الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131703 / تحميل: 8010
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الّذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين،وثالثاً: أنّهم كانوا يرون حرمأنّها في عامّة الحقوق الّتي أمكن انتفاعها منها إلّا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيّمين بأمرها،ورابعاً: أنّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القويّ على الضعيف وبعبارة اُخرى قريحة الاستخدام، هذا في الاُمم غير المتمدّنة، وأمّا الاُمم المتمدّنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرّها، وربّما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الاُمم والأجيال.

( ماذا أبدعه الإسلام في أمرها)

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلّة والهوان حتّى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللّغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا ترى أمّة من الاُمم وحشيّها ومدنيّها إلّا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتّشبيه مربوطة بهذه اللّفظة (المرأة) يقرّع بها الجبان، ويؤنّب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذلّ المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:

وما أدري وليت إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

مئآت وألوف من النّظم والنثر في كلّ لغة.

وهذا في نفسه كافٍ في أن يحصّل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانيّة في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الاُمم والملل في أمرها، فإنّ الخصائل الروحيّة والجهات الوجوديّة في كلّ اُمّة تتجلّى في لغتها وآدابها.

ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهمّ بأمرها إلّا بعض ما في التوراة وما وصّى به عيسى بن مريمعليهما‌السلام من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.

٢٨١

وأمّا الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنّه أبدع في حقّها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بنية فطريّة عليها كانت الدنيا هدمتها من أوّل يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويّتها اعتقاداً وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.

أمّا هويّتها: فإنّه بيّن أنّ المرأة كالرجل إنسان وأنّ كلّ إنسان ذكراً أو اُنثى فإنّه إنسان يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر واُنثى ولا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات - ١٣، فجعل تعالى كلّ إنسان مأخوذاً مؤلّفاً من إنسانين ذكر واُنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادّة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكراً أو اُنثى مجموع المادّة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:

وإنّما اُمّهات الناس أوعية

ولا قال مثل ما قاله الآخر:

بنونا بنو ابنائنا وبناتنا

بنوهن ابناء الرجال الاباعد

بل جعل تعالى كلّاً مخلوقاً مؤلّفاً من كلّ. فعاد الكلّ أمثالاً، ولا بيان أتمّ ولا، أبلغ من هذا البيان، ثمّ جعل الفضل في التقوى.

وقال تعالى:( أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فصرّح أنّ السعي غير خائب والعمل غير مضيّع عند الله وعلّل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبّر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى، وهو أنّ الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ.

ثمّ بيّن بذلك أنّ عمل كلّ واحد من هذين الصنفين غير مضيّع عندالله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كلّ نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إنّ عليهن سيّئآتهنّ، وللرجال حسناتهنّ من منافع وجودهنّ، وسيجئ لهذا الكلام مزيد توضيح.

وإذا كان لكلّ منهما ما عمل ولا كرامة إلّا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة

٢٨٢

المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممّن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلّا للتقوى والفضيلة.

وفي معني الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وقوله تعالى:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المؤمن - ٤٠، وقوله تعالى:( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) النساء - ١٢٤.

وقد ذمّ الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذمّ:( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) النحل - ٥٩، ولم يكن تواريهم إلّا لعدّهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنّها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتّع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأوّل فيه فيما مرّ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال:( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) التكوير - ٩.

وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربّون، فتراهم يعدّون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصرّ، مع أنّ الإسلام قد جمع العار والقبح كلّه في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.

وأما وزنها الاجتماعي: فإنّ الإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالإرادة والعمل فأنّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانيّة في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى:( بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فلها أن تستقلّ بالإرادة ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجهما

٢٨٣

كما للرجل ذلك من غير فرق، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقّه القرآن والله يحقّ الحقّ بكلماته غير أنّه قرّر فيها خصلتين ميّزها بهما الصنع الإلهيّ:أحديهما: أنّها بمنزلة الحرث في تكوّن النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختصّ من الأحكام بمثل ما يختصّ به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل.والثانية: أنّ وجودها مبنيّ على لطافة البنية ورقّة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها والوظائف الإجتماعيّة المحوّلة إليها.

