الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138670 / تحميل: 8837
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والشهادة: هو نيل نفس الشئ وعينه إمّا بحسّ ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيّات نحو العلم والإرادة والحبّ والبغض وما يضاهي ذلك.

والألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادّة والحركة والتغيّر، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة، فلا يقال فيه تعالى: إنّه يظنّ أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك.

وأمّا الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه:( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) النساء - ١٧٦، وقال تعالى:( وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) سبأ - ٢١، وقال تعالى:( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) البقرة - ٢٣٤، وقال تعالى:( هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يوسف - ٨٣، وقال تعالى:( أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) فصّلت - ٥٣.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث أنّ فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبّل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحقّ والباطل في النظريّات، والخير والشرّ والمنافع والمضارّ في العمليّات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أوّل وجوده، ثمّ جهّزه بحواسّ ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء، وباُخرى باطنة يدرك معاني روحيّة بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة، والحبّ والبغض، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، ثمّ يتصرّف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريّات والاُمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاءً نظريّاً، وفي العمليّات والاُمور المربوطة بالعمل قضاءً عمليّاً، كلّ ذلك جرياً على المجرى الّذي تشخّصه له فطرته الأصليّة، وهذا هو العقل.

لكن ربّما تسلّط بعض القوى على الإنسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعّفه، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقليّ فيه على سلامته، كالقاضي الّذي يقضي

٢٦١

بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرّفة، فإنّه يحيد في قضائه عن الحقّ وإن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي، وإنّه وإن سمّي عمله ذلك عقلاً بنحو من المسامحة، لكنّه ليس بعقل حقيقة لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب.

وعلى هذا جرى كلامه تعالى، فإنّه يعرّف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمّى عقلاً، وإن عمل في الخير والشرّ الدنيويّ فقط، قال تعالى( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) الملك - ١٠.

وقال تعالى:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحجّ - ٤٦، فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الّذي يستقلّ الإنسان بالقيام عليه بنفسه، والسمع في الإدراك الّذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، وقال تعالى:( مَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) البقرة - ١٣٠، وقد مرّ أن الآية بمنزلة عكس النقيض لقولهعليه‌السلام : العقل ما عبد به الرحمن الحديث.

فقد تبيّن من جميع ما ذكرنا: أنّ المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الّذي يتمّ للإنسان مع سلامه فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه: كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تعقلون، فبالبيان يتمّ العلم، والعلم مقدّمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت - ٤٣.

( بحث روائي)

في سنن أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاريّة، قالت: طلّقت على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن للمطلّقة عدّة فاُنزل حين طلّقت العدّة للطلاق:( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) فكانت أوّل من أنزلت فيها العدّة للطلاق.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء، عن زرارة، قال: سمعت ربيعة الرأي وهو يقول: إنّ من رأيي أنّ الأقراء الّتي سمّى الله

٢٦٢

في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليس بالحيض، قال: فدخلت على أبي جعفرعليه‌السلام فحدّثته بما قال ربيعة فقال: ولم يقل برأيه إنّما بلغه عن عليّعليه‌السلام فقلت: أصلحك الله أكان عليّعليه‌السلام يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: إنّما القرء الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاءت دفعته، قلت: أصلحك الله رجل طلّق امرأته طاهراً غير جماع بشهادة عدلين؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدّتها وحلّت للازواج، الحديث.

اقول: هذا المعنى مرويّ بعدّة طرق عنهعليه‌السلام ، وقوله: قلت: أصلحك الله أكان عليّعليه‌السلام يقول ذلك إنّما استفهم ذلك بعد قولهعليه‌السلام : إنّما بلغه عن عليّ، لما اشتهر بين العامّة عن عليّ أنّه كان يقول: إنّ القروء في الآية هي الحيض دون الأطهار كما في الدرّ المنثور عن الشافعيّ وعبد الرزّاق وعبد بن حميد والبيهقيّ عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: تحلّ لزوجها الرجعة عليها حتّى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلّ للأزواج، لكن أئمّة أهل البيت ينكرون ذلك وينسبون إليهعليه‌السلام : أنّ الأقراء الأطهار دون الحيض كما مرّت في الرواية، وقد نسبوا هذا القول إلى عدّة اُخرى من الصحابة غيرهعليه‌السلام كزيد بن ثابت وعبدالله بن عمر وعائشة ورووه عنهم.

وفي المجمع عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ الآية: الحبل والحيض.

وفي تفسير القمّيّ: وقد فوّض الله إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر والحيض والحبل.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً في قوله تعالى: وللرجال عليهنّ درجة، قال: قالعليه‌السلام حقّ الرجال على النساء أفضل من حقّ النساء على الرجال.

اقول: وهذا لا ينافي التساوي من حيث وضع الحقوق كما مرّ.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: إنّ الله يقول الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان والتسريح بالإحسان هو التطليقة الثالثة.

٢٦٣

وفي التهذيب عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: طلاق السنّة يطلّقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثمّ يدعها حتّى تمضي أقراؤها فإذا مضت أقراؤها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب: إن شاءت نكحته، وإن شاءت فلا، وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تمضي أقراؤها، فتكون عنده على التطليقة الماضية، الحديث.

وفي الفقيه عن الحسن بن فضّال، قال: سألت الرضا عن العلّة الّتي من أجلها لا تحلّ المطلّقة لعدّة لزوجها حتّى تنكح زوجاً غيره فقالعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ إنّما أذن في الطلاق مرّتين فقال عزّوجلّ: الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، يعني في التطليقة الثالثة، ولدخوله فيما كره الله عزّوجلّ من الطلاق الّذي حرّمها عليه فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره لئلّا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق ولا تضارّ النساء، الحديث.

اقول: مذهب أئمّة أهل البيت: أنّ الطلاق بلفظ واحد أو في مجلس واحد لا يقع إلّا تطليقة واحدة، وإن قال طلّقتك ثلاثاً على ماروته الشيعة، وأمّا أهل السنّة والجماعة فرواياتهم فيه مختلفة: بعضها يدلّ على وقوعه طلاقاً واحداً، وبعضها يدلّ على وقوع الثلاث، وربّما رووا ذلك عن عليّ وجعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، لكن يظهر من بعض رواياتهم الّتي رواها أرباب الصحاح كمسلم والنسائيّ وأبي داود وغيرهم: أنّ وقوع الثلاث بلفظ واحد ممّا أجازه عمر بعد مضيّ سنتين أو ثلاثة من خلافته، ففي الدرّ المنثور: أخرج عبد الرزّاق ومسلم وأبو داود والنسائيّ والحاكم والبيهقيّ عن ابن عبّاس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحداً فقال عمر بن الخطّاب: إنّ النّاس قد استعجّلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم فأمضاه عليهم.

وفي سنن أبي داود عن ابن عبّاس قال: طلّق عبد يزيد أبو ركانة أمّ ركانة ونكح امرأة من مزينة فجائت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: ما يغني عنّي إلّا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرّق بيني وبينه فأخذت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حميّة فدعا بركانة وإخوته

٢٦٤

ثمّ قال لجلسائه: أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا وفلان منه كذا وكذا قالوا نعم، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبد يزيد: طلّقها ففعل، قال: راجع امرأتك أمّ ركانة فقال: إنّي طلّقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت ارجعها وتلا: يا أيّها النبيّ إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ.

وفي الدرّ المنثورعن البيهقيّ عن ابن عبّاس، قال: طلّق ركانة امراة ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف طلّقتها؟ قال طلّقتها ثلاثاً في مجلس واحد، قال: نعم فإنّما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها فكان ابن عبّاس يرى أنّما الطلاق عند كلّ طهر فتلك السنّة الّتي أمر الله بها: فطلّقوهنّ لعدّتهنّ.

اقول: وهذا المعنى مرويّ في روايات اُخرى أيضاً والكلام على هذه الإجازة نظير الكلام المتقدّم في متعة الحجّ.

