الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135765 / تحميل: 8648
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

لا يدلّ على الوجوب، ولو كان بالأمر في قوله تعالى: من حيث أمركم الله، فهو إن كان أمراً تكوينيّاً كان خارجاً عن الدلالة اللفظيّة، وإن كان أمراً تشريعيّاً كان للإيجاب الكفائيّ، والدلالة على النهي عن الضدّ على تقدير التسليم إنّما هي للأمر الإيجابيّ العينيّ المولويّ.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهّر هو الأخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الأصل الّذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصّة في مورد الطهارة والنجاسة فالائتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كلّ ما نهى عنه تطهّر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عزّ شأنه، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، فإنّ من اللّازم أن ينطبق ما ذكره من العلّة على كلّ ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في الميحض، وقوله: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، والآية أعني قوله: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، مطلقة غير مقيّدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مرّ بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهّرين، كما جئ بصيغة المبالغة في قوله: التوّابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعاً، أعني: إنّ الله يحبّ جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كلّ أمر ونهي من تكاليفه أو باتّخاذ كلّ اعتقاد من الاعتقادات الحقّة، ويحبّ جميع أنواع التطهّر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهّر بالأعمال الصالحة أو العلوم الحقّة، ويحبّ تكرار التوبة وتكرار التطهّر.

قوله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) ، الحرث مصدرٌ بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الأرض الّتي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنّى من أسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربّما استعمل في المكان أيضاً، قال تعالى:( يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ) آل عمران - ٣٧، فإن كان بمعنى المكان كان لمعنى من أيّ محلّ شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أيّ زمان شئتم،

٢٢١

وكيف كان يفيد الإطلاق بحسب معناه وخاصّة من حيث تقييده بقوله: شئتم، وهذا هو الّذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدلّ على الوجوب إذ لا معنى لإيجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلّف ومشيّته.

ثمّ إنّ تقديم قوله تعالى: نساءكم حرث لكم، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانياً بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أنّ المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الّذي يقصدن منه دون المكان الّذي يقصد منهنّ، فإن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرّض للآية الإطلاق الزمانيّ ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن الآية، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيّدٌ بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أنّ المحيض أذىً وأنّه السبب لتشريع حرمة إتيانهنّ في المحيض والمحيض أذى دائماً، ودلالتها أيضاً على أنّ تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحبّ التطهّر دائماً، ويمتنّ على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى:( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) المائدة - ٦.

ومن المعلوم أنّ هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، المشتمل أوّلاً على التوسعة، وهو سبب كان موجوداً مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثّر شيئاً فلا يتصوّر تأثيره بعد استقرار التشريع وثانياً على مثل التذييل الّذي هو قوله تعالى: وقدّموا لأنفسكم واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين، ومن هذا البيان يظهر: أنّ آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدّمت عليها نزولاً أو تأخّرت.

فمحصّل معنى الآية: أنّ نسبة النساء إلى المجتمع الإنسانيّ نسبة الحرث إلى الإنسان فكما أنّ الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور وتحصيل ما يتغذّى به من الزاد لحفظ الحياة وإبقائها كذلك النساء يحتاج اليهنّ النوع في بقاء النسل ودوام النوع لأنّ الله سبحانه جعل تكوّن الإنسان وتصوّر مادّته بصورته في طباع أرحامهنّ، ثمّ جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادّة الأصليّة مائلة منعطفة إليهنّ، وجعل بين الفريقين مودّة ورحمة،

٢٢٢

وإذا كان كذلك كان الغرض التكوينيّ من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محلّ دون محلّ إذا كان ممّا يؤدّي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمراً آخر واجباً في نفسه لا يجوز إهماله، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدّموا لأنفسكم.

ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الإطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدّموا لأنفسكم، بالتسمية قبل الجماع.

قوله تعالى: ( وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، قد ظهر: أنّ المراد من قوله: قدّموا لأنفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال والنساء بذلك الحثّ على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الإنسان وبقائه إلّا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقواهم العامّ، قال تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات - ٥٦، فلو أمرهم بشئ ممّا يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنّما يريد توصّلهم بذلك إلى عبادة ربّهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغيّ والغفلة.

فالمراد بقوله: قدّموا لأنفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدّمة أفراد جديدي الوجود والتكوّن إلى المجتمع الإنسانيّ الّذي لا يزال يفقد أفراداً بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيّتهم في نفسه بل للتوصّل به إلى إبقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى أنفسهم وإلى صالحي آبائهم المتسبّبين إليهم كما قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس - ١٢.

وبهذا الّذي ذكرنا يتأيّد: أنّ المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى:( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) النبأ - ٤١، وقال تعالى أيضاً:( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ) المزّمل - ٢٠، فقوله تعالى:( وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ) الخ، مماثل السياق

٢٢٣

لقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر - ١٨، فالمراد (والله أعلم) بقوله تعالى: وقدّموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: واتّقوا الله، التقوى بالأعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدّي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: واعلموا أنّكم ملاقوه إلخ الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أنّ المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، وإطلاق الأمر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفّظ والاتّقاء شائع في الكلام، قال تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الأنفال - ٢٤، أي اتّقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولمّا كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصّة بالإيمان ذيل تعالى كلامه بقوله: وبشّر المؤمنين، كما صدّر آية الحشر بقوله: يا أيّها الّذين آمنوا.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وأبوداود والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجة وأبو يعلى وابن المنذر وأبو حاتم والنحاس في ناسخه وأبو حيّان والبيهقيّ في سننه عن أنس: أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فأنزل الله: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض الآية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كلّ شئ إلّا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلّا خالفنا فيه، فجاء اُسيد بن خضيّر وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إنّ اليهود قالت: كذا وكذا أفلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى ظنّنا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هديّة من لبن إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا أنّه لم يحد عليهما.

وفي الدرّ المنثور عن السدّي في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: الّذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح.

٢٢٤

أقول: وروي مثله عن مقاتل أيضاً.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام في حديث في قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله الآية، قالعليه‌السلام : هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.

وفي الكافي: سئل عن الصادقعليه‌السلام : ما لصاحب المرئه الحائض منها؟ فقالعليه‌السلام : كلّ شئ ما عدا القبل بعينه.

وفيه أيضاً عنهعليه‌السلام : في المرئه ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيّامها، قالعليه‌السلام : إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثمّ يمسّها إن شآء، قبل أن تغتسل، وفي رواية: والغسل أحبّ إلىّ.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدّاً وهي تؤيّد قرائة يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدّم كما قيل: إنّ الفرق بين يطهرن ويتطهّرن أنّ الثاني قبول الطهارة، ففيه معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الأوّل فإنّه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، والمراد بالتطهّر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك، وإن كان هو الغسل بضمّ الغين أفاد استحباب الإتيان بعد الغسل كما أفادهعليه‌السلام بقوله: والغسل أحبّ إلىّ، لاحرمة الإتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهّر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهى، فافهم ذلك.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ثمّ اُحدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنعه فأنزل الله في كتابه: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين.

اقول: والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وفي بعضها: أنّ أوّل من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنّة.

وفيه عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفرعليه‌السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلمّا همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفرعليه‌السلام : اُخبرك - أطال الله بقاك وأمتعنا بك -: إنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتّى يرقّ قلوبنا وتسلو أنفسنا عن

٢٢٥

الدنيا وهوّن علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثمّ نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجّار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفرعليه‌السلام إنّما هي القلوب، مرّة تصعب ومرّة تسهل ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام أمّا إنّ أصحاب محمّد قالوا: يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال: فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنّا عندك فذكّرتنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتّى كنّا نعاين الآخرة والجنّة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت - وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحوّل عن الحالة الّتي كنّا عليها عندك، وحتّى كأنّا لم نكن على شئ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّا إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة الّتي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيّتم على الماء، ولو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقاً حتّى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتّنٌ توّاب، أمّا سمعت قول الله عزّوجلّ: إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين، وقال تعالى: استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه.

