الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131692 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

س: ما هي التغيّرات الإيجابية التي لمستها في حياتك منذ اعتناقك الإِسلام؟

ج: لقد وجدتُ السلام الداخلي.. لقد عشتُ السلام في قلبي وروحي وفي علاقاتي بالآخرين، حتى باتت حياتي مستقرة، وانعكس ذلك على حياة ابنتيّ أيضاً، واندفعت إلى الحياة بقوة وإرادة أكبر، فعدت لمتابعة دراستي في الجامعة.

س: يعني أنك تشعرين الآن براحة أكبر من ذي قبل؟

ج: طبعاً، والحمد لله، أشعر بلذة كبرى أثناء الصلاة وصوم شهر رمضان المبارك، وأعلم أن عليّ أن أتعلم الكثير الكثير عن الإِسلام، فكلما وقعت على معرفة معينة تبيّن لي أن الذي أعرفه لا يوازي ذرة في كتاب هذا الوجود، فعليّ البحث أكثر، علماً أن حياة الفرد قصيرة، قياساً بما يجب أن يتعلّمه الإنسان في هذه الحياة.

س: على ضوء تجربتك، هل تقترحين أساليب معينة لدعوة غير المسلمين للإِسلام؟

ج: أتمنى أن تطابق أقوالنا أفعالنا، فنمارس قولاً وعملاً ما تدعو إليه العقيدة الإِسلامية، وأن نستحضر الله تعالى في كل ما نقوم به، ونسير على هدي النبي محمد (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وأن نحدّث الناس عن الإِسلام باللين والكلمة الحسنى، وألا تزعزع الأزمات والمصاعب إيماننا بالله تعالى.

س: ما هو الدور الذي تقومين به أو تنوين القيام به لخدمة الدعوة الإِسلامية؟

ج: أبذل قصارى جهدي لأتمتع بصفات المرأة المسلمة المتديّنة، وهذا بحد ذاته دعوة إلى الله من خلال أفعالي وسلوكي، وأسأل الله أن أكون عند حسن ظنه تعالى.

س: ما مدى إمكانية الدعوة إلى الدين الحنيف في بلادك؟

ج: يحتاج الإِسلام في بلادي إلى القدوة الحسنة، فبقدر ما يلتزم المسلمون بتعاليم الإِسلام هنا، يسهل تغلغل الإِسلام إلى القلوب والعقول، فالإِسلام يحمل بداخله مقومات قادرة على إنقاذ الناس من التيه والضياع ولجوئهم إلى المخدرات، وبإمكان هذا الدين إنقاذنا من الغرائز المنحطة التي سجن الإنسان نفسه خلف قضبانها.

لقد وضع الإِسلام في أيدينا المفتاح إلى الجنة، وكل ما علينا هو إدارة هذا المفتاح للولوج إلى عالم الآخرة، ولا يكون ذلك إلا باتباع أوامر الله تعالى وسُنَّة نبيه (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) برضىً وطمأنينة.

١٤١

س: كيف ترين أوضاع المسلمين الحالية؟

ج: في الواقع أجد الكثيرين منهم منغمسين في أمور دنياهم دون الالتفات إلى أمر الآخرة، وهؤلاء كسالى عن الدعوة إلى الله، وعن تطبيق الإِسلام في حياتهم الفردية والاجتماعية، همّهم الاستمتاع بهذه الدنيا الفانية التي تعمي بصائرهم عن سعادة الإيمان والتقوى والعمل بما أنزله الله تعالى.

س: كيف ترين أوضاع المرأة المسلمة؟

ج: أعلّم ابنتيّ أنهما غاليتان، وعليهما ألا تفرطا بنفسيهما بثمن بخس، فالفتاة أم المستقبل وعلى الجميع من حولها احترامها. وعلى جميع الرجال المسلمين حماية النساء، وعلى هؤلاء أيضاً حماية أنفسهن.

لقد وُهبنا والحمد لله هذا الإيمان، ولكن هذا الإيمان يجب أن يتسع ويقوى، ويتغلب على جميع الشرور التي تتجه إلى تشويه دور المرأة كواهبة للحياة، ومنارة للحب والراحة والسرور.

١٤٢

الأخت المسلمة السويدية

الدكتورة سمية «بارنيللا» تقول لـ «نور الإِسلام»

· العناية الإلهية شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية إلى دين الله تعالى.

· الإِسلام دين المنطق والعدل، يقبل النقاش العقلي الحر. ويضفي التوازن على كل جوانب الحياة الإنسانية.

· أدعو المرأة المسلمة وخاصة في البلاد الإِسلامية. لتعتبر أن حصنها هو حجابها، وأن التزامها بدينها هو طريق تقدّمها ومستقبلها. لا تقليد الحضارة الغربية الزائفة.

السويد كغيرها من الدول الغربية التي نجح الإِسلام، بما يمتلكه من قوة الإقناع، أن يستقطب إلى صفوفه أعداداً متزايدة من أبنائها الذين أتيح لهم أن يطلعوا على أفكاره ونظمه.. فلا أسوار التعصب والجهل التاريخية، ولا حواجز الحضارة المادية بكل بهارجها ومغرياتها، ولا الدعايات المضادة للإِسلام بكل لؤمها وخبثها.. ليس كل هذا بقادر على أن يمنع أنوار الهداية الإلهية، من أن تضيء العقول والنفوس التي تهفو إلى الحق وتبحث عن الحقيقة.

هذه الحقيقة تؤكدّها وتبيّنها بوضوح حكاية الأخت المسلمة السويدية الدكتورة سمية - بارنيللا سابقاً - مع الإِسلام الذي شدّها إليه وضوح عقيدته وعقلانيته وشمولية رسالته، فاستنقذها كما تقول مما كانت تعانيه من فراغ عقائدي وروحي، ومنحها الطمأنينة والدافع لكي تنخرط في نشاطات فكرية واجتماعية عديدة من أجل رعاية المسلمين في منطقتها، وحمل مهمة تبليغ الإِسلام في أنحاء دولة السويد كافة.

في منزلها الزوجي في بلدة «شاملينغ» التابعة لمدينة لوند السويدية، التقتها «نور الإِسلام» بحضور زوجها الأخ جميل الجزائري الجنسية، وأطفالها الأربعة، ومنهم ابنتها التي ذكرت لنا أنها الوحيدة المحجبة في صفها، وهي معتزة بذلك.. وبعد الترحيب كان السؤال الأول:

س: كيف تصفين لنا رحلتك نحو اعتناق الإِسلام؟

ج: في الحقيقة أنا أعتبر أن العناية الإلهية هي التي شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية لدين الله تعالى، الذي اختاره وارتضاه ليقود خطى البشرية نحو شاطىء الأمان، وهو الدين الصالح لكل زمان ومكان.

١٤٣

وكانت رحلتي نحو الإِسلام قد بدأت منذ أوائل الثمانينيات، وهي لم تكن سهلة أو سريعة، حيث أخذتُ متسعاً من الوقت للاطلاع والتأمل، قبل أن أتخذ القرار السعيد باعتناق الإِسلام والالتزام بتعاليمه والجهر بذلك، بعدما حصل لديّ الاقتناع واليقين بصحة هذه الخطوة المصيرية بالنسبة إليّ.. وإذا شئتم ذكر بعض التفاصيل حول الكيفية التي تعرّفت فيها إلى الإِسلام والتي قادتني إليه، فإن الفضل في ذلك بعد التوفيق الإلهي يعود إلى أختي مريم، التي نشأتُ معها في قريتنا «سفل - Siffle »، وكانت قد اختارت الدراسة الجامعية في إحدى الجامعات الصينية، وهناك رغبت في الاطلاع على البوذية بحكم الفراغ العقائدي الذي كانت تعيشه، ولكن بحمد الله، فإن الطريق بدلاً من أن يقودها إلى البوذية أوصلها إلى الإِسلام، حيث تعرّفت هناك إلى مجموعة من الطلاب المسلمين الذين كانوا يدرسون في الجامعة نفسها، وبواسطتهم اطلعت على الإِسلام فاقتنعت به وأعلنت إسلامها، وتزوّجت من أحد الطلبة المصريين. وعندما عادت إلى السويد جرى بيني وبينها نقاشات مطوّلة حول الإِسلام، جعلت صدري ينشرح لهذا الدين، وأعادتني إلى التفكير بالحياة الدينية والروحية بعد أن كنت غير مبالية، وهذا ما دفعني إلى مزيد من الاطلاع على الإِسلام، فكان لي لقاءات مع بعض الطلبة المسلمين المثقفين الذين أجلوا لي بعض الغوامض وزودوني بالعديد من الكتب التي استفدت منها كثيراً، حيث بدأتُ أحصل على أجوبة مقنعة على الأسئلة التي كان تحيّرني وتبعث في نفسي الشك، وهكذا وجدت الإِسلام دين العقل والمنطق والعدل، ووجدته يؤمّن التوازن بين العقل والعاطفة، وفي كل جوانب الحياة الإنسانية، ويضع للإنسان منهجاً يؤمّن له السعادة في الحياتين.. الدنيا والآخرة، كما يطرح حلولاً متميزة لكل المشاكل التي تعترض حياة الإنسان، وهذا ما دفعني للتحول نحوه.