وقد استدلّ على عدم وقوع الثلاث بلفظ واحد بقوله تعالى: الطلاق مرّتان فإنّ المرّتين والثلاث لا يصدق على ما أنشئ بلفظ واحد كما في مورد اللّعان بإجماع الكلّ.

وفي المجمع في قوله تعالى: أو تسريحٌ بإحسان، قال: فيه قولان، أحدهما: أنّه الطلقة الثالثة، والثاني: أنّه يترك المعتدّة حتّى تبيّن بانقضاء العدّة، عن السدّي والضحّاك، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام .

اقول: والأخبار كما ترى تختلف في معنى قوله: أو تسريح بإحسان.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً إلّا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله الآية، عن الصادقعليه‌السلام قال: الخلع لا يكون إلّا أن تقول المرأة لزوجها: لاأبرّلك قسماً، ولأخرجنّ بغير إذنك، ولأوطئنّ فراشك غيرك ولا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا اُطيع لك أمراً أو تطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها وكلّ ما قدر عليه ممّا تعطيه من مالها، فإذا تراضيا على ذلك طلّقها على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، وهو خاطبٌ من الخطّاب، فإن شائت زوّجته نفسها، وإن شائت لم تفعّل، فإن زوّجها فهي عنده على اثنتين باقيتين

٢٦٥

وينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإذا ارتجعت في شئ ممّا أعطيتني فأنا أملك ببضعك، وقالعليه‌السلام : لا خلع ولا مباراة ولا تخيير إلّا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، والمختلعة إذا تزوّجت زوجاً آخر ثمّ طلّقها يحلّ للأوّل أن يتزوّج بها، وقال: لا رجعة للزوج على المختلعة ولا على المباراة إلّا أن يبدو للمرأة فيردّ عليها ما أخذ منها.

وفي الفقيه عن الباقرعليه‌السلام قال: إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لا أطيع لك أمراً مفسّرة أو غير مفسّرة حلّ له أن يأخذ منها، وليس له عليها رجعة.

وفي الدرّ المنثور: أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة، قال: كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته، وكان رجلاً دميماً فجائت وقالت يا رسول الله إنّي لا أراه، فلولا مخافة الله لبزقت في وجهه فقال لها: أتردّين عليه حديقته الّتي أصدقك؟ قالت: نعم فردّت عليه حديقته وفرّق بينهما، فكان ذلك أوّل خلع كان في الإسلام.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى: وتلك حدود الله فلا تعتدوها الآية، فقال إنّ الله غضب على الزاني فجعل له مأة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى الله منه برئ فذلك قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها.

وفي الكافي عن أبي بصير قال: المرأة الّتي لا تحلّ لزوجها حتّى تنكح زوجاً غيره، قال: هي الّتي تطلّق ثمّ تراجع ثمّ تطلّق الثالثة، وهي الّتي لا تحلّ لزوجها حتّى تنكح زوجا غيره ويذوق عسيلتها.

اقول: العسيلة الجماع، قال في الصحاح: وفي الجماع العسيلة شبّهت تلك اللذّة بالعسل، وصغّرت بالهاء لأنّ الغالب في العسل التأنيث ويقال: إنّما اُنّث لأنّه اُريد به العسلة وهي القطعة منه كما يقال للقطعة من الذهب: ذهبة، انتهى.

وقولهعليه‌السلام : ويذوق عسيلتها، كالاقتباس من كلمة رسول الله لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك، في قصّة رفاعة.

ففي الدرّ المنثور: عن البزّاز والطبرانيّ والبيهقيّ: أنّ رفاعة بن سموأل طلّق

٢٦٦

امرأته فأتت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا رسول الله قد تزوّجني عبد الرحمن وما معه إلّا مثل هذه - وأومأت إلى هدبة من ثوبها - فجعل رسول الله يعرض عن كلامها ثمّ قال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة: لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.

أقول: والرواية من المشهورات، رواها جمع كثيرٌ من الرواة من أرباب الصحاح وغيرهم من طرق أهل السنّة، والجماعة وبعض الخاصّة، وألفاظ الروايات وإن كانت مختلفة لكنّ أكثرها تشتمل على هذه اللفظة.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام عن تزويج المتعة أيحلّل؟ قال: لا لأنّ الله يقول فإنّ طلّقها فلا تحلّ له أن تنكح زوجاً غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، والمتعة ليس فيه طلاق.

وفيه أيضاً عن محمّد بن مضارب قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن الخصيّ يحلّل؟ قال: لا يحلّل.

وفي تفسير القمّيّ: في قوله تعالى: وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ إلى قوله ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا الآية، قال: قالعليه‌السلام : إذا طلّقها لم يجز له أن يراجعها إن لم يردها.

وفي الفقيه عن الصادقعليه‌السلام قال: لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها، وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها، فهذا الضرار الّذي نهى الله عنه، إلّا أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: ولا تتّخذوا آيات الله هزواً الآية، عن عمر ابن الجميع رفعه إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث، قال: ومن قرأ القرآن من هذه الاُمّة ثمّ دخل النار فهو ممّن كان يتّخذ آيات الله هزواً، الحديث.

في صحيح البخاريّ في قوله تعالى: وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ، الآية أنّ اُخت معقل بن يسار طلّقها زوجها فتركها حتّى انقضت عدّتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ.

أقول: وروى هذا المعنى في الدرّ المنثور عنه وعن عدّة من أرباب الصحاح

٢٦٧

كالنسائيّ وابن ماجة والترمذيّ وأبي داود وغيرهم.

وفي الدرّ المنثور أيضاً عن السدّي، قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبدالله الأنصاريّ كانت له ابنة عمّ فطلّقها زوجها تطليقة وأنقضت عدّتها فأراد مراجعتها فأبى جابر فقال: طلّقت ابنة عمّنا ثمّ تريد أن تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله وإذا طلّقتم النساء، الآية.

أقول: لاولاية للأخ ولا لابن العمّ على مذهب أئمّة أهل البيت فلو سلمت إحدى الروايتين كان النهي في الآية غير مسوق لتحديد ولاية، ولا لجعل حكم وضعيّ بل للإرشاد إلى قبح الحيلولة بين الزوجين أو لكراهة أو حرمة تكليفيّة متعلّقة بكلّ من يعضلهنّ عن النكاح لاغير.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهنّ، الآية عن الصادقعليه‌السلام ، قال: والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين، قال: ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسويّة فإذا فطم فالوالد أحقّ به من العصبة وإن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم، وقالت الاُمّ: لا اُرضعه إلّا بخمسة دراهم فإنّ له أن ينزعه منها، إلّا أنّ ذلك أجبر له وأقدم وأرفق به أن يترك مع اُمّه.

وفيه أيضاً عنه في قوله تعالى: لاتضارّ والدة الآية، قالعليه‌السلام : كانت المرأة ممّن ترفع يدها إلى الرجل إذا أراد مجامعتها فتقول: لا أدعك، إنّى أخاف أن أحمل على ولدي، ويقول الرجل للمرأة: لا أجامعك إنّى أخاف أن تعلّقي فأقتل ولدي، فنهى الله أن يضارّ الرجل المرأة والمرأة الرجل.

وفيه أيضاً عن أحدهماعليهما‌السلام في قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك قال: هو في النفقة: على الوارث مثل ما على الوالد.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في الآية: قال لا ينبغي للوارث أيضاً أن يضارّ المرأة فيقول: لاأدع ولدها يأتيها، ويضارّ ولدها إن كان لهم عنده شئ، ولا ينبغي له أن يقتر عليه.

وفيه أيضاً عن حمّاد عن الصادقعليه‌السلام قال: لإرضاع بعد فطام، قال: قلت له: جعلت

٢٦٨

فداك وما الفطام؟ قال: الحولين الّذي قال الله عزّوجلّ.

اقول: قوله: الحولين، حكاية لما في لفظ الآية ولذا وصفهعليه‌السلام بقوله: الّذي قال الله.

