق حتّى اليوم لتشخيص المصدر الّذي يصدر عنه الأحكام البدنيّة أعني عرش الأوامر الّتي يمتثلها الأعضاء الفعّالة في البدن الإنسانيّ، إذ لا ريب أنّها في عين التشتّت والتفرّق من حيث أنفسها وأفعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لأمير واحد، وحدة حقيقيّة.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ ذلك كان ناشئاً عن الغفلة عن أمر الدماغ وما يخصّه من الفعل الإدراكيّ، فإنّ الإنسان قد تنبّه لما عليه الرأس من الأهميّة منذ أقدم الأزمنة، والشاهد عليه ما نرى في جميع الاُمم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدء الحكم والأمر بالرأس، واشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس والرئيس والرئاسة، ورأس الخيط، ورأس المدّة، ورأس المسافة، ورأس الكلام، ورأس الجبل، والرأس من الدوابّ والأنعام، ورئاس السيف.

فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الإدراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحبّ والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفّة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب، ومرادهم به الروح المتعلّقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى أنفسهم، يقال: أحببته وأحبّته روحي وأحبّته نفسي وأحبّه قلبي ثمّ استقرّ التجوّز في الاستعمال فاُطلق القلب واُريد به النفس مجازاً كما ربّما تعدّوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكاناً لأنحاء الإدراك والأفعال والصفات الروحيّة.

٢٣٥

وفي القرآن شئ كثير من هذا الباب، قال تعالى:( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) الانعام - ١٢٥، وقال تعالى:( أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ ) الحجر - ٩٧، وقال تعالى:( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) الأحزاب - ١٠، وهو كناية عن ضيق الصدر، وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) المائدة - ٧، وليس من البعيد أن تكون هذه الإطلاقات في كتابه تعالى إشارة إلى تحقيق هذا النظر وإن لم يتّضح كلّ الاتّضاح بعدُ.

وقد رجّح الشيخ أبو علي بن سينا كون الإدراك للقلب بمعنى أنّ دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الإدراك وللدماغ الوساطة.

ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن مجاز عقليّ فإنّ ظاهر الإضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلّق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الإثم المترتّب عليه عند الحنث ففيه مجازٌ عقليّ وإضراب في إضراب للإشارة إلى أنّ الله سبحانه لا شغل له إلّا بالقلب كما قال تعالى:( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) البقرة - ٢٨٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) الحجّ - ٣٧.

وفي قوله تعالى: والله غفورٌ حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنّه ممّا لا ينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - إلى أن قال -وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون - ٣.

قوله تعالى: ( لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ) الخ، الإيلاء من الألية بمعنى الحلف، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضباً وإضراراً، وهو المراد في الآية، والتربّص هو الانتظار، والفئ هو الرجوع.

والظاهر أنّ تعدّية الإيلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، ويشعر به تحديد التربّص بالأربعة أشهر فإنّها الأمد المضروب للمباشرة الواجبة شرعاً، ومنه يعلم: أنّ المراد بالعزم على الطلاق العزم مع إيقاعه، ويشعر به أيضاً تذييله بقوله تعالى: فإنّ الله سميع عليم، فإنّ السمع إنّما يتعلّق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.

٢٣٦

وفي قوله تعالى: فإنّ الله غفور رحيم، دلالة على أنّ الإيلاء لا عقاب عليه على تقديرالفئ. وأمّا الكفّارة فهي حكم شرعيّ لا يقبل المغفرة، قال تعالى:( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) المائدة - ٨٩.

فالمعنى أنّ من آلى من امرأته يتربّص له الحاكم أربعة أشهر فإن رجع إلى حقّ الزوجيّة وهو المباشرة وكفّر وباشر فلا عقاب عليه وإن عزم الطلاق وأوقعه فهو المخلص الآخر، والله سميع عليم.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية، قالعليه‌السلام : هو قول الرجل: لا والله وبلى والله.

وفيه أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام في الآية: يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه وما أشبه ذلك أو لا يكلّم اُمّه.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل علىّ يمين أن لا أفعل.

اقول: والرواية الأولى كما ترى تفسّر الآية بأحد المعنيين، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر، ويقرب منهما ما في تفسير العيّاشيّ أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الإثم الحديث، فكأنّ المراد أنّه ينبغي أن لا يحلف بل يصلح ويحمل الإثم والله يغفر له، فيكون مصداقاً للعامل بالآية.

وفي الكافي عن مسعدة عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم الآية، قال: اللّغو قول الرجل: لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ.

اقول: وهذا المعنى مرويّ في الكافي عنهعليه‌السلام من غير الطريق، وفي المجمع عنه وعن الباقرعليهما‌السلام .

٢٣٧

وفي الكافي أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام أنّهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حقّ في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في الكفّ عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسّها فما سكتت ورضيت فهو في حلّ وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إمّا أن تفئ فتمسّها وإمّا أن تطلّق، وعزم الطلاق أن يخلّي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلّقها، وهو أحقّ برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الّذي أنزل الله في كتابه وسنّه رسول الله.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في حديث: والإيلاء أن يقول: والله لا اُجامعك كذا وكذا أو يقول: والله لأغيظنّك ثمّ يغاظها، الحديث.

اقول: وفي خصوصيّات الإيلاء وبعض ما يتعلّق به خلاف بين العامّة والخاصّة، والبحث فقهيّ مذكور في الفقه.

٢٣٨

( سورة البقرة آية ٢٢٨ - ٢٤٢)

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٢٨ ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٢٩ ) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٢٣٠ ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٢٣١ ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢٣٢ ) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ

٢٣٩

حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٣ ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٣٤ ) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٣٥ ) لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( ٢٣٦ ) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٧ ) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( ٢٣٨ ) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481