الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 126482
تحميل: 7209


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126482 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( ٢٣٩ ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٤٠ ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( ٢٤١ ) كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٢٤٢ )

( بيان)

الآيات في أحكام الطلاق والعدّة وإرضاع المطلّقة ولدها، وفي خلالها شئ من أحكام الصلاة.

قوله تعالى: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) ، أصل الطلاق التخلية عن وثاق وتقييد ثمّ استعير لتخلية المرئة عن حبالة النكاح وقيد الزوجيّة ثمّ صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.

والتربّص هو الانتظار والحبس، وقد قيّد بقوله تعالى: بأنفسهنّ، ليدلّ على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدّة أعني عدّة الطلاق، وهو حبس المرئة نفسها عن الازدواج تحذّراً عن اختلاط المياه، ويزيد على معنى العدّة الإشارة إلى حكمة التشريع، وهو التحفّظ عن اختلاط المياه وفساد الأنساب، ولا يلزم اطّراد الحكمة في جميع الموارد فإنّ القوانين والأحكام إنّما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامّة، فقوله تعالى يتربّصن بأنفسهنّ بمنزلة قولنا: يعتددن احترازاً من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهنّ، والجملة خبرٌ اُريد به الإنشاء تأكيداً.

والقروء جمع القرء، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معاً، فهو على ما قيل من الأضداد، غير أنّ الأصل في مادّة قرء هو الجمع لكن لا كلّ جمع بل الجمع الّذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه، وعلى هذا فالأظهر أن يكون معناه الطهر لكونه حاله جمع الدم ثمّ استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، وبهذه العناية اطلق على الجمع بين

٢٤١

الحروف للدلالة على معنى القرائه، وقد صرّح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، ويشعر بأنّ الأصل في مادّة قرء الجمع، قوله تعالى:( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة - ١٨، وقوله تعالى:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ ) الاسراء - ١٠٦، حيث عبّر تعالى في الآيتين بالقرآن، ولم يعبّر بالكتاب أو الفرقان أو مايشبههما، وبه سمّي القرآن قرآناً.

قال الراغب في مفرداته: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولمّا كان اسماً جامع للأمرين: الطهر والحيض المتعقّب له أطلق على كلّ واحد لأنّ كلّ اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق على كلّ واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان والطعام، ثمّ قد يسمّى كلّ واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسماً للطهر مجرّداً ولا للحيض مجرّداً، بدليل أنّ الطاهر الّتي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، وكذا الحائض الّتي استمرّ بها الدم لا يقال لها: ذلك، انتهى.

قوله تعالى: ( وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، المراد به تحريم كتمان المطلّقة الدم أو الولد استعجالاً في خروج العدّة أو إضراراً بالزوج في رجوعه ونحو ذلك، وفي تقييده بقوله: إن كنّ يؤمّن بالله واليوم الآخر مع عدم اشتراط أصل الحكم بالإيمان نوع ترغيب وحثّ لمطاوعة الحكم والتثبّت عليه لما في هذا التقييد من الإشارة إلى أنّ هذا الحكم من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر الّذي عليه بناء الشريعة الإسلاميّة فلا استغناء في الإسلام عن هذا الحكم، وهذا نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس إن أردت خيراً، وقولنا للمريض: عليك بالحمية إن أردت الشفاء والبرء.

قوله تعالى: ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ) ، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ماداما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوّة والثبات في الشدائد لما أنّ الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثمّ جعل أصلاً يشتقّ منه الألفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابّة بعلها، وللأرض المستعلية بعل، وللصنم بعل، وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك.

٢٤٢

والضمير في بعولتهنّ للمطلّقات إلّا أنّ الحكم خاصّ بالرجعيّات دون مطلق المطلّقات الأعمّ منها ومن البائنات، والمشار إليه بذلك التربّص الّذي هو بمعنى العدّة، والتقييد بقوله إن أرادوا إصلاحاً، للدلالة على وجوب أن يكون الرجوع لغرض الإصلاح لا لغرض الإضرار المنهيّ عنه بعد بقوله: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، الآية.

ولفظ أحقّ اسم تفضيل حقّه أن يتحقّق معناه دائماً مع مفضّل عليه كأن يكون للزوج الأوّل حقّ في المطلّقة ولسائر الخطّاب حقّ، والزوج الأوّل أحقّ بها لسبق الزوجيّة، غير أنّ الردّ المذكور لا يتحقّق معناه إلّا مع الزوج الأوّل.