أقول: وروي مثله العيّاشيّ في تفسيره، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والإشراف على ما عند الله سبحانه، وقد مرّ شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ) البقرة - ١٥٦.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أنّكم تذنبون الخ، إشارة إلى سرّ القدر، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الأفعال وجزئيّات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الأسماء من الاقتضائات، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، وسائر آيات القدر، وقوله أما سمعت قول الله عزّوجلّ: إنّ الله يحبّ التوّابين الخ، من كلام أبى جعفرعليه‌السلام ، والخطاب لحمران، وفيه تفسير التوبة والتطهّر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس، ورينها عن القلب، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب،

٢٢٦

نظير ما ورد في قوله تعالى:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، من الاستدلال به على أنّ علم الكتاب عند المطهّرين من أهل البيت، والاستدلال على حرمة مسّ كتابة القرآن على غير طهارة.

وكما أنّ الخلقة تتنزّل آخذة من الخزائن الّتي عند الله تعالى حتّى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، كذلك أحكام المقادير لا تتنزّل إلّا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) آل عمران - ٧.

ومن هنا يستأنس ما مرّت إليه الإشارة: أنّ المراد بالتوبة والتطهّر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو إرجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه.

ويظهر أيضاً: معنى ما تقدّم نقله عن تفسير القمّيّ من قولهعليه‌السلام : أنزل الله على إبراهيمعليه‌السلام الحنيفيّة، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسةٌ في الرأس وخمسة في البدن، فأمّا الّتي في الرأس: فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى، وطمّ الشعر، والسواك، والخلال، وأمّا الّتي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، والختان، وقلم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنفيّة الطاهرة الّتي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، والأخبار في كون هذه الاُمور من الطهارة كثيرة، وفيها: أنّ النوره طهور.

وفي تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية: عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام أنّه قال: أيّ شئ تقولون في إتيان النساء في أعجازهنّ؟ قلت بلغني أنّ أهل المدينة لا يرون به بأساً، قالعليه‌السلام : إنّ اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، يعني من خلف أو قدّام، خلافاً لقول اليهود في أدبارهنّ.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام في الآية فقالعليه‌السلام : من قدامها ومن خلفها في القبل.

وفيه عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في

٢٢٧

دبرها فكره ذلك وقال: وإيّاكم ومحاشّ النساء، وقال: إنّما معنى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، أيّ ساعه شئتم.

وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ قال: كتبت إلى الرضاعليه‌السلام في مثله، فورد الجواب سألت عمّن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.

أقول: والروايات في هذه المعاني عن أئمّة أهل البيت كثيرة، مرويّة في الكافي والتهذيب وتفسيري العيّاشيّ والقمّيّ، وهي تدلّ جميعاً: أنّ الآية لاتدلّ على أزيد من الإتيان من قدامهنّ، وعلى ذلك يمكن أن يحمل قول الصادقعليه‌السلام في رواية العيّاشيّ عن عبدالله بن أبي يعفور، قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن إتيان النساء في أعجازهنّ قال: لا بأس ثمّ تلا هذه الآية: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم.

اقول: الظاهر أنّ المراد بالإتيان في أعجازهنّ هو الإتيان من الخلف في الفرج، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمّر بن خلّاد المتقدّم.

وفي الدرّ المنثور: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله، قال: كانت الأنصار تأتي نسائها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحاً كثيراً فتزوّج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلّا كما يفعل فأخبر بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُنزل:( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) أي قائماً وقاعداً ومضطجعاً بعد أن يكون في صمام واحد.

اقول: وقد روي في هذا المعنى بعدّة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، وقد مرّت الرواية فيه عن الرضاعليه‌السلام .

وقوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الإتيان في الفرج فقط، فإنّ الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الإتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدّة من الصحابة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول أئمّة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهمعليهم‌السلام إلّا أنّهمعليهم‌السلام لم يتمسّكوا فيه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم الآية، كما مرّ بيانه بل استدلّوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط:

٢٢٨

قال:( قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) الحجر - ٧١، حيث عرضعليه‌السلام عليهم بناته وهو يعلم أنّهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشئ من القرآن.

والحكم مع ذلك غير متّفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبدالله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدريّ وغيرهم: أنّهم كانوا لا يرون به بأساً وكانوا يستدلّون على جوازه بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية حتّى أنّ المنقول عن ابن عمر أنّ الآية إنّما نزلت لبيان جوازه.

ففي الدرّ المنثور عن الدار قطنيّ في غرائب مالك مسنداً عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك عليّ المصحف يا نافع! فقرأ حتّى أتى على، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله( سَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلّا في دبرها.

اقول: وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: وقال ابن عبد البرّ: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً: أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاويّ في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدريّ: أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فإنّكر الناس عليه ذلك، فأنزلت، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، الآية.

وفيه أيضاً أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجانيّ، قال: سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه.

وفيه أيضاً: أخرج الطحاويّ من طريق إصبغ بن الفرج عن عبدالله بن القاسم، قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشكّ في أنّه حلال يعني: وطى المرأة في دبرها ثمّ قرأ: نساؤكم حرث لكم، ثمّ قال: فأيّ شئ أبين من هذا؟

وفي سنن أبي داود عن ابن عبّاس قال: إنّ ابن عمر - والله يغفر له - أوهم أنّما

٢٢٩

كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل كتاب، وكان يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلّا على حرف، وذلك أسرّ ما تكون المرأة، وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذّذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلمّا قدم المهاجرون المدينة تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنّما كنّا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلّا فأجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عزّوجلّ: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد.

اقول: ورواه السيوطيّ في الدرّ المنثور بطرق اُخرى أيضاً عن مجاهد، عن ابن عبّاس.

وفيه أيضاً: أخرج ابن عبد الحكم: أنّ الشافعيّ ناظر محمّد بن الحسن في ذلك، فاحتجّ عليه ابن الحسن بأنّ الحرث إنّما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرّماً فالتزمه فقال: أرأيت لو وطأها بين ساقيها أو في أعكانها (الأعكان جمع عكنة بضمّ العين: ما انطوى وثنى من لحم البطن) أفي ذلك حرث: قال: لا، قال، أفيحرم؟ قال: لا، قال: فكيف تحتجّ بما لا تقولون به.

وفيه أيضاً: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عبّاس إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض؟ قال: بلى فأقرأ: ويسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهنّ من حيث أمركم الله فقال: ابن عبّاس: من حيث جاء الدم من ثمّ أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم؟ فقال: اي، ويحك، وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقّاً كان المحيض منسوخاً إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن أنّى شئتم من الليل والنهار.

اقول: واستدلاله كما ترى مدخول، فإنّ آية المحيض لاتدلّ على أزيد من

٢٣٠

حرمة الإتيان من محلّ الدم عند المحيض فلو دلّت آية الحرث على جواز إتيان الأدبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلاً حتّى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على أنّك قد عرفت أنّ آية الحرث أيضاً لا تدلّ على ما راموه من جواز إتيان الأدبار، نعم يوجد في بعض الروايات المرويّة عن ابن عبّاس: الاستدلال على حرمة الإتيان من محاشيهنّ بالأمر الّذي في قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله الآية، وقد عرفت فيما مرّ من البيان أنّه من أفسد الاستدلال، وأنّ الآية تدلّ على حرمة الإتيان من محلّ الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه، وأنّ آية الحرث أيضاً غير دالّة إلّا على التوسعة من حيث الحرث، والمسألة فقهية إنّما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلّق بدلالة الآيات.

٢٣١

( سورة البقرة آية ٢٢٤ - ٢٢٧)

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٤ ) لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٢٥ ) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢٦ ) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا ) إلى آخر الآية، العرضة بالضمّ من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتّى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للأكل، ومنه ما يقال للهدف: إنّه عرضة للسهام، وللفتاة الصالحة للازدواج إنّها عرضة للنكاح، وللدابّة المعدّة للسفر إنّها عرضة للسفر وهذا هو الأصل في معناها، وأمّا العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضاً لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتّى يفيد كثرة العوأرض إلى غير ذلك من معانيها فهي ممّا لحقها من موارد استعمالها غير دخيلة في أصل المعنى.

والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتقّ من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتقّ من العمل اسمٌ لآلة العمل كالسبّابة للإصبع الّتي يسبّ بها.

ومعنى الآية (والله أعلم): ولا تجعلوا الله عرضة تتعلّق بها أيمانكم الّتي عقدتموها بحلفكم أن لا تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس فإنّ الله سبحانه لا يرضى أن يجعل اسمه ذريعة للامتناع عمّا أمر به من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، ويؤيّد هذا

٢٣٢

المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائيّ إنشاء الله.

وعلى هذا يصير قوله تعالى: أن تبرّوا لخ، بتقدير، لا، أي أن لا تبرّوا، وهو شائع مع أن المصدريّة كقوله تعالى( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ) النساء - ١٧٦، اي أن لا تضلّوا أو كراهة أن تضلّوا، ويمكن أن لا يكون بتقدير، لا، وقوله تعالى: أن تبرّوا، متعلّقاً بما يدلّ عليه قوله تعالى: ولا تجعلوا، من النهى أي ينهاكم الله عن الحلف الكذائيّ أو يبيّن لكم حكمه الكذائيّ أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهياً عن الإكثار من الحلف بالله سبحانه، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنّكم إن فعلتم ذلك أدّاكم إلى أن لا تبرّوا ولا تتّقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإنّ الحلّاف المكثر من اليمين لا يستعظم ما حلف به ويصغّر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنّه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنّهم لا يصدّقونه فيما يقول، ولا أنّه يوقّر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حدّ قوله تعالى:( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ) القلم - ١٠، والأنسب على هذا المعنى أيضاً عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبرّوا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدلّ عليه النهي في قوله ولا تجعلوا، كما مرّ.

وفي قوله تعالى: والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أنّ المعنى الأوّل أظهرها كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) إلى آخر الآية، اللغو من الأفعال مالا يستبعد أثراً، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومتعلّقاته، فلليمين أثرٌ من حيث إنّه لفظ، وأثر من حيث إنّه مؤكّد للكلام، وأثر من حيث إنّه عقد وأثر من حيث حنثه ومخالفة مؤدّاه، وهكذا إلّا أنّ المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصّة من حيث اليمين تدلّ على أنّ المراد بلغو اليمين ما لا يؤثّر في قصد الحالف، وهو اليمين الّذي لا يعقد صاحبه على شئ من قول: لا والله وبلى والله.

٢٣٣

والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما وأصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الإنسان المادّيّة ثمّ استعير لكلّ ما يجتلبه الإنسان بعمل من أعماله من خير أو شرّ ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعيّة وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالأعمال المناسبة لها، وكسب اللوم والذمّ، واللعن والطعن، والذنوب والآثام، ونوهما بالأعمال المستتبعة لذالك، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الإنسان المنفعة لنفسه، والكسب أعمّ ممّا يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيّده وكسب الوليّ للمولّى عليه ونحو ذلك.

وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الإنسان لاغير.

( كلام في معنى القلب في القرآن)

وهذا من الشواهد على أنّ المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس والروح، فإنّ التعقّل والتفكّر والحبّ والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحدٌ إلى القلب باعتقاد أنّه العضو المدرك في البدن على ما ربّما يعتقده العامّة كما ينسب السمع إلى الاُذن والإبصار إلى العين والذوق إلى اللسان، لكنّ الكسب والاكتساب ممّا لا ينسب إلّا إلى الإنسان البتّة.

ونظير هذه الآية قوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ) ق - ٣٣.

والظاهر: أن الإنسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمّل فيها ورأى أنّ الشعور والإدراك ربّما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أنّ مبدء الحياة هو القلب، أي إنّ الروح الّتي يعتقدها في الحيوان أوّل تعلّقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، وإنّ الآثار والخواصّ الروحيّة كالإحساسات الوجدانيّة مثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف

٢٣٤

وأمثال ذلك كلّها للقلب بعناية أنّه أوّل متعلّق للروح، وهذا لا ينافي كون كلّ عضو من الأعضاء مبدئاً لفعله الّذي يختصّ به كالدماغ للفكر والعين للإبصار والسمع للوعي والرئة للتنفّس ونحو ذلك، فإنّها جميعاً بمنزلة الآلات الّتي يفعل بها الأفعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.

وربّما يؤيّد هذا النظر: ما وجده التجارب العلميّ أنّ الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلّا أنّها تفقد الإدراك ولا تشعر بشئ وتبقى على تلك الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائيّة ووقوف القلب عن ضرباته.

وربّما أيّده أيضاً: أنّ الأبحاث العلميّة الطبيعيّة لم توفّق حتّى اليوم لتشخيص المصدر الّذي يصدر عنه الأحكام البدنيّة أعني عرش الأوامر الّتي يمتثلها الأعضاء الفعّالة في البدن الإنسانيّ، إذ لا ريب أنّها في عين التشتّت والتفرّق من حيث أنفسها وأفعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لأمير واحد، وحدة حقيقيّة.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ ذلك كان ناشئاً عن الغفلة عن أمر الدماغ وما يخصّه من الفعل الإدراكيّ، فإنّ الإنسان قد تنبّه لما عليه الرأس من الأهميّة منذ أقدم الأزمنة، والشاهد عليه ما نرى في جميع الاُمم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدء الحكم والأمر بالرأس، واشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس والرئيس والرئاسة، ورأس الخيط، ورأس المدّة، ورأس المسافة، ورأس الكلام، ورأس الجبل، والرأس من الدوابّ والأنعام، ورئاس السيف.

فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الإدراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحبّ والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفّة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب، ومرادهم به الروح المتعلّقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى أنفسهم، يقال: أحببته وأحبّته روحي وأحبّته نفسي وأحبّه قلبي ثمّ استقرّ التجوّز في الاستعمال فاُطلق القلب واُريد به النفس مجازاً كما ربّما تعدّوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكاناً لأنحاء الإدراك والأفعال والصفات الروحيّة.

٢٣٥

وفي القرآن شئ كثير من هذا الباب، قال تعالى:( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) الانعام - ١٢٥، وقال تعالى:( أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ ) الحجر - ٩٧، وقال تعالى:( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) الأحزاب - ١٠، وهو كناية عن ضيق الصدر، وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) المائدة - ٧، وليس من البعيد أن تكون هذه الإطلاقات في كتابه تعالى إشارة إلى تحقيق هذا النظر وإن لم يتّضح كلّ الاتّضاح بعدُ.

وقد رجّح الشيخ أبو علي بن سينا كون الإدراك للقلب بمعنى أنّ دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الإدراك وللدماغ الوساطة.

ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن مجاز عقليّ فإنّ ظاهر الإضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلّق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الإثم المترتّب عليه عند الحنث ففيه مجازٌ عقليّ وإضراب في إضراب للإشارة إلى أنّ الله سبحانه لا شغل له إلّا بالقلب كما قال تعالى:( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) البقرة - ٢٨٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) الحجّ - ٣٧.

وفي قوله تعالى: والله غفورٌ حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنّه ممّا لا ينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - إلى أن قال -وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون - ٣.

قوله تعالى: ( لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ) الخ، الإيلاء من الألية بمعنى الحلف، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضباً وإضراراً، وهو المراد في الآية، والتربّص هو الانتظار، والفئ هو الرجوع.

والظاهر أنّ تعدّية الإيلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، ويشعر به تحديد التربّص بالأربعة أشهر فإنّها الأمد المضروب للمباشرة الواجبة شرعاً، ومنه يعلم: أنّ المراد بالعزم على الطلاق العزم مع إيقاعه، ويشعر به أيضاً تذييله بقوله تعالى: فإنّ الله سميع عليم، فإنّ السمع إنّما يتعلّق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.

٢٣٦

وفي قوله تعالى: فإنّ الله غفور رحيم، دلالة على أنّ الإيلاء لا عقاب عليه على تقديرالفئ. وأمّا الكفّارة فهي حكم شرعيّ لا يقبل المغفرة، قال تعالى:( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) المائدة - ٨٩.