س: كيف كان صدى التزامك بالإِسلام بين أهلك وفي محيطك؟

ج: قبل ارتدائي الحجاب والالتزام باللباس الشرعي، اقتصر رد فعل أهلي وأصدقائي على بعض التعجّب والتساؤل عمّا إذا كنت سأثبت على قناعاتي الجديدة، وعمّا إذا كنت سأتعدّى مجرد القناعة إلى الالتزام الظاهري، ولكن بعد زواجي ذهبتُ مع زوجي جميل إلى الجزائر، وهناك التزمتُ بالحجاب واللباس الشرعي، وبعد عودتي إلى السويد واجهتُ الكثير من الاستغراب والأسئلة المعترضة على وضعي الجديد سواءً من الأهل أو الأصدقاء حيث لم يكن أحد يتصوّر أنني سألتزم إلى هذا الحد، وقد عرفوني سابقاً غير مبالية بالدين، ولم يدر في خلدهم أن الإِسلام أمر مختلف وأنه ليس مجرد ديانة تعنى بباطن الفرد فقط، بل هو أسلوب للحياة والتعامل.

١٤٤

وبارتدائي الحجاب في ذلك الوقت، أصبحت في نظرهم أنتمي إلى الأقليات المسلمة التي يتجنبها الإنسان السويدي، الذي هو بطبيعته يعيش العزلة والخوف من الجديد والمختلف، غير أن هذا لم يمنعني من أن أشق طريقي بكل ثقة وصبر، وأن أفرض احترامي واحترام ما التزمت به على الكثيرين ممن تبرموا في البداية.

س: كيف ترين أهمية الحجاب بالنسبة إلى المرأة المسلمة وخصوصاً في الغرب؟

ج: الحجاب بنظري هو حصن تعيش المرأة في داخله بكل طمأنينة، واثقة بالنفس، وهو يفسح المجال أمام المرأة للتفكير بما هو أهم من الملابس والزينة، ويعطيها الفرصة لتصبّ جهودها أكثر على ما يدفعها ويدفع محيطها للتقدّم، لأنها تحرّر نفسها من الاستغلال الرخيص لأنوثتها فتتحرّر من سطوة جشع تجار الأزياء وتفاهاتهم، ومن عبث وفساد وسائل الإعلام والإعلان التي تسيّر النساء الفارغات في عالمنا المعاصر.

س: هل يمكن أن تعطينا صورة عن المستوى العلمي الذي توصّلت إليه وعن مجال عملك؟

ج: لقد تابعتُ دراستي بعد إسلامي حتى نلتُ شهادة الدكتوراه من جامعة لوند، وذلك في قسم البيئة البشرية، وكان موضوع أطروحتي هو «المسلمون في الشرق الأوسط»، الذي هو محل اهتمامي الشخصي، وهذا ما اقتضي مني زيارة عدة دول إسلامية في الشرق الأوسط لاستكمال المعلومات حول هذا الموضوع، وأنا الآن أعمل باحثة في جامعة لوند نفسها.

س: علمنا أن لديك نشاطات إسلامية متعددة، فما هي؟

ج: لقد انتخبتُ عضواً في الأكاديمية الإِسلامية، وهي جمعية تضم الجامعيين المسلمين في جميع أنحاء السويد، وتهتم بالتعريف بالإِسلام، وإجلاء صورته في المجتمع السويدي، والدعوة إليه عن طريق المحاضرات والندوات والكتب والمنشورات، وأنا أساهم قدر طاقتي في نشاطات هذه الجمعية.

١٤٥

أمّا نشاطي الإِسلامي الأساسي فيتم من خلال النادي النسائي في مدينة لوند وجمعية الإرشاد الإِسلامية الخاصة بالنساء المسلمات السويديات والمهاجرات، وتهتم الجمعية بالتوعية الثقافية الإِسلامية عن طريق تدريس التربية الدينية والعلوم الإِسلامية واللغة العربية. وتقيم الجمعية الندوات واللقاءات العامة، كما تنظم زيارات للمدارس والجامعات بهدف التبليغ الإِسلامي. إلى جانب ذلك، لدينا اهتمام خاص بالأطفال لتنشئتهم نشأة إسلامية سليمة، وإبعادهم عن المحيط المنحرف.

س: ما رأيك بمستقبل النشء المسلم الجديد في السويد والمجتمعات الغربية؟

ج: برأيي أن الأطفال المسلمين سيواجهون صعوبة أقل لدى انخراطهم بالمجتمعات الغربية، لأنه من الأسهل عليهم فهم تركيبة المجتمع الذي نشأوا فيه والتكيّف معه بمرونة أكثر من كبار السن المهاجرين، سواء في السويد أم في غيرها.

س: ما هي المشكلات التي يعاني منها المسلمون في السويد؟

ج: يعاني المسلمون في السويد من مشاكل عدة، تنعكس سلباً على تحسين أوضاعهم، منها:

- انخفاض المستوى التعليمي، حيث أن الأكثرية منهم جاءوا إلى السويد للاستفادة من الرفاهية المادية الموجودة هنا، وهذا ما يعيقهم عن الحصول على وظائف عالية.

- المشاكل القائمة بين المجموعات المسلمة ذاتها، حيث يختلف بعضهم على المرجعية التي تبتّ في القضايا المهمة التي تهم جميع المسلمين.

س: كيف ينظر السويديون والغربيون عامة إلى المسلمين الموجودين بينهم؟

ج: يصنّف المسلمون في الغرب عادة إلى قسمين: قسم يسمّونهم متطرفين، وهم الذين يتمسّكون بدينهم ويطبقون شعائره ولا يجاملون في ذلك. وقسم آخر يسمّونهم معتدلين، وهم عادة الذين لا يبالون بأمور الدين ويهملون واجباتهم الشرعية، لأنهم متأثرين بالحياة الغربية المادية. ولكن على العموم فإن نظرة الغربيين إلى الإِسلام والمسلمين هي عموماً سلبية، وهي ناشئة عن رؤيتهم الحضارية والدينية المختلفة والاحتكاكات التاريخية، كما أن الإعلام المعادي الموجّه يغذي هذه النظرة السلبية، ويعمل على تضخيم وهم الخطر الإِسلامي على الغرب. كما لا ننسى هنا أخطاء المهاجرين المسلمين وأفعال الكثيرين منهم التي تعطي صورة سيئة عنهم، وعمّا يمثلون.

١٤٦

ولا يعني هذا أن ليس هناك تفهّم للإِسلام وتعاطف مع المسلمين وقضاياهم لدى جهات وأشخاص كثيرين في الغرب، وهنا تأتي مسؤولية المسلمين لكي يبذلوا الجهود المضاعفة كي تتسع هذه النظرة الإيجابية للإِسلام في الغرب.

س: هل من كلمة أخيرة؟

ج: أريد أن أوجّه عبر مجلتكم الموقرة نداءً مختصراً إلى المرأة المسلمة عموماً وإلى النساء في البلاد الإِسلامية بشكل مباشر لأدعوهن إلى مزيد من الوعي والتعقل والتمسك بالإِسلام، هذه الرسالة العظيمة، كي يساهمن بشكل أفضل في تماسك وتطوير وسلامة مجتمعاتهن لإبعادها عن الموبقات والمفاسد التي تعصف بالمجتمعات الغربية، والتي تحطّ من قدر الإنسان، وألا ينخدعن بمظاهر الحياة الغربية ومغرياتها وحرياتها الزائفة، التي تزيّنها لهن وسائل الإعلام المفسدة، فهذه لا تؤدي إلّا إلى سقوطهن وتدمير كل مقومات القوة التي يوفرها لهن الإِسلام في أنفسهن ومجتمعاتهن، وأني آمل من كل اللواتي انبهرن بهذه القشور وتخلين عن مزايا شخصيتهن الإِسلامية الكريمة أن يراجعن أنفسهن ويواجهن الحقيقة بإرادة وصدق.

١٤٧

الأخ المسلم البريطاني جان هانز (محمد علي)

يقول:

· السلوك النظيف والقويم لبعض العمّال المسلمين الملتزمين جعلني أُكبِر الإِسلام وأرغب في اعتناقه.

· في الغرب نحلم بالسعادة ولا نجدها، بل نعيش الحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننالها.

· تفرّغت لطلب العلوم الدينية الإِسلامية من أجل خلاص نفسي وهداية أهلي ومجتمعي.

· النبي الأعظم (ص) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) هم معلمو البشر وقادتهم، ويجب أن نتخذهم قدوة لنا.

في الوقت الذي تنتشر فيه الفلسفات المادية والتيارات الإلحادية وهي تغزو وسائل الإعلام في كل قطر وبلد، مدعومة بأحدث وسائل الاتصال والنشر. تجد ثلّة من الناس طريقها الواضح المستقيم، وسط الغبار والزحام المتراكم من الأيديولوجيات والأفكار، مهتدية بنور الإِسلام الذي يجذب إلى ساحته كثيراً ممن أنعم الله عليهم بنعمة الدين الحنيف، ومن قلب الغرب الذي أدار ظهره للدين منذ أن أعرض عن النهج الإلهي، في مطلع النهضة العلمية التي حققت له رفاهية مادية ولكنها فشلت في أن توصله إلى رحاب الطمأنينة وواحة السعادة في هذه الدنيا فضلاً عن الآخرة. من بين هؤلاء النخبة المهتدية، نبدأ حديثنا عن إسلام الشاب البريطاني جان هانز «محمد علي» بهذه اللمحة الدالة التي توجز حوار مجلة «نور الإِسلام» مع هذا الشاب المهتدي.