ومن هنا يظهر: أنّ في الآية تقديراً لطيفاً بحسب المعنى، والمعنى وبعولتهنّ أحقّ بهنّ من غيرهم، ويحصل ذلك بالردّ والرجوع في أيّام العدّة، وهذه الأحقّيّة إنّما تتحقّق في الرجعيّات دون البائنات الّتي لا رجوع فيها، وهذه هي القرينة على أنّ الحكم مخصوص بالرجعيّات، لا أنّ ضمير بعولتهنّ راجع إلى بعض المطلّقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك، والآية خاصّة بحكم المدخول بهنّ من ذوات الحيض غير الحوامل، وأمّا غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر.

قوله تعالى: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) ، المعروف هو الّذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الإجتماعيّة المتداولة بينهم، وقد كرّر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في إثنى عشر موضعاً اهتماماً بأن يجري هذا العمل أعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة، فالمعروف تتضمّن هداية العقل، وحكم الشرع، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الأدب.

وحيث بنى الإسلام شريعته على أساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الّذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدّوا طور الخلقة، ومن أحكام الاجتماع المبنيّ على أساس الفطرة أن يتساوى في الحكم أفراده وأجزاؤه فيكون ما عليهم مثل مالهم إلّا أنّ ذلك التساوي إنّما هو مع حفظ ما لكلّ من الأفراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، وللمحكوم محكوميّته، وللعالم علمه، وللجاهل حاله، وللقويّ من حيث العمل قوّته، وللضعيف ضعفه

٢٤٣

ثمّ يبسط التساوي بينها بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى هذا جرى الإسلام في الأحكام المجعولة للمرأة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحيوة الإجتماعيّة في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والإسلام يرى في ذلك أنّ للرجال عليهنّ درجة، والدرجة المنزلة.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: وللرجال عليهنّ درجة، قيد متمّم للجملة السابقة، والمراد بالجميع معنى واحد وهو: أنّ النساء أو المطلّقات قد سوّى الله بينهنّ وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهنّ، فجعل لهنّ مثل ما عليهنّ من الحكم، وسنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علميّ مخصوص بها.

قوله تعالى: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) ، المرّة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة مثلها وزناً ومعنى واعتباراً.

والتسريح أصله الإطلاق في الرعى مأخوذ من سرّحت الإبل وهو أن ترعيه السرح، وهو شجر له ثمر يرعاه الإبل وقد استعير في الآية لإطلاق المطلّقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدّة، والتخلية عنها حتّى تنقضي عدّتها على ما سيجئ.

والمراد بالطلاق في قوله تعالى: الطلاق مرّتان، الطلاق الّذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد: فإمساك الخ، وأمّا الثالث فالطلاق الّذي يدلّ عليه قوله تعالى: فإن طلّقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره الآية.

والمراد بتسريحها بإحسان ظاهراً التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كلّ من التطليقتين الاُوليين حتّى تبيّن بانقضاء العدّة وإن كان الأظهر أنّه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الإطلاق في تفريع قوله: فإمساك الخ، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد: فإن طلقها الخ بياناً تفصيليّاً للتسريح بعد البيان الإجماليّ.

وفي تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان من لطيف العناية مالا يخفى، فإنّ الامساك والردّ إلى حبالة الزوجيّة ربّما كان للإضرار بها وهو منكر غير معروف، كمن يطلّق امرأته ثمّ يخلّيها حتّى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق ثمّ

٢٤٤

يرجع كذلك، يريد بذلك إيذائها والإضرار بها وهو إضرار منكرٌ غير معروف في هذه الشريعة منهيّ عنه، بل الإمساك الّذي يجوّزه الشرع أن يرجع إليها بنوع من أنواع الالتيام، ويتمّ به الأنس وسكون النفس الّذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة.

وكذلك التسريح ربّما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب، ويتصوّر بصورة الانتقام، والّذي يجوّزه هذه الشريعة أن يكون تسريحاً بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف، وهذا التعبير هو الأصل في إفادة المطلوب الّذي ذكرناه، وأمّا ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان، حيث قيّد التسريح بالإحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً.

بيانه: أنّ التقييد بالمعروف والإحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرّع المقصود، والمطلوب بتقييد الإمساك بالمعروف نفي الإمساك الواقع على نحو المضارّة كما قال تعالى: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، والمطلوب في مورد التسريح نفى أن يأخذ الزوج بعض ما آتاه للزوجة من المهر، ولا يكفي فيه تقييد التسريح بالمعروف كما فعل في الآية الآتية فإنّ مطالبة الزوج بعض ما آتاه زوجته وأخذه ربّما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالإحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزيّة الحياة الّتي في الزوجيّة والالتيام النكاحيّ، ولو قيل: أو تسريح بمعروف ولا يحلّ لكم الخ، فاتت النكتة.