وفي الدرّ المنثور: أخرج عبد الرزّاق في المصنّف وابن عديّ عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لايتم بعد حلم، ولا رضاع بعد فصال، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا وصال في الصيام، ولا نذر في معصية، ولا نفقة في المعصية، ولا يمين في قطيعة رحم، ولا تعرّب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا يمين لزوجة مع زوج، ولا يمين لولد مع والد، ولا يمين لمملوك مع سيّده، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي بكر الحضرميّ عن الصادقعليه‌السلام قال: لمّا نزلت هذه الآية: والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً جئن النساء يخاصمن رسول الله وقلن: لا نصبر، فقال لهنّ رسول الله: كانت إحديكنّ إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دبرها في خدرها ثمّ قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتقتها، ثمّ اكتحلت بها، ثمّ تزوّجت فوضع الله عنكنّ ثمانية أشهر.

وفي التهذيب عن الباقرعليه‌السلام كلّ النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرّة كانت أو اُمّة، وعلى أي وجه كان النكاح منه متعةً أو تزويجاً أو ملك يمين فالعدّة أربعة أشهر وعشراً.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك كيف صارت عدّة المطلّقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر وصارت عدّة المتوفّي عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً؟ فقال: أمّا عدّة المطلّقة ثلاث قروء فلأجل استبراء الرحم من الولد، وأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها فإنّ الله شرط للنساء شرطاً وشرط عليهنّ: وأمّا ما شرط لهنّ ففي الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول: للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر، فلن يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر لعلمه تبارك وتعالى أنّها غاية صبر المرأة من الرجل، وأمّا ما شرط عليهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعه

٢٦٩

أشهر وعشراً فأخذ له منها عند موته ما أخذ لها منه في حياته.

أقول: وهذا المعنى مرويّ أيضاً عن الرضا والهاديعليهما‌السلام بطرق اُخرى وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء، الآية: المرأة في عدّتها تقول لها قولاً جميلاً ترغّبها في نفسك، ولا تقول: إنّي أصنع كذا أو كذا أو أصنع كذا القبيح من الأمر في البضع وكلّ أمر قبيح، وفي رواية اُخرى تقول لها وهي في عدّتها: يا هذه لا أحبّ إلّا ما أسرّك ولو قد مضى عدّتك لا تفوتيني إنشاء الله، ولا تستبقي بنفسك، وهذا كلّه من غير أن يعزموا عقدة النكاح.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر عنهمعليهم‌السلام .

وفي تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء، الآية، عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إذا طلّق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها وإن لم يكن سمّى لها مهراً فمتاع بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وليس لها عدّة وتزوّج من شاءت من ساعتها.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئاً وإن لم يكن فرض لها فليمتّعها على نحو ما يمتّع مثلها من النساء.

اقول: وفيه تفسير المتاع بالمعروف.

وفي الكافي والتهذيب وتفسير العيّاشيّ وغيرها عن الباقر والصادقعليهما‌السلام في قوله تعالى: الّذي بيده عقدة النكاح، قالا: هو الوليّ.

اقول: والروايات فيه كثيرة، وقد ورد في بعض الروايات من طرق أهل السنّة والجماعة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّعليه‌السلام : إنّ الّذي بيده عقدة النكاح الزوج.

في الكافي والفقيه وتفسير العيّاشيّ والقمّيّ في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى الآية بطرق كثيرة عن الباقر والصادقعليهما‌السلام : أنّ الصلاة

٢٧٠

الوسطى هي الظهر.

اقول: هذا هو المأثور عن أئمّة أهل البيت في الروايات المرويّة عنهم لساناً واحداً.

نعم في بعضها أنّها الجمعة إلّا أنّ المستفاد منها أنّهم أخذوا الظهر والجمعة نوعاً واحداً لا نوعين اثنين كما رواه في الكافي وتفسير العيّاشيّ عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام واللفظ لما في الكافي، قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وهي صلاة الظهر أوّل صلاة صلّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي وسط النهار، ووسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر، قال: ونزلت هذه الآية ورسول الله في سفره فقنت فيها رسول الله وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين، وإنّما وضعت الركعتان اللّتان أضافهما النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلّى يوم الجمعه في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيّام، الحديث، والرواية كما ترى تعدّ الظهر والجمعة صلاة واحدة وتحكم بأنّها هي الصلاة الوسطى ولكنّ معظم الروايات مقطوعة، وما كان منها مسنداً فمتنه لا يخلو عن تشويش كرواية الكافي وهي مع ذلك غير واضحة الإنطباق على الآية، والله العالم.

وفي الدرّ المنثور: أخرج أحمد وابن المنيع والنسائيّ وابن جرير والشاشيّ والضياء من طريق الزبرقان: أنّ رهطاً من قريش مرّ بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر، ثمّ انصرفا إلى اُسامة بن اُسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إنّ رسول الله كان يصلّي الظهر بالهجير فلا يكون ورائه إلّا الصفّ والصفّان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لينتهينّ رجال أو لأحرقنّ بيوتهم.

اقول: وروي هذا السبب عن زيد بن ثابت وغيره بطرق اُخرى.

واعلم: أنّ الأقوال في تفسير الصلاة الوسطى مختلفة معظمها ناش من اختلاف روايات القوم: فقيل إنّها صلاة الصبح ورووه عن عليّعليه‌السلام وبعض الصحابة، وقيل: إنّها صلاة الظهر ورووه عن النبيّ وعدّة من الصحابة، وقيل: إنّها صلاة العصر ورووه

٢٧١

عن النبيّ وعدّة من الصحابة، وقد روى السيوطيّ في الدرّ المنثور فيه بضعاً وخمسين رواية، وقيل: إنّها صلاة المغرب، وقيل إنّها مخفيّة بين الصلوات كليلة القدر بين الليالي، وروى فيهما روايات عن الصحابة، وقيل: إنّها صلاة العشاء وقيل: إنّها الجمعة.

وفي المجمع في قوله تعالى: وقوموا لله قانتين، قال: هو الدعاء في الصلاة حال القيام، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: وروي ذلك عن بعض الصحابة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في الآية: إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها ولا يشغله شئ.

اقول: ولا منافاة بين الروايتين وهو ظاهر.

في الكافي عن الصادق في قوله تعالى: فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً الآية: إذا خاف من سبع أو لصّ يكبّر ويومي إيمائاً.

وفي الفقيه عنهعليه‌السلام في صلاة الزحف، قال: تكبير وتهليل ثمّ تلا الآية.

وفيه عنهعليه‌السلام : إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصّاً أو سبعاً فصلّ الفريضة وأنت على دابّتك.

وفيه عن الباقرعليه‌السلام : الّذي يخاف اللصوص يصلّي إيمائاً على دابّته.

اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّة لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج، قالعليه‌السلام : هي منسوخة، قلت: وكيف كانت؟ قال: كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولاً ثمّ أخرجت بلا ميراث ثمّ نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها.

وفيه عن معاوية بن عمّار قال: سألته عن قول الله: والّذين يتوفّون الخ، قال: منسوخة نسختها آية يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً، ونسختها آية الميراث.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ: سئل الصادقعليه‌السلام عن الرجل يطلّق امرأته يمتّعها؟ قال: نعم، أمّا يحبّ أن يكون من المحسنين أمّا يحبّ أن يكون من المتّقين؟

٢٧٢

( بحث علمي)

من المعلوم أنّ الإسلام - والّذي شرّعه هو الله عزّ اسمه - لم يبن شرائعه على أصل التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين لكنّا في قضاء العقل في شرائعه ربّما احتجنا إلى التأمّل في الأحكام والقوانين والرسوم الدائرة بين الاُمم الحاضرة والقرون الخالية، ثمّ البحث عن السعادة الإنسانيّة، وتطبيق النتيجة على المحصّل من مذاهبهم ومسالكهم حتّى نزن به مكانته ومكانتها، ونميّز به روحه الحيّة الشاعرة من أرواحها، وهذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل وسيرها، واستحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل والمذاهب في الحياة.