فهذا وزنها الاجتماعيّ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحلّ جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختصّ به أحدهما في الإسلام، قال تعالى:( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) النساء - ٣٢، يريد أنّ الأعمال الّتي يهديها كلّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، وأنّ من هذا الفضل ما تعيّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه متمنّ، ومنه ما لم يتعيّن إلّا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل الّتي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الّذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوّامون، على ما سيجئ بيانه.

وأما الأحكام المشتركة والمختصّة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العباديّة والحقوق الإجتماعيّة فلها أن تستقلّ فيما يستقلّ به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلّم ولا اقتناء حقّ ولا دفاع عن حقّ وغير ذلك إلّا في موارد يقتضى طباعها ذلك.

وعمدة هذه المورد: أنّها لا تتولّى الحكومة والقضاء، ولا تتولّى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتّع منها، وتدورك ما فاتها بأنّ نفقتها في الحياة على الرجل: الأب

٢٨٤

أو الزوج، وأنّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأنّ لها حقّ تربية الولد وحضانته.

وقد سهّل الله لها أنّها محمّية النفس والعرض حتّى عن سوء الذكر، وأنّ العبادة موضوعة عنها أيّام عادتها ونفاسها، وأنّها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّها لا يجب عليها في جانب العلم إلّا العلم باُصول المعارف والعلم بالفروع الدينيّة (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأمّا في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتّع به منها، وأمّا تنظيم الحياة - الفرديّة بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا - المداخلة في ما يصلح المجتمع العامّ كتعلّم العلوم واتّخاذ الصناعات والحرف المفيدة - للعامّة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شئ منذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلّها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهنّ، مع أنّ الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

والسنّة النبويّة تؤيّد ما ذكرناه، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيّدة النساء فاطمةعليها‌السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصىّ به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمّة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت عليّ وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهنّ على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلّنا نوفّق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائيّة المتعلّقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.

وأمّا الأساس الّذي بنيت عليه هذا الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعيّ كيفيّة هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحاً فنقول:

لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتّصل بها من المباحث العلميّة أنّ الوظائف الإجتماعيّة والتكاليف الاعتباريّة المتفرّعة عليها يجب انتهاؤها بالآخرة إلى الطبيعة، فخصوصيّة البنية الطبيعيّة الإنسانيّة هي الّتي هدت الإنسان إلى هذا

٢٨٥

الاجتماع النوعيّ الّذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحّة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعيّ ما يخرجه عن تمامه الطبيعيّ إلى نقص الخلقة، أو عن صحّته الطبيعيّة إلى السقم والعاهة.

فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي بالأخرة إلى الطبيعة وإن اختلف القسمان من حيث أنّ الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهيّ فبيّنه بأبدع البيان، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى - ٣، وقال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنّما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهّزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيّمة بسعادة الإنسان هي الّتي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تامّاً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهائاً صحيحاً، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم - ٣٠.

والّذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الإجتماعيّة بين الأفراد - على أنّ الجميع إنسان ذو فطرة بشريّة - أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية الّتي يحكم بها العدل الاجتماعيّ أن يبذل كلّ مقام اجتماعيّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبيّ مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القويّ المتقدر من الشؤون والدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لحالهما معاً.

٢٨٦

بل الّذي يقتضيه العدل الاجتماعيّ ويفسّر به معنى التسوية: أن يعطى كلّ ذي حقّ حقّه وينزّل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنّما هو في نيل كلّ ذي حقّ خصوص حقّه من غير أن يزاحم حقّ حقّاً، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكّماً ونحو ذلك، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى: ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة الآية، كما مرّ بيانه، فإنّ الآية تصرّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهنّ وبين الرجال.