قوله تعالى: ( إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) ، الخوف هو الغلبة على ظنّهما أن لا يقيما حدود الله، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرّمات في الدين، وذلك إنّما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولّد بينهما من ذلك.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله: خفتم، كأنّه للإشارة إلى لزوم أن يكون الخوف

٢٤٥

خوفاً يعرفه العرف والعادة، لاما ربّما يحصل بالتهوّس والتلهّي أو بالوسوسة ونحوها، ولذلك عدل أيضاً عن الإضمار فقيل ألّا يقيما حدود الله، ولم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس.

وأمّا نفى الجناح عنهما مع أنّ النهي في قوله: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا الخ، إنّما تعلّق بالزوج فلأنّ حرمة الأخذ على الزوج توجب حرمة الإعطاء على الزوجة من باب الإعانة على الإثم والعدوان إلّا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية، فلا جناح على الزوج أن يأخذ الفدية، ولاجناح على الزوجة أن تعطي الفدية وتعين على الأخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.

قوله تعالى: ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ ) الخ، المشار إليه هي المعارف المذكورة في الآيتين وهي أحكام فقهيّة مشوبة بمسائل أخلاقيّة، واُخرى علميّة مبتنية على معارف أصليّة، والاعتداء والتعدّي هو التجاوز.

وربّما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الأحكام الفقهيّة والاُصول الأخلاقيّة، والاقتصار في العمل بمجرّد الأحكام الفقهيّة والجمود على الظواهر والتقشّف فيها، فإنّ في ذلك إبطالاً لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الإنسانيّة، فإنّ الإسلام كما مرّ مراراً دين الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلّا بالاقتصار على أجساد الأحكام والإعراض عن روحها وباطن أمرها، ويدلّ على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى:( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) البقرة - ٢٣١.

وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: ولا يحلّ لكم، وقوله: فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثمّ إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها، ثمّ إلى المفرد في قوله: فاُولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقّظ ورفع الكسل في الإصغاء.

قوله تعالى: ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتّى تنكح زوجاً غيره، وقد نفى الحلّ عن نفس

٢٤٦

الزوجة مع أنّ المحرّم إنّما هو عقدها أو وطؤها ليدلّ به على تعلّق الحرمة بهما جميعاً، وليشعر قوله تعالى: حتّى تنكح زوجاً غيره، على العقد والوطئ جميعاً، فإن طلّقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الأوّل أن يتراجعا إلى الزوجيّة بالعقد بالتوافق من الجانبين، وهو التراجع، وليس بالرجوع الّذي كان حقّاً للزوج في التطليقتين الاُوليين، وذلك إن ظنّا أن يقيما حدود الله.

ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: وتلك حدود الله، لأنّ المراد بالحدود غير الحدود.

وفي الآية من عجيب الإيجاز مايبهت العقل، فإنّ الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميراً مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير أن يوجب تعقيداً في الكلام، ولا إغلاقاً في الفهم.

وقد اشتملت هذه الآية والّتي قبلها على عدد كثير من الأسماء المنكّرة والكنايات من غير ردائة في السياق كقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أربعة أسماء منكّرة، وقوله تعالى: ممّا آتيتموهنّ شيئاً كنّي به عن المهر، وقوله تعالى: فإن خفتم، كنّي به عن وجوب كون الخوف جارياً على مجرى العادة المعروفة، وقوله تعالى: فيما افتدت به، كنّي به عن مال الخلع، وقوله تعالى: فإن طلّقها، اُريد به التطليقة الثالثة، وقوله تعالى: فلا تحلّ له، اُريد به تحريم العقد والوطئ، وقوله تعالى: حتّى تنكح زوجاً غيره، اُريد به العقد والوطئ معاً كناية مؤدّبة، وقوله تعالى: أن يتراجعا، كنّي به عن العقد.

وفي الآيتين حسن المقابلة بين الإمساك والتسريح، وبين قوله أن يخافا ان لا يقيما حدود الله وبين قوله: إن ظنّا أن يقيما حدود الله، والتفنّن في التعبير في قوله: فلا تعتدوها وقوله: ومن يتعدّ.

قوله تعالى: ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ - إلى قوله -لِّتَعْتَدُوا ) ، المراد ببلوغ الأجل الإشراف على انقضاء العدّة فإنّ البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها، والدليل على أنّ المراد به ذلك قوله تعالى: فأمسكوهنّ بمعروف

٢٤٧

أو سرّحوهنّ بمعروف، إذ لا معنى للإمساك ولا التسريح بعد انقضاء العدّة. وفي قوله تعالى: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، نهىٌ عن الرجوع بقصد المضارّة كما نهى عن التسريح بالأخذ من المهر في غير الخلع.

قوله تعالى: ( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الإمساك للمضارّة فإنّ التزوّج لتتميم سعادة الحياة، ولا يتمّ ذلك إلّا بسكون كلّ من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز، والإمساك خاصّة رجوع إلى الاتّصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق، وفيه جمع الشمل بعد شتاته، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارّة؟

فمن يفعل ذلك أي أمسك ضراراً فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة الّتي تهدي إليها فطرته الإنسانيّة.