فالمعنى أنّ من آلى من امرأته يتربّص له الحاكم أربعة أشهر فإن رجع إلى حقّ الزوجيّة وهو المباشرة وكفّر وباشر فلا عقاب عليه وإن عزم الطلاق وأوقعه فهو المخلص الآخر، والله سميع عليم.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية، قالعليه‌السلام : هو قول الرجل: لا والله وبلى والله.

وفيه أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام في الآية: يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه وما أشبه ذلك أو لا يكلّم اُمّه.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل علىّ يمين أن لا أفعل.

اقول: والرواية الأولى كما ترى تفسّر الآية بأحد المعنيين، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر، ويقرب منهما ما في تفسير العيّاشيّ أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الإثم الحديث، فكأنّ المراد أنّه ينبغي أن لا يحلف بل يصلح ويحمل الإثم والله يغفر له، فيكون مصداقاً للعامل بالآية.

وفي الكافي عن مسعدة عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم الآية، قال: اللّغو قول الرجل: لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ.

اقول: وهذا المعنى مرويّ في الكافي عنهعليه‌السلام من غير الطريق، وفي المجمع عنه وعن الباقرعليهما‌السلام .

٢٣٧

وفي الكافي أيضاً عن الباقر والصادقعليهما‌السلام أنّهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حقّ في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في الكفّ عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسّها فما سكتت ورضيت فهو في حلّ وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إمّا أن تفئ فتمسّها وإمّا أن تطلّق، وعزم الطلاق أن يخلّي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلّقها، وهو أحقّ برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الّذي أنزل الله في كتابه وسنّه رسول الله.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في حديث: والإيلاء أن يقول: والله لا اُجامعك كذا وكذا أو يقول: والله لأغيظنّك ثمّ يغاظها، الحديث.

اقول: وفي خصوصيّات الإيلاء وبعض ما يتعلّق به خلاف بين العامّة والخاصّة، والبحث فقهيّ مذكور في الفقه.

٢٣٨

( سورة البقرة آية ٢٢٨ - ٢٤٢)

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٢٨ ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٢٩ ) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٢٣٠ ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٢٣١ ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢٣٢ ) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ

٢٣٩

حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٣ ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٣٤ ) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٣٥ ) لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( ٢٣٦ ) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٧ ) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( ٢٣٨ ) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا

٢٤٠

أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( ٢٣٩ ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٤٠ ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( ٢٤١ ) كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٢٤٢ )

( بيان)

الآيات في أحكام الطلاق والعدّة وإرضاع المطلّقة ولدها، وفي خلالها شئ من أحكام الصلاة.

قوله تعالى: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) ، أصل الطلاق التخلية عن وثاق وتقييد ثمّ استعير لتخلية المرئة عن حبالة النكاح وقيد الزوجيّة ثمّ صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.

والتربّص هو الانتظار والحبس، وقد قيّد بقوله تعالى: بأنفسهنّ، ليدلّ على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدّة أعني عدّة الطلاق، وهو حبس المرئة نفسها عن الازدواج تحذّراً عن اختلاط المياه، ويزيد على معنى العدّة الإشارة إلى حكمة التشريع، وهو التحفّظ عن اختلاط المياه وفساد الأنساب، ولا يلزم اطّراد الحكمة في جميع الموارد فإنّ القوانين والأحكام إنّما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامّة، فقوله تعالى يتربّصن بأنفسهنّ بمنزلة قولنا: يعتددن احترازاً من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهنّ، والجملة خبرٌ اُريد به الإنشاء تأكيداً.

والقروء جمع القرء، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معاً، فهو على ما قيل من الأضداد، غير أنّ الأصل في مادّة قرء هو الجمع لكن لا كلّ جمع بل الجمع الّذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه، وعلى هذا فالأظهر أن يكون معناه الطهر لكونه حاله جمع الدم ثمّ استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، وبهذه العناية اطلق على الجمع بين

٢٤١

الحروف للدلالة على معنى القرائه، وقد صرّح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، ويشعر بأنّ الأصل في مادّة قرء الجمع، قوله تعالى:( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة - ١٨، وقوله تعالى:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ ) الاسراء - ١٠٦، حيث عبّر تعالى في الآيتين بالقرآن، ولم يعبّر بالكتاب أو الفرقان أو مايشبههما، وبه سمّي القرآن قرآناً.

قال الراغب في مفرداته: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولمّا كان اسماً جامع للأمرين: الطهر والحيض المتعقّب له أطلق على كلّ واحد لأنّ كلّ اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق على كلّ واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان والطعام، ثمّ قد يسمّى كلّ واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسماً للطهر مجرّداً ولا للحيض مجرّداً، بدليل أنّ الطاهر الّتي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، وكذا الحائض الّتي استمرّ بها الدم لا يقال لها: ذلك، انتهى.

قوله تعالى: ( وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، المراد به تحريم كتمان المطلّقة الدم أو الولد استعجالاً في خروج العدّة أو إضراراً بالزوج في رجوعه ونحو ذلك، وفي تقييده بقوله: إن كنّ يؤمّن بالله واليوم الآخر مع عدم اشتراط أصل الحكم بالإيمان نوع ترغيب وحثّ لمطاوعة الحكم والتثبّت عليه لما في هذا التقييد من الإشارة إلى أنّ هذا الحكم من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر الّذي عليه بناء الشريعة الإسلاميّة فلا استغناء في الإسلام عن هذا الحكم، وهذا نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس إن أردت خيراً، وقولنا للمريض: عليك بالحمية إن أردت الشفاء والبرء.

قوله تعالى: ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ) ، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ماداما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوّة والثبات في الشدائد لما أنّ الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثمّ جعل أصلاً يشتقّ منه الألفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابّة بعلها، وللأرض المستعلية بعل، وللصنم بعل، وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك.

٢٤٢

والضمير في بعولتهنّ للمطلّقات إلّا أنّ الحكم خاصّ بالرجعيّات دون مطلق المطلّقات الأعمّ منها ومن البائنات، والمشار إليه بذلك التربّص الّذي هو بمعنى العدّة، والتقييد بقوله إن أرادوا إصلاحاً، للدلالة على وجوب أن يكون الرجوع لغرض الإصلاح لا لغرض الإضرار المنهيّ عنه بعد بقوله: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، الآية.

ولفظ أحقّ اسم تفضيل حقّه أن يتحقّق معناه دائماً مع مفضّل عليه كأن يكون للزوج الأوّل حقّ في المطلّقة ولسائر الخطّاب حقّ، والزوج الأوّل أحقّ بها لسبق الزوجيّة، غير أنّ الردّ المذكور لا يتحقّق معناه إلّا مع الزوج الأوّل.

ومن هنا يظهر: أنّ في الآية تقديراً لطيفاً بحسب المعنى، والمعنى وبعولتهنّ أحقّ بهنّ من غيرهم، ويحصل ذلك بالردّ والرجوع في أيّام العدّة، وهذه الأحقّيّة إنّما تتحقّق في الرجعيّات دون البائنات الّتي لا رجوع فيها، وهذه هي القرينة على أنّ الحكم مخصوص بالرجعيّات، لا أنّ ضمير بعولتهنّ راجع إلى بعض المطلّقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك، والآية خاصّة بحكم المدخول بهنّ من ذوات الحيض غير الحوامل، وأمّا غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر.

قوله تعالى: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) ، المعروف هو الّذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الإجتماعيّة المتداولة بينهم، وقد كرّر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في إثنى عشر موضعاً اهتماماً بأن يجري هذا العمل أعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة، فالمعروف تتضمّن هداية العقل، وحكم الشرع، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الأدب.