التقيناه في رحاب المقام الشريف للسيدة زينب (عليها السلام) في ضاحية دمشق الشام، هناك ذات مساء، بعد أداء شعائر الزيارة المباركة، وبعد الفراغ من الصلاة، من بين تلك الوجوه الطيبة التي أمّت المقام الشريف، طالعنا بوجهه المشرق وثغره المبتسم، والطريف في هذا الأمر، أن هذا الشاب كان يرتدي الزي الخاص بطلاب العلم الديني، وكان مظهره يحمل أكثر من دلالة.. بعد أن رحبنا به دار بيننا الحوار التالي:

١٤٨

س: هل لك أن تعطينا لمحة عن نشأتك؟

ج: نعم بكل ترحيب، وُلدت في بريطانيا، وعشتُ طفولتي كأي فرد مسيحي، يذهب مع عائلته إلى الكنيسة أيام الآحاد والأعياد، ولم أكن أشعر بأن شيئاً يمكن أن يطرأ على حياتي فيبدلها، ولكني كنت أشعر كأكثر الناس بأن الحياة تمضي بنا حثيثية دون أن تحمل إلينا معنى أو هدفاً نبيلاً، فالناس تعيش دون مُثُل أو قيم، مكتفية بالاستغراق في الحياة المادية العابثة التي تجعل منّا أناساً أشبه بالأنعام التي تعيش ليومها ولا تفكر بغد.

كانت حياتنا رتيبة، نحلم بالسعادة ولا نجدها، فتشنا عنها كثيراً فلم نجدها في حدود متع الدنيا ولذاتها، بل كنا نصاب بالحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننال منها نصيباً، لهذا كنا نعيش حياة ينتهي وجودنا بانتهائها؛ ولهذا كان الكثير من الشباب يفكرون بالتخلص من هذه الحياة الفارغة، إما بالهروب إلى المخدرات، هروباً آنياً وإمّا بالانتحار. وقد حصل أن أقدم شبان كثر على قتل أنفسهم عندما قرأوا كتاب «آلام فرتر» للكاتب الألماني «غوته» في الحقبة الماضية. في تلك الفترة لم أكن أختلف بشيءٍ عن أقراني، لقد درستُ وتعلمتُ في إنكلترا وتخرجت من الجامعة مهندساً، ثم سافرت للعمل في الخارج.

س: هل لك أن تحدثنا عن تجربتك الجديدة في ظل الإِسلام؟

ج: كانت بداية التحوّل في حياتي الشخصية حينما سافرت إلى الباكستان للعمل هناك، وبعد انقضاء فترة على وجودي في تلك البلاد، كنت خلالها أراقب العمّال البسطاء الذين كانوا يشتغلون تحت إشرافي. وقد لفت نظري إخلاصهم في العمل فضلاً عن صدقهم في المعاملة، وتفانيهم في أداء ما يُطلب منهم بكل أدب واحترام، ولاحظتُ أن السبب في ذلك يعود إلى روح النظام وجو الطهارة الذي اكتسبوه من عادة حسنة، فقد كانوا يقفون بانتظام صفاً للصلاة بضع مرات في اليوم، بعد أن يقوموا بتنظيف أجسامهم في أحواض الماء، ويغسلون بعض أعضائهم أو يمسحونها، وهي دلالة ظاهرة على طهارة الأبدان، ودلالة باطنة على نظافة الروح وتطهير النفس، وقد تعلمت منهم قول الرسول (ص) :

١٤٩

«أفضل الطيب الماء» .. أما عندنا فما نفع العطور التي يضعها الإنسان على جسم تتنازعه الأقذار والنجاسات، من الخمرة إلى الميتة ولحم الخنزير وما أشبه ذلك. ثم تعلمتُ من هؤلاء العمّال، كيف أملأ وقتي بما يفيد، وكيف أنظِّم ساعات يومي، بعد أن أقف مثلهم لحظات بخشوع وأتلفظ بالكلمات ذاتها، التي تشيع الأمن والطمأنينة في نفسي.

وعرفتُ من هنا أن الفرد المسلم يمثّل الطهارة المادية المتجسّدة في نظافة جسمه من الأدران ونظافة روحه من الآثام.

س: هل من سبب آخر دفعك إلى اعتناق الإِسلام؟

ج: لقد كان في حياتنا نحن الغربيين، كما أشرتُ إليك، فراغ هائل، نابع من انتفاء القِيم في واقع الإنسان الغربي، وهذا ما يبعث على القلق المؤدي إلى عذاب الروح، فعندنا كلمة شائعة يتداولها الناس تدلّ على اللامبالاة وعدم الاكتراث مثل «لا يهمني» أو أن يقول قائلنا لكل أمر جديد أو مدهش «حسناً».

والجدة عندنا معيار وقيمة توزن بها الأشياء، فكل شيء إذا مضى عليه وقت يفقد قيمته ويتطلع الإنسان إلى الجديد الذي يبهر ثم سرعان ما يفقد هذا الجديد سحره وتأثيره، وهكذا يظل الإنسان يلهث وراء كل جديد، حتى يتبلد إحساسه فلا يشعر بقيمة الأشياء، فتفقد الأشياء معناها وجوهرها، فيصبح الإنسان عديم الإحساس، من هنا يفكر في الخلاص بأي طريق كان.

بينما يعطي الإِسلام منهجاً وسطاً في المنع والعطاء، في التمنع والحرمان، هذا المنهج الوسط يبقي للأشياء معناها، لأن الحرية المطلقة التي تبلغ الإباحية والإسراف، تستهلك جوهر الأشياء وتبطل معناها، وهنا تكمن الكارثة في الحياة الغربية القائمة على البراغماتية والمتعة الآنيّة.

لقد وهبني الإِسلام منهجاً في الحياة قرّت به عيني واطمأنت إليه نفسي، بعد سنوات من الضياع والقلق الذي يغرق فيه مجتمعنا المتردي في دوامة الانحلال على الصعيدين المادي والروحي.

ولم أصدق أن هناك عقيدة تحمل إلى الإنسان السكينة والاستقرار إلّا بعد أن رأت عيناي وسمعت أذناي ولمستُ الحقيقة التي لا ريب فيها أن الإِسلام بصفاته وسماحته هو المنتجع الآمن والواحة التي تستظل بها النفوس التواقة إلى رحاب السعادة. كان ذلك التحوّل الكبير في حياتي حين تعرفت إلى خاتم الديانات وجوهر الرسالات، الإِسلام الحنيف، وكان ذلك بفضل العناية الإلهية.

١٥٠

س: ما هي الأسباب التي دفعتك لتكون طالباً في مدرسة العلوم الدينية؟

ج: عندما اهتديتُ إلى الإِسلام، فكرت بأهلي ومجتمعي، وعرفت أني سأواجه اعتراضاتهم، لذلك شئت أن أتسلح بالحجة والبرهان، وسبيلها العلم والمعرفة، لذا عقدتُ العزم على تلقي العلوم والمعارف الإِسلامية.

س: ألا يسبب لك حرجاً ارتداؤك الزي الخاص برجال الدين؟

ج: في الأساس لم أفكر في خلاص نفسي فحسب، بل فكرت في خلاص الآخرين من أهل وطني، لهذا وطّنت النفس على تجاوز الصعاب، إنني فخور بارتداء العمامة والزي الديني، وهذا يمنحني الحرية في الحركة، بهذه الثياب الفضفاضة، كي يحررني من الزي الغربي الملاصق للجسد، فذاك يضغط عليّ ويرهقني، وهذا يتيح لي التحرك بسهولة، وهو رمز للتجرد عن زيف الحضارة في الزينة والتجمل.

ثم إن المجتمع الغربي يدّعي الحرية والديمقراطية، فأنا من هذا المنطلق يحق لي أن أرتدي ما أشاء.

س: ماذا تنوي أن تفعل عندما تعود إلى وطنك؟

ج: انطلاقاً من قول الإمام علي (ع) : «أحب لغيرك ما تحب لنفسك»، لهذا فإنني أبغي الخير لإخواني في الإنسانية من أبناء وطني كما قال الإمام (ع) : «واعلم أن الناس إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». فسوف أقوم بواجبي في التبليغ الإِسلامي، وإنني آمل منهم أن يستجيبوا.

س: ما هو مدى اطلاعك على الثقافة الإِسلامية؟

ج: إني سعيت للاطلاع على المعارف والعلوم الإِسلامية بشغف ومحبة، وإنني ملم بحياة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) ، ومطّلع على الكثير مما قالوه وفعلوه، وإنني أؤمن بعصمتهم وأنهم معلمو البشر وقادتهم، وأتخذهم قدوة وأجعل من أقوالهم شعاراً ومن أفعالهم أمثولة في الحياة.