على أنّه اتّخذ آيات الله هزؤاً يستهزء بها فإنّ الله سبحانه لم يشرّع ما شرّعه لهم من الأحكام تشريعاً جامداً يقتصر فيه على أجرام الأفعال أخذاً وإعطائاً وإمساكاً وتسريحاً وغير ذلك، بل بناها على مصالح عامّة يصلح بها فاسد الاجتماع، ويتمّ بها سعادة الحياة الإنسانيّة، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربّى بها النفوس، وتطهّر بها الأرواح، وتصفو بها المعارف العالية: من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الأحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتّخذ آيات الله هزؤاً.

والمراد بالنعمة في قوله تعالى:( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) ، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة الّتي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصّة بتألّف الزوجين، فإنّ الله تعالى سمّى السعادة الدينيّة نعمة كما في قوله تعالى:( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة - ٣، وقوله تعالى:( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) آل عمران - ١٠٣.

وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده: وما اُنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به، كالمفسّر لهذه النعمة، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها أعني أحكامها وحكمها.

٢٤٨

ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الإلهيّة، التكوينيّة وغيرها فيكون المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصّة المزايا ومحاسن التألّف والسكونة بين الزوجين وما بيّنه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلّقة بها في ظاهر الأحكام وحكمها فإنّكم إن تأمّلتم ذلك أوشكّ أن تلزموا صراط السعادة، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم، واتّقوا الله ولتتوجّه نفوسكم إلى أنّ الله بكلّ شئ عليمٌ، حتّى لا يخالف ظاهركم باطنكم، ولاتجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.

قوله تعالى: ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ) ، العضل المنع، والظاهر أنّ الخطاب في قوله: فلا تعضلوهنّ، لأوليائهنّ ومن يجري مجراهم ممّن لايسعهنّ مخالفته، والمراد بأزواجهنّ، الأزواج قبل الطلاق، فالآية تدلّ على نهي الأولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة أن تنكح زوجها ثانياً بعد انقضاء العدّة سخطاً ولجاجاً كما يتّفق كثيراً، ولا دلالة في ذلك على أنّ العقد لا يصحّ إلّا بوليّ.

أمّا أوّلاً : فلأنّ قوله: فلا تعضلوهنّ، لو لم يدلّ على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدلّ على تأثيره.

وأمّا ثانياً : فلأنّ اختصاص الخطاب بالأولياء فقط لادليل عليه بل الظاهر أنّه أعمّ منهم، وأنّ النهى نهيٌ إرشاديّ إلى ما يترتّب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى: ذلكم أزكى لكم وأطهر.

وربّما قيل: إنّ الخطاب للأزواج جرياً على ما جرى به قوله: وإذا طلّقتم النساء، والمعنى: وإذا طلّقتم النساء يا أيّها الأزواج فانقضت عدّتهنّ فلا تمنعوهنّ أن ينكحن أزواجاً يكونون أزواجهنّ، وذلك بأن يخفي عنهنّ الطلاق لتضارّ بطول العدّة ونحو ذلك.

وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: أزواجهنّ، فإنّ التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: أن ينكحن أو أن ينكحن أزواجاً وهو ظاهرٌ.

والمراد بقوله تعالى: فبلغن أجلهنّ انقضاء العدّة، فإنّ العدّة لو لم تنقض

٢٤٩

لم يكن لأحد من الأولياء وغيرهم أن يمنع ذلك وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك. على أنّ قوله تعالى: أن ينكحن، دون أن يقال: يرجعن ونحوه ينافي ذلك.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، هذا كقوله فيما مرّ: ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر الآية، وإنّما خصّ الموردان من بين الموارد بالتقييد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهو التوحيد، لأنّ دين التوحيد يدعو إلى الاتّحاد دون الافتراق، ويقضي بالوصل دون الفصل.

وفي قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم، التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثمّ التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، والأصل في هذا الكلام خطاب المجموع أعني خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واُمّته جميعاً لكن ربّما التفت إلى خطاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده في غير جهات الأحكام كقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها، وقوله فاُولئك هم الظّالمون، وقوله: وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك، وقوله: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، حفظاً لقوام الخطاب، ورعاية لحال من هو ركنٌ في هذه المخاطبة وهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، وغيره مخاطبٌ بوساطته، وأمّا الخطابات المشتملة على الأحكام فجميعها موجّهة نحو المجموع، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلاميّ إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبّر فيه.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) ، الزكاة هو النموّ الصالح الطيّب، وقد مرّ الكلام في معنى الطهارة، والمشار إليه بقوله: ذلكم عدم المنع عن رجوعهنّ إلى أزواجهنّ، أو نفس رجوعهنّ إلى أزواجهنّ، والمال واحد، وذلك أنّ فيه رجوعاً من الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتّصال، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينيّة، وفيه تربية لملكة العفّة والحياء فيهنّ وهو أستر لهنّ وأطهر لنفوسهنّ، ومن جهة اُخرى فيه حفظ قلوبهنّ عن الوقوع على الأجانب إذا منعن عن نكاح أزواجهنّ.

