الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131653 / تحميل: 8003
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الّذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين،وثالثاً: أنّهم كانوا يرون حرمأنّها في عامّة الحقوق الّتي أمكن انتفاعها منها إلّا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيّمين بأمرها،ورابعاً: أنّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القويّ على الضعيف وبعبارة اُخرى قريحة الاستخدام، هذا في الاُمم غير المتمدّنة، وأمّا الاُمم المتمدّنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرّها، وربّما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الاُمم والأجيال.

( ماذا أبدعه الإسلام في أمرها)

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلّة والهوان حتّى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللّغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا ترى أمّة من الاُمم وحشيّها ومدنيّها إلّا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتّشبيه مربوطة بهذه اللّفظة (المرأة) يقرّع بها الجبان، ويؤنّب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذلّ المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:

وما أدري وليت إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

مئآت وألوف من النّظم والنثر في كلّ لغة.

وهذا في نفسه كافٍ في أن يحصّل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانيّة في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الاُمم والملل في أمرها، فإنّ الخصائل الروحيّة والجهات الوجوديّة في كلّ اُمّة تتجلّى في لغتها وآدابها.

ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهمّ بأمرها إلّا بعض ما في التوراة وما وصّى به عيسى بن مريمعليهما‌السلام من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.

٢٨١

وأمّا الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنّه أبدع في حقّها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بنية فطريّة عليها كانت الدنيا هدمتها من أوّل يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويّتها اعتقاداً وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.

أمّا هويّتها: فإنّه بيّن أنّ المرأة كالرجل إنسان وأنّ كلّ إنسان ذكراً أو اُنثى فإنّه إنسان يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر واُنثى ولا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات - ١٣، فجعل تعالى كلّ إنسان مأخوذاً مؤلّفاً من إنسانين ذكر واُنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادّة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكراً أو اُنثى مجموع المادّة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:

وإنّما اُمّهات الناس أوعية

ولا قال مثل ما قاله الآخر:

بنونا بنو ابنائنا وبناتنا

بنوهن ابناء الرجال الاباعد

بل جعل تعالى كلّاً مخلوقاً مؤلّفاً من كلّ. فعاد الكلّ أمثالاً، ولا بيان أتمّ ولا، أبلغ من هذا البيان، ثمّ جعل الفضل في التقوى.

وقال تعالى:( أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فصرّح أنّ السعي غير خائب والعمل غير مضيّع عند الله وعلّل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبّر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى، وهو أنّ الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ.

ثمّ بيّن بذلك أنّ عمل كلّ واحد من هذين الصنفين غير مضيّع عندالله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كلّ نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إنّ عليهن سيّئآتهنّ، وللرجال حسناتهنّ من منافع وجودهنّ، وسيجئ لهذا الكلام مزيد توضيح.

وإذا كان لكلّ منهما ما عمل ولا كرامة إلّا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة

٢٨٢

المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممّن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلّا للتقوى والفضيلة.

وفي معني الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وقوله تعالى:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المؤمن - ٤٠، وقوله تعالى:( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) النساء - ١٢٤.

وقد ذمّ الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذمّ:( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) النحل - ٥٩، ولم يكن تواريهم إلّا لعدّهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنّها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتّع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأوّل فيه فيما مرّ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال:( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) التكوير - ٩.

وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربّون، فتراهم يعدّون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصرّ، مع أنّ الإسلام قد جمع العار والقبح كلّه في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.

وأما وزنها الاجتماعي: فإنّ الإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالإرادة والعمل فأنّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانيّة في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى:( بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فلها أن تستقلّ بالإرادة ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجهما

٢٨٣

كما للرجل ذلك من غير فرق، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقّه القرآن والله يحقّ الحقّ بكلماته غير أنّه قرّر فيها خصلتين ميّزها بهما الصنع الإلهيّ:أحديهما: أنّها بمنزلة الحرث في تكوّن النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختصّ من الأحكام بمثل ما يختصّ به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل.والثانية: أنّ وجودها مبنيّ على لطافة البنية ورقّة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها والوظائف الإجتماعيّة المحوّلة إليها.