١٥١

س: هل من كلمة أخيرة تتوجه بها إلى القرّاء؟

ج: إنني أؤكد إنني وجدتُ للحياة قيمة بعد اعتناقي الإِسلام، فنحن لم نخلق عبثاً، بل لغاية سامية، والجدة التي هي معيار كاذب وزائف لم تعد تعني لي شيئاً.

وإنني أردد ما قاله المرجع الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء «بلّغوا الإِسلام إلى الغرب، فإذا نجحتم في رسالتكم هناك، حققتم أهدافكم في التبليغ هنا»، لأن الشرق مولع بتقليد الغرب، وهو مرض العصر، ولقد كان الغرب الإسباني في عصر الإِسلام، يتوجه بأنظاره قِبَل المشرق، وإنني أدعو جميع الناس إلى قراءة الإِسلام ومعرفته عن كثب ليتسنى لهم الاهتداء ثم هداية الآخرين، لأن الناس أعداء ما جهلوا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

١٥٢

الأخت الروسية المهتدية، يلينا كوشيليوفا

تقول «لنور الإِسلام»:

- على الرغم من الدعاية الإلحادية التي كان يفرضها النظام التعليمي الشيوعي السابق، كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد.

- من خلال كتاب «حياة محمد» لأحد الكتّاب الروس، أعجبت بشخصية الرسول (ص) ثم صرت أبحث عن الكتب الإِسلامية.

- الأسف يعتصر قلبي، كيف لم تهتدِ النسوة السافرات إلى نعمة الحجاب، وما يمثّله من قيم النقاء والطهر.

- إنني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على طريق المدنية القادمة من الغرب.

يلينا يورينيفا كوشيليوفا

لم تكن تدري يلينا وهي الفتاة الروسية التي تعيش في مجتمع شيوعي يؤمن بالقيم الماركسية، أنها على موعد مثير، مع صدفة رائعة حملها إليها عيد الأضحى، حينما التقت بمن هيَّأته العناية الإلهية لينقلها من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى الدين الحنيف، لقد وُلدت من جديد، كما تقول يلينا، وكنت أشعر بإرهاصات تنبئ عن استعداد وتوجه في عمق وجداني. كالظافر بالماء وسط الصحراء، لأجد الحوض الطاهر النقي، الذي ألقيت بنفسي في لجته، لأتطهر من أدران هذا العالم الذي أضاع قيم الروح والإنسانية.

تجربتي مع الإِسلام مثيرة وغنية بالعبر إذا ولجتم إلى أعماقي ستجدون أنني جد سعيدة بهذه المصادفة الرائعة. وكأن القطار الذي كان ينقلني من إحدى المدارس في ضواحي «لاتيا» كان يحملني إلى شاطئ السعادة والأمان وواحة الهداية واليقين.

في مسكنها الزوجي في بيروت وبين عائلتها السعيدة التقت نور الإِسلام السيدة يلينا وكان لنا معها هذه المقابلة:

١٥٣

س: هل لك أن تعطينا لمحة موجزة عن نشأتك وتربيتك الأولى:

ج: وُلدت سنة 1973 في طاجكستان التي كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، من أصل روسي، وكان والدي ضابطاً برتبة كولونيل، إلى جانب كونه محامياً، وكانت أمي طبيبة، وقد تعرضت عائلتي للتنقل إلى أكثر من بلد، إذ هاجر أهلي إلى سيبيريا، إلا أنني بقيتُ أعيش مع جدتي في طاجكستان حيث دخلت إلى المدرسة، وعندما سافر أهلي إلى جمهورية لاتيا اصطحبوني معهم إلى مدينة ريفا ثم استقرت بنا السكنى أخيراً في أوكرانيا.

لقد فرضت علينا ظروف عمل والديَّ أن نتنقل بين بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً، مما أتاح لي فرص التعرف إلى هذه البلدان المختلفة، والخروج إلى العالم الأوسع؛ ما أكسبني مرونة في التصرف، ومزيداً من الوعي، وهذا ما أدى إلى أن لا تترسخ في نفسي عادات بلد معين، بل كنت أبحث دائماً عن الأفضل في العادات والسلوك. لقد ترعرعت وسط عائلة مثقفة. فالبيئة التي عرفتها في لاتيا تشبه البيئة الأوروبية من حيث توفر الحرية والمناخ الثقافي والفكري، قياساً على بقية البلدان الروسية.

كانت طفولتي موزعة بين البيت والمدرسة، فلم أكن أهتم بما يوليه أترابي من اهتمام.

ولست أعلم بالتأكيد لماذا كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد مع أن التعاليم الإلحادية التي يفرضها النظام التعليمي، كانت لا تعترف بذلك، وربما كان لجدتي أثر في هذا الاستعداد لديَّ.

وكان والدي يشتري لي كتباً علمية حول نشوء العالم، حسب ما يقرره الإنجيل، وكنت أميل كثيراً إلى التأمل. وعندما بلغت السادسة أو السابعة عشرة جربتُ أن أصوم على الطريقة الأرثوذكسية، حيث كنت أمتنع عن تناول اللحوم والمشتقات الحيوانية لمدة أربعين يوماً.

١٥٤

س: هل لك أن توضحي لنا الأسباب التي حملتك على اعتناق الإِسلام:

ج: أجل. حينما كنت في الرابعة عشرة من عمري، كنت أتعلم في مدرسة تضم أولاداً من الطاجيك الذين يعتنقون الإِسلام، ولاحظتُ كيف أن العائلة المسلمة تضم عدداً كبيراً من الأولاد، وفي أثناء ذلك كان يسترعي انتباهي منظر الأولاد المؤثر، وهم يصومون طوال النهار عن الطعام والشراب، وكان بعضهم يصاب بالإعياء آخر النهار، حيث كان شهر حزيران القائظ بنهاره الطويل. وكان ذلك يحملني على التساؤل، لماذا يتحمل هؤلاء هذا العناء كله ومن أجل أي شيء يضحون بالتمتع بما يشتهون من الطعام. كان ذلك بداية التجربة مع الإِسلام بالنسبة إليّ.

وعندما بلغتُ الثامنة عشرة، كنت أدرس الكيمياء في إحدى الكليات، التي تبعد عن منزلنا ثلاثة أرباع الساعة تقريباً، وكان عليّ أن أتنقل بالقطار، وهنا حدثت الصدفة الرائعة، حيث تعرّفت إلى زوجي المهندس اللبناني فهد سويدان، وتجدَّد اللقاء وعرّفني أنه مسلم ملتزم وكان آنذاك لا يحسن اللغة تماماً.

وشاءت الصدف أن ننتقل جميعاً إلى كييف في أوكرانيا للدراسة، فتوثقت علاقتنا، من ذلك الحين بدأ اهتمامي بالإِسلام يتزايد وأخذتُ أتردد على المكتبة، وكان أن اطلّعتُ على كتاب «حياة محمد» وهو لأحد الكتّاب الروس المستشرقين فأعجبتُ بشخصية الرسول (ص) ، ثم صرتُ أبحث عن الكتب الإِسلامية لأطالعها، وتلقيتُ كثيراً من العون. وفي الوسط الطلابي في كييف لمست أن هناك إسلاماً حقيقياً حيث الصفاء الروحي والصدق الذي يتحلى به الطلاب المسلمون القادمون من بلدان المختلفة.

س: ما هو موقف أُسرتك وأصحابك من هذا التحول:

ج: بالنسبة إلى والدتي لم يشكل هذا التحول حرجاً، وأما والدي فقال لي: إنك ستبقين مسيحية، ولو حاولت أن تكوني غير ذلك، أما أنا فقد أصبحتُ مسلمة، في الواقع، ولكنني لن أتنكر للقيم الصحيحة في المسيحية.

والذي سهَّل عليّ هذا التحول هو ما كانت تشهده بلادنا من تحول كبير في بنية النظام في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. فكل شيء كان من حولنا يتغير ويتبدل.

١٥٥

س: ما هي التغيرات الإيجابية التي تمَّت بعد اعتناقك الإِسلام؟

ج: شعرتُ بأنني بلغتُ هدفي، وأنني أدركتُ ما كنت أصبو إليه، من يقين وطمأنينة! فقد كنت متعطشة للوصول إلى الحقيقة، التي كانت ترد بشكل تساؤلات حول العقيدة والسلوك في الحياة، تبحث عن جواب شافٍ.

وما يجدر ذكره أنني لم أجرِّب المحرمات قبل زواجي واعتناقي الإِسلام. إذ كان كلٌّ من روحي وجسدي طاهرين، وبقيا طاهرين، وبكلمة أقول: «كأنني وقعْت في حوض الماء الذي كنت أتوق للسباحة فيه»، كرمز للطهارة التي يمنحها الإِسلام لأتباعه. ولقد استفدتُ في لبنان كثيراً من إحدى المدرِّسات، وأنا مدينة لها بتعلم بعض العربية وقراءة القرآن الكريم وتفسير بعض الأدعية.