ولذلك فإنّا نحتاج في البحث عمّا يراه الإسلام ويعتقده في:

١ - هويّة المرأة والمقايسة بينها وبين هويّة الرجل.

٢ - وزنها في الاجتماع حتّى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الإنسانيّ.

٣ - حقوقها والأحكام الّتي شرّعت لأجلها.

٤ - الأساس الّذي بنيت عليه الأحكام المربوطة بها.

إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام وما كانت الاُمم غير المسلمة يعاملها عليه حتّى اليوم من المتمدّنة وغيرها، والاستقصاء في ذلك وإن كان خارجاً عن طوق الكتاب، لكنّا نذكر طرفاً منه:

( حياة المرأة في الامم غير المتمدنة)

كانت حياة النساء في الاُمم والقبائل الوحشيّة كالاُمم القاطنين بإفريقيّة وأستراليا والجزائر المسكونة بالاُوقيانوسيّة وإمريكا القديمة وغيرها بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهليّة من الانعام وغيرها بالنّسبة إلى حياة الإنسان.

فكما أنّ الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقّاً أن يمتلك الأنعام وسائر الحيوانات الأهليّة ويتصرّف فيها كيفما شاء وفي أيّ حاجة من حوائجه شاء، يستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحفظها وحراستها و

٢٧٣

سفادها ونتاجها ونمائها، وفي حمل الأثقال، وفي الحرث، وفي الصيد، إلى غير ذلك من الأغراض الّتي لا تحصى كثرة.

وليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة وآمال القلوب في المأكل والمشرب والمسكن والسفاد والراحة إلّا ما رضي به الإنسان الّذي امتلكها ولم يرضى إلّا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة، وربّما أدّى ذلك إلى تهكّمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في أمر نفسه: فمن مظلوم من غير أيّ جرم كان أجرمه، ومستغيث وليس له أيّ مغيث يغيثه، ومن ظالم من غير مانع يمنعه، ومن سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في أنعم عيش وألّذه عنده، ومن شقّي من غير استحقاق كحمار الحمل وفرس الطاحونة.

وليس لها من حقوق الحياة إلّا ما رآه الإنسإن لمالك لها حقّاً لنفسه فمن تعدّى إليها لا يؤاخذ إلّا لأنّه تعدّى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه، كلّ ذلك لأنّ الإنسان يرى وجودها تبعاً لوجود نفسه وحياتها فرعاً لحياته ومكانتها مكانة الطفيليّ.

كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الاُمم والقبائل حياة تبعيّة، وكانت النساء مخلوقة عندهم (لأجل الرجال) بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود والحياة لهم من غير استقلال في حياة، ولافي حقّ فكان آبائهنّ ما لم ينكحن، وبعولتهنّ بعد النكاح أولياء لهنّ على الإطلاق.

كان للرجل أن يبيع المرأة ممّن شاء وكان له أن يهبها لغيره، وكان له أن يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، وكان له أن يسوسها حتّى بالقتل، وكان له أن يخلّي عنها، ماتت أو عاشت، وكان له أن يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة وخاصّة في المجاعة وفي المآدب، وكان له ما للمرأة من المال والحقّ وخاصّة من حيث إيقاع المعاملات من بيع وشرى وأخذ وردّ.

وكان على المرأة أن تطيع الرجل - أباها أو زوجها - في ما يأمر به طوعاً أو كرهاً، وكان عليها أن لا تستقلّ عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، وكان عليها أن تلي أمور البيت

٢٧٤

والأولاد وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، وكان عليها أن تتحمّل من الأشغال أشقّها كحمل الأثقال وعمل الطين وما يجري مجراهما ومن الحرف والصناعات أرداها وسفسافها، وقد بلغ عجيب الأمر إلى حيث أنّ المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، ونام الرجل على فراشها أيّاماً يتمرّض ويداوي نفسه، هذه كلّيّات ماله وعليها، ولكلّ جيل من هذه الأجيال الوحشيّة خصائل وخصائص من السنن والآداب القوميّة باختلاف عاداتها الموروثة في مناطق حياتها والأجواء المحيطة بها يطلّع عليه من راجع الكتب المؤلّفة في هذه الشؤون.

( حياة المرئة في الاُمم المتمدنة)

قبل الإسلام

نعني بهم الاُمم الّتي كانت تعيش تحت الرسوم الملّيّة المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين والهند ومصر القديم وإيران ونحوها.

تشترك جميع هؤلاء الاُمم: في أنّ المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال وحريّة، لافي إرادتها ولافي أعمالها، بل كانت تحت الولاية والقيمومة، لا تنجز شيئاً من قبل نفسها ولا كان لها حقّ المداخلة في الشؤون الإجتماعيّة من حكومة أو قضاء أو غيرهما.

وكان عليها: أن تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب وغير ذلك.

وكان عليها: أن تختصّ بأمور البيت والأولاد، وكان عليها أن تطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها.

وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالاً بالنسبة إليها في الاُمم غير المتمدّنة، فلم تكن تقتل وتؤكل لحمها، ولم تحرم من تملّك المال بالكلّيّة بل كانت تتملّك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك وإن لم تكن لها أن تتصرّف فيها بالاستقلال، وكان للرجل أن يتّخذ زوجات متعدّدة من غير تحديد وكان لها تطليق من شاء منهنّ، وكان للزوج أن يتزوّج بعد موت الزوجة ولاعكس غالباً، وكانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالباً.

ولكلّ اُمّة من هذه الاُمم مختصّات بحسب اقتضاء المناطق والأوضاع: كما أنّ

٢٧٥

تمايز الطبقات في إيران ربّما أوجب تميّزاً لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك والحكومة أو نيل السلطنة ونحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من اُمّ أو بنت أو اُخت أو غيرها.

وكما أنّه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعاً من اشتراء نفسها ومملوكيّتها، وكانت هي ممنوعة من الإرث ومن أن تشارك الرجال حتّى أبنائها في التغذّي، وكان للرجال أن يتشارك أكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتّع بها، والانتفاع من أعمالها، ويلحق الأولاد بأقوى الازواج غالباً.

وكما أنّ النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهنّ لا يحلّ لهنّ الازدواج بعد توفّي أزواجهنّ أبداً، بل إمّا أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهنّ أو يعشن مذلّلات، وهن في أيّام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب وكذا ثيابها وكلّ ما لامستها بالبشرة.

ويمكن أن يلخّصّ شأنها في هذه الاُمم: أنّها كالبرزخ بين الحيوان والإنسان يستفاد منها استفادة الإنسان المتوسّط الضعيف الّذي لا يحقّ له إلّا أن يمدّ الإنسان المتوسّط في أمور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليّه غير أنّها تحت الولاية والقيمومة دائماً.

( وهيهنا اُمم اُخرى)

كانت الاُمم المذكورة آنفاُ أمماً تجري معظم آدابهم ورسومهم الخاصّة على أساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهراً لكن هناك أمم اُخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل الكلدة والروم واليونان.

أمّا الكلدة والآشور فقد حكم فيهم شرع (حامورابيّ) بتبعيّة المرأة لزوجها وسقوط استقلالها في الإرادة والعمل، حتّى أنّ الزوجة لو لم تطع زوجها في شئ من أمور المعاشرة أو استقلّ بشئ فيها كان له أن يخرجها من بيته، أو يتزوّج عليها ويعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضاً، ولو خطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان

٢٧٦

له أن يرفع أمرها إلى القاضي ثمّ يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.

