الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131291 / تحميل: 7958
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بوجه محصّل يقبله لفظ الآية، فإنّ حاصل توجيهه: أنّ معنى: اُنزل فيه القرآن: كأنّما اُنزل فيه القرآن، ومعنى: إنّا أنزلناه في ليلة: كأنّا أنزلناه في ليلة، وهذا شئ لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق!.

ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إنّ معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مرّ بيانه سابقاً.

وفي كلامه جهات اُخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.

قوله تعالى: ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) الناس - وهم الطبقة الدانية من الإنسان الّذين سطح فهمهم المتوسّط أنزل السطوح - يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقّهم كما قال تعالى:( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، وقال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت - ٤٣، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الاُمور المعنويّة بالبيّنة والبرهان، ولا فرق الحقّ من الباطل بالحجّة إلّا بمبيّن يبيّن لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأمّا الخاصّة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدّون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهيّة والركون إلى فرقان الحقّ فالقرآن بيّنات وشواهد من الهدى والفرقان في حقّهم فهو يهديهم إليه ويميّز لهم الحقّ ويبيّن لهم كيف يميّز، قال تعالى:( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة - ١٦.

ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبيّنات من الهدى، وهو التقابل بين العامّ والخاصّ فالهدى لبعض والبيّنات من الهدى لبعض آخر.

قوله تعالى: ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) الشهادة هي الحضور مع تحمّل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنّما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكلّ. وأمّا كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا

٢١

دليل عليه إلّا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية.

قوله تعالى: ( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) إيراد هذه الجملة في الآية ثانياً ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أنّ الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأنّ الحكم هو الّذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.

قوله تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) كأنّه بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام عدّة من أيّام اُخر لمكان وجوب إكمال العدّة، واللّام في قوله: لتكملوا العدّة، للغاية، وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملاً على معنى الغاية، والتقدير وإنّما أمرناكم بالإفطار والقضاء لنخفّف عنكم ولتكملوا العدّة، ولعلّ إيراد قوله: ولتكملوا العدّة هو الموجب لإسقاط معنى قوله: وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهّم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية(١) أنّهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإنّ تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الّذي اُنزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلّيّة وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى أنّ التلبّس بالصوم لإظهار كبريائه تعالى بما نزّل عليهم القرآن وأعلن ربوبيّته وعبوديّتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحقّ، وفرق لهم بكتابه بين الحقّ والباطل. ولمّا كان الصوم إنّما يتّصف بكونه شكراً لنعمه إذا كان مشتملاً على حقيقة معنى الصوم وهو الإخلاص لله سبحانه في التنزّه عن ألواث الطبيعة والكفّ عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتّصافه بالتكبير لله فإنّ صورة الصوم والكفّ سواء اشتمل على إخلاص النيّة أو لم يشتمل يدلّ على تكبيره تعالى وتعظيمه فرّق بين التكبير والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجّي دون التكبير فقال: ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون كما قال: في أوّل الآيات: لعلّكم تتّقون.

_______________________________________

(١) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح

٢٢

( بحث روائي)

في الحديث القدسيّ، قال الله تعالى: الصوم لي وأنا اُجزي به.

أقول: وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنّه هو العبادة الوحيدة الّتي تألّفت من النفي، وغيره كالصلاة والحجّ وغيرهما متألّف من الإثبات أو لايخلو من الإثبات، والفعل الوجوديّ لا يتمحّض في إظهار عبوديّة العبد ولا ربوبيّة الربّ سبحانه، لأنّه لا يخلو عن شوب النّقص المادّيّ وآفة المحدوديّة وإثبات الإنّيّة ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه: كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الّذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإخلاد إلى الأرض والتنزّه بالكفّ عن شهوات النفس فإنّ النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمراً بين العبد والربّ لا يطّلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا اُجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالّا على أنّه لا يوسّط في إعطاء الأجر بينه وبين الصائم أحداً كما أنّ العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربّه في الاطّلاع عليه أحد نظير ما ورد: أنّ الصدقة إنّما يأخذها الله من غير توسيطه أحداً، قال تعالى:( وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) التوبة - ١٠٣، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أنّ أجر الصائم القرب منه تعالى.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : كان رسول الله أوّل ما بعث يصوم حتّى يقال: ما يفطر، ويفطر حتّى يقال، ما يصوم، ثمّ ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً وهو صوم داود، ثمّ ترك ذلك وصام الثلاثة الأيّام الغرّ، ثمّ ترك ذلك وفرقها في كلّ عشرة يوماً خميسين بينهما أربعاء فقبضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يعمل ذلك.