والإسلام دين الزكاة والطهارة والعلم، قال تعالى:( وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ

٢٥٠

الْحِكْمَةَ ) آل عمران - ١٦٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٧.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، أي إلّا ما يعلّمكم كما قال تعالى:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) آل عمران - ١٦٤، وقال تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وتلك حدود الله يبيّنها لقوم يعلمون الآية أي يعلمون بتعليم الله.

قوله تعالى: ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) الوالدات هنّ الاُمّهات، وإنّما عدل عن الاُمّهات إلى الوالدات لأنّ الاُمّ أعمّ من الوالدة كما أنّ الأب أعمّ من الوالد والابن أعمّ من الولد، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له، وأمّا تبديل الوالد بالمولود له، ففيه إشارة إلى حكمة التشريع فإنّ الوالد لمّا كان مولوداً للوالد ملحقاً به في معظم أحكام حياته لافي جميعها كما سيجئ بيانها في آية التحريم من سورة النساء إنشاء الله كان عليه أن يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته، ومنها كسوة اُمّه الّتي ترضعه، ونفقتها، وكان على اُمّه أن لا تضارّ والده لأنّ الولد مولود له.

ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسّرين: أنّه إنّما قيل: المولود له دون الوالد: ليعلم أنّ الوالدات إنّما ولدن لهنّ لأنّ الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الاُمّهات، وأنشد المأمون بن الرشيد:

وإنّما اُمّهات الناس أوعيةٌ

مستودعاتٌ وللآباء أبناء

انتهى ملخّصاً، وكأنّه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى: أولادهنّ ويقول: بولدها، وأمّا ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدراً من أن يتأيّد بكلامه كلام الله تعالى وتقدّس.

وقد اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللّغة، وأمر التشريع، (حكم الاجتماع) وأمر التكوين فربّما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعيّ، أو حقيقة تكوينيّة.

وجملة الأمر في الولد أنّ التكوين يلحقه بالوالدين معاً لاستناده في وجوده إليهما معاً، والاعتبار الاجتماعيّ فيه مختلف بين الاُمم: فبعض الاُمم يلحقه بالوالدة،

٢٥١

وبعضهم بالوالد والآية تقرّر قول هذا البعض، وتشير إليه بقوله: المولود له كما تقدّم، والإرضاع إفعال من الرضاعة والرضع وهو مصّ الثدي بشرب اللبن منه، والحول هو السنة سمّيت به لأنّها تحول، وإنّما وصف بالكمال لأنّ الحول والسنة لكونه ذا أجزاء كثيرة ربّما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيراً مّا يقال: أقمت هناك حولاً أو حولين إذا اُقيم مدّة تنقص منه أيّاماً.

وفي قوله تعالى: لمن أراد أن يتمّ الرضاعة، دلالة على أنّ الحضانة والإرضاع حقّ للوالدة المطلّقة موكول إلى اختيارها، والبلوغ إلى آخر المدّة أيضاً من حقّها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وإن لم تشأ التكميل فلها ذلك، وأمّا الزوج فليس له في ذلك حقّ إلّا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن أرادا فصالاً الخ.

قوله تعالى: ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ) ، المراد بالمولود له هو الوالد كما مرّ، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما، وقد علّل ذلك بحكم عامّ آخر رافع للحرج، وهو قوله تعالى: لا تكلّف نفسٌ إلّا وسعها، وقد فرّع عليه حكمين آخرين،أحدهما: حقّ الحضانة والإرضاع الّذي للزوجة وما أشبهه فلا يحقّ للزوج أن يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإنّ ذلك مضارّة وحرجٌ عليها، وثانيهما: نفي مضارّة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية ونحو ذلك، وذلك قوله تعالى: لاتضارّ والدة بولدها ولا مولودٌ له بولده، والنكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله: بولده دون أن يقول به رفع التناقض المتوهّم، فإنّه لو قيل: ولا مولودٌ له به رجع الضمير إلى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى: ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لأنّ إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معاً أي إنّ الولد لهما معاً تكويناً فهو ولده وولدها، وله فحسب تشريعاً لأنّه مولود له.

قوله تعالى: ( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ) ، ظاهر الآية: أنّ الّذى جعل على

٢٥٢

الوالد من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، وقد قيل في معنى الآية أشياء اُخر لا يوافق ظاهرها، وقد تركنا ذكرها لأنّها بالبحث الفقهيّ أمسّ فلتطلب من هناك، والّذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمّة أهل البيت فيما نقل عنهم من الأخبار، وهو الموافق أيضاً لظاهر الآية.

قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ) إلى آخر الآية، الفصال: الفطام، والتشاور: الاجتماع على المشورة، والكلام تفريع على الحقّ المجعول للزوجة ونفي الحرج عن البين، فالحضانة والرضاع ليس واجباً عليها غير قابل التغيير، بل هو حقّ يمكنها أن تتركه.

فمن الجائز أن يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس، وكذا من الجائز أن يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردّت الولد إليه بالامتناع عن إرضاعه، أو لعلّة اُخرى من انقطاع لبن أو مرض ونحوه إذا سلّم لها ما تستحقّها تسليماً بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقّها، وهو قوله تعالى: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف.

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ، أمر بالتقوى وأن يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الأعمال، فإنّها اُمورٌ مرتبطة بالظاهر من الصورة ولذلك: واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق: وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ الآية من قوله تعالى: واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بكلّ شئ عليم، فإنّ تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا، والمضارّة ربّما عادت إلى النيّة من غير ظهور في صورة العمل إلّا بحسب الأثر بعد.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، التوفّي هو الإماتة، يقال: توفّاه الله إذا أماته فهو متوفّى بصيغة اسم المفعول، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادّتهما، والمراد بالعشر الأيّام حذفت لدلالة الكلام عليه.

٢٥٣

قوله تعالى: ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) المراد ببلوغ الأجل انقضاء العدّة، وقوله: فلا جناح الخ كناية عن إعطاء الاختيار لهنّ في أفعالهنّ فإن اخترن لأنفسهنّ الازدواج فلهن ذلك، وليس لقرابة الميّت منعهنّ عن شئ من ذلك استناداً إلى بعض العادات المبنيّة على الجهالة والعمى أو الشحّ والحسد فإنّ لهنّ حقّاً في ذلك معروفاً في الشرع وليس لأحد أن ينهي عن المعروف.

وقد كانت الاُمم على أهواء شتّى في المتوفّى عنها زوجها، بين من يحكم بإحراق الزوجة الحيّة مع زوجها الميّت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهليّ، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، وبين من يعتقد أنّ للزوج المتوفّى حقّاً على الزوجة في الكفّ عن الازدواج حيناً من غير تعيين للمدّة، كلّ ذلك لما يجدونه من أنفسهم أنّ الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها، وهو مبنيّ على أساس الاُنس والالفة والحبّ، وللحبّ حرمة يجب رعايتها، وهذا وإن كان معنى قائماً بالطرفين، ومرتبطاً بالزوج والزوجة معاً فكلّ منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أنّ هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياء والاحتجاب والعفّة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الأيدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه الأقوام المختلفة في المتوفّى عنها زوجها، وقد عيّن الإسلام هذا التربّص بما يقرب من ثلث سنة، أعني أربعة أشهر وعشراً.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ، لمّا كان الكلام مشتملاً على تشريع عدّة الوفاة وعلى تشريع حقّ الازدواج لهنّ بعدها، وكان كلّ ذلك تشخيصاً للأعمال مستنداً إلى الخبرة الإلهيّة كان الانسب تعليله بأنّ الله خبيرٌ بالأعمال مشخّص للمحظور منها عن المباح، فعليهنّ أن يتربّصن في مورد وأن يخترن ما شئن لأنفسهنّ في مورد آخر، ولذا ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون خبير.

٢٥٤

قوله تعالى: ( وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ) التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمراً مقصوداً للمتكلّم لا يريد التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح. والفرق بين التعريض والكناية أنّ للكلام الّذي فيه التعريض معنى مقصوداً غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة: إنّي حسن المعاشرة واُحبّ النساء، اي لو تزوّجت بي سعدت بطيّب العيش وصرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنّى عنه كقولك: فلان كثير الرماد تريد أنّه سخيّ.

والخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلّم والمراجعة في الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلّمها في أمر التزوّج بها فهو خاطب ولايقال: خطيب ويقال خطب القوم خطبة بضمّ الخاء إذا كلّمهم، وخاصّة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب وخطيب من الخطباء.

والإكنان من الكنّ بالفتح بمعنى الستر لكن يختصّ الإكنان بما يستر في النفس كما قال: أو أكننتم في أنفسكم، والكنّ بما يستر بشئ من الأجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت، قال تعالى:( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ) الصافّات - ٤٩، وقال تعالى:( كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) الواقعة - ٢٣، والمراد بالآية نفى البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء اُمور في القلب في أمرها.