وأمّا الروم فهي أيضاً من أقدم الاُمم وضعاُ للقوانين المدنيّة، وضع القانون فيها أوّل ما وضع في حدود سنة أربعمأة قبل الميلاد ثمّ اُخذوا في تكميله تدريجاً، وهو يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصّة به، ولربّ البيت وهو زوج المرأة وأبو أولادها نوع ربوبيّة كان يعبده لذلك أهل البيت كما كان يعبد هو من تقدّمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت، وكان له الاختيار التامّ والمشيّة النافذة في جميع ما يريده ويأمر به على أهل البيت من زوجة وأولاد حتّى القتل لو رآى أنّ الصلاح فيه، ولا يعارضه في ذلك معارض، وكانت النساء نساء البيت كالزوجة والبنت والاُخت أردء حالاً من الرجال حتّى الأبناء التابعين محضاً لربّ البيت، فإنّهنّ لم يكن أجزاء للاجتماع المدنيّ فلا تسمع لهنّ شكاية، ولا ينفذ منهنّ معاملة، ولا تصحّ منهن في الاُمور الإجتماعيّة مداخلة لكنّ الرجال أعني الإخوة والذكور من الأولاد حتّى الأدعياء (فإنّ التبنّي وإلحاق الولد بغير أبيه كان معمولاً شائعاً عندهم وكذا في يونان وايران والعرب) كان من الجائز أن يأذن لهم ربّ البيت في الاستقلال باُمور الحياة مطلقاً لأنفسهم.

ولم يكن أجزاء أصيلة في البيت بل كان أهل البيت هم الرجال، وأمّا النساء فتبع، فكانت القرابة الإجتماعيّة الرسميّة المؤثّرة في التوارث ونحوها مختصّه بما بين الرجال، وأمّا النساء فلا قرابة بينهنّ أنفسهنّ كالاُمّ مع البنت أو الاُخت مع الاُخت، ولا بينهنّ وبين الرجال كالزوجين أو الاُمّ مع الإبن أو الاُخت مع الأخ أو البنت مع الأب ولا توارث فيما لا قرابة رسميّة، نعم القرابة الطبيعيّة (وهي الّتي يوجبها الاتّصال في الولادة) كانت موجودة بينهم، وربّما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، وولاية رئيس البيت وربّه لها.

وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيليّة الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدنيّ والبيتيّ) زمام حياتها وإرادتها بيد ربّ البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما، يفعل بها ربّها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد، فربّما باعها، وربّما وهبها، وربّما أقرضها للتمتّع، وربّما أعطاها في حقّ يراد استيفاؤه

٢٧٧

منه كدين وخراج ونحوهما، وربّما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئاً بالازدواج أو الكسب مع إذن وليّها لابالإرث لأنّها كانت محرومة منه، وبيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها، وبيد زوجها تطليقها.

وأمّا اليونان فالأمر عندهم في تكوّن البيوت وربوبيّة أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم.

فقد كان الاجتماع المدنيّ وكذا الاجتماع البيتيّ عندهم متقوّماً بالرجال، والنساء تبع لهم، ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولافعل إلّا تحت ولاية الرجال، لكنّهم جميعاً ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإنّ قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهنّ بالاستقلال ولاتحكم لهنّ إلّا بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، ولاتثاب لحسناتها ولاتراعى جانبها إلّا بالتبع وتحت ولاية الرجل.

وهذا بعينه من الشواهد الدالّة على أنّ جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزءً ضعيفاً من المجتمع الإنسانيّ ذات شخصيّة تبعيّة، بل كانت تقدّر أنّها كالجراثيم المضرّة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرّة بصحّتها غير أن للمجتمع حاجة ضروريّة إليها من حيث بقاء النسل، فيجب أن يعتني بشأنها، وتذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، ويحتلب الرجال درّها إذا أحسنت أو نفعت، ولا تترك على حيال إرادتها صوناً من شرّها كالعدوّ القويّ الّذي يغلب فيؤخذ أسيراً مسترقّاً يعيش طول حياته تحت القهر، إن جاء بالسيّئة يؤاخذ بها وإن جاء بالحسنة لم يشكر لها.

وهذا الّذي سمعته: أنّ الاجتماع كان متقوّماً عندهم بالرجال هو الّذي ألزمهم أن يعتقدوا أنّ الأولاد بالحقيقة هم الذكور، وأنّ بقاء النسل ببقائهم، وهذا هو منشأ ظهور عمل التبنيّ والإلحاق بينهم، فإنّ البيت الّذي ليس لربّه ولد ذكر كان محكوماً بالخراب، والنسل مكتوباً عليه الفناء والانقراض، فاضطرّ هؤلاء إلى اتّخاذ ابناء صوناً عن الانقراض وموت الذكر، فدعوا غير أبناءهم لأصلابهم أبنائاً لأنفسهم فكانوا أبنائاً رسماً يرثون ويورثون ويرتّب عليهم آثار الأبناء الصلبيّين، وكان الرجل منهم إذا زعم أنّه

٢٧٨

عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض أقاربه كأخيه وابن أخيه فأورده فراش أهله لتعلّق منه فتلد ولداً يدعوه لنفسه، ويقوم بقاء بيته.

وكان الامر في التزويج والتطليق في اليونان قريباً منهما في الروم، وكان من الجائز عندهم تعدّد الزوجات غير أنّ الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهنّ زوجة رسميّة والباقية غير رسميّة.

( حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم)

محيط نزول القرآن

وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة وهي منطقة حارّة جدبة الأرض والمعظم من اُمّتهم قبائل بدويّة بعيدة عن الحضارة والمدنيّة، يعيشون بشنّ الغارات، وهم متّصلون بإيران من جانب وبالروم من جانب وببلاد الحبشه والسودان من آخر.

ولذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحّش، وربّما وجد خلالها شئ من عادات الروم وإيران، ومن عادات الهند ومصر القديم أحياناً.

كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالاً في الحياة ولا حرمة ولا شرافة إلّا حرمة البيت وشرافته، وكانت لا تورّث النساء، وكانت تجوّز تعدّد الزوجات من غير تحديد بعدد معيّن كاليهود، وكذا في الطلاق، وكانت تئد البنات، ابتدء بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أسرت فيه عدّة من بناتهم، والقصّة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثمّ سرت السجيّة في غيرهم، وكانت العرب تتشأم إذا ولدت للرجل منهم بنت يعدّها عاراً لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به، لكن يسرّه الابن مهما كثر ولو بالدعاء والإلحاق حتّى أنّهم كانوا يتبنّون الولد لزنا محصنة ارتكبوه، وربّما نازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادّعاه كلّ لنفسه.

وربّما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصّة للبنات في أمر الازدواج فكان يراعي فيه رضى المرأة وانتخابها، فيشبه ذلك منهم دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات.

وكيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركّبة من معاملة أهل المدنيّة

٢٧٩

من الروم وإيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الاُمور العامّة الإجتماعيّة كالحكم والحرب وأمر الازدواج إلّا استثنائاً، ومن معاملة أهل التوحّش والبربريّة، فلم يكن حرمانهنّ مستنداً إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القويّ واستخدامه للضعيف.

وأمّا العبادة فكانوا يعبدون جميعاً (رجالاً ونسائاً) أصناماً يشبه أمرها أمر الأصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب وأرباب الأنواع، وتتميّز أصنامهم بحسب تميّز القبائل وأهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب والملائكة (وهم بنات الله سبحانه بزعمهم) ويتّخذونها على صور صوّرتها لهم أوهامهم، ومن أشياء مختلفة كالحجارة والخشب، وقد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة أنّهم اتّخذوا لهم صنماً من الحيس فعبدوه دهراً طويلاً ثمّ أصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم:

أكلت حنيفة ربّها

زمن التقحّم والمجاعة

لم يحذروا من ربّهم

سوء العواقب والتباعة

وربّما عبدوا حجراً حتّى إذا وجدوا حجراً أحسن منه طرحوا الأوّل وأخذوا بالثاني وإذا لم يجدوا شيئاً جمعوا حفنة من تراب ثمّ جاؤا بغنم فحلبوه عليها ثمّ طافوا بها يعبدونها.

وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفاً في الفكرة يصوّر لها أوهاماً وخرافاه عجيبة في الحوادث والوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير والتاريخ.

فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الإنسانيّ من أدواره المختلفة قبل الإسلام وزمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التامّ، ويستنتج من جميع ذلك:أولا: أنّهم كانوا يرونها إنساناً في اُفق الحيوان العجم، أو إنساناً ضعيف الإنسانيّة منحطّاً لا يؤمن شرّه وفساده لو اُطلق من قيد التبعيّة واكتسب الحرّيّة في حياته، والنظر الأوّل أنسب لسيرة الاُمم الوحشيّة والثاني لغيرهم،وثانياً: أنّهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعيّ أنّها خارجة من هيكل المجتمع المركّب غير داخلة فيه، وإنّما هي من شرائطه الّتي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو أنّها كالأسير المسترقّ

٢٨٠

الّذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين،وثالثاً: أنّهم كانوا يرون حرمأنّها في عامّة الحقوق الّتي أمكن انتفاعها منها إلّا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيّمين بأمرها،ورابعاً: أنّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القويّ على الضعيف وبعبارة اُخرى قريحة الاستخدام، هذا في الاُمم غير المتمدّنة، وأمّا الاُمم المتمدّنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرّها، وربّما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الاُمم والأجيال.

( ماذا أبدعه الإسلام في أمرها)

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلّة والهوان حتّى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللّغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا ترى أمّة من الاُمم وحشيّها ومدنيّها إلّا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتّشبيه مربوطة بهذه اللّفظة (المرأة) يقرّع بها الجبان، ويؤنّب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذلّ المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:

وما أدري وليت إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

مئآت وألوف من النّظم والنثر في كلّ لغة.

وهذا في نفسه كافٍ في أن يحصّل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانيّة في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الاُمم والملل في أمرها، فإنّ الخصائل الروحيّة والجهات الوجوديّة في كلّ اُمّة تتجلّى في لغتها وآدابها.

ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهمّ بأمرها إلّا بعض ما في التوراة وما وصّى به عيسى بن مريمعليهما‌السلام من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.

٢٨١

وأمّا الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنّه أبدع في حقّها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بنية فطريّة عليها كانت الدنيا هدمتها من أوّل يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويّتها اعتقاداً وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.

أمّا هويّتها: فإنّه بيّن أنّ المرأة كالرجل إنسان وأنّ كلّ إنسان ذكراً أو اُنثى فإنّه إنسان يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر واُنثى ولا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات - ١٣، فجعل تعالى كلّ إنسان مأخوذاً مؤلّفاً من إنسانين ذكر واُنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادّة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكراً أو اُنثى مجموع المادّة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:

وإنّما اُمّهات الناس أوعية

ولا قال مثل ما قاله الآخر:

بنونا بنو ابنائنا وبناتنا

بنوهن ابناء الرجال الاباعد

بل جعل تعالى كلّاً مخلوقاً مؤلّفاً من كلّ. فعاد الكلّ أمثالاً، ولا بيان أتمّ ولا، أبلغ من هذا البيان، ثمّ جعل الفضل في التقوى.

وقال تعالى:( أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فصرّح أنّ السعي غير خائب والعمل غير مضيّع عند الله وعلّل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبّر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى، وهو أنّ الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ.

ثمّ بيّن بذلك أنّ عمل كلّ واحد من هذين الصنفين غير مضيّع عندالله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كلّ نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إنّ عليهن سيّئآتهنّ، وللرجال حسناتهنّ من منافع وجودهنّ، وسيجئ لهذا الكلام مزيد توضيح.

وإذا كان لكلّ منهما ما عمل ولا كرامة إلّا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة

٢٨٢

المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممّن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلّا للتقوى والفضيلة.

وفي معني الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وقوله تعالى:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المؤمن - ٤٠، وقوله تعالى:( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) النساء - ١٢٤.

وقد ذمّ الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذمّ:( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) النحل - ٥٩، ولم يكن تواريهم إلّا لعدّهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنّها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتّع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأوّل فيه فيما مرّ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال:( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) التكوير - ٩.

وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربّون، فتراهم يعدّون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصرّ، مع أنّ الإسلام قد جمع العار والقبح كلّه في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.

وأما وزنها الاجتماعي: فإنّ الإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالإرادة والعمل فأنّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانيّة في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى:( بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فلها أن تستقلّ بالإرادة ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجهما

٢٨٣

كما للرجل ذلك من غير فرق، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقّه القرآن والله يحقّ الحقّ بكلماته غير أنّه قرّر فيها خصلتين ميّزها بهما الصنع الإلهيّ:أحديهما: أنّها بمنزلة الحرث في تكوّن النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختصّ من الأحكام بمثل ما يختصّ به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل.والثانية: أنّ وجودها مبنيّ على لطافة البنية ورقّة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها والوظائف الإجتماعيّة المحوّلة إليها.

فهذا وزنها الاجتماعيّ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحلّ جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختصّ به أحدهما في الإسلام، قال تعالى:( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) النساء - ٣٢، يريد أنّ الأعمال الّتي يهديها كلّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، وأنّ من هذا الفضل ما تعيّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه متمنّ، ومنه ما لم يتعيّن إلّا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل الّتي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الّذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوّامون، على ما سيجئ بيانه.

وأما الأحكام المشتركة والمختصّة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العباديّة والحقوق الإجتماعيّة فلها أن تستقلّ فيما يستقلّ به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلّم ولا اقتناء حقّ ولا دفاع عن حقّ وغير ذلك إلّا في موارد يقتضى طباعها ذلك.

وعمدة هذه المورد: أنّها لا تتولّى الحكومة والقضاء، ولا تتولّى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتّع منها، وتدورك ما فاتها بأنّ نفقتها في الحياة على الرجل: الأب

٢٨٤

أو الزوج، وأنّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأنّ لها حقّ تربية الولد وحضانته.

وقد سهّل الله لها أنّها محمّية النفس والعرض حتّى عن سوء الذكر، وأنّ العبادة موضوعة عنها أيّام عادتها ونفاسها، وأنّها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّها لا يجب عليها في جانب العلم إلّا العلم باُصول المعارف والعلم بالفروع الدينيّة (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأمّا في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتّع به منها، وأمّا تنظيم الحياة - الفرديّة بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا - المداخلة في ما يصلح المجتمع العامّ كتعلّم العلوم واتّخاذ الصناعات والحرف المفيدة - للعامّة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شئ منذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلّها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهنّ، مع أنّ الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

والسنّة النبويّة تؤيّد ما ذكرناه، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيّدة النساء فاطمةعليها‌السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصىّ به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمّة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت عليّ وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهنّ على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلّنا نوفّق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائيّة المتعلّقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.

وأمّا الأساس الّذي بنيت عليه هذا الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعيّ كيفيّة هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحاً فنقول:

لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتّصل بها من المباحث العلميّة أنّ الوظائف الإجتماعيّة والتكاليف الاعتباريّة المتفرّعة عليها يجب انتهاؤها بالآخرة إلى الطبيعة، فخصوصيّة البنية الطبيعيّة الإنسانيّة هي الّتي هدت الإنسان إلى هذا

٢٨٥

الاجتماع النوعيّ الّذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحّة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعيّ ما يخرجه عن تمامه الطبيعيّ إلى نقص الخلقة، أو عن صحّته الطبيعيّة إلى السقم والعاهة.

فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي بالأخرة إلى الطبيعة وإن اختلف القسمان من حيث أنّ الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهيّ فبيّنه بأبدع البيان، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى - ٣، وقال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنّما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهّزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيّمة بسعادة الإنسان هي الّتي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تامّاً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهائاً صحيحاً، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم - ٣٠.

والّذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الإجتماعيّة بين الأفراد - على أنّ الجميع إنسان ذو فطرة بشريّة - أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية الّتي يحكم بها العدل الاجتماعيّ أن يبذل كلّ مقام اجتماعيّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبيّ مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القويّ المتقدر من الشؤون والدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لحالهما معاً.

٢٨٦

بل الّذي يقتضيه العدل الاجتماعيّ ويفسّر به معنى التسوية: أن يعطى كلّ ذي حقّ حقّه وينزّل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنّما هو في نيل كلّ ذي حقّ خصوص حقّه من غير أن يزاحم حقّ حقّاً، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكّماً ونحو ذلك، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى: ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة الآية، كما مرّ بيانه، فإنّ الآية تصرّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهنّ وبين الرجال.