وعن عنبسة العابد، قال: قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة أيّام من كلّ شهر.

أقول: والأخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الّذي كان يصومه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا صوم رمضان.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ

٢٣

عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) قال: هي للمؤمنين خاصّة.

وعن جميل قال: سألت الصادقعليه‌السلام عن قول الله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القتال، يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام. قال: فقال: هذه كلّها يجمع الضلّال والمنافقين وكلّ من أقرّ بالدعوة الظاهرة.

وفي الفقيه عن حفص قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام ، يقول إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الاُمم قبلنا فقلت له: فقول الله عزّوجلّ: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم؟ قال: إنّما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الاُمم ففضّل الله هذه الاُمّة وجعل صيامه فرضاً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى اُمّته.

أقول: والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمّد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلاً عن العالمعليه‌السلام وكأنّ الروايتين واحدة، وعلى أيّ حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى: كما كتب على الّذين من قبلكم، الأنبياء خاصّة ولو كان كذلك - والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب - كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم.

وفي الكافي عمّن سأل الصادقعليه‌السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شئ واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به.

وفي الجوامع عنهعليه‌السلام : الفرقان كلّ آية محكمة في الكتاب.

وفي تفسيري العيّاشيّ والقمّىّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرقان هو كلّ أمر محكم في القرآن، والكتاب هو جملة القرآن الّذي يصدّق فيه من كان قبله من الأنبياء.

أقول: واللّفظ يساعد على ذلك، وفي بعض الأخبار أنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب بل شهر رمضان الحديث، وهو واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضاً من المفسّرين.

والأخبار الواردة في عدّ أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أنّ لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبيّ وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بحيث يستبعد جدّاً

٢٤

نسبة التجريد إلى الراوي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لأبي عبداللهعليه‌السلام إنّ ابن أبي يعفور، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال: وما هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اُسافر؟ قال: إنّ الله يقول: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلّا لحجّ أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.

أقول: وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابيّ بالأخذ بالإطلاق.

وفي الكافي عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: فأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال: آخرون: لا يصوم، وقال: قوم إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإنّ الله عزّوجلّ يقول: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قالعليه‌السلام : ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر.

أقول: والأخبار عن أئمّة أهل البيت في تعيّن الإفطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله، وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، قال: الشيخ الكبير الّذي لا يستطيع والمريض.

وفي تفسيره أيضاً عن الباقرعليه‌السلام في الآية، قال: الشيخ الكبير والّذي يأخذه العطاش.

وفي تفسيره أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير.

أقول: والروايات فيه كثيرة عنهمعليهم‌السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيّام السنة غير أيّام شهر رمضان ممّن لا يقدر على عدّة أيّام اُخر فإنّ

٢٥

المريض في قوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً، لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش مرض العطش.

وفي تفسيره أيضاً عن سعيد عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ في الفطر تكبيراً، قلت: ما التكبير إلّا في يوم النحر، قال: فيه تكبير ولكنّه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد.

وفي الكافي عن سعيد النقّاش قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنّه مسنون، قال: قلت: وأين هو؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد ثمّ يقطع، قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الله اكبر. الله اكبر. لا إله إلّا الله والله الكبر. الله اكبر على ما هدانا. وهو قول الله ولتكملوا العدّة يعني الصلاة ولتكبّروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول: الله اكبر. لا إله إلّا الله والله اكبر. ولله الحمد، قال: وفي رواية التكبير الآخر أربع مرّات.

أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، وقولهعليه‌السلام : يعني الصلاة لعلّه يريد: أنّ المعنى ولتكملوا العدّة أي عدّة أيّام الصوم بصلاة العيد ولتكبّروا الله مع الصلوات على ما هديكم، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، فإنّه استفادة حكم استحبابيّ من مورد الوجوب نظير ما مرّ في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاُولى منه هذا، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الأخيرة يؤيّد ما قيل: إنّ قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عديّ بعلي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن ابن أبي عمير عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له، جعلت فداك ما يتحدّث به عندنا أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صام تسعة وعشرين أكثر ممّا صام ثلاثين أحقّ هذا؟ قال ما خلق الله من هذا حرفاً فما صام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ثلاثين لأنّ الله يقول: ولتكملوا العدّة فكان رسول الله ينقصه؟.

أقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الإنكاريّ، والرواية تدلّ على

٢٦

ما قدّمناه: أنّ ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.

وفي محاسن البرقيّ عن بعض أصحابنا رفعه في قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم قال: التكبير التعظيم، والهداية الولاية.

أقول: وقوله: والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق: ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمّى تأويلاً كما ورد في بعض الروايات أنّ اليسر هو الولاية، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله.

وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبدالله، قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن، وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره فقال أبوعبدالله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة، ثمّ قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان واُنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان واُنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان واُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.

أقول: ما رواهعليه‌السلام عن النبيّ رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور بعدّة طرق عن وائلة بن الأسقع عن النبيّ.

وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلاً يسأل أباعبدالله عن ليلة القدر فقال أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ سنة؟ فقال أبوعبداللهعليه‌السلام لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس، قال: شهر رمضان واللّيلة المباركة وليلة القدر فإنّ ليلة القدر هي اللّيلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثمّ نزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلاً رسلاً.

أقول: وروي هذا المعنى عن غيره أيضاً كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنّه إنّما استفاد ذلك من الآيات القرآنيّة كقوله تعالى:( وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) آل عمران - ٥٨، وفي قوله تعالى:( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ )

٢٧

الطور - ٥، وقوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، وقوله تعالى:( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ) حم السجدة - ١٢، وجميع ذلك ظاهر إلّا ما ذكره في مواقع وأنّه السماء الاُولى وموطن القرآن فإنّ فيه خفاءً، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أنّ البيت المعمور في السماء، وسيجئ الكلام فيه في محلّه إنشاء الله تعالى، وممّا يجب أن يعلم أنّ الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الإشارة والرمز شائع فيه، ولا سيّما في أمثال هذه الحقائق: من اللّوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور، فممّا يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن.

٢٨

( سورة البقرة آية ١٨٦)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( ١٨٦ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرقّ اُسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلّم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية، بالأمر، ثمّ قوله: عبادي، ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثمّ حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإنّي قريب ولم يقل: فقل إنّه قريب، ثمّ التأكيد بإنّ ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل الدالّ على القرب ليدلّ على ثبوت القرب ودوامه، ثمّ الدلالة على تجدّد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدالّ عليهما، ثمّ تقييده الجواب أعني قوله: اُجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيّد به شيئاً بل هو عينه، وفيه دلالة على أنّ دعوة الداعي مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن - ٦٠، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرّر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلّم سبع مرّات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.

والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعوّ نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو درّ من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.

ثمّ إنّ العبوديّة كما مرّ سابقاً هي المملوكيّة ولا كلّ مملوكيّة بل مملوكيّة الإنسان فالعبد هو من الإنسان أو كلّ ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.

٢٩

وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجدّ مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنّه تعالى يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم لا يستقلّون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والأفعال وساير ما ينسب إليهم من الأزواج والأولاد والمال والجاه وغيرها، فكلّ ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، وأثره، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقّه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنّما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أيّاًما كان وتمليكه فالله عزّ اسمه، هو الّذي أضاف نفوسهم وأعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، وهو الّذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهو الّذي خلق كلّ شئ وقدّره تقديراً.

فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه، وهو الحائل بين الشئ وبين كلّ ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حقّ فهو أقرب إلى خلقه من كلّ شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ) الواقعة - ٨٥، وقال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق - ١٦، وقال تعالى:( أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الأنفال - ٢٤، والقلب هو النفس المدركة.

وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكاً حقيقيّاً وكونهم عباداً له هو الموجب لكونه تعالى قريباً منهم على الإطلاق وأقرب إليهم من كلّ شئ عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كلّ تصرّف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي أنّ لله سبحانه أن يجيب أيّ دعاء دعى به أحد من خلقه ويرفع بالإعطاء والتصرّف حاجته الّتي سأله فيها فإنّ الملك عام، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيّد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: إنّ الله لمّا خلق الأشياء وقدّر التقادير تمّ الأمر، وخرج زمام التصرّف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأنّ الأمر مفروغ عنه. ولا كما يقوله جماعة من هذه الاُمّة: أن لا صنع لله في أفعال عباده وهم القدريّة الّذين سمّاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجوس هذه الاُمّة فيما رواه الفريقان من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدريّة مجوس هذه الاُمّة.

٣٠

بل الملك لله سبحانه على الإطلاق ولا يملك شئ شيئاً إلّا بتمليك منه سبحانه وإذن فما شائه وملكه وأذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملّك ولم يأذن فيه لا يقع وإن بذل في طريق وقوعه كلّ جهد وعناية، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥.

فقد تبيّن: أن قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب اُجيب دعوة الدّاع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عباداً لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم، وإطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكلّ دعاء دعي به فإنّه مجيبه إلّا أنّ ههنا أمراً وهو أنّه تعالى قيّد قوله: اُجيب دعوة الدّاع بقوله إذا دعان، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيّد بشئ يدلّ على اشتراط الحقيقة دون التجوّز والشبه، فإنّ قولنا: أصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالماً يدلّ على لزوم اتّصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الّذي يجب الإصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقّق بعلمه وعمل بما علم كان هو الّذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان، يدلّ على أنّ وعد الإجابة المطلقة، إنّما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطريّ والغريزيّ مواطئاً لسانه قلبه، فإنّ حقيقة الدعاء والسؤال هو الّذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الّذي يدور كيفما اُدير صدقاً أو كذباً جدّاً أو هزلاً حقيقة أو مجازاً، ولذلك ترى أنّه تعالى عدّ ما لا عمل للّسان فيه سؤالاً، قال تعالى:( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم - ٣٤، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لساناً فطريّاً وجوديّاً، وقال تعالى:( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن - ٢٩، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.

فالسؤال الفطريّ من الله سبحانه لا يتخطّى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين وهما الّذان ذكرهما بقوله: دعوة الدّاع إذا دعان.

٣١

فإمّا أن يكون لم يتحقّق هناك دعاء، وإنّما التبس الأمر على الداعي التباساً كأن يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر مثل أن يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميّت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لاُعيدت حياته ولكنّه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.

وإمّا أنّ السؤال متحقّق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلّق بالأسباب العاديّة أو باُمور وهميّة توهّمها كافية في أمره أو مؤثّرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإنّ الله الّذي يجيب الدعوات هو الّذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.

فهذا ملخّص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات النازلة في هذا الباب كقوله تعالى:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) الفرقان - ٧٧، وقوله تعالى:( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٤١، وقوله تعالى:( قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٦٤، فالآيات دالّة على أنّ للإنسان دعاء غريزيّا وسؤالاً فطريّاً يسأل به ربّه، غير أنّه إذا كان في رخاءٍ ورفاه تعلّقت نفسه بالأسباب فأشركها لربّه، فالتبس عليه الأمر وزعم أنّه لا يدعو ربّه ولا يسأل عنه، مع أنّه لا يسأل غيره فإنّه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولمّا وقع الشدّة وطارت الأسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبيّن له أن لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلّا الله، فعاد إلى توحيده الفطريّ ونسي كلّ سبب من الأسباب، ووجّه وجهه نحو الربّ الكريم فكشف شدّته وقضى حاجته وأظلّه بالرخاء، ثمّ إذا تلبّس به ثانياً عاد إلى ما كان عليه أوّلاً من الشرك والنسيان.