فهذا وزنها الاجتماعيّ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحلّ جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختصّ به أحدهما في الإسلام، قال تعالى:( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) النساء - ٣٢، يريد أنّ الأعمال الّتي يهديها كلّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، وأنّ من هذا الفضل ما تعيّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه متمنّ، ومنه ما لم يتعيّن إلّا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل الّتي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الّذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوّامون، على ما سيجئ بيانه.

وأما الأحكام المشتركة والمختصّة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العباديّة والحقوق الإجتماعيّة فلها أن تستقلّ فيما يستقلّ به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلّم ولا اقتناء حقّ ولا دفاع عن حقّ وغير ذلك إلّا في موارد يقتضى طباعها ذلك.

وعمدة هذه المورد: أنّها لا تتولّى الحكومة والقضاء، ولا تتولّى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتّع منها، وتدورك ما فاتها بأنّ نفقتها في الحياة على الرجل: الأب

٢٨٤

أو الزوج، وأنّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأنّ لها حقّ تربية الولد وحضانته.

وقد سهّل الله لها أنّها محمّية النفس والعرض حتّى عن سوء الذكر، وأنّ العبادة موضوعة عنها أيّام عادتها ونفاسها، وأنّها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّها لا يجب عليها في جانب العلم إلّا العلم باُصول المعارف والعلم بالفروع الدينيّة (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأمّا في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتّع به منها، وأمّا تنظيم الحياة - الفرديّة بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا - المداخلة في ما يصلح المجتمع العامّ كتعلّم العلوم واتّخاذ الصناعات والحرف المفيدة - للعامّة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شئ منذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلّها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهنّ، مع أنّ الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

والسنّة النبويّة تؤيّد ما ذكرناه، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيّدة النساء فاطمةعليها‌السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصىّ به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمّة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت عليّ وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهنّ على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلّنا نوفّق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائيّة المتعلّقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.

وأمّا الأساس الّذي بنيت عليه هذا الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعيّ كيفيّة هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحاً فنقول:

لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتّصل بها من المباحث العلميّة أنّ الوظائف الإجتماعيّة والتكاليف الاعتباريّة المتفرّعة عليها يجب انتهاؤها بالآخرة إلى الطبيعة، فخصوصيّة البنية الطبيعيّة الإنسانيّة هي الّتي هدت الإنسان إلى هذا

٢٨٥

الاجتماع النوعيّ الّذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحّة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعيّ ما يخرجه عن تمامه الطبيعيّ إلى نقص الخلقة، أو عن صحّته الطبيعيّة إلى السقم والعاهة.

فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي بالأخرة إلى الطبيعة وإن اختلف القسمان من حيث أنّ الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهيّ فبيّنه بأبدع البيان، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى - ٣، وقال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنّما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهّزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيّمة بسعادة الإنسان هي الّتي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تامّاً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهائاً صحيحاً، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم - ٣٠.

والّذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الإجتماعيّة بين الأفراد - على أنّ الجميع إنسان ذو فطرة بشريّة - أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية الّتي يحكم بها العدل الاجتماعيّ أن يبذل كلّ مقام اجتماعيّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبيّ مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القويّ المتقدر من الشؤون والدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لحالهما معاً.

٢٨٦

بل الّذي يقتضيه العدل الاجتماعيّ ويفسّر به معنى التسوية: أن يعطى كلّ ذي حقّ حقّه وينزّل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنّما هو في نيل كلّ ذي حقّ خصوص حقّه من غير أن يزاحم حقّ حقّاً، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكّماً ونحو ذلك، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى: ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة الآية، كما مرّ بيانه، فإنّ الآية تصرّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهنّ وبين الرجال.