وحيث بنى الإسلام شريعته على أساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الّذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدّوا طور الخلقة، ومن أحكام الاجتماع المبنيّ على أساس الفطرة أن يتساوى في الحكم أفراده وأجزاؤه فيكون ما عليهم مثل مالهم إلّا أنّ ذلك التساوي إنّما هو مع حفظ ما لكلّ من الأفراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، وللمحكوم محكوميّته، وللعالم علمه، وللجاهل حاله، وللقويّ من حيث العمل قوّته، وللضعيف ضعفه

٢٤٣

ثمّ يبسط التساوي بينها بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى هذا جرى الإسلام في الأحكام المجعولة للمرأة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحيوة الإجتماعيّة في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والإسلام يرى في ذلك أنّ للرجال عليهنّ درجة، والدرجة المنزلة.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: وللرجال عليهنّ درجة، قيد متمّم للجملة السابقة، والمراد بالجميع معنى واحد وهو: أنّ النساء أو المطلّقات قد سوّى الله بينهنّ وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهنّ، فجعل لهنّ مثل ما عليهنّ من الحكم، وسنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علميّ مخصوص بها.

قوله تعالى: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) ، المرّة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة مثلها وزناً ومعنى واعتباراً.

والتسريح أصله الإطلاق في الرعى مأخوذ من سرّحت الإبل وهو أن ترعيه السرح، وهو شجر له ثمر يرعاه الإبل وقد استعير في الآية لإطلاق المطلّقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدّة، والتخلية عنها حتّى تنقضي عدّتها على ما سيجئ.

والمراد بالطلاق في قوله تعالى: الطلاق مرّتان، الطلاق الّذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد: فإمساك الخ، وأمّا الثالث فالطلاق الّذي يدلّ عليه قوله تعالى: فإن طلّقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره الآية.

والمراد بتسريحها بإحسان ظاهراً التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كلّ من التطليقتين الاُوليين حتّى تبيّن بانقضاء العدّة وإن كان الأظهر أنّه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الإطلاق في تفريع قوله: فإمساك الخ، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد: فإن طلقها الخ بياناً تفصيليّاً للتسريح بعد البيان الإجماليّ.

وفي تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان من لطيف العناية مالا يخفى، فإنّ الامساك والردّ إلى حبالة الزوجيّة ربّما كان للإضرار بها وهو منكر غير معروف، كمن يطلّق امرأته ثمّ يخلّيها حتّى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق ثمّ

٢٤٤

يرجع كذلك، يريد بذلك إيذائها والإضرار بها وهو إضرار منكرٌ غير معروف في هذه الشريعة منهيّ عنه، بل الإمساك الّذي يجوّزه الشرع أن يرجع إليها بنوع من أنواع الالتيام، ويتمّ به الأنس وسكون النفس الّذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة.

وكذلك التسريح ربّما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب، ويتصوّر بصورة الانتقام، والّذي يجوّزه هذه الشريعة أن يكون تسريحاً بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف، وهذا التعبير هو الأصل في إفادة المطلوب الّذي ذكرناه، وأمّا ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان، حيث قيّد التسريح بالإحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً.

بيانه: أنّ التقييد بالمعروف والإحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرّع المقصود، والمطلوب بتقييد الإمساك بالمعروف نفي الإمساك الواقع على نحو المضارّة كما قال تعالى: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، والمطلوب في مورد التسريح نفى أن يأخذ الزوج بعض ما آتاه للزوجة من المهر، ولا يكفي فيه تقييد التسريح بالمعروف كما فعل في الآية الآتية فإنّ مطالبة الزوج بعض ما آتاه زوجته وأخذه ربّما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالإحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزيّة الحياة الّتي في الزوجيّة والالتيام النكاحيّ، ولو قيل: أو تسريح بمعروف ولا يحلّ لكم الخ، فاتت النكتة.

قوله تعالى: ( إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) ، الخوف هو الغلبة على ظنّهما أن لا يقيما حدود الله، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرّمات في الدين، وذلك إنّما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولّد بينهما من ذلك.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله: خفتم، كأنّه للإشارة إلى لزوم أن يكون الخوف

٢٤٥

خوفاً يعرفه العرف والعادة، لاما ربّما يحصل بالتهوّس والتلهّي أو بالوسوسة ونحوها، ولذلك عدل أيضاً عن الإضمار فقيل ألّا يقيما حدود الله، ولم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس.

وأمّا نفى الجناح عنهما مع أنّ النهي في قوله: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا الخ، إنّما تعلّق بالزوج فلأنّ حرمة الأخذ على الزوج توجب حرمة الإعطاء على الزوجة من باب الإعانة على الإثم والعدوان إلّا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية، فلا جناح على الزوج أن يأخذ الفدية، ولاجناح على الزوجة أن تعطي الفدية وتعين على الأخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.

قوله تعالى: ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ ) الخ، المشار إليه هي المعارف المذكورة في الآيتين وهي أحكام فقهيّة مشوبة بمسائل أخلاقيّة، واُخرى علميّة مبتنية على معارف أصليّة، والاعتداء والتعدّي هو التجاوز.

وربّما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الأحكام الفقهيّة والاُصول الأخلاقيّة، والاقتصار في العمل بمجرّد الأحكام الفقهيّة والجمود على الظواهر والتقشّف فيها، فإنّ في ذلك إبطالاً لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الإنسانيّة، فإنّ الإسلام كما مرّ مراراً دين الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلّا بالاقتصار على أجساد الأحكام والإعراض عن روحها وباطن أمرها، ويدلّ على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى:( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) البقرة - ٢٣١.

وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: ولا يحلّ لكم، وقوله: فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثمّ إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها، ثمّ إلى المفرد في قوله: فاُولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقّظ ورفع الكسل في الإصغاء.

قوله تعالى: ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتّى تنكح زوجاً غيره، وقد نفى الحلّ عن نفس

٢٤٦

الزوجة مع أنّ المحرّم إنّما هو عقدها أو وطؤها ليدلّ به على تعلّق الحرمة بهما جميعاً، وليشعر قوله تعالى: حتّى تنكح زوجاً غيره، على العقد والوطئ جميعاً، فإن طلّقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الأوّل أن يتراجعا إلى الزوجيّة بالعقد بالتوافق من الجانبين، وهو التراجع، وليس بالرجوع الّذي كان حقّاً للزوج في التطليقتين الاُوليين، وذلك إن ظنّا أن يقيما حدود الله.

ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: وتلك حدود الله، لأنّ المراد بالحدود غير الحدود.

وفي الآية من عجيب الإيجاز مايبهت العقل، فإنّ الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميراً مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير أن يوجب تعقيداً في الكلام، ولا إغلاقاً في الفهم.

وقد اشتملت هذه الآية والّتي قبلها على عدد كثير من الأسماء المنكّرة والكنايات من غير ردائة في السياق كقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أربعة أسماء منكّرة، وقوله تعالى: ممّا آتيتموهنّ شيئاً كنّي به عن المهر، وقوله تعالى: فإن خفتم، كنّي به عن وجوب كون الخوف جارياً على مجرى العادة المعروفة، وقوله تعالى: فيما افتدت به، كنّي به عن مال الخلع، وقوله تعالى: فإن طلّقها، اُريد به التطليقة الثالثة، وقوله تعالى: فلا تحلّ له، اُريد به تحريم العقد والوطئ، وقوله تعالى: حتّى تنكح زوجاً غيره، اُريد به العقد والوطئ معاً كناية مؤدّبة، وقوله تعالى: أن يتراجعا، كنّي به عن العقد.

وفي الآيتين حسن المقابلة بين الإمساك والتسريح، وبين قوله أن يخافا ان لا يقيما حدود الله وبين قوله: إن ظنّا أن يقيما حدود الله، والتفنّن في التعبير في قوله: فلا تعتدوها وقوله: ومن يتعدّ.

قوله تعالى: ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ - إلى قوله -لِّتَعْتَدُوا ) ، المراد ببلوغ الأجل الإشراف على انقضاء العدّة فإنّ البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها، والدليل على أنّ المراد به ذلك قوله تعالى: فأمسكوهنّ بمعروف

٢٤٧

أو سرّحوهنّ بمعروف، إذ لا معنى للإمساك ولا التسريح بعد انقضاء العدّة. وفي قوله تعالى: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، نهىٌ عن الرجوع بقصد المضارّة كما نهى عن التسريح بالأخذ من المهر في غير الخلع.