٣٢

وكقوله تعالى:( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) المؤمن - ٦٠، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة وتزيد على ذلك حيث تسمّي الدعآء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث أنّها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار إنّما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.

وبذلك يظهر معنى آيات اُخر من هذا الباب كقوله تعالى:( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن - ١٤، وقوله تعالى:( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف - ٥٦، وقوله تعالى:( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الأنبياء - ٩٠، وقوله تعالى:( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف - ٥٥، وقوله تعالى:( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا - إلى قوله -وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) مريم - ٤، وقوله تعالى:( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) الشورى - ٢٦، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على أركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطاة القلب اللسان والانقطاع عن كلّ سبب دون الله والتعلّق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرّع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك ممّا تشتمل عليه الروايات.

قوله تعالى: ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) تفريع على ما يدلّ عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: أنّ الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شئ، وهو ذو عناية بهم وبما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه - وصفته هذه الصفة - فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنّه قريب مجيب لعلّهم يرشدون في دعائه.

( بحث روائي)

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، وفي عدّة الداعي في الحديث القدسيّ: يا موسى سلني كلّ ما تحتاج إليه حتّى علف شاتك وملح عجينك.

٣٣

وفي المكارم عنهعليه‌السلام الدعاء أفضل من قرائة القرآن لأنّ الله عزّوجلّ قال:( قل ما يعبؤ بكم ربّي لو لا دعائكم) وروي ذلك عن الباقر والصادقعليهما‌السلام .

وفي عدّة الداعي في رواية محمّد بن عجلان عن محمّد بن عبيدالله بن عليّ بن الحسين عن ابن عمّه الصادق عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ آمل أمل غيري بالأياس ولأكسونّه ثوب المذلّة في الناس ولأبعدنّه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغنيّ الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلّقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ الحديث.

وفي عدّة الداعي أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم اُعطه وإن دعاني لم اُجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له.

أقول: وما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء وليس إبطالاً لسببيّة الأسباب الوجوديّة الّتي جعلها الله تعالى وسائل متوسّطة بين الأشياء وبين حوائجها الوجوديّة لا عللاً فيّاضة مستقلّة دون الله سبحانه، وللإنسان شعور باطنيّ بذلك فإنّه يشعر بفطرته أنّ لحاجته سبباً معطياً لا يتخلّف عنه فعله، ويشعر أيضاً أنّ كلّ ما يتوجّه إليه من الأسباب الظاهريّة يمكن أن يتخلّف عنه أثره فهو يشعر بأنّ المبدء الّذي يبتدئ عنه كلّ أمر، والركن الّذي يعتمد عليه ويركن إليه كلّ حاجة في تحقّقها ووجودها غير هذه الأسباب ولازم ذلك أن لا يركن الركون التامّ إلى شئ من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقيّ ويعتصم بذلك السبب الظاهريّ، والإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجّه والتفات فإذا سأل أو طلب شيئاً من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنّه سأل ربّه واتّصل حاجته - الّتي شعر بها بشعوره الباطنيّ من طريق الأسباب - إلى ربّه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطريّ باطنيّ وإنّما هو أمر صوّره له تخيّله لعلل اوجبت هذا التخيّل من غير

٣٤

شعور باطنيّ بالحاجة، وهذا من الموارد الّتي يخالف فيها الباطن الظاهر.

ونظير ذلك: أنّ الإنسان كثيراً ما يحبّ شيئاً ويهتمّ به حتّى إذا وقع وجده ضارّاً بما هو أنفع منه وأهمّ وأحبّ فترك الأوّل وأخذ بالثاني، وربّما هرب من شئ حتّى إذا صادفه وجده أنفع وخيراً ممّا كان يتحفّظ به فأخذ الأوّل وترك الثاني، فالصبيّ المريض إذا عرض عليه الدواء المرّ امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحّة، فهو بشعوره الباطنيّ الفطريّ يسأل الصحّة فيسأل الدواء وإن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطريّ والشعور الباطنيّ وله نظام آخر بحسب تخيّله والنظام الفطريّ لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط، وأمّا النظام التخيّليّ فكثيراً ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربّما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخياليّة شيئاً، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئاً آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرّر معنى الأحاديث، وهو اللّائح من قول عليّعليه‌السلام فيما سيأتي: أنّ العطيّة على قدر النيّة الحديث.