قوله تعالى: ( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ) ، في مورد التعليل لنفي الجناح عن الخطبة والتعريض فيها، والمعنى: أنّ ذكركم إيّاهنّ أمرٌ مطبوع في طباعكم والله لاينهي عن أمر تقضي به غريزتكم الفطريّة ونوع خلقتكم، بل يجوّزه، وهذا من الموارد الظاهرة في أنّ دين الإسلام مبنيّ على أساس الفطرة.

قوله تعالى: ( وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ، العزم عقد القلب على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهنّ في تأثيره إلّا أن يبطل من رأس، والعقدة من العقد بمعنى الشدّ. وفي الكلام تشبيه علقة الزوجيّة بالعقدة الّتي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران وأحداً بالاتّصال، كأنّ حبالة النكاح تصيّر الزوجين واحداً متّصلاً،

٢٥٥

ثمّ في تعليق عقدة النكاح بالعزم الّذي هو أمرٌ قلبيّ إشارة إلى أنّ سنخ هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنيّة والاعتقاد فإنّها من الاعتبارات العقلائيّة الّتي لا موطن لها إلّا ظرف الاعتقاد والإدراك، نظير الملك وسائر الحقوق الإجتماعيّة العقلائيّة كما مرّ بيانه في ذيل قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة - ٢١٣، ففي الآية استعارة وكناية، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربّص الّذي فرضه الله على المعتدّات.

فمعنى الآية: ولاتجروا عقد النكاح حتّى تنقضي عدّتهنّ، وهذه الآية تكشف أنّ الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء الآية إنّما هو في خطبة المعتدّات وفي عقدهنّ، وعلى هذا فاللّام في قوله: النساء للعهد دون الجنس وغيره.

قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ ) الخ إيراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية، أعني العلم والمغفرة والحكم يدلّ على أنّ الاُمور المذكورة في الآيتين وهي خطبة المعتدّات والتعريض لهنّ ومواعدتهنّ سرّاً من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كلّ الارتضاء وإن كان قد أجاز ما أجازه منها.

قوله تعالى: ( لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) ، المسّ كناية عن المواقعة، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والمعنى: أنّ عدم مسّ الزوجة لا يمنع عن صحّة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر.

قوله تعالى: ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ) ، التمتيع إعطاء ما يتمتّع به، والمتاع والمتعة ما يتمتّع به، ومتاعاً مفعول مطلق لقوله تعالى: ومتّعوهنّ، اعترض بينهما قوله تعالى: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، والموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال وكأنّه من الأفعال المتعدّية الّتي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصاراً حتّى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازماً والمقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، والقدر بفتح الدال وسكونها بمعنى واحد.

ومعنى الآية: يجب عليكم أن تمتّعوا المطلّقات عن غير فرض فريضة متاعاً بالمعروف

٢٥٦

وإنّما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدّر به وضعه من التمتيع، وعلى المقتر قدره من التمتيع، وهذا يختصّ بالمطلّقة غير المفروضة لها الّتي لم يسمّ مهرها، والدّليل على أنّ هذا التمتيع المذكور مختصّ بها ولا يعمّ المطلّقة المفروضة لها الّتي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها.

قوله تعالى: ( حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ، أي حقّ الحكم حقّاً على المحسنين، وظاهر الجملة وإن كان كون الوصف أعني الإحسان دخيلاً في الحكم، وحيث ليس الإحسان واجباً استلزم كون الحكم استحبابيّاً غير وجوبي، إلّا أنّ النصوص من طرق أهل البيت تفسّر الحكم بالوجوب، ولعلّ الوجه فيه ما مرّ من قوله تعالى: الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح باحسان الآية فأوجب الإحسان على المسرّحين وهم المطلّقون فهم المحسنون، وقد حقّ الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلّقون، والله أعلم.

قوله تعالى: ( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ) الخ، أي وإن أوقعتم الطلاق قبل الدخول بهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة وسمّيتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلّقات أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح من وليّهنّ فيسقط النصف المذكور أيضاً، أو الزوج فإنّ عقدة النكاح بيده أيضاً، فلا يجب على الزوجة المطلّقة ردّ نصف المهر الّذي أخذت، والعفو على أيّ حال أقرب للتقوى لأنّ من أعرض عن حقّه الثابت شرعاً فهو عن الإعراض عمّا ليس له بحقّ من محارم الله سبحانه أقوى وأقدر.

قوله تعالى: ( وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) الخ الفضل هو الزيادة كالفضول غير أنّ الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل، وفي الكلام ذكر الفضل الّذي ينبغي أن يؤثره الإنسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض، والمراد به الترغيب في الإحسان والفضل بالعفو عن الحقوق والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس، والنكتة في قوله تعالى: إنّ الله على كلّ شئ بصير، كالنكتة فيما مرّ في ذيل قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهنّ الآية.