قوله تعالى: ( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الإمساك للمضارّة فإنّ التزوّج لتتميم سعادة الحياة، ولا يتمّ ذلك إلّا بسكون كلّ من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز، والإمساك خاصّة رجوع إلى الاتّصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق، وفيه جمع الشمل بعد شتاته، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارّة؟

فمن يفعل ذلك أي أمسك ضراراً فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة الّتي تهدي إليها فطرته الإنسانيّة.

على أنّه اتّخذ آيات الله هزؤاً يستهزء بها فإنّ الله سبحانه لم يشرّع ما شرّعه لهم من الأحكام تشريعاً جامداً يقتصر فيه على أجرام الأفعال أخذاً وإعطائاً وإمساكاً وتسريحاً وغير ذلك، بل بناها على مصالح عامّة يصلح بها فاسد الاجتماع، ويتمّ بها سعادة الحياة الإنسانيّة، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربّى بها النفوس، وتطهّر بها الأرواح، وتصفو بها المعارف العالية: من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الأحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتّخذ آيات الله هزؤاً.

والمراد بالنعمة في قوله تعالى:( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) ، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة الّتي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصّة بتألّف الزوجين، فإنّ الله تعالى سمّى السعادة الدينيّة نعمة كما في قوله تعالى:( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة - ٣، وقوله تعالى:( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) آل عمران - ١٠٣.

وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده: وما اُنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به، كالمفسّر لهذه النعمة، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها أعني أحكامها وحكمها.

٢٤٨

ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الإلهيّة، التكوينيّة وغيرها فيكون المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصّة المزايا ومحاسن التألّف والسكونة بين الزوجين وما بيّنه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلّقة بها في ظاهر الأحكام وحكمها فإنّكم إن تأمّلتم ذلك أوشكّ أن تلزموا صراط السعادة، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم، واتّقوا الله ولتتوجّه نفوسكم إلى أنّ الله بكلّ شئ عليمٌ، حتّى لا يخالف ظاهركم باطنكم، ولاتجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.

قوله تعالى: ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ) ، العضل المنع، والظاهر أنّ الخطاب في قوله: فلا تعضلوهنّ، لأوليائهنّ ومن يجري مجراهم ممّن لايسعهنّ مخالفته، والمراد بأزواجهنّ، الأزواج قبل الطلاق، فالآية تدلّ على نهي الأولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة أن تنكح زوجها ثانياً بعد انقضاء العدّة سخطاً ولجاجاً كما يتّفق كثيراً، ولا دلالة في ذلك على أنّ العقد لا يصحّ إلّا بوليّ.

أمّا أوّلاً : فلأنّ قوله: فلا تعضلوهنّ، لو لم يدلّ على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدلّ على تأثيره.

وأمّا ثانياً : فلأنّ اختصاص الخطاب بالأولياء فقط لادليل عليه بل الظاهر أنّه أعمّ منهم، وأنّ النهى نهيٌ إرشاديّ إلى ما يترتّب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى: ذلكم أزكى لكم وأطهر.

وربّما قيل: إنّ الخطاب للأزواج جرياً على ما جرى به قوله: وإذا طلّقتم النساء، والمعنى: وإذا طلّقتم النساء يا أيّها الأزواج فانقضت عدّتهنّ فلا تمنعوهنّ أن ينكحن أزواجاً يكونون أزواجهنّ، وذلك بأن يخفي عنهنّ الطلاق لتضارّ بطول العدّة ونحو ذلك.

وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: أزواجهنّ، فإنّ التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: أن ينكحن أو أن ينكحن أزواجاً وهو ظاهرٌ.

والمراد بقوله تعالى: فبلغن أجلهنّ انقضاء العدّة، فإنّ العدّة لو لم تنقض

٢٤٩

لم يكن لأحد من الأولياء وغيرهم أن يمنع ذلك وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك. على أنّ قوله تعالى: أن ينكحن، دون أن يقال: يرجعن ونحوه ينافي ذلك.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، هذا كقوله فيما مرّ: ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر الآية، وإنّما خصّ الموردان من بين الموارد بالتقييد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهو التوحيد، لأنّ دين التوحيد يدعو إلى الاتّحاد دون الافتراق، ويقضي بالوصل دون الفصل.

وفي قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم، التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثمّ التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، والأصل في هذا الكلام خطاب المجموع أعني خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واُمّته جميعاً لكن ربّما التفت إلى خطاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده في غير جهات الأحكام كقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها، وقوله فاُولئك هم الظّالمون، وقوله: وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك، وقوله: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، حفظاً لقوام الخطاب، ورعاية لحال من هو ركنٌ في هذه المخاطبة وهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، وغيره مخاطبٌ بوساطته، وأمّا الخطابات المشتملة على الأحكام فجميعها موجّهة نحو المجموع، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلاميّ إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبّر فيه.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) ، الزكاة هو النموّ الصالح الطيّب، وقد مرّ الكلام في معنى الطهارة، والمشار إليه بقوله: ذلكم عدم المنع عن رجوعهنّ إلى أزواجهنّ، أو نفس رجوعهنّ إلى أزواجهنّ، والمال واحد، وذلك أنّ فيه رجوعاً من الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتّصال، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينيّة، وفيه تربية لملكة العفّة والحياء فيهنّ وهو أستر لهنّ وأطهر لنفوسهنّ، ومن جهة اُخرى فيه حفظ قلوبهنّ عن الوقوع على الأجانب إذا منعن عن نكاح أزواجهنّ.

والإسلام دين الزكاة والطهارة والعلم، قال تعالى:( وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ

٢٥٠

الْحِكْمَةَ ) آل عمران - ١٦٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٧.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، أي إلّا ما يعلّمكم كما قال تعالى:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) آل عمران - ١٦٤، وقال تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وتلك حدود الله يبيّنها لقوم يعلمون الآية أي يعلمون بتعليم الله.

قوله تعالى: ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) الوالدات هنّ الاُمّهات، وإنّما عدل عن الاُمّهات إلى الوالدات لأنّ الاُمّ أعمّ من الوالدة كما أنّ الأب أعمّ من الوالد والابن أعمّ من الولد، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له، وأمّا تبديل الوالد بالمولود له، ففيه إشارة إلى حكمة التشريع فإنّ الوالد لمّا كان مولوداً للوالد ملحقاً به في معظم أحكام حياته لافي جميعها كما سيجئ بيانها في آية التحريم من سورة النساء إنشاء الله كان عليه أن يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته، ومنها كسوة اُمّه الّتي ترضعه، ونفقتها، وكان على اُمّه أن لا تضارّ والده لأنّ الولد مولود له.

ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسّرين: أنّه إنّما قيل: المولود له دون الوالد: ليعلم أنّ الوالدات إنّما ولدن لهنّ لأنّ الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الاُمّهات، وأنشد المأمون بن الرشيد:

وإنّما اُمّهات الناس أوعيةٌ

مستودعاتٌ وللآباء أبناء

انتهى ملخّصاً، وكأنّه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى: أولادهنّ ويقول: بولدها، وأمّا ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدراً من أن يتأيّد بكلامه كلام الله تعالى وتقدّس.

وقد اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللّغة، وأمر التشريع، (حكم الاجتماع) وأمر التكوين فربّما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعيّ، أو حقيقة تكوينيّة.

وجملة الأمر في الولد أنّ التكوين يلحقه بالوالدين معاً لاستناده في وجوده إليهما معاً، والاعتبار الاجتماعيّ فيه مختلف بين الاُمم: فبعض الاُمم يلحقه بالوالدة،

٢٥١

وبعضهم بالوالد والآية تقرّر قول هذا البعض، وتشير إليه بقوله: المولود له كما تقدّم، والإرضاع إفعال من الرضاعة والرضع وهو مصّ الثدي بشرب اللبن منه، والحول هو السنة سمّيت به لأنّها تحول، وإنّما وصف بالكمال لأنّ الحول والسنة لكونه ذا أجزاء كثيرة ربّما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيراً مّا يقال: أقمت هناك حولاً أو حولين إذا اُقيم مدّة تنقص منه أيّاماً.