ثمّ إنّ اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في اُصول المواهب الوجوديّة أعني، الفكر والإرادة المولّدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرّيّة الفكر والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرّف في جميع شؤون حياتها الفرديّة والإجتماعيّة عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرّيّة على أتمّ الوجوه كما سمعت فيما تقدّم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلّة بنفسها منفكّة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى:( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) الآية، البقرة - ٢٣٤.

لكنّها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اُخرى، فإنّ المتوسّطة من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال في الخصوصيّات الكماليّة من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أنّ جسمها ألطف وأنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنّ الإحساسات اللطيفة كالحبّ ورقّة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أنّ التعقّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسيّة كما أنّ حياة الرجل حياة تعقّليّة.br> ولذلك فرّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامّة الإجتماعيّة الّتي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقّل، والإحساس فخصّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقّل والحياة التعقّليّة إنّما هي للرجل دون المرأة، و

٢٨٧

خصّ مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثمّ تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أنّ ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنّما هو للرجال لغلبة تعقّلهم، والانتفاع والتمتّع الغالب للنساء لغلبة إحساسهنّ. وسنزيده إيضاحاً في الكلام على آيات الإرث إنشاء الله تعالى) ثمّ تمّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حقّ المرأة مرّت الإشارة إليها.

فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإنّ ارتفاع الحاجة الضروريّة إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمّل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نمائاً رديّاً وتنبت نباتاً سيّئاً غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدّت التجربة ذلك.

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة الّتي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر، والّذي اُصيب به الإسلام في مدّة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوّام المجاهدين فارتدّت بذلك أنفس الأحكام، وتوقّفت التربية ثمّ رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعيّ: أنّ مجرّد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيّمين باُمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إنّي ما كنت اُقاتلكم لتصلّوا أو تصوموا فذلك إليكم وإنّما كنت اُقاتلكم لأتأمّر عليكم وقد فعلت، وهذا غيره من الاُمويّين والعبّاسيّين فمن دونهم. ولو لا استضائة هذا الدين بنور الله الّذي لا يطفأ والله متمّ نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.

٢٨٨

( حرية المرأة في المدنيّة الغربية)

لا شكّ أنّ الإسلام له التقدّم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسارة، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ اُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلّدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثّرة أتمّ التأثير في سلسلة السير الإجتماعيّة وهي متوسّطة متخلّلة، ومن المحال أن يتّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخّر الكماليّ بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.

والرأي العامّ عندهم تقريباً: أنّ تأخّر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية الّتي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.

ويتوجّه عليه: أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوّنه قضى على تأخّرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.

ويؤيّد ذلك أنّ المدنيّة الغربيّة مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدّم الرجال وتؤخّر النساء، وأمّا ما الّذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسّر لنا منه في محلّه إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي آخر)

عمل النكاح من اُصول الأعمال الإجتماعيّة، والبشر منذ أوّل تكوّنه وتكثّره حتّى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعيّ، وقد عرفت أنّ هذه الأعمال لا بدّ لها من أصل طبيعيّ ترجع إليه ابتدائاً أو بالأخرة.

٢٨٩

وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاُناث إذ من البيّن أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاُناث - لم يوضع هبائاً باطلاً، ومن البيّن عند كلّ من أجاد التأمّل أنّ طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلّا الاُناث وكذا العكس، وأنّ هذا التجهيز لا غاية له إلّا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلّقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، ووضع عليه أحكام العفّة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدّة والأولاد والإرث ونحو ذلك.

وأمّا القوانين الاُخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلديّ ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرّضة لشئ ممّا تعرّض له الإسلام من أحكام العفّة ونحو ذلك.

وهذا البناء على ما يتفرّع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الإجتماعيّة على ما سنبيّن إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً، فإنّ غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعيّ إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أنّ بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى اُمور كثيرة وأعمال شتّى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً إلّا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصّة المتعلّق كلّ واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال متفرّقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال.

وهذا الداعي إنّما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيّاً ما كانا وأمّا الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيويّ انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعيّ للتناسل والتوالد إلى غيره ممّا لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.