وفي عدّة الدّاعي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

وفي الحديث القدسيّ: أنا عند ظنّ عبدي بي، فلا يظنّ بي إلّا خيراً.

أقول: وذلك أنّ الدعاء مع اليأس أو التردّد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة كما مرّ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

وفي العدّة أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجئوا إليه في ملمّاتكم، وتضرّعوا إليه وادعوه، فإنّ الدعاء مخّ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب فإمّا أن يعجّله له في الدنيا أو يؤجّل له في الآخرة، وإمّا أن يكفّر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم.

وفي نهج البلاغة: في وصيّة لهعليه‌السلام لابنه الحسينعليه‌السلام : ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئآبيب رحمته، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النيّة، وربّما اُخرّت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت

٣٥

الشئ فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له.

اقول: قوله: فإنّ العطيّة على قدر النيّة يريدعليه‌السلام به: أنّ الاستجابة تطابق الدّعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الّذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنّ اللّفظ ربّما لا يطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة كما مرّ بيانه فهي أحسن جملة وأجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والإجابة.

وقد بيّنعليه‌السلام بها عدّة من الموارد الّتي يترآى فيها تخلّف الاستجابة عن الدعوة ظاهراً كالإبطاء في الإجابة، وتبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شئ آخر أصلح منه بحال السائل، فإنّ السّائل ربّما يسأل النعمة الهنيئة ولو اُوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لأنّ السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطؤ، وكذلك المؤمن المهتمّ بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم أنّ فيه سعادته وإنّما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.

وفي عدّة الداعي عن الباقرعليه‌السلام ما بسط عبد يده إلى الله عزّوجلّ إلّا استحيى الله أن يردّها صفراً حتّى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح بها على رأسه ووجهه، وفي خبر آخر على وجهه وصدره.

اقول: وقد روي في الدرّ المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدّة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبدالله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معلّلاً بأنّه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنّه تعالى فيها - تعالى عن ذلك وتقدّس.

٣٦

وهو قول فاسد، فإنّ حقيقة جميع العبادات البدنيّة هي تنزيل المعنى القلبيّ والتوجّه الباطنيّ إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادّة في قالب التجسّم، كما هو ظاهر في الصلاة والصوم والحجّ وغير ذلك وأجزائها وشرائطها، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنيّة، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجّه القلبيّ والمسألة الباطنيّة بمثل السؤال الّذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغنيّ المتعزّز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجتة بالذلّة والضراعة، وقد روى الشيخ في المجالس والأخبار مسنداً عن محمّد وزيد ابني عليّ بن الحسين عن أبيهما عن جدّهما الحسينعليه‌السلام عن النبيّ، وفي عدّة الداعي مرسلاً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.

وفي البحار عن عليّعليه‌السلام أنّه سمع رجلاً يقول: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، قالعليه‌السلام : أراك تتعوّذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى:( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ) ولكن قل: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن.

اقول: وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللّفظ وله نظائر في الروايات، وفيها: أنّ الحقّ في معنى كلّ لفظ هو الّذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك.

وفي عدّة الداعي عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه.

اقول: وفي العدة أيضاً عن عليّعليه‌السلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، والسرّ فيه عدم تحقّق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللّهو.

وفي دعوات الراونديّ: في التوراة يقول الله عزّوجلّ للعبد: إنّك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنّه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنّك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخّرتكما إلى يوم القيامة.

اقول: وذلك أنّ من سأل شيئاً لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكلّ ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه

٣٧

فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالماً لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبداً عوقب بما يريده على غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقّق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى:( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ) الإسراء - ١١.

وفي عدّة الداعي: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذرّ: يا أباذرّ ألا اُعلّمك كلمات ينفعك الله عزّوجلّ بهنّ؟ قلت بلى يا رسول الله، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أنّ الخلق كلّهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.

اقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة: يعني: ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتّى يستجيب دعائك في الشدّة ولا ينساك، وذلك أنّ من نسي ربّه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثمّ إذا دعا ربّه في الشدّة كان معنى عمله أنّه يذعن بالربوبيّة في حال الشدّة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو ربّ في كلّ حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربّه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق عن الصادقعليه‌السلام قالعليه‌السلام : من تقدّم في الدعاء اُستجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصوت لا نعرفه الحديث، وهو المستفاد من إطلاق قوله تعالى:( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة - ٦٧، ولا ينافي هذا ما ورد أنّ الدعاء لا يردّ مع الانقطاع، فإنّ مطلق الشدّة غير الانقطاع التامّ.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، إرشاد إلى التعلّق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإنّ هذه الأسباب العاديّة الّتي بين أيدينا إنّما سببيّتها محدودة على ما قدّر الله لها من الحدّ لا على ما يترآى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلّا الطريقيّة والوساطة في الإيصال، والأمر بيد الله تعالى، فإذن

٣٨

الواجب على العبد أن يتوجّه في حوائجه إلى جناب العزّة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب، وإن كان أبي الله أن يجري الاُمور إلّا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلّا بالله الّذي أفاض عليها السببيّة لا أنّها هداية إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكلّ ذلك أسباب؟

واعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنيّة فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باُذنه فمن يسأل ربّه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئاً من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير اُذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلّق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو باُذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفّل، وليس ذلك تقييداً للقدرة الإلهيّة غير المتناهية ولا سلباً للاختيار الواجبيّ، كما أنّ الانحصار الّذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعاً بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروريّ أنّ الإنسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون إلّا باليد، والرؤية والسمع هما الّذان يكونان بالعين والاُذن لا مطلقاً، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أنّ خصوصيّة الفعل يتوقّف على توسّط الأسباب فزيد مثلاً وهو فعل لله هو الإنسان الّذي ولّده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلّف واحد من هذه العلل والشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقّف على تحقّق جميعها، والمتوقّف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: وإذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلّة فهو بيان علّة قوله: وإذا سألت وسببه، والمعنى أنّ الحوادث مكتوبة مقدّرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأمّا هو تعالى: فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيّته نافذة وكلّ يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة بقوله: و

٣٩

لو أنّ الخلق كلّهم جهدوا الخ.

ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضاً إنّ الدعاء من القدر.

اقول: وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: أنّ الحاجة المدعوّ لها إمّا أن تكون مقضيّة مقدّرة أولا، وهي على الأوّل واجبة وعلى الثاني ممتنعة، وعلى أيّ حال لا معني لتأثير الدعاء، والجواب: أنّ فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن أسباب وجوده، والدعاء من أسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقّق سبب من أسباب الوجود فيتحقّق المسبّب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: إنّ الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات اُخر.

ففي البحار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لايردّ القضاء إلّا الدعاء.

وعن الصادقعليه‌السلام : الدعاء يردّ القضاء بعد ما اُبرم إبراماً.

وعن أبي الحسن موسىعليه‌السلام : عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء والطلب إلى الله عزّوجلّ يردّ البلاء، وقد قدّر وقضى فلم يبق إلّا إمضاؤه فإذا دعي الله وسأل صرف البلاء صرفاً.

وعن الصادقعليه‌السلام إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم وقد اُبرم إبراماً - فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يُفتح لصاحبه.

اقول: وفيها إشارة إلى الإصرار وهو من محقّقات الدعاء، فإنّ كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفائه.

وعن إسماعيل بن همّام عن أبي الحسنعليه‌السلام : دعوة العبد سرّاً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.

اقول: وفيها إشارة إلى إخفاء الدعاء وإسراره فإنّه أحفظ لإخلاص الطلب.

وفي المكارم عن الصادقعليه‌السلام : لا يزال الدعاء محجوباً حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً، من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا أستجيب له.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً - وقد قال له رجل من أصحابه إنّي لأجد آيتين في كتاب

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481