وفي قوله تعالى: لمن أراد أن يتمّ الرضاعة، دلالة على أنّ الحضانة والإرضاع حقّ للوالدة المطلّقة موكول إلى اختيارها، والبلوغ إلى آخر المدّة أيضاً من حقّها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وإن لم تشأ التكميل فلها ذلك، وأمّا الزوج فليس له في ذلك حقّ إلّا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن أرادا فصالاً الخ.

قوله تعالى: ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ) ، المراد بالمولود له هو الوالد كما مرّ، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما، وقد علّل ذلك بحكم عامّ آخر رافع للحرج، وهو قوله تعالى: لا تكلّف نفسٌ إلّا وسعها، وقد فرّع عليه حكمين آخرين،أحدهما: حقّ الحضانة والإرضاع الّذي للزوجة وما أشبهه فلا يحقّ للزوج أن يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإنّ ذلك مضارّة وحرجٌ عليها، وثانيهما: نفي مضارّة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية ونحو ذلك، وذلك قوله تعالى: لاتضارّ والدة بولدها ولا مولودٌ له بولده، والنكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله: بولده دون أن يقول به رفع التناقض المتوهّم، فإنّه لو قيل: ولا مولودٌ له به رجع الضمير إلى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى: ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لأنّ إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معاً أي إنّ الولد لهما معاً تكويناً فهو ولده وولدها، وله فحسب تشريعاً لأنّه مولود له.

قوله تعالى: ( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ) ، ظاهر الآية: أنّ الّذى جعل على

٢٥٢

الوالد من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، وقد قيل في معنى الآية أشياء اُخر لا يوافق ظاهرها، وقد تركنا ذكرها لأنّها بالبحث الفقهيّ أمسّ فلتطلب من هناك، والّذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمّة أهل البيت فيما نقل عنهم من الأخبار، وهو الموافق أيضاً لظاهر الآية.

قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ) إلى آخر الآية، الفصال: الفطام، والتشاور: الاجتماع على المشورة، والكلام تفريع على الحقّ المجعول للزوجة ونفي الحرج عن البين، فالحضانة والرضاع ليس واجباً عليها غير قابل التغيير، بل هو حقّ يمكنها أن تتركه.

فمن الجائز أن يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس، وكذا من الجائز أن يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردّت الولد إليه بالامتناع عن إرضاعه، أو لعلّة اُخرى من انقطاع لبن أو مرض ونحوه إذا سلّم لها ما تستحقّها تسليماً بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقّها، وهو قوله تعالى: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف.

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ، أمر بالتقوى وأن يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الأعمال، فإنّها اُمورٌ مرتبطة بالظاهر من الصورة ولذلك: واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق: وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ الآية من قوله تعالى: واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بكلّ شئ عليم، فإنّ تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، والمضارّة ربّما عادت إلى النيّة من غير ظهور في صورة العمل إلّا بحسب الأثر بعد.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، التوفّي هو الإماتة، يقال: توفّاه الله إذا أماته فهو متوفّى بصيغة اسم المفعول، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادّتهما، والمراد بالعشر الأيّام حذفت لدلالة الكلام عليه.

٢٥٣

قوله تعالى: ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) المراد ببلوغ الأجل انقضاء العدّة، وقوله: فلا جناح الخ كناية عن إعطاء الاختيار لهنّ في أفعالهنّ فإن اخترن لأنفسهنّ الازدواج فلهن ذلك، وليس لقرابة الميّت منعهنّ عن شئ من ذلك استناداً إلى بعض العادات المبنيّة على الجهالة والعمى أو الشحّ والحسد فإنّ لهنّ حقّاً في ذلك معروفاً في الشرع وليس لأحد أن ينهي عن المعروف.

وقد كانت الاُمم على أهواء شتّى في المتوفّى عنها زوجها، بين من يحكم بإحراق الزوجة الحيّة مع زوجها الميّت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهليّ، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، وبين من يعتقد أنّ للزوج المتوفّى حقّاً على الزوجة في الكفّ عن الازدواج حيناً من غير تعيين للمدّة، كلّ ذلك لما يجدونه من أنفسهم أنّ الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها، وهو مبنيّ على أساس الاُنس والالفة والحبّ، وللحبّ حرمة يجب رعايتها، وهذا وإن كان معنى قائماً بالطرفين، ومرتبطاً بالزوج والزوجة معاً فكلّ منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أنّ هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياء والاحتجاب والعفّة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الأيدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه الأقوام المختلفة في المتوفّى عنها زوجها، وقد عيّن الإسلام هذا التربّص بما يقرب من ثلث سنة، أعني أربعة أشهر وعشراً.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ، لمّا كان الكلام مشتملاً على تشريع عدّة الوفاة وعلى تشريع حقّ الازدواج لهنّ بعدها، وكان كلّ ذلك تشخيصاً للأعمال مستنداً إلى الخبرة الإلهيّة كان الانسب تعليله بأنّ الله خبيرٌ بالأعمال مشخّص للمحظور منها عن المباح، فعليهنّ أن يتربّصن في مورد وأن يخترن ما شئن لأنفسهنّ في مورد آخر، ولذا ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون خبير.

٢٥٤

قوله تعالى: ( وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ) التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمراً مقصوداً للمتكلّم لا يريد التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح. والفرق بين التعريض والكناية أنّ للكلام الّذي فيه التعريض معنى مقصوداً غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة: إنّي حسن المعاشرة واُحبّ النساء، اي لو تزوّجت بي سعدت بطيّب العيش وصرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنّى عنه كقولك: فلان كثير الرماد تريد أنّه سخيّ.

والخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلّم والمراجعة في الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلّمها في أمر التزوّج بها فهو خاطب ولايقال: خطيب ويقال خطب القوم خطبة بضمّ الخاء إذا كلّمهم، وخاصّة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب وخطيب من الخطباء.

والإكنان من الكنّ بالفتح بمعنى الستر لكن يختصّ الإكنان بما يستر في النفس كما قال: أو أكننتم في أنفسكم، والكنّ بما يستر بشئ من الأجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت، قال تعالى:( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ) الصافّات - ٤٩، وقال تعالى:( كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) الواقعة - ٢٣، والمراد بالآية نفى البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء اُمور في القلب في أمرها.

قوله تعالى: ( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ) ، في مورد التعليل لنفي الجناح عن الخطبة والتعريض فيها، والمعنى: أنّ ذكركم إيّاهنّ أمرٌ مطبوع في طباعكم والله لاينهي عن أمر تقضي به غريزتكم الفطريّة ونوع خلقتكم، بل يجوّزه، وهذا من الموارد الظاهرة في أنّ دين الإسلام مبنيّ على أساس الفطرة.

قوله تعالى: ( وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ، العزم عقد القلب على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهنّ في تأثيره إلّا أن يبطل من رأس، والعقدة من العقد بمعنى الشدّ. وفي الكلام تشبيه علقة الزوجيّة بالعقدة الّتي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران وأحداً بالاتّصال، كأنّ حبالة النكاح تصيّر الزوجين واحداً متّصلاً،

٢٥٥

ثمّ في تعليق عقدة النكاح بالعزم الّذي هو أمرٌ قلبيّ إشارة إلى أنّ سنخ هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنيّة والاعتقاد فإنّها من الاعتبارات العقلائيّة الّتي لا موطن لها إلّا ظرف الاعتقاد والإدراك، نظير الملك وسائر الحقوق الإجتماعيّة العقلائيّة كما مرّ بيانه في ذيل قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة - ٢١٣، ففي الآية استعارة وكناية، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربّص الّذي فرضه الله على المعتدّات.