ولو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في

٢٩٠

الحياة كان من اللازم أن لا يختصّ أمر الازدواج من الأحكام الإجتماعيّة بشئ أصلاً إلّا الأحكام العامّة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفّة رأساً وإبطال أحكام الأنساب والمواريث كما التزمته الشيوعيّة، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطريّة الّتي جهّز بها الذكور والاُناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحاً في محلّ يناسبه إنشاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، وأمّا الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلاميّة، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدلّ على المنع عنه، وأمّا خصوصيّات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز.

وقد اضطرّت الملل المعظّمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنيّة بعد ما لم يكن.

٢٩١

( سورة البقرة آية ٢٤٣)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( ٢٤٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ) ، الرؤية ههنا بمعنى العلم، عبّر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعدّ فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إبراهيم - ١٩، وقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) النوح - ١٥.

وقد ذكر الزمخشريّ أنّ لفظ ألم تر جري مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه إلّا تعجب لكذا وكذا، وحذر الموت مفعول له، ويمكن أن يكون مفعولاً مطلقاً والتقدير يحذرون الموت حذراً.

قوله تعالى: ( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، الأمر تكوينيّ ولا ينافي كون موتهم واقعاً عن مجرىّ طبيعيّ كما ورد في الروايات: أنّ ذلك كان بالطاعون، وإنّما عبّر بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثمّ أحياهم ليكون أدلّ على نفوذ القدرة وغلبة الأمر، فإنّ التعبير بالإنشاء في التكوينيّات أقوى وآكد من التعبير بالإخبار كما أنّ التعبير بصورة الإخبار الدالّ على الوقوع في التشريعيّات أقوى وآكد من الإنشاء، ولا يخلو قوله تعالى: ثمّ أحياهم عن الدلالة على أنّ الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجّة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصّة أصحاب الكهف، على أنّ قوله تعالى بعد: إنّ الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك أيضاً.

قوله تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) ، الإظهار في موضع الإضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانياً لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أنّ

٢٩٢

هؤلاء الّذين تفضّل الله عليهم بالإحياء طائفة خاصّة، وليس المراد كون الأكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرّضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملّة بعد موتها.

وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ الآية مثل ضربه الله لحال الاُمّة في تأخّرها وموتها باستخزاء الأجانب إيّاها ببسط السلطة والسيطرة عليها، ثمّ حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيويّة واستقلالها في حكومتها على نفسها.

قال ما حاصله: أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان قصّة من قصص بني إسرائيل كما يدلّ عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من بني إسرائيل، وإلى النبيّ الّذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أنّ الآية خالية عن ذلك، على أنّ التوراة أيضاً لم تتعرّض لذلك في قصص حزقيل النبيّ على نبيّنا وآله و عليه السلام فليست الروايات إلّا من الاسرائيليّات الّتي دستها اليهود، مع أنّ الموت والحياة الدنيويّتين ليستا إلّا موتاً واحداً أو حياة واحدة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، والمراد بها قوم هجم عليهم أولوا القدرة والقوّة من أعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكّم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا من ديارهم وهم اُلوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل، فإنّ الجهل والخمود موت كما أنّ العلم وإباء الضيم حياة، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، وقال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢.

وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكّن الأعداء منهم ويبقون أمواتاً، ثمّ أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في

٢٩٣

أمرهم، وهؤلاء الّذين أحياهم الله وإن كانوا بحسب الأشخاص غير الّذين أماتهم الله إلّا أنّ الجميع اُمّة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين، وقد عدّ الله تعالى القوم واحداً مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل:( أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) الاعراف - ١٤١، وقوله تعالى:( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) البقرة - ٥٦، ولو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقاً للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخّصاً.

وهذا الكلام كما ترى مبني >أوّلاً: على إنكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مرّ اثباتها، على أنّ ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك ممّا لا يمكن إنكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحّته من طريق العقل.

وثانياً: على دعوى أنّ القرآن يدلّ على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدلّ بمثل قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١.