س: كيف تنظرين إلى ظاهرة السفور المنتشرة في المجتمع الإِسلامي؛ كونك فتاة روسية قادمة من خارج البلاد الإِسلامية؟

ج: إن هؤلاء النسوة يعانين من ضياع، وإنني لأشعر بالأسف يعتصر قلبي كيف لم يهتدين إلى نعمة الحجاب وما يمثِّله من قيم النقاء والطهر. ولكن المرأة المسلمة، وهي ترتدي الحجاب لا بدّ لها من أن تراعي مستلزمات هذا الحجاب، في حديثها وتصرفاتها ومعاملاتها.

وإني أنظر إلى ظاهرة السفور في مجتمعاتنا الحديثة، كظاهرة غير طبيعية، طرأت على المجتمع الإِسلامي والمسيحيي في الشرق والغرب، وكان من أهم الدواعي إليها، نزول المرأة إلى ميدان العمل وما أحدثته الثورة الصناعية من تبدل في القيم الاجتماعية والخلقية.

إذ العودة إلى الحجاب، هي بنظري رجوع إلى الفطرة والأصل.

س: ما هي رؤيتك لواقع المرأة المسلمة اليوم؟

ج: على المرأة المسلمة المحجبة أن تثبت للآخرين أنها ليست متقوقعة في حياتها ومنعزلة عن المجتمع، بل إنها تختزن طاقة يمكن أن تستثمرها في هداية الفتيات الأخريات، مع المحافظة على واجباتها البيتية التي هي أهم من أي نشاط اجتماعي خارج المنزل، وطبعاً مع المحافظة على طبيعتها الأنثوية.

١٥٦

س: ماذا تقترحين لهداية الجيل المعاصر:

ج: في نظري إن الجيل من الأحداث والشباب منجذب بشكلٍ ملفتٍ للنظر، إلى مشاهدة وسائل الإعلام المضرة وخاصة التلفاز، وهذا ما يشكل ظاهرة ذات آثار سلبية كبيرة بالنسبة إلى الأطفال بشكل خاص، فعلى الآباء أن ينتبهوا لتربية أولادهم، فلا يتركوهم فريسة للمسلسلات العبثية الفارغة.

س: هل من كلمة أخيرة توجهينها إلى القرّاء؟

ج: إني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على خطى المدنية القادمة من الشرق والغرب، بل تعود إلى أصالتها وأن لا تستورد إلا ما هو الأحسن والأفضل،، ولتستفد من تجربة الغرب الذي نظر في حضارتنا فأخذ بأحسنها، بينما نرى العكس في بلاد المسلمين، حيث ينبهرون بالأمور الخدّاعة والبرَّاقة التي تعبر عن أسوأ ما عند مجتمعات الغرب من خلاعة وسفور وابتعاد عن الدين والفضيلة.

١٥٧

الأخت المهتدية كارمن سركسيان «هدى»

هكذا تعرفت إلى الإِسلام وهكذا اهتديت

تلك الفتاة الأرمنية التي اهتدت إلى نور الإِسلام واعتنقت الدين الضيف بعد رحلة مثيرة، وتجربة غنية في البحث والاستكشاف، هذه الهداية التي كان مفتاحها التعرف على شريك لها في الحياة، ولكن الرحلة الإيمانية لم تقف عند حد، بل إن الفتاة المهتدية سارت يحفِّزها حب المعرفة، إلى أن تنهل من معين الثقافة الإِسلامية لتغترف من المكتبات ما جعلها جديرة بأن تكتب تجربتها في كتاب يمتع القارئ ويفيد في آنٍ معاً، بعنوان «قصة إسلامي» وإليك أيها القارئ مقتطفات مما أوردته في هذا الكتاب.

عن ولادتها ونشأتها تقول:

وُلدت في الكويت عام 1965، نشأتُ وترعرعتُ وقضيتُ أجمل أيام عمري في رحابها، ولا أزال أحلم بالعودة لأعيش على أرضها الطيبة مرة أخرى، حيث ولادتي ونشأتي ودراستي وعملي وزواجي وإنجابي طفلي علي، والأهم من ذلك كله، أن الله هداني للإِسلام على أرضها، فكيف أنساها، إنها نبضة في القلب، وبدون نبضات القلب لا يحيا الإنسان.

كيف تعرفت إلى الإِسلام؟

في صيف «سبتمبر/أيلول» 1985، كنت أعمل كموظفة في شركة كويتية للمشاريع الهندسية، وكنت أنظم الملفات وأقوم بأعمال أمانة السر لذلك الإنسان الذي أصبح زوجي فيما بعد. ومع أنني وافقت على الزواج منه، إلّا أن تلك الموافقة كانت مصحوبة بشيء من الخوف لأنني مسيحية وأرمنية وهو مسلم.

ولا بدّ أن أوضح معنى كلمة أرمنية، إن الكثير من الناس حين يسمع كلمة أرمني أو أرمنية، تتبادر إلى أذهانهم كلمة مرادفة هي مسيحي، وفي الحقيقة هذا خطأ، فكلمة أرمني تعني أن جذور الشخص تعود إلى أرمينيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، وهي الآن جمهورية مستقلة، ثم إن أرمينيا فيها عدد كبير من المسلمين الأرمن، لذا إن كلمة أرمني هي مثل سوري ولبناني ومصري.

١٥٨

أما سبب مخاوفي فهو أني أعرف بعض المسيحيات اللواتي اقترنَّ بمسلمين، وكان الفشل حليف هذا الزواج فطُلِّقن فيما بعد، أما أنا فكنت واثقة من نجاح زواجنا، فقد تيقنت من صدق زوجي، كما أنه استطاع أن يجذبني إلى اعتناق الإِسلام، إذ كان يمثل لي القدوة الصالحة والأسوة الحسنة في سلوكه وتصرفه معي. وبعد أن أصبحت مسلمة، اخترت لنفسي اسم هدى بدلاً من اسمي السابق «كارمن».

كيف كان تأثير إسلامها وزواجها من مسلم على أقربائها؟

كان زواجنا في البداية غير مُعْلَن، تحاشياً لردود الفعل من قِبَل الأهل والأصحاب، ولكن فوجئت بأن أختي تتصل بي عبر الهاتف وتخبرني بمعرفتها بهذا الزواج وكان ذلك مفاجأة لي، وتذكرت الآية الكريمة﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ کَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَیْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ یَأْتِینَ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَیَجْعَلَ اللَّهُ فِیهِ خَیْرًا کَثِیرًا ﴿19﴾ ﴾ [النساء: 19]، فأخبرتها الحقيقة، وكان أهلي يسكنون في المدينة نفسها، فطلبوا من زوجي الحضور لمناقشة الموضوع.

وتمَّ الاتفاق أن أغادر منزل أهلي لأعيش مع زوجي بعد أن يئس الأهل من التأثير عليّ، وكانت دموع والدتي تنطق بأبلغ الكلام. قاطعني أهلي مدة أسبوعين فقط، بعدها قاموا بزيارتي دون أن يسمحوا لي بأن أزورهم.

ولم تعلم والدة زوجي بأمر زواجنا إلّا حين أُدخل زوجي إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، وكان قد أخبر أهله حفاظاً عليّ وعلى حصتي في الميراث، إذا حصل القضاء. وقد اصطحبتني والدة زوجي إلى منزلهم للمرة الأولى، فإذا بي أرى مكتبة كبيرة تضم كتباً في مختلف العلوم والآداب والتاريخ الإِسلامي، ومع أننا تأخرنا في السهر ليلاً فقد استيقظ الجميع في ساعة مبكرة من الصباح لأداء صلاة الصبح.

١٥٩

ولكن كيف اعتنقت الإِسلام؟

كانت لقاءاتي بأهله تثير عندي تساؤلات عن الصلاة، وعن الحجاب، وعن الفصل بين مجلس الرجال ومجلس النساء، وهنا بدأت رحلة المعرفة، والاستكشاف حين بدأت بالانصراف إلى مطالعة الكتب، وكانت والدته تدفعني إلى ذلك. قبل ذلك كنت أعيش في صراع، والآن بدأت رحلتي السعيدة مع الدين الحنيف. لم يكن زوجي يحدِّثني كثيراً عن الإِسلام، لأنه لا يريد أن يرغمني على اعتناقه، كما هو الشرط بيننا سابقاً، فكان يجيب باختصار على كل سؤال أطرحه عليه، ويصمت إذا لم أوجه إليه سؤالاً، كان يتألم لكوني غير مسلمة، لا أصلي، ولا أرتدي الحجاب.

كنت غير راغبة في ذلك، كنت أعلم مدى الحرج الذي أسببه لزوجي، بالرغم من ذلك كان له الدور غير المباشر في تقريبي إلى الإِسلام، ومن أجل ذلك كان يكثر من الاستماع إلى برامج القرآن الكريم، والإذاعات التي تبث برامج ثقافية حول الدين الحنيف.