ثمّ إنّ اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في اُصول المواهب الوجوديّة أعني، الفكر والإرادة المولّدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرّيّة الفكر والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرّف في جميع شؤون حياتها الفرديّة والإجتماعيّة عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرّيّة على أتمّ الوجوه كما سمعت فيما تقدّم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلّة بنفسها منفكّة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى:( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) الآية، البقرة - ٢٣٤.

لكنّها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اُخرى، فإنّ المتوسّطة من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال في الخصوصيّات الكماليّة من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أنّ جسمها ألطف وأنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنّ الإحساسات اللطيفة كالحبّ ورقّة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أنّ التعقّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسيّة كما أنّ حياة الرجل حياة تعقّليّة.br> ولذلك فرّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامّة الإجتماعيّة الّتي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقّل، والإحساس فخصّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقّل والحياة التعقّليّة إنّما هي للرجل دون المرأة، و

٢٨٧

خصّ مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثمّ تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أنّ ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنّما هو للرجال لغلبة تعقّلهم، والانتفاع والتمتّع الغالب للنساء لغلبة إحساسهنّ. وسنزيده إيضاحاً في الكلام على آيات الإرث إنشاء الله تعالى) ثمّ تمّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حقّ المرأة مرّت الإشارة إليها.

فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإنّ ارتفاع الحاجة الضروريّة إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمّل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نمائاً رديّاً وتنبت نباتاً سيّئاً غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدّت التجربة ذلك.

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة الّتي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر، والّذي اُصيب به الإسلام في مدّة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوّام المجاهدين فارتدّت بذلك أنفس الأحكام، وتوقّفت التربية ثمّ رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعيّ: أنّ مجرّد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيّمين باُمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إنّي ما كنت اُقاتلكم لتصلّوا أو تصوموا فذلك إليكم وإنّما كنت اُقاتلكم لأتأمّر عليكم وقد فعلت، وهذا غيره من الاُمويّين والعبّاسيّين فمن دونهم. ولو لا استضائة هذا الدين بنور الله الّذي لا يطفأ والله متمّ نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.

٢٨٨

( حرية المرأة في المدنيّة الغربية)

لا شكّ أنّ الإسلام له التقدّم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسارة، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ اُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلّدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثّرة أتمّ التأثير في سلسلة السير الإجتماعيّة وهي متوسّطة متخلّلة، ومن المحال أن يتّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخّر الكماليّ بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.

والرأي العامّ عندهم تقريباً: أنّ تأخّر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية الّتي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.

ويتوجّه عليه: أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوّنه قضى على تأخّرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.

ويؤيّد ذلك أنّ المدنيّة الغربيّة مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدّم الرجال وتؤخّر النساء، وأمّا ما الّذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسّر لنا منه في محلّه إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي آخر)

عمل النكاح من اُصول الأعمال الإجتماعيّة، والبشر منذ أوّل تكوّنه وتكثّره حتّى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعيّ، وقد عرفت أنّ هذه الأعمال لا بدّ لها من أصل طبيعيّ ترجع إليه ابتدائاً أو بالأخرة.

٢٨٩

وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاُناث إذ من البيّن أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاُناث - لم يوضع هبائاً باطلاً، ومن البيّن عند كلّ من أجاد التأمّل أنّ طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلّا الاُناث وكذا العكس، وأنّ هذا التجهيز لا غاية له إلّا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلّقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، ووضع عليه أحكام العفّة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدّة والأولاد والإرث ونحو ذلك.

وأمّا القوانين الاُخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلديّ ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرّضة لشئ ممّا تعرّض له الإسلام من أحكام العفّة ونحو ذلك.

وهذا البناء على ما يتفرّع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الإجتماعيّة على ما سنبيّن إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً، فإنّ غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعيّ إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أنّ بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى اُمور كثيرة وأعمال شتّى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً إلّا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصّة المتعلّق كلّ واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال متفرّقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال.

وهذا الداعي إنّما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيّاً ما كانا وأمّا الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيويّ انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعيّ للتناسل والتوالد إلى غيره ممّا لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.