وفيه أنّ جميع الآيات الدالّة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في ردّ ما ذكره، على أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلّل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصّة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتدّ، والمراد بما أورده من الآيات الدلالة على نوع الحياة.

وثالثاً: على أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان القصّة لتعرّضت لتعيين قومهم وتشخيص النبيّ الّذي أحياهم.

وأنت تعلم أنّ مذاهب البلاغة مختلفة متشتّة، والكلام كما ربّما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) البروج - ٧، وقوله تعالى:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) الاعراف - ١٨١.

٢٩٤

ورابعاً: على أنّ الآية لو لم تحمّل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى، وأنت تعلم أنّ نزول القرآن نجوماً يغني عن كلّ تكلّف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض إلّا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتّصال على ما هو شأن الكلام البليغ.

فالحقّ أنّ الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصّة، وليت شعري أيّ بلاغة في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاماً لا يرى أكثر الناظرين فيه إلّا أنّه قصّة من قصص الماضين، وهو في الحقيقة تمثيل مبنيّ على التخييل من غير حقيقة.

مع أنّ دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله:( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ) البقرة - ١٧، وقوله:( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يونس - ٢٤، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا ) الجمعة - ٥، إلى غير ذلك.

( بحث روائي)

في الاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام في حديث قالعليه‌السلام : أحيى الله قوماً خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهراً طويلاً حتّى بليت عظامهم، وتقطّعت أوصالهم، وصاروا تراباً، فبعث الله في وقت أحبّ أن يرى خلقه نبيّاً يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لايفتقدون في أعدادهم رجلاً فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً.

أقول: وروي هذا المعنى الكلينيّ والعيّاشيّ بنحو أبسط، وفي آخره: وفيهم نزلت هذه الآية.

٢٩٥

( سورة البقرة آية ٢٤٤ - ٢٥٢)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٤ ) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٤٥ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٢٤٦ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٧ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٤٨ ) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ

٢٩٦

الصَّابِرِينَ ( ٢٤٩ ) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٢٥٠ ) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٢٥١ ) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢٥٢ )

( بيان)

الاتّصال البيّن بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، والترغيب في القرض الحسن، والمعنى المحصل من قصّة طالوت وداود وجالوت يعطي أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة، والروح الذي به تقدم الاُمّة في حياتهم الدينيّة، والدنيويّة، وسعادتهم الحقيقيّة، يبيّن سبحانه فيها فرض الجهاد، ويدعو إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدّة والقوّة، وسماه إقراضاً لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال والإيذان بالقرب، ثمّ يقصّ قصّة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا أنّ الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما، والخزى والفناء للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، وهم أصحاب القصّة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني، فلمّا قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحقّ وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولّى اكثرهم عند إنجاز القتال أولاً، وبالاعتراض على طالوت ثانياً، وبالشرب من النهر ثالثاً، وبقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعاً، نصرهم الله تعالى على عدوّهم فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واستقرّ الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع إليهم سؤددهم وقوّتهم، ولم يكن ذلك كلّه إلّا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهي قولهم: ربّنا افرغ علينا صبراً وانصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الاعلون إن كانوا مؤمنين.

٢٩٧

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الآية، فرض وأيجاب للجهاد، وقد قيده تعالى ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلّا يسبق إلى الوهم ولا يستقرّ في الخيال أنّ هذه الوظيفة الدينيّة المهمّة لايجاد السلطة الدنيويّة الجافّة، وتوسعة المملكة الصوريّة، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدّم الإسلاميّ من الإجتماعيّين وغيرهم، بل هو التوسعة سلطة الدين الّتي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم. وفي قوله تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشئ، ولا يضمروا نفاقاً كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلّموا في أمر طالوت فقالوا: أنّى يكون له الملك علينا الخ، وحيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وحيث فشلوا وتولّوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.