قوله تعالى: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ) إلى آخر الآية، حفظ الشئ ضبطه وهو في

٢٥٧

المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، والوسطى مؤنّث الأوسط، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، وإنّما تفسيره السنّة، وسيجئ ما ورد من الروايات في تعيينه.

واللّام في قوله تعالى: قوموا لله للغاية، والقيام بأمر كناية عن تقلّده والتلبّس بفعله، والقنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى:( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة - ١١٦، وقال تعالى:( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) الأحزاب - ٣١، فمحصّل المعنى: تلبّسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولأجله.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ) إلى آخر الآية عطف الشرط على الجملة السابقة يدلّ على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، وإن خفتم فقدّروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفاً أو مشياً أو راكبين، والرجال جمع راجل والركبان جمع راكب، وهذه صلاة الخوف.

والفاء في قوله تعالى: فإذا أمنتم، للتفريع أي أنّ المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من أصله بل إن لم تخافوا شيئاً وأمكنت لكم وجبت عليكم وإن تعسّرت عليكم فقدّروها بقدر ما يمكن لكم، وإن زال عنكم الخوف بتجدّد الأمن ثانياً عاد الوجوب ووجب عليكم ذكر الله سبحانه.

والكاف في قوله تعالى: كما علّمكم، للتشبيه، وقوله: ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العامّ موضع الخاصّ دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم، والمعنى على هذا: فاذكروا الله ذكراً يماثل ما علّمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الأمن في ضمن ما علّمكم من شرائع الدين.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم ) وصيّة مفعول مطلق لمقدّر، والتقدير ليوصوا وصيّة ينتفع به أزواجهم ويتمتّعن متاعاً إلى الحول بعد التوفّي.

وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدّة الوفاة، أعني الأربعة أشهر وعشرة أيّام فإنّ عرب الجاهليّة كانت نساؤهم يقعدن بعد موت

٢٥٨

أزواجهنّ حولاً كاملاً، فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهنّ بمال يتمتّعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهنّ من بيوتهنّ، غير أنّ هذا لمّا كان حقّاً لهنّ والحقّ يجوز تركه كان لهنّ أن يطالبن به، وأن يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت أن يوصي للوالدين والأقربين بالمعروف، قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) البقرة - ١٨٠.

وممّا ذكرنا يظهر أن الآية منسوخة بآية عدّة الوفاة وآية الميراث بالربع والثّمن.

قوله تعالى: ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، الآية في حقّ مطلق المطلّقات، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعرٌ بالاستحباب.

قوله تعالى: ( كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، الأصل في معنى العقل العقد والإمساك وبه سمّي إدراك الإنسان إدراكاً يعقد عليه عقلاً، وما أدركه عقلاً، والقوّة الّتي يزعم أنّها إحدى القوى الّتي يتصرّف بها الإنسان يميّز بها بين الخير والشرّ والحقّ والباطل عقلاً، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة.

والألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربّما بلغت العشرين، كالظنّ، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأى، والزّعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك.

والظنّ هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حدّ الجزم والقطع، وكذا الحسبان، غير أنّ الحسبان كأن استعماله في الإدراك الظنّي استعمال استعاريّ، كالعدّ بمعنى الظنّ وأصله من نحو قولنا: عدّ زيداً من الأبطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العدّ والحساب.

والشعور هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقّته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواسّ.

والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك أو حفظه

٢٥٩

من أن يغيب عن الإدراك.

والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل: إنّه إدراك بعد علم سابق.

والفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.

والفقه: هو التثبّت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق.

والدراية: هو التوغّل في ذلك التثبّت والاستقرار حتّى يدرك خصوصيّة المعلوم وخباياه ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر وتعظيمه، قال تعالى:( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) الحاقّة - ٢، وقال تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) القدر - ٢.

واليقين: هو اشتداد الإدراك الذهنيّ بحيث لا يقبل الزوال والوهن.

والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات.

والرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروّي، غير أنّه يغلب استعماله في العلوم العمليّة ممّا ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظريّة الراجعة إلى الاُمور التكوينيّة، ويقرب منه البصيرة، والإفتاء، والقول، غير أنّ استعمال القول كأنّه استعمال استعاريّ من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لأنّ القول في شئ يستلزم الاعتقاد بما يدلّ عليه.

والزعم: هو التصديق من حيث أنّه صورة في الذهن سواء كان تصديقاً راجحاً أو جازماً قطعاً.

والعلم كما مرّ: هو الإدراك المانع من النقيض.

والحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرّق إليه التغيّر والزوال.

والحكمة: هي الصورة العلميّة من حيث إحكامها وإتقانها.

والخبره: هو ظهور الصورة العلميّة بحيث لا يخفي على العالم ترتّب أيّ نتيجة على مقدّماتها.

٢٦٠