ثمّ إنّ اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في اُصول المواهب الوجوديّة أعني، الفكر والإرادة المولّدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرّيّة الفكر والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرّف في جميع شؤون حياتها الفرديّة والإجتماعيّة عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرّيّة على أتمّ الوجوه كما سمعت فيما تقدّم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلّة بنفسها منفكّة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى:( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) الآية، البقرة - ٢٣٤.

لكنّها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اُخرى، فإنّ المتوسّطة من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال في الخصوصيّات الكماليّة من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أنّ جسمها ألطف وأنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنّ الإحساسات اللطيفة كالحبّ ورقّة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أنّ التعقّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسيّة كما أنّ حياة الرجل حياة تعقّليّة.br> ولذلك فرّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامّة الإجتماعيّة الّتي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقّل، والإحساس فخصّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقّل والحياة التعقّليّة إنّما هي للرجل دون المرأة، و

٢٨٧

خصّ مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثمّ تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أنّ ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنّما هو للرجال لغلبة تعقّلهم، والانتفاع والتمتّع الغالب للنساء لغلبة إحساسهنّ. وسنزيده إيضاحاً في الكلام على آيات الإرث إنشاء الله تعالى) ثمّ تمّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حقّ المرأة مرّت الإشارة إليها.

فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإنّ ارتفاع الحاجة الضروريّة إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمّل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نمائاً رديّاً وتنبت نباتاً سيّئاً غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدّت التجربة ذلك.

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة الّتي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر، والّذي اُصيب به الإسلام في مدّة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوّام المجاهدين فارتدّت بذلك أنفس الأحكام، وتوقّفت التربية ثمّ رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعيّ: أنّ مجرّد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيّمين باُمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إنّي ما كنت اُقاتلكم لتصلّوا أو تصوموا فذلك إليكم وإنّما كنت اُقاتلكم لأتأمّر عليكم وقد فعلت، وهذا غيره من الاُمويّين والعبّاسيّين فمن دونهم. ولو لا استضائة هذا الدين بنور الله الّذي لا يطفأ والله متمّ نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.

٢٨٨

( حرية المرأة في المدنيّة الغربية)

لا شكّ أنّ الإسلام له التقدّم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسارة، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ اُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلّدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثّرة أتمّ التأثير في سلسلة السير الإجتماعيّة وهي متوسّطة متخلّلة، ومن المحال أن يتّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخّر الكماليّ بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.

والرأي العامّ عندهم تقريباً: أنّ تأخّر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية الّتي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.

ويتوجّه عليه: أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوّنه قضى على تأخّرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.

ويؤيّد ذلك أنّ المدنيّة الغربيّة مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدّم الرجال وتؤخّر النساء، وأمّا ما الّذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسّر لنا منه في محلّه إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي آخر)

عمل النكاح من اُصول الأعمال الإجتماعيّة، والبشر منذ أوّل تكوّنه وتكثّره حتّى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعيّ، وقد عرفت أنّ هذه الأعمال لا بدّ لها من أصل طبيعيّ ترجع إليه ابتدائاً أو بالأخرة.

٢٨٩

وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاُناث إذ من البيّن أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاُناث - لم يوضع هبائاً باطلاً، ومن البيّن عند كلّ من أجاد التأمّل أنّ طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلّا الاُناث وكذا العكس، وأنّ هذا التجهيز لا غاية له إلّا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلّقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، ووضع عليه أحكام العفّة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدّة والأولاد والإرث ونحو ذلك.

وأمّا القوانين الاُخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلديّ ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرّضة لشئ ممّا تعرّض له الإسلام من أحكام العفّة ونحو ذلك.

وهذا البناء على ما يتفرّع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الإجتماعيّة على ما سنبيّن إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً، فإنّ غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعيّ إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أنّ بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى اُمور كثيرة وأعمال شتّى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً إلّا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصّة المتعلّق كلّ واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال متفرّقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال.

وهذا الداعي إنّما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيّاً ما كانا وأمّا الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيويّ انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعيّ للتناسل والتوالد إلى غيره ممّا لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.

ولو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في

٢٩٠

الحياة كان من اللازم أن لا يختصّ أمر الازدواج من الأحكام الإجتماعيّة بشئ أصلاً إلّا الأحكام العامّة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفّة رأساً وإبطال أحكام الأنساب والمواريث كما التزمته الشيوعيّة، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطريّة الّتي جهّز بها الذكور والاُناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحاً في محلّ يناسبه إنشاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، وأمّا الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلاميّة، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدلّ على المنع عنه، وأمّا خصوصيّات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز.

وقد اضطرّت الملل المعظّمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنيّة بعد ما لم يكن.

٢٩١

( سورة البقرة آية ٢٤٣)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( ٢٤٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ) ، الرؤية ههنا بمعنى العلم، عبّر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعدّ فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إبراهيم - ١٩، وقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) النوح - ١٥.

وقد ذكر الزمخشريّ أنّ لفظ ألم تر جري مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه إلّا تعجب لكذا وكذا، وحذر الموت مفعول له، ويمكن أن يكون مفعولاً مطلقاً والتقدير يحذرون الموت حذراً.

قوله تعالى: ( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، الأمر تكوينيّ ولا ينافي كون موتهم واقعاً عن مجرىّ طبيعيّ كما ورد في الروايات: أنّ ذلك كان بالطاعون، وإنّما عبّر بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثمّ أحياهم ليكون أدلّ على نفوذ القدرة وغلبة الأمر، فإنّ التعبير بالإنشاء في التكوينيّات أقوى وآكد من التعبير بالإخبار كما أنّ التعبير بصورة الإخبار الدالّ على الوقوع في التشريعيّات أقوى وآكد من الإنشاء، ولا يخلو قوله تعالى: ثمّ أحياهم عن الدلالة على أنّ الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجّة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصّة أصحاب الكهف، على أنّ قوله تعالى بعد: إنّ الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك أيضاً.

قوله تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) ، الإظهار في موضع الإضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانياً لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أنّ

٢٩٢

هؤلاء الّذين تفضّل الله عليهم بالإحياء طائفة خاصّة، وليس المراد كون الأكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرّضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملّة بعد موتها.

وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ الآية مثل ضربه الله لحال الاُمّة في تأخّرها وموتها باستخزاء الأجانب إيّاها ببسط السلطة والسيطرة عليها، ثمّ حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيويّة واستقلالها في حكومتها على نفسها.

قال ما حاصله: أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان قصّة من قصص بني إسرائيل كما يدلّ عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من بني إسرائيل، وإلى النبيّ الّذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أنّ الآية خالية عن ذلك، على أنّ التوراة أيضاً لم تتعرّض لذلك في قصص حزقيل النبيّ على نبيّنا وآله و عليه السلام فليست الروايات إلّا من الاسرائيليّات الّتي دستها اليهود، مع أنّ الموت والحياة الدنيويّتين ليستا إلّا موتاً واحداً أو حياة واحدة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، والمراد بها قوم هجم عليهم أولوا القدرة والقوّة من أعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكّم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا من ديارهم وهم اُلوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل، فإنّ الجهل والخمود موت كما أنّ العلم وإباء الضيم حياة، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، وقال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢.

وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكّن الأعداء منهم ويبقون أمواتاً، ثمّ أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في

٢٩٣

أمرهم، وهؤلاء الّذين أحياهم الله وإن كانوا بحسب الأشخاص غير الّذين أماتهم الله إلّا أنّ الجميع اُمّة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين، وقد عدّ الله تعالى القوم واحداً مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل:( أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) الاعراف - ١٤١، وقوله تعالى:( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) البقرة - ٥٦، ولو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقاً للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخّصاً.

وهذا الكلام كما ترى مبني >أوّلاً: على إنكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مرّ اثباتها، على أنّ ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك ممّا لا يمكن إنكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحّته من طريق العقل.