ولو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في

٢٩٠

الحياة كان من اللازم أن لا يختصّ أمر الازدواج من الأحكام الإجتماعيّة بشئ أصلاً إلّا الأحكام العامّة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفّة رأساً وإبطال أحكام الأنساب والمواريث كما التزمته الشيوعيّة، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطريّة الّتي جهّز بها الذكور والاُناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحاً في محلّ يناسبه إنشاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، وأمّا الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلاميّة، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدلّ على المنع عنه، وأمّا خصوصيّات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز.

وقد اضطرّت الملل المعظّمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنيّة بعد ما لم يكن.

٢٩١

( سورة البقرة آية ٢٤٣)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( ٢٤٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ) ، الرؤية ههنا بمعنى العلم، عبّر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعدّ فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إبراهيم - ١٩، وقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) النوح - ١٥.

وقد ذكر الزمخشريّ أنّ لفظ ألم تر جري مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه إلّا تعجب لكذا وكذا، وحذر الموت مفعول له، ويمكن أن يكون مفعولاً مطلقاً والتقدير يحذرون الموت حذراً.

قوله تعالى: ( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، الأمر تكوينيّ ولا ينافي كون موتهم واقعاً عن مجرىّ طبيعيّ كما ورد في الروايات: أنّ ذلك كان بالطاعون، وإنّما عبّر بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثمّ أحياهم ليكون أدلّ على نفوذ القدرة وغلبة الأمر، فإنّ التعبير بالإنشاء في التكوينيّات أقوى وآكد من التعبير بالإخبار كما أنّ التعبير بصورة الإخبار الدالّ على الوقوع في التشريعيّات أقوى وآكد من الإنشاء، ولا يخلو قوله تعالى: ثمّ أحياهم عن الدلالة على أنّ الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجّة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصّة أصحاب الكهف، على أنّ قوله تعالى بعد: إنّ الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك أيضاً.

قوله تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) ، الإظهار في موضع الإضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانياً لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أنّ

٢٩٢

هؤلاء الّذين تفضّل الله عليهم بالإحياء طائفة خاصّة، وليس المراد كون الأكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرّضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملّة بعد موتها.

وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ الآية مثل ضربه الله لحال الاُمّة في تأخّرها وموتها باستخزاء الأجانب إيّاها ببسط السلطة والسيطرة عليها، ثمّ حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيويّة واستقلالها في حكومتها على نفسها.

قال ما حاصله: أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان قصّة من قصص بني إسرائيل كما يدلّ عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من بني إسرائيل، وإلى النبيّ الّذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أنّ الآية خالية عن ذلك، على أنّ التوراة أيضاً لم تتعرّض لذلك في قصص حزقيل النبيّ على نبيّنا وآله و عليه السلام فليست الروايات إلّا من الاسرائيليّات الّتي دستها اليهود، مع أنّ الموت والحياة الدنيويّتين ليستا إلّا موتاً واحداً أو حياة واحدة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، والمراد بها قوم هجم عليهم أولوا القدرة والقوّة من أعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكّم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا من ديارهم وهم اُلوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل، فإنّ الجهل والخمود موت كما أنّ العلم وإباء الضيم حياة، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، وقال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢.

وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكّن الأعداء منهم ويبقون أمواتاً، ثمّ أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في

٢٩٣

أمرهم، وهؤلاء الّذين أحياهم الله وإن كانوا بحسب الأشخاص غير الّذين أماتهم الله إلّا أنّ الجميع اُمّة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين، وقد عدّ الله تعالى القوم واحداً مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل:( أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) الاعراف - ١٤١، وقوله تعالى:( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) البقرة - ٥٦، ولو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقاً للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخّصاً.

وهذا الكلام كما ترى مبني >أوّلاً: على إنكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مرّ اثباتها، على أنّ ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك ممّا لا يمكن إنكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحّته من طريق العقل.

وثانياً: على دعوى أنّ القرآن يدلّ على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدلّ بمثل قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١.