انطباعاتها وشهادتها على أسلوب الحوار

إنني أعترف وأشهد بأن الطريقة التي كان يتم فيها النقاش لم تكن تؤذي مشاعري حول المسيحية - ديني السابق - فلم أتذكر أن المسلمين الذين تحاورت معهم أساءوا إلى المسيح (ع) وأمه أبدأ، بل إنهم يكنون من المحبة والتقديس لهما ما يثير الإعجاب ويؤمنون برسالته، وعندهم أن مَن لا يؤمن برسالة عيسى (ع) فليس بمسلم، وإن آمن برسالة محمد (ص) ، والغريب أنهم يستشهدون لعظمة النبي محمد (ص) بآراء كتّاب ومفكرين مسيحيين أمثال برنارد شو وغوته وكارلايل ولامارتين وجرداق وجبران ونعيمة، وحتى من غير أهل الكتاب أمثال نهرو، كنت ألتزم الصمت خلال مناقشاتهم، لأنهم يعرفون عن المسيحية أكثر مما أعرف.

كيف تم التزامها بالدين الحنيف فكرةً وسلوكاً؟

ولما كنت أتابع القراءة والمطالعة كان زوجي يقوم بشرح ما يصعب عليّ فهمه، واستمر الحال هكذا حتى أواخر عام 1987، وكنت أستمع إلى إحدى الإذاعات التي تنشر رسائل دكتوراه وماجستير يتقدم بها طلاب يرغبون بالتخصص في العلوم الإِسلامية، وقد كانت مناقشات تلك الرسائل ذات فائدة عظيمة بالنسبة إليّ.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

لا يدلّ على الوجوب، ولو كان بالأمر في قوله تعالى: من حيث أمركم الله، فهو إن كان أمراً تكوينيّاً كان خارجاً عن الدلالة اللفظيّة، وإن كان أمراً تشريعيّاً كان للإيجاب الكفائيّ، والدلالة على النهي عن الضدّ على تقدير التسليم إنّما هي للأمر الإيجابيّ العينيّ المولويّ.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهّر هو الأخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الأصل الّذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصّة في مورد الطهارة والنجاسة فالائتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كلّ ما نهى عنه تطهّر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عزّ شأنه، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، فإنّ من اللّازم أن ينطبق ما ذكره من العلّة على كلّ ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في الميحض، وقوله: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، والآية أعني قوله: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، مطلقة غير مقيّدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مرّ بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهّرين، كما جئ بصيغة المبالغة في قوله: التوّابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعاً، أعني: إنّ الله يحبّ جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كلّ أمر ونهي من تكاليفه أو باتّخاذ كلّ اعتقاد من الاعتقادات الحقّة، ويحبّ جميع أنواع التطهّر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهّر بالأعمال الصالحة أو العلوم الحقّة، ويحبّ تكرار التوبة وتكرار التطهّر.

قوله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) ، الحرث مصدرٌ بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الأرض الّتي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنّى من أسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربّما استعمل في المكان أيضاً، قال تعالى:( يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ) آل عمران - ٣٧، فإن كان بمعنى المكان كان لمعنى من أيّ محلّ شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أيّ زمان شئتم،

٢٢١

وكيف كان يفيد الإطلاق بحسب معناه وخاصّة من حيث تقييده بقوله: شئتم، وهذا هو الّذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدلّ على الوجوب إذ لا معنى لإيجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلّف ومشيّته.

ثمّ إنّ تقديم قوله تعالى: نساءكم حرث لكم، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانياً بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أنّ المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الّذي يقصدن منه دون المكان الّذي يقصد منهنّ، فإن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرّض للآية الإطلاق الزمانيّ ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن الآية، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيّدٌ بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أنّ المحيض أذىً وأنّه السبب لتشريع حرمة إتيانهنّ في المحيض والمحيض أذى دائماً، ودلالتها أيضاً على أنّ تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحبّ التطهّر دائماً، ويمتنّ على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى:( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) المائدة - ٦.

ومن المعلوم أنّ هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، المشتمل أوّلاً على التوسعة، وهو سبب كان موجوداً مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثّر شيئاً فلا يتصوّر تأثيره بعد استقرار التشريع وثانياً على مثل التذييل الّذي هو قوله تعالى: وقدّموا لأنفسكم واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين، ومن هذا البيان يظهر: أنّ آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدّمت عليها نزولاً أو تأخّرت.

فمحصّل معنى الآية: أنّ نسبة النساء إلى المجتمع الإنسانيّ نسبة الحرث إلى الإنسان فكما أنّ الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور وتحصيل ما يتغذّى به من الزاد لحفظ الحياة وإبقائها كذلك النساء يحتاج اليهنّ النوع في بقاء النسل ودوام النوع لأنّ الله سبحانه جعل تكوّن الإنسان وتصوّر مادّته بصورته في طباع أرحامهنّ، ثمّ جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادّة الأصليّة مائلة منعطفة إليهنّ، وجعل بين الفريقين مودّة ورحمة،

٢٢٢

وإذا كان كذلك كان الغرض التكوينيّ من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محلّ دون محلّ إذا كان ممّا يؤدّي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمراً آخر واجباً في نفسه لا يجوز إهماله، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدّموا لأنفسكم.

ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الإطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدّموا لأنفسكم، بالتسمية قبل الجماع.

قوله تعالى: ( وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، قد ظهر: أنّ المراد من قوله: قدّموا لأنفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال والنساء بذلك الحثّ على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الإنسان وبقائه إلّا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقواهم العامّ، قال تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات - ٥٦، فلو أمرهم بشئ ممّا يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنّما يريد توصّلهم بذلك إلى عبادة ربّهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغيّ والغفلة.

فالمراد بقوله: قدّموا لأنفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدّمة أفراد جديدي الوجود والتكوّن إلى المجتمع الإنسانيّ الّذي لا يزال يفقد أفراداً بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيّتهم في نفسه بل للتوصّل به إلى إبقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى أنفسهم وإلى صالحي آبائهم المتسبّبين إليهم كما قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس - ١٢.

وبهذا الّذي ذكرنا يتأيّد: أنّ المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى:( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) النبأ - ٤١، وقال تعالى أيضاً:( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ) المزّمل - ٢٠، فقوله تعالى:( وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ) الخ، مماثل السياق

٢٢٣

لقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر - ١٨، فالمراد (والله أعلم) بقوله تعالى: وقدّموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: واتّقوا الله، التقوى بالأعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدّي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: واعلموا أنّكم ملاقوه إلخ الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أنّ المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، وإطلاق الأمر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفّظ والاتّقاء شائع في الكلام، قال تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الأنفال - ٢٤، أي اتّقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولمّا كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصّة بالإيمان ذيل تعالى كلامه بقوله: وبشّر المؤمنين، كما صدّر آية الحشر بقوله: يا أيّها الّذين آمنوا.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وأبوداود والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجة وأبو يعلى وابن المنذر وأبو حاتم والنحاس في ناسخه وأبو حيّان والبيهقيّ في سننه عن أنس: أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فأنزل الله: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض الآية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كلّ شئ إلّا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلّا خالفنا فيه، فجاء اُسيد بن خضيّر وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إنّ اليهود قالت: كذا وكذا أفلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى ظنّنا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هديّة من لبن إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا أنّه لم يحد عليهما.

وفي الدرّ المنثور عن السدّي في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: الّذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح.

٢٢٤

أقول: وروي مثله عن مقاتل أيضاً.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام في حديث في قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله الآية، قالعليه‌السلام : هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.

وفي الكافي: سئل عن الصادقعليه‌السلام : ما لصاحب المرئه الحائض منها؟ فقالعليه‌السلام : كلّ شئ ما عدا القبل بعينه.

وفيه أيضاً عنهعليه‌السلام : في المرئه ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيّامها، قالعليه‌السلام : إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثمّ يمسّها إن شآء، قبل أن تغتسل، وفي رواية: والغسل أحبّ إلىّ.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدّاً وهي تؤيّد قرائة يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدّم كما قيل: إنّ الفرق بين يطهرن ويتطهّرن أنّ الثاني قبول الطهارة، ففيه معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الأوّل فإنّه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، والمراد بالتطهّر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك، وإن كان هو الغسل بضمّ الغين أفاد استحباب الإتيان بعد الغسل كما أفادهعليه‌السلام بقوله: والغسل أحبّ إلىّ، لاحرمة الإتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهّر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهى، فافهم ذلك.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ثمّ اُحدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنعه فأنزل الله في كتابه: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين.

اقول: والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وفي بعضها: أنّ أوّل من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنّة.

وفيه عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفرعليه‌السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلمّا همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفرعليه‌السلام : اُخبرك - أطال الله بقاك وأمتعنا بك -: إنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتّى يرقّ قلوبنا وتسلو أنفسنا عن

٢٢٥

الدنيا وهوّن علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثمّ نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجّار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفرعليه‌السلام إنّما هي القلوب، مرّة تصعب ومرّة تسهل ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام أمّا إنّ أصحاب محمّد قالوا: يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال: فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنّا عندك فذكّرتنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتّى كنّا نعاين الآخرة والجنّة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت - وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحوّل عن الحالة الّتي كنّا عليها عندك، وحتّى كأنّا لم نكن على شئ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّا إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة الّتي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيّتم على الماء، ولو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقاً حتّى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتّنٌ توّاب، أمّا سمعت قول الله عزّوجلّ: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، وقال تعالى: استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه.