قوله تعالى: ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا - إلى قوله -أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) ، القرض معروف وقد عدّ الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضاً لنفسه لما مرّ أنّه للترغيب، ولأنّه إنفاق في سبيله، ولأنّه ممّا سيردّ إليهم اضعافاً مضاعفة.

وقد غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: وقاتلوا في سبيل الله: من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً، ولم يقل: قاتلوا في سبيل الله واقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيّز الأمر غير الخالي من كلفة التكليف إلى حيّز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، القبض الأخذ بالشئ إليك ويقابله البسط، والبصط هو البسط قلب سينه صاداً لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء. وايراد صفاته الثلاث أعني: كونه قابضاً وباسطاً ومرجعاً يرجعون إليه للاشعار بأنّ ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلاً ولا يستبعد تضعيفه اضعافاً كثيرة فإنّ الله هو القابض الباسط، ينقصّ ما شاء، ويزيد ما شاء، وإليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ - إلى قوله -فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، الملا كما قيل: الجماعة من الناس على رأى واحد، سميت بالملا لكونها تملا العيون عظمة

٢٩٨

وأبهة. وقولهم لنبيّهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدلّ على أنّ الملك المسمّى بجالوت كان قد تملكهم، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلّة من الديار والأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه، وبلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى انفسهم العصبيّة الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملا منهم نبيّهم أن يبعث لهم ملكاً ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرّقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.

قوله تعالى: ( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ) ، كان بنوا إسرائيل سألوا نبيّهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبيّ بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، ولذلك ارجع نبيّهم الأمر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى، ولم يصرح باسمه تعظيماً لأنّ الّذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزّه اسمه تعالى من التصريح به بل إنّما أشار إلى أنّ الأمر منه وإليه تعالى بقوله: إن كتب، والكتابة وهي الفرض إنّما تكون من الله تعالى.

وقد كانت المخالفة والتولّي عن القتال مرجوا منهم لكنّه أورده بطريق الاستفهام ليتمّ الحجّة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: ومالنا أن لا نقاتل في سبيل الله.

قوله تعالى: ( الُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ) ، الاخراج من البلاد لما كان ملازماً للتفرّقة بينهم وبين أوطانهم المألوفه، ومنعهم عن التصرّف فيها والتمتّع بها، كنّي به عن مطلق التصرّف والتمتّع، ولذلك نسب الاخراج إلى الابناء أيضاً كما نسب إلى البلاد.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، تفريع على قول نبيّهم: هل عسيتم الخ، وقولهم: وما لنا أن لا نقاتل، وفي قوله تعالى: والله عليم بالظّالمين، دلالة على أن قول نبيّهم لهم: هل عسيتم أن كتب عليكم القتال إلّا تقاتلوا، إنّما كان لوحى من الله سبحانه: أنّهم سيتولّون عن القتال.

٢٩٩

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ - إلى قوله -مِّنَ الْمَالِ ) ، في جوابهعليه‌السلام هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيّهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا: أسأل الله أن يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال.

وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الإعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه، ومن المعلوم أن قولهم هذا لنبيّهم، ولم يستدلّوا على كونهم أحقّ بالملك منه بشئ يدلّ على أن دليله كان أمراً بيناً لا يحتاج إلى الذكر، وليس إلّا أن بيت النبوّة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوّة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، وبعبارة اُخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولأمن بيت النبوّة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوّة معاً، أحقّ بالملك منه لأنّ الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفى البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: إنّ الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، والصفة الثانية ما في قولهم: ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيراً، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: وزاده بسطة في العلم والجسم الخ.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) ، الاصطفاء والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو، والبسطة هي السعة والقدرة، وهذان جوابان عن اعتراضهم.

أمّا اعتراضهم بكونهم أحقّ بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أنّ هذه مزيّة كان الله سبحانه خصّ بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحقّ بالملك منهم، وكان الشرف والتقدّم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم، فإنّما الفضل يتّبع تفضيله تعالى.

وأمّا اعتراضهم بأنّه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أنّ الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرّ الوحيد منه أن يتلائم الإرادات المتفرّقة

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481