وفيه أنّ جميع الآيات الدالّة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في ردّ ما ذكره، على أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلّل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصّة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتدّ، والمراد بما أورده من الآيات الدلالة على نوع الحياة.

وثالثاً: على أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان القصّة لتعرّضت لتعيين قومهم وتشخيص النبيّ الّذي أحياهم.

وأنت تعلم أنّ مذاهب البلاغة مختلفة متشتّة، والكلام كما ربّما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) البروج - ٧، وقوله تعالى:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) الاعراف - ١٨١.

٢٩٤

ورابعاً: على أنّ الآية لو لم تحمّل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى، وأنت تعلم أنّ نزول القرآن نجوماً يغني عن كلّ تكلّف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض إلّا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتّصال على ما هو شأن الكلام البليغ.

فالحقّ أنّ الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصّة، وليت شعري أيّ بلاغة في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاماً لا يرى أكثر الناظرين فيه إلّا أنّه قصّة من قصص الماضين، وهو في الحقيقة تمثيل مبنيّ على التخييل من غير حقيقة.

مع أنّ دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله:( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ) البقرة - ١٧، وقوله:( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يونس - ٢٤، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا ) الجمعة - ٥، إلى غير ذلك.

( بحث روائي)

في الاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام في حديث قالعليه‌السلام : أحيى الله قوماً خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهراً طويلاً حتّى بليت عظامهم، وتقطّعت أوصالهم، وصاروا تراباً، فبعث الله في وقت أحبّ أن يرى خلقه نبيّاً يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لايفتقدون في أعدادهم رجلاً فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً.

أقول: وروي هذا المعنى الكلينيّ والعيّاشيّ بنحو أبسط، وفي آخره: وفيهم نزلت هذه الآية.

٢٩٥

( سورة البقرة آية ٢٤٤ - ٢٥٢)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٤ ) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٤٥ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٢٤٦ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٧ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٤٨ ) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ

٢٩٦

الصَّابِرِينَ ( ٢٤٩ ) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٢٥٠ ) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٢٥١ ) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢٥٢ )

( بيان)

الاتّصال البيّن بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، والترغيب في القرض الحسن، والمعنى المحصل من قصّة طالوت وداود وجالوت يعطي أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة، والروح الذي به تقدم الاُمّة في حياتهم الدينيّة، والدنيويّة، وسعادتهم الحقيقيّة، يبيّن سبحانه فيها فرض الجهاد، ويدعو إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدّة والقوّة، وسماه إقراضاً لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال والإيذان بالقرب، ثمّ يقصّ قصّة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا أنّ الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما، والخزى والفناء للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، وهم أصحاب القصّة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني، فلمّا قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحقّ وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولّى اكثرهم عند إنجاز القتال أولاً، وبالاعتراض على طالوت ثانياً، وبالشرب من النهر ثالثاً، وبقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعاً، نصرهم الله تعالى على عدوّهم فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واستقرّ الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع إليهم سؤددهم وقوّتهم، ولم يكن ذلك كلّه إلّا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهي قولهم: ربّنا افرغ علينا صبراً وانصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الاعلون إن كانوا مؤمنين.

٢٩٧

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الآية، فرض وأيجاب للجهاد، وقد قيده تعالى ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلّا يسبق إلى الوهم ولا يستقرّ في الخيال أنّ هذه الوظيفة الدينيّة المهمّة لايجاد السلطة الدنيويّة الجافّة، وتوسعة المملكة الصوريّة، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدّم الإسلاميّ من الإجتماعيّين وغيرهم، بل هو التوسعة سلطة الدين الّتي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم. وفي قوله تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشئ، ولا يضمروا نفاقاً كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلّموا في أمر طالوت فقالوا: أنّى يكون له الملك علينا الخ، وحيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وحيث فشلوا وتولّوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.