فمعنى الآية: ولاتجروا عقد النكاح حتّى تنقضي عدّتهنّ، وهذه الآية تكشف أنّ الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء الآية إنّما هو في خطبة المعتدّات وفي عقدهنّ، وعلى هذا فاللّام في قوله: النساء للعهد دون الجنس وغيره.

قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ ) الخ إيراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية، أعني العلم والمغفرة والحكم يدلّ على أنّ الاُمور المذكورة في الآيتين وهي خطبة المعتدّات والتعريض لهنّ ومواعدتهنّ سرّاً من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كلّ الارتضاء وإن كان قد أجاز ما أجازه منها.

قوله تعالى: ( لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) ، المسّ كناية عن المواقعة، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والمعنى: أنّ عدم مسّ الزوجة لا يمنع عن صحّة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر.

قوله تعالى: ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ) ، التمتيع إعطاء ما يتمتّع به، والمتاع والمتعة ما يتمتّع به، ومتاعاً مفعول مطلق لقوله تعالى: ومتّعوهنّ، اعترض بينهما قوله تعالى: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، والموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال وكأنّه من الأفعال المتعدّية الّتي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصاراً حتّى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازماً والمقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، والقدر بفتح الدال وسكونها بمعنى واحد.

ومعنى الآية: يجب عليكم أن تمتّعوا المطلّقات عن غير فرض فريضة متاعاً بالمعروف

٢٥٦

وإنّما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدّر به وضعه من التمتيع، وعلى المقتر قدره من التمتيع، وهذا يختصّ بالمطلّقة غير المفروضة لها الّتي لم يسمّ مهرها، والدّليل على أنّ هذا التمتيع المذكور مختصّ بها ولا يعمّ المطلّقة المفروضة لها الّتي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها.

قوله تعالى: ( حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ، أي حقّ الحكم حقّاً على المحسنين، وظاهر الجملة وإن كان كون الوصف أعني الإحسان دخيلاً في الحكم، وحيث ليس الإحسان واجباً استلزم كون الحكم استحبابيّاً غير وجوبي، إلّا أنّ النصوص من طرق أهل البيت تفسّر الحكم بالوجوب، ولعلّ الوجه فيه ما مرّ من قوله تعالى: الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح باحسان الآية فأوجب الإحسان على المسرّحين وهم المطلّقون فهم المحسنون، وقد حقّ الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلّقون، والله أعلم.

قوله تعالى: ( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ) الخ، أي وإن أوقعتم الطلاق قبل الدخول بهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة وسمّيتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلّقات أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح من وليّهنّ فيسقط النصف المذكور أيضاً، أو الزوج فإنّ عقدة النكاح بيده أيضاً، فلا يجب على الزوجة المطلّقة ردّ نصف المهر الّذي أخذت، والعفو على أيّ حال أقرب للتقوى لأنّ من أعرض عن حقّه الثابت شرعاً فهو عن الإعراض عمّا ليس له بحقّ من محارم الله سبحانه أقوى وأقدر.

قوله تعالى: ( وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) الخ الفضل هو الزيادة كالفضول غير أنّ الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل، وفي الكلام ذكر الفضل الّذي ينبغي أن يؤثره الإنسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض، والمراد به الترغيب في الإحسان والفضل بالعفو عن الحقوق والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس، والنكتة في قوله تعالى: إنّ الله على كلّ شئ بصير، كالنكتة فيما مرّ في ذيل قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهنّ الآية.

قوله تعالى: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ) إلى آخر الآية، حفظ الشئ ضبطه وهو في

٢٥٧

المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، والوسطى مؤنّث الأوسط، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، وإنّما تفسيره السنّة، وسيجئ ما ورد من الروايات في تعيينه.

واللّام في قوله تعالى: قوموا لله للغاية، والقيام بأمر كناية عن تقلّده والتلبّس بفعله، والقنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى:( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة - ١١٦، وقال تعالى:( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) الأحزاب - ٣١، فمحصّل المعنى: تلبّسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولأجله.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ) إلى آخر الآية عطف الشرط على الجملة السابقة يدلّ على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، وإن خفتم فقدّروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفاً أو مشياً أو راكبين، والرجال جمع راجل والركبان جمع راكب، وهذه صلاة الخوف.

والفاء في قوله تعالى: فإذا أمنتم، للتفريع أي أنّ المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من أصله بل إن لم تخافوا شيئاً وأمكنت لكم وجبت عليكم وإن تعسّرت عليكم فقدّروها بقدر ما يمكن لكم، وإن زال عنكم الخوف بتجدّد الأمن ثانياً عاد الوجوب ووجب عليكم ذكر الله سبحانه.

والكاف في قوله تعالى: كما علّمكم، للتشبيه، وقوله: ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العامّ موضع الخاصّ دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم، والمعنى على هذا: فاذكروا الله ذكراً يماثل ما علّمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الأمن في ضمن ما علّمكم من شرائع الدين.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم ) وصيّة مفعول مطلق لمقدّر، والتقدير ليوصوا وصيّة ينتفع به أزواجهم ويتمتّعن متاعاً إلى الحول بعد التوفّي.

وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدّة الوفاة، أعني الأربعة أشهر وعشرة أيّام فإنّ عرب الجاهليّة كانت نساؤهم يقعدن بعد موت

٢٥٨

أزواجهنّ حولاً كاملاً، فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهنّ بمال يتمتّعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهنّ من بيوتهنّ، غير أنّ هذا لمّا كان حقّاً لهنّ والحقّ يجوز تركه كان لهنّ أن يطالبن به، وأن يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت أن يوصي للوالدين والأقربين بالمعروف، قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) البقرة - ١٨٠.

وممّا ذكرنا يظهر أن الآية منسوخة بآية عدّة الوفاة وآية الميراث بالربع والثّمن.

قوله تعالى: ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، الآية في حقّ مطلق المطلّقات، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعرٌ بالاستحباب.

قوله تعالى: ( كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، الأصل في معنى العقل العقد والإمساك وبه سمّي إدراك الإنسان إدراكاً يعقد عليه عقلاً، وما أدركه عقلاً، والقوّة الّتي يزعم أنّها إحدى القوى الّتي يتصرّف بها الإنسان يميّز بها بين الخير والشرّ والحقّ والباطل عقلاً، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة.

والألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربّما بلغت العشرين، كالظنّ، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأى، والزّعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك.

والظنّ هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حدّ الجزم والقطع، وكذا الحسبان، غير أنّ الحسبان كأن استعماله في الإدراك الظنّي استعمال استعاريّ، كالعدّ بمعنى الظنّ وأصله من نحو قولنا: عدّ زيداً من الأبطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العدّ والحساب.

والشعور هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقّته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواسّ.

والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك أو حفظه

٢٥٩

من أن يغيب عن الإدراك.

والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل: إنّه إدراك بعد علم سابق.

والفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.

والفقه: هو التثبّت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق.

والدراية: هو التوغّل في ذلك التثبّت والاستقرار حتّى يدرك خصوصيّة المعلوم وخباياه ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر وتعظيمه، قال تعالى:( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) الحاقّة - ٢، وقال تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) القدر - ٢.

واليقين: هو اشتداد الإدراك الذهنيّ بحيث لا يقبل الزوال والوهن.

والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات.

والرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروّي، غير أنّه يغلب استعماله في العلوم العمليّة ممّا ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظريّة الراجعة إلى الاُمور التكوينيّة، ويقرب منه البصيرة، والإفتاء، والقول، غير أنّ استعمال القول كأنّه استعمال استعاريّ من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لأنّ القول في شئ يستلزم الاعتقاد بما يدلّ عليه.

والزعم: هو التصديق من حيث أنّه صورة في الذهن سواء كان تصديقاً راجحاً أو جازماً قطعاً.

والعلم كما مرّ: هو الإدراك المانع من النقيض.

والحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرّق إليه التغيّر والزوال.

والحكمة: هي الصورة العلميّة من حيث إحكامها وإتقانها.

والخبره: هو ظهور الصورة العلميّة بحيث لا يخفي على العالم ترتّب أيّ نتيجة على مقدّماتها.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481