وثانياً: على دعوى أنّ القرآن يدلّ على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدلّ بمثل قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١.

وفيه أنّ جميع الآيات الدالّة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في ردّ ما ذكره، على أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلّل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصّة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتدّ، والمراد بما أورده من الآيات الدلالة على نوع الحياة.

وثالثاً: على أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان القصّة لتعرّضت لتعيين قومهم وتشخيص النبيّ الّذي أحياهم.

وأنت تعلم أنّ مذاهب البلاغة مختلفة متشتّة، والكلام كما ربّما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) البروج - ٧، وقوله تعالى:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) الاعراف - ١٨١.

٢٩٤

ورابعاً: على أنّ الآية لو لم تحمّل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى، وأنت تعلم أنّ نزول القرآن نجوماً يغني عن كلّ تكلّف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض إلّا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتّصال على ما هو شأن الكلام البليغ.

فالحقّ أنّ الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصّة، وليت شعري أيّ بلاغة في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاماً لا يرى أكثر الناظرين فيه إلّا أنّه قصّة من قصص الماضين، وهو في الحقيقة تمثيل مبنيّ على التخييل من غير حقيقة.

مع أنّ دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله:( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ) البقرة - ١٧، وقوله:( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يونس - ٢٤، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا ) الجمعة - ٥، إلى غير ذلك.

( بحث روائي)

في الاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام في حديث قالعليه‌السلام : أحيى الله قوماً خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهراً طويلاً حتّى بليت عظامهم، وتقطّعت أوصالهم، وصاروا تراباً، فبعث الله في وقت أحبّ أن يرى خلقه نبيّاً يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لايفتقدون في أعدادهم رجلاً فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً.

أقول: وروي هذا المعنى الكلينيّ والعيّاشيّ بنحو أبسط، وفي آخره: وفيهم نزلت هذه الآية.

٢٩٥

( سورة البقرة آية ٢٤٤ - ٢٥٢)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٤ ) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٤٥ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٢٤٦ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٧ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٤٨ ) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ

٢٩٦

الصَّابِرِينَ ( ٢٤٩ ) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٢٥٠ ) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٢٥١ ) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢٥٢ )

( بيان)

الاتّصال البيّن بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، والترغيب في القرض الحسن، والمعنى المحصل من قصّة طالوت وداود وجالوت يعطي أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة، والروح الذي به تقدم الاُمّة في حياتهم الدينيّة، والدنيويّة، وسعادتهم الحقيقيّة، يبيّن سبحانه فيها فرض الجهاد، ويدعو إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدّة والقوّة، وسماه إقراضاً لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال والإيذان بالقرب، ثمّ يقصّ قصّة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا أنّ الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما، والخزى والفناء للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، وهم أصحاب القصّة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني، فلمّا قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحقّ وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولّى اكثرهم عند إنجاز القتال أولاً، وبالاعتراض على طالوت ثانياً، وبالشرب من النهر ثالثاً، وبقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعاً، نصرهم الله تعالى على عدوّهم فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واستقرّ الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع إليهم سؤددهم وقوّتهم، ولم يكن ذلك كلّه إلّا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهي قولهم: ربّنا افرغ علينا صبراً وانصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الاعلون إن كانوا مؤمنين.

٢٩٧

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الآية، فرض وأيجاب للجهاد، وقد قيده تعالى ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلّا يسبق إلى الوهم ولا يستقرّ في الخيال أنّ هذه الوظيفة الدينيّة المهمّة لايجاد السلطة الدنيويّة الجافّة، وتوسعة المملكة الصوريّة، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدّم الإسلاميّ من الإجتماعيّين وغيرهم، بل هو التوسعة سلطة الدين الّتي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم. وفي قوله تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشئ، ولا يضمروا نفاقاً كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلّموا في أمر طالوت فقالوا: أنّى يكون له الملك علينا الخ، وحيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وحيث فشلوا وتولّوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.

قوله تعالى: ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا - إلى قوله -أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) ، القرض معروف وقد عدّ الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضاً لنفسه لما مرّ أنّه للترغيب، ولأنّه إنفاق في سبيله، ولأنّه ممّا سيردّ إليهم اضعافاً مضاعفة.

وقد غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: وقاتلوا في سبيل الله: من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً، ولم يقل: قاتلوا في سبيل الله واقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيّز الأمر غير الخالي من كلفة التكليف إلى حيّز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، القبض الأخذ بالشئ إليك ويقابله البسط، والبصط هو البسط قلب سينه صاداً لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء. وايراد صفاته الثلاث أعني: كونه قابضاً وباسطاً ومرجعاً يرجعون إليه للاشعار بأنّ ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلاً ولا يستبعد تضعيفه اضعافاً كثيرة فإنّ الله هو القابض الباسط، ينقصّ ما شاء، ويزيد ما شاء، وإليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ - إلى قوله -فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، الملا كما قيل: الجماعة من الناس على رأى واحد، سميت بالملا لكونها تملا العيون عظمة

٢٩٨

وأبهة. وقولهم لنبيّهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدلّ على أنّ الملك المسمّى بجالوت كان قد تملكهم، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلّة من الديار والأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه، وبلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى انفسهم العصبيّة الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملا منهم نبيّهم أن يبعث لهم ملكاً ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرّقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.

قوله تعالى: ( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ) ، كان بنوا إسرائيل سألوا نبيّهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبيّ بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، ولذلك ارجع نبيّهم الأمر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى، ولم يصرح باسمه تعظيماً لأنّ الّذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزّه اسمه تعالى من التصريح به بل إنّما أشار إلى أنّ الأمر منه وإليه تعالى بقوله: إن كتب، والكتابة وهي الفرض إنّما تكون من الله تعالى.

وقد كانت المخالفة والتولّي عن القتال مرجوا منهم لكنّه أورده بطريق الاستفهام ليتمّ الحجّة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: ومالنا أن لا نقاتل في سبيل الله.

قوله تعالى: ( الُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ) ، الاخراج من البلاد لما كان ملازماً للتفرّقة بينهم وبين أوطانهم المألوفه، ومنعهم عن التصرّف فيها والتمتّع بها، كنّي به عن مطلق التصرّف والتمتّع، ولذلك نسب الاخراج إلى الابناء أيضاً كما نسب إلى البلاد.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، تفريع على قول نبيّهم: هل عسيتم الخ، وقولهم: وما لنا أن لا نقاتل، وفي قوله تعالى: والله عليم بالظّالمين، دلالة على أن قول نبيّهم لهم: هل عسيتم أن كتب عليكم القتال إلّا تقاتلوا، إنّما كان لوحى من الله سبحانه: أنّهم سيتولّون عن القتال.

٢٩٩

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ - إلى قوله -مِّنَ الْمَالِ ) ، في جوابهعليه‌السلام هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيّهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا: أسأل الله أن يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال.

وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الإعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه، ومن المعلوم أن قولهم هذا لنبيّهم، ولم يستدلّوا على كونهم أحقّ بالملك منه بشئ يدلّ على أن دليله كان أمراً بيناً لا يحتاج إلى الذكر، وليس إلّا أن بيت النبوّة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوّة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، وبعبارة اُخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولأمن بيت النبوّة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوّة معاً، أحقّ بالملك منه لأنّ الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفى البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: إنّ الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، والصفة الثانية ما في قولهم: ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيراً، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: وزاده بسطة في العلم والجسم الخ.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) ، الاصطفاء والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو، والبسطة هي السعة والقدرة، وهذان جوابان عن اعتراضهم.

أمّا اعتراضهم بكونهم أحقّ بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أنّ هذه مزيّة كان الله سبحانه خصّ بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحقّ بالملك منهم، وكان الشرف والتقدّم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم، فإنّما الفضل يتّبع تفضيله تعالى.

وأمّا اعتراضهم بأنّه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أنّ الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرّ الوحيد منه أن يتلائم الإرادات المتفرّقة

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481