قوله تعالى: ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا - إلى قوله -أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) ، القرض معروف وقد عدّ الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضاً لنفسه لما مرّ أنّه للترغيب، ولأنّه إنفاق في سبيله، ولأنّه ممّا سيردّ إليهم اضعافاً مضاعفة.

وقد غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: وقاتلوا في سبيل الله: من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً، ولم يقل: قاتلوا في سبيل الله واقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيّز الأمر غير الخالي من كلفة التكليف إلى حيّز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، القبض الأخذ بالشئ إليك ويقابله البسط، والبصط هو البسط قلب سينه صاداً لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء. وايراد صفاته الثلاث أعني: كونه قابضاً وباسطاً ومرجعاً يرجعون إليه للاشعار بأنّ ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلاً ولا يستبعد تضعيفه اضعافاً كثيرة فإنّ الله هو القابض الباسط، ينقصّ ما شاء، ويزيد ما شاء، وإليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ - إلى قوله -فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، الملا كما قيل: الجماعة من الناس على رأى واحد، سميت بالملا لكونها تملا العيون عظمة

٢٩٨

وأبهة. وقولهم لنبيّهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدلّ على أنّ الملك المسمّى بجالوت كان قد تملكهم، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلّة من الديار والأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه، وبلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى انفسهم العصبيّة الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملا منهم نبيّهم أن يبعث لهم ملكاً ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرّقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.

قوله تعالى: ( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ) ، كان بنوا إسرائيل سألوا نبيّهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبيّ بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، ولذلك ارجع نبيّهم الأمر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى، ولم يصرح باسمه تعظيماً لأنّ الّذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزّه اسمه تعالى من التصريح به بل إنّما أشار إلى أنّ الأمر منه وإليه تعالى بقوله: إن كتب، والكتابة وهي الفرض إنّما تكون من الله تعالى.

وقد كانت المخالفة والتولّي عن القتال مرجوا منهم لكنّه أورده بطريق الاستفهام ليتمّ الحجّة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: ومالنا أن لا نقاتل في سبيل الله.

قوله تعالى: ( الُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ) ، الاخراج من البلاد لما كان ملازماً للتفرّقة بينهم وبين أوطانهم المألوفه، ومنعهم عن التصرّف فيها والتمتّع بها، كنّي به عن مطلق التصرّف والتمتّع، ولذلك نسب الاخراج إلى الابناء أيضاً كما نسب إلى البلاد.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، تفريع على قول نبيّهم: هل عسيتم الخ، وقولهم: وما لنا أن لا نقاتل، وفي قوله تعالى: والله عليم بالظّالمين، دلالة على أن قول نبيّهم لهم: هل عسيتم أن كتب عليكم القتال إلّا تقاتلوا، إنّما كان لوحى من الله سبحانه: أنّهم سيتولّون عن القتال.

٢٩٩

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ - إلى قوله -مِّنَ الْمَالِ ) ، في جوابهعليه‌السلام هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيّهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا: أسأل الله أن يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال.

وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الإعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه، ومن المعلوم أن قولهم هذا لنبيّهم، ولم يستدلّوا على كونهم أحقّ بالملك منه بشئ يدلّ على أن دليله كان أمراً بيناً لا يحتاج إلى الذكر، وليس إلّا أن بيت النبوّة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوّة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، وبعبارة اُخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولأمن بيت النبوّة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوّة معاً، أحقّ بالملك منه لأنّ الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفى البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: إنّ الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، والصفة الثانية ما في قولهم: ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيراً، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: وزاده بسطة في العلم والجسم الخ.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) ، الاصطفاء والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو، والبسطة هي السعة والقدرة، وهذان جوابان عن اعتراضهم.

أمّا اعتراضهم بكونهم أحقّ بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أنّ هذه مزيّة كان الله سبحانه خصّ بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحقّ بالملك منهم، وكان الشرف والتقدّم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم، فإنّما الفضل يتّبع تفضيله تعالى.

وأمّا اعتراضهم بأنّه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أنّ الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرّ الوحيد منه أن يتلائم الإرادات المتفرّقة

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481