أقول: وروي مثله العيّاشيّ في تفسيره، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والإشراف على ما عند الله سبحانه، وقد مرّ شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ) البقرة - ١٥٦.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أنّكم تذنبون الخ، إشارة إلى سرّ القدر، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الأفعال وجزئيّات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الأسماء من الاقتضائات، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، وسائر آيات القدر، وقوله أما سمعت قول الله عزّوجلّ: إنّ الله يحبّ التوّابين الخ، من كلام أبى جعفرعليه‌السلام ، والخطاب لحمران، وفيه تفسير التوبة والتطهّر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس، ورينها عن القلب، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب،

٢٢٦

نظير ما ورد في قوله تعالى:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، من الاستدلال به على أنّ علم الكتاب عند المطهّرين من أهل البيت، والاستدلال على حرمة مسّ كتابة القرآن على غير طهارة.

وكما أنّ الخلقة تتنزّل آخذة من الخزائن الّتي عند الله تعالى حتّى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، كذلك أحكام المقادير لا تتنزّل إلّا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) آل عمران - ٧.

ومن هنا يستأنس ما مرّت إليه الإشارة: أنّ المراد بالتوبة والتطهّر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو إرجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه.

ويظهر أيضاً: معنى ما تقدّم نقله عن تفسير القمّيّ من قولهعليه‌السلام : أنزل الله على إبراهيمعليه‌السلام الحنيفيّة، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسةٌ في الرأس وخمسة في البدن، فأمّا الّتي في الرأس: فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى، وطمّ الشعر، والسواك، والخلال، وأمّا الّتي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، والختان، وقلم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنفيّة الطاهرة الّتي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، والأخبار في كون هذه الاُمور من الطهارة كثيرة، وفيها: أنّ النوره طهور.

وفي تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية: عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام أنّه قال: أيّ شئ تقولون في إتيان النساء في أعجازهنّ؟ قلت بلغني أنّ أهل المدينة لا يرون به بأساً، قالعليه‌السلام : إنّ اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، يعني من خلف أو قدّام، خلافاً لقول اليهود في أدبارهنّ.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام في الآية فقالعليه‌السلام : من قدامها ومن خلفها في القبل.

وفيه عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في

٢٢٧

دبرها فكره ذلك وقال: وإيّاكم ومحاشّ النساء، وقال: إنّما معنى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، أيّ ساعه شئتم.

وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ قال: كتبت إلى الرضاعليه‌السلام في مثله، فورد الجواب سألت عمّن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.

أقول: والروايات في هذه المعاني عن أئمّة أهل البيت كثيرة، مرويّة في الكافي والتهذيب وتفسيري العيّاشيّ والقمّيّ، وهي تدلّ جميعاً: أنّ الآية لاتدلّ على أزيد من الإتيان من قدامهنّ، وعلى ذلك يمكن أن يحمل قول الصادقعليه‌السلام في رواية العيّاشيّ عن عبدالله بن أبي يعفور، قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن إتيان النساء في أعجازهنّ قال: لا بأس ثمّ تلا هذه الآية: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم.

اقول: الظاهر أنّ المراد بالإتيان في أعجازهنّ هو الإتيان من الخلف في الفرج، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمّر بن خلّاد المتقدّم.

وفي الدرّ المنثور: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله، قال: كانت الأنصار تأتي نسائها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحاً كثيراً فتزوّج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلّا كما يفعل فأخبر بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُنزل:( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) أي قائماً وقاعداً ومضطجعاً بعد أن يكون في صمام واحد.

اقول: وقد روي في هذا المعنى بعدّة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، وقد مرّت الرواية فيه عن الرضاعليه‌السلام .

وقوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الإتيان في الفرج فقط، فإنّ الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الإتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدّة من الصحابة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول أئمّة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهمعليهم‌السلام إلّا أنّهمعليهم‌السلام لم يتمسّكوا فيه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم الآية، كما مرّ بيانه بل استدلّوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط:

٢٢٨

قال:( قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) الحجر - ٧١، حيث عرضعليه‌السلام عليهم بناته وهو يعلم أنّهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشئ من القرآن.

والحكم مع ذلك غير متّفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبدالله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدريّ وغيرهم: أنّهم كانوا لا يرون به بأساً وكانوا يستدلّون على جوازه بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية حتّى أنّ المنقول عن ابن عمر أنّ الآية إنّما نزلت لبيان جوازه.

ففي الدرّ المنثور عن الدار قطنيّ في غرائب مالك مسنداً عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك عليّ المصحف يا نافع! فقرأ حتّى أتى على، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله( سَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلّا في دبرها.

اقول: وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: وقال ابن عبد البرّ: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً: أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاويّ في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدريّ: أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فإنّكر الناس عليه ذلك، فأنزلت، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، الآية.

وفيه أيضاً أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجانيّ، قال: سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه.

وفيه أيضاً: أخرج الطحاويّ من طريق إصبغ بن الفرج عن عبدالله بن القاسم، قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشكّ في أنّه حلال يعني: وطى المرأة في دبرها ثمّ قرأ: نساؤكم حرث لكم، ثمّ قال: فأيّ شئ أبين من هذا؟

وفي سنن أبي داود عن ابن عبّاس قال: إنّ ابن عمر - والله يغفر له - أوهم أنّما

٢٢٩

كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل كتاب، وكان يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلّا على حرف، وذلك أسرّ ما تكون المرأة، وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذّذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلمّا قدم المهاجرون المدينة تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنّما كنّا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلّا فأجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عزّوجلّ: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد.

اقول: ورواه السيوطيّ في الدرّ المنثور بطرق اُخرى أيضاً عن مجاهد، عن ابن عبّاس.

وفيه أيضاً: أخرج ابن عبد الحكم: أنّ الشافعيّ ناظر محمّد بن الحسن في ذلك، فاحتجّ عليه ابن الحسن بأنّ الحرث إنّما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرّماً فالتزمه فقال: أرأيت لو وطأها بين ساقيها أو في أعكانها (الأعكان جمع عكنة بضمّ العين: ما انطوى وثنى من لحم البطن) أفي ذلك حرث: قال: لا، قال، أفيحرم؟ قال: لا، قال: فكيف تحتجّ بما لا تقولون به.

وفيه أيضاً: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عبّاس إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض؟ قال: بلى فأقرأ: ويسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهنّ من حيث أمركم الله فقال: ابن عبّاس: من حيث جاء الدم من ثمّ أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم؟ فقال: اي، ويحك، وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقّاً كان المحيض منسوخاً إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن أنّى شئتم من الليل والنهار.

اقول: واستدلاله كما ترى مدخول، فإنّ آية المحيض لاتدلّ على أزيد من

٢٣٠

حرمة الإتيان من محلّ الدم عند المحيض فلو دلّت آية الحرث على جواز إتيان الأدبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلاً حتّى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على أنّك قد عرفت أنّ آية الحرث أيضاً لا تدلّ على ما راموه من جواز إتيان الأدبار، نعم يوجد في بعض الروايات المرويّة عن ابن عبّاس: الاستدلال على حرمة الإتيان من محاشيهنّ بالأمر الّذي في قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله الآية، وقد عرفت فيما مرّ من البيان أنّه من أفسد الاستدلال، وأنّ الآية تدلّ على حرمة الإتيان من محلّ الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه، وأنّ آية الحرث أيضاً غير دالّة إلّا على التوسعة من حيث الحرث، والمسألة فقهية إنّما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلّق بدلالة الآيات.

٢٣١

( سورة البقرة آية ٢٢٤ - ٢٢٧)

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٤ ) لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٢٥ ) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢٦ ) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا ) إلى آخر الآية، العرضة بالضمّ من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتّى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للأكل، ومنه ما يقال للهدف: إنّه عرضة للسهام، وللفتاة الصالحة للازدواج إنّها عرضة للنكاح، وللدابّة المعدّة للسفر إنّها عرضة للسفر وهذا هو الأصل في معناها، وأمّا العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضاً لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتّى يفيد كثرة العوأرض إلى غير ذلك من معانيها فهي ممّا لحقها من موارد استعمالها غير دخيلة في أصل المعنى.

والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتقّ من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتقّ من العمل اسمٌ لآلة العمل كالسبّابة للإصبع الّتي يسبّ بها.

ومعنى الآية (والله أعلم): ولا تجعلوا الله عرضة تتعلّق بها أيمانكم الّتي عقدتموها بحلفكم أن لا تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس فإنّ الله سبحانه لا يرضى أن يجعل اسمه ذريعة للامتناع عمّا أمر به من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، ويؤيّد هذا

٢٣٢

المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائيّ إنشاء الله.

وعلى هذا يصير قوله تعالى: أن تبرّوا لخ، بتقدير، لا، أي أن لا تبرّوا، وهو شائع مع أن المصدريّة كقوله تعالى( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ) النساء - ١٧٦، اي أن لا تضلّوا أو كراهة أن تضلّوا، ويمكن أن لا يكون بتقدير، لا، وقوله تعالى: أن تبرّوا، متعلّقاً بما يدلّ عليه قوله تعالى: ولا تجعلوا، من النهى أي ينهاكم الله عن الحلف الكذائيّ أو يبيّن لكم حكمه الكذائيّ أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهياً عن الإكثار من الحلف بالله سبحانه، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنّكم إن فعلتم ذلك أدّاكم إلى أن لا تبرّوا ولا تتّقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإنّ الحلّاف المكثر من اليمين لا يستعظم ما حلف به ويصغّر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنّه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنّهم لا يصدّقونه فيما يقول، ولا أنّه يوقّر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حدّ قوله تعالى:( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ) القلم - ١٠، والأنسب على هذا المعنى أيضاً عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبرّوا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدلّ عليه النهي في قوله ولا تجعلوا، كما مرّ.

وفي قوله تعالى: والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أنّ المعنى الأوّل أظهرها كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) إلى آخر الآية، اللغو من الأفعال مالا يستبعد أثراً، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومتعلّقاته، فلليمين أثرٌ من حيث إنّه لفظ، وأثر من حيث إنّه مؤكّد للكلام، وأثر من حيث إنّه عقد وأثر من حيث حنثه ومخالفة مؤدّاه، وهكذا إلّا أنّ المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصّة من حيث اليمين تدلّ على أنّ المراد بلغو اليمين ما لا يؤثّر في قصد الحالف، وهو اليمين الّذي لا يعقد صاحبه على شئ من قول: لا والله وبلى والله.

٢٣٣

والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما وأصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الإنسان المادّيّة ثمّ استعير لكلّ ما يجتلبه الإنسان بعمل من أعماله من خير أو شرّ ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعيّة وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالأعمال المناسبة لها، وكسب اللوم والذمّ، واللعن والطعن، والذنوب والآثام، ونوهما بالأعمال المستتبعة لذالك، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الإنسان المنفعة لنفسه، والكسب أعمّ ممّا يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيّده وكسب الوليّ للمولّى عليه ونحو ذلك.

وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الإنسان لاغير.

( كلام في معنى القلب في القرآن)

وهذا من الشواهد على أنّ المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس والروح، فإنّ التعقّل والتفكّر والحبّ والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحدٌ إلى القلب باعتقاد أنّه العضو المدرك في البدن على ما ربّما يعتقده العامّة كما ينسب السمع إلى الاُذن والإبصار إلى العين والذوق إلى اللسان، لكنّ الكسب والاكتساب ممّا لا ينسب إلّا إلى الإنسان البتّة.

ونظير هذه الآية قوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ) ق - ٣٣.

والظاهر: أن الإنسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمّل فيها ورأى أنّ الشعور والإدراك ربّما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أنّ مبدء الحياة هو القلب، أي إنّ الروح الّتي يعتقدها في الحيوان أوّل تعلّقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، وإنّ الآثار والخواصّ الروحيّة كالإحساسات الوجدانيّة مثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف

٢٣٤

وأمثال ذلك كلّها للقلب بعناية أنّه أوّل متعلّق للروح، وهذا لا ينافي كون كلّ عضو من الأعضاء مبدئاً لفعله الّذي يختصّ به كالدماغ للفكر والعين للإبصار والسمع للوعي والرئة للتنفّس ونحو ذلك، فإنّها جميعاً بمنزلة الآلات الّتي يفعل بها الأفعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.

وربّما يؤيّد هذا النظر: ما وجده التجارب العلميّ أنّ الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلّا أنّها تفقد الإدراك ولا تشعر بشئ وتبقى على تلك الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائيّة ووقوف القلب عن ضرباته.

وربّما أيّده أيضاً: أنّ الأبحاث العلميّة الطبيعيّة لم توفّق حتّى اليوم لتشخيص المصدر الّذي يصدر عنه الأحكام البدنيّة أعني عرش الأوامر الّتي يمتثلها الأعضاء الفعّالة في البدن الإنسانيّ، إذ لا ريب أنّها في عين التشتّت والتفرّق من حيث أنفسها وأفعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لأمير واحد، وحدة حقيقيّة.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ ذلك كان ناشئاً عن الغفلة عن أمر الدماغ وما يخصّه من الفعل الإدراكيّ، فإنّ الإنسان قد تنبّه لما عليه الرأس من الأهميّة منذ أقدم الأزمنة، والشاهد عليه ما نرى في جميع الاُمم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدء الحكم والأمر بالرأس، واشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس والرئيس والرئاسة، ورأس الخيط، ورأس المدّة، ورأس المسافة، ورأس الكلام، ورأس الجبل، والرأس من الدوابّ والأنعام، ورئاس السيف.

فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الإدراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحبّ والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفّة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب، ومرادهم به الروح المتعلّقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى أنفسهم، يقال: أحببته وأحبّته روحي وأحبّته نفسي وأحبّه قلبي ثمّ استقرّ التجوّز في الاستعمال فاُطلق القلب واُريد به النفس مجازاً كما ربّما تعدّوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكاناً لأنحاء الإدراك والأفعال والصفات الروحيّة.

٢٣٥

وفي القرآن شئ كثير من هذا الباب، قال تعالى:( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) الانعام - ١٢٥، وقال تعالى:( أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ ) الحجر - ٩٧، وقال تعالى:( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) الأحزاب - ١٠، وهو كناية عن ضيق الصدر، وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) المائدة - ٧، وليس من البعيد أن تكون هذه الإطلاقات في كتابه تعالى إشارة إلى تحقيق هذا النظر وإن لم يتّضح كلّ الاتّضاح بعدُ.

وقد رجّح الشيخ أبو علي بن سينا كون الإدراك للقلب بمعنى أنّ دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الإدراك وللدماغ الوساطة.

ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن مجاز عقليّ فإنّ ظاهر الإضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلّق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الإثم المترتّب عليه عند الحنث ففيه مجازٌ عقليّ وإضراب في إضراب للإشارة إلى أنّ الله سبحانه لا شغل له إلّا بالقلب كما قال تعالى:( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) البقرة - ٢٨٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) الحجّ - ٣٧.

وفي قوله تعالى: والله غفورٌ حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنّه ممّا لا ينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - إلى أن قال -وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون - ٣.

قوله تعالى: ( لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ) الخ، الإيلاء من الألية بمعنى الحلف، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضباً وإضراراً، وهو المراد في الآية، والتربّص هو الانتظار، والفئ هو الرجوع.

والظاهر أنّ تعدّية الإيلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، ويشعر به تحديد التربّص بالأربعة أشهر فإنّها الأمد المضروب للمباشرة الواجبة شرعاً، ومنه يعلم: أنّ المراد بالعزم على الطلاق العزم مع إيقاعه، ويشعر به أيضاً تذييله بقوله تعالى: فإنّ الله سميع عليم، فإنّ السمع إنّما يتعلّق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.

٢٣٦

وفي قوله تعالى: فإنّ الله غفور رحيم، دلالة على أنّ الإيلاء لا عقاب عليه على تقديرالفئ. وأمّا الكفّارة فهي حكم شرعيّ لا يقبل المغفرة، قال تعالى:( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) المائدة - ٨٩.

فالمعنى أنّ من آلى من امرأته يتربّص له الحاكم أربعة أشهر فإن رجع إلى حقّ الزوجيّة وهو المباشرة وكفّر وباشر فلا عقاب عليه وإن عزم الطلاق وأوقعه فهو المخلص الآخر، والله سميع عليم.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية، قالعليه‌السلام : هو قول الرجل: لا والله وبلى والله.

وفيه أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام في الآية: يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه وما أشبه ذلك أو لا يكلّم اُمّه.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل علىّ يمين أن لا أفعل.

اقول: والرواية الأولى كما ترى تفسّر الآية بأحد المعنيين، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر، ويقرب منهما ما في تفسير العيّاشيّ أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الإثم الحديث، فكأنّ المراد أنّه ينبغي أن لا يحلف بل يصلح ويحمل الإثم والله يغفر له، فيكون مصداقاً للعامل بالآية.

وفي الكافي عن مسعدة عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم الآية، قال: اللّغو قول الرجل: لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ.

اقول: وهذا المعنى مرويّ في الكافي عنهعليه‌السلام من غير الطريق، وفي المجمع عنه وعن الباقرعليهما‌السلام .

٢٣٧

وفي الكافي أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام أنّهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حقّ في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في الكفّ عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسّها فما سكتت ورضيت فهو في حلّ وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إمّا أن تفئ فتمسّها وإمّا أن تطلّق، وعزم الطلاق أن يخلّي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلّقها، وهو أحقّ برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الّذي أنزل الله في كتابه وسنّه رسول الله.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في حديث: والإيلاء أن يقول: والله لا اُجامعك كذا وكذا أو يقول: والله لأغيظنّك ثمّ يغاظها، الحديث.

اقول: وفي خصوصيّات الإيلاء وبعض ما يتعلّق به خلاف بين العامّة والخاصّة، والبحث فقهيّ مذكور في الفقه.

٢٣٨

( سورة البقرة آية ٢٢٨ - ٢٤٢)

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٢٨ ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٢٩ ) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٢٣٠ ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٢٣١ ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢٣٢ ) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ

٢٣٩

حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٣ ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٣٤ ) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٣٥ ) لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( ٢٣٦ ) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٧ ) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( ٢٣٨ ) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481