الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137310 / تحميل: 8769
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحدّ الازمة باتّصالها بزمام واحد فيسير بذالك فرد من غير حقّ، ولا يتأخّر فرد من غير حقّ.

وبالجملة الغرض من الملك أن يدبّر صاحبه المجتمع تدبيراً يوصل كلّ فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، ويدفع كلّ ما يمانع ذلك، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران:

أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها،

وثانيهما: القدرة الجسميّة على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، وهما اللّذان يشير إليهما قوله تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم، وأمّا سعة المال فعدّه من مقومات الملك من الجهل.

ثمّ جمع الجميع تحت حجّة واحدة ذكرها بقوله تعالى: والله يؤت ملكه من يشاء، وهو أنّ الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلّا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، وإذا كان كذالك فله تعالى التصرّف في ملكه كيف شاء وأراد، ليس لأحد أن يقول: لماذا أو بماذا (أي أن يسأل عن علّة التصرّف لأنّ الله تعالى هو السبب المطلق، ولا عن متمّم العليّة واداة الفعل لأنّ الله تعالى تامّ لا يحتاج لامتمّم) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت إلى بيت، أو تقليده أحداً ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع والمال.

والايتاء والإفاضة الإلهيّة وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنّها مع ذلك لا تقع جزافاً خالية عن الحكم والمصالح، فإنّ المقصود من قولنا: إنّه تعالى يفعل ميشاء، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أنّ الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنّه يفعل فعلاً فإنّ اتّفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار جزافاً ولا محذور لأنّ الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإنّ هذا ممّا يبطله الظواهر الدينيّة والبراهين العقليّة.

بل المقصود بذلك: أنّ الله سبحانه حيث ينتهي إليه كلّ خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقه له تعالى، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهوراً لمصلحة من المصالح محكوماً بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا فعل سبحانه

٣٠١

فعلاً أو خلق خلقاً ولا يفعل إلّا الجميل، ولا يخلق إلّا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيّاً فيه صلاح العباد غير أنّه تعالى غير محكوم ولامقهور للمصلحة.

ومن هنا صحّ اجتماع هذا التعليل مع ما تقدّمه، أعني اجتماع قوله تعالى: والله يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، فإنّ الحجّة الاُولى مشتملة على التعليل بالمصالح والأسباب، والحجّة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، ولو لا أن إطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصحّ الجمع بين الكلامين فضلاً عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.

وقد أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذئيل الآية بقوله تعالى: والله واسع عليم فإنّ الواسع يدلّ على عدم ممنوعيّته تعالى عن فعل وإيتاء أصلاً والعليم يدلّ على أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كلّ ما يشاء ولا يفعل إلّا فعلا ذا مصلحة.

والوسعة والسعة في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكّن كسعة الاناء لما يصب فيه، والصندوق لما يوضع فيه، والدار لمن يحلّ فيها ثمّ استعير للغنى ولكن لا كلّ غنىّ ومن كلّ جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كأن المال يسع بذل ما اُريد بذله، وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غنيّ لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك.

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) ، التابوت هو الصندوق، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأنّ الإنسان يرجع إلى الصندوق رجوعاً بعد رجوع.

( كلام في معنى السكينة)

والسكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار الإنسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الإنسان الحكيم (من الحكمة بإصطلاح فنّ الأخلاق) صاحب العزيمة في أفعاله، والله سبحانه جعلها من

٣٠٢

خواص الإيمان في مرتبة كماله، وعدها من مواهبه السامية.

بيان ذلك: أنّ الإنسان بغريزته الفطريّة يصدر أفعاله عن التعقّل، وهو تنظيم مقدّمات عقليّة مشتملة على مصالح الأافعال، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه، ثمّ استنتاج ما ينبغي أن يفعله وما ينبغي أن يتركه.

وهذا العمل الفكريّ إذا جرى الانسان على اسلوب فطرته ولم يقصد إلّا ما ينفعه نفعاً حقيقيّاً في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب وتزلزل، وأمّا إذا أخلد الانسان في حياته إلى الأرض واتّبع الهوى اختلط عليه الأمر، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في أفكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة، وتردّده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الاُمور وهزاهزها أخرى.

والمؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرّك وركن لا ينهدم.

بانياً اُموره على معارف حقّة لاتقبّل الشكّ والريب، مقدّماً في أعماله عن تكليف إلهيّ لا يرتاب فيها، ليس إليه من الأمر شئ حتّى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شرّه.

و أمّا غير المؤمن فلا ولي له يتولّى أمره، بل خيره و شرّه يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الأفكار الّتي تهجم عليه من كلّ جانب من طريق الهوى و الخيال و الإحساسات المشؤمة، قال تعالى:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران- ٦٨ و قال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمد- ١١ و قال تعالى:( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) البقرة- ٢٥٧ و قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف- ٢٧، و قال تعالى:( ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ) آل عمران- ١٧٥ و قال تعالى:( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً ) البقرة- ٢٦٨ و قال تعالى:( وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا - إلى أن قال -وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ) النساء- ١٢٢، و قال تعالى:

٣٠٣

( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) يونس- ٦٢ و الآيات كما ترى تضع كلّ خوف و حزن و اضطراب و غرور في جانب الكفر، و ما يقابلها من الصفات في جانب الإيمان.

و قد بين الأمر أوضح من ذلك بقوله تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الأنعام- ١٢٢ فدلّ على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعاً في الظلمات لا يبصر شيئاً، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، و يدرك به خيره و شرّه، و ذلك لأنّ الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته الّتي يشاركه فيها الكافر، و تلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به، و في معناه قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد- ٢٨.

ثمّ قال تعالى:( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) المجادلة- ٢٢ فأفاد أنّ هذه الحياة إنّما هي بروح منه، و تلازم لزوم الإيمان و استقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيّدون بروح من الله تستتبع استقرار الإيمان في قلوبهم، و الحياة الجديدة في قوالبهم، و النور المضي‏ء قدامهم.

و هذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الفتح- ٤ فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة و ازدياد الإيمان على الإيمان في هذه على كتابة الإيمان في تلك، و يؤيّد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية:( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، فإنّ القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة و الروح.

و يقرب من هذه الآية سياقاً قوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ) ، الفتح- ٢٦ و كذا قوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) التوبة- ٤٠.

و قد ظهر ممّا مرّ أنّه يمكن أن يستفاد من كلامه تعالى أنّ السكينة روح إلهي أو

٣٠٤

تستلزم روحاً إلهيّاً من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب و استقرار النفس و ربط الجأش، و من المعلوم أنّ ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر و استعمال السكينة الّتي هي بمعنى سكون القلب و عدم اضطرابه في الروح الإلهيّ، و بهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات.

قوله تعالى: ( وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) إلخ، آل الرجل خاصّته من أهله و يدخل فيهم نفسه إذا أطلق، فآل موسى و آل هارون هم موسى و هارون و خاصّتهما من أهلهما، و قوله:( تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، حال عن التابوت، و في قوله تعالى:( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ، كسياق صدر الآية دلالة على أنّهم سألوا نبيّهم آية على صدق ما أخبر به:( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ٍ - إلى قوله -مِّنْهُمْ ) ، الفصل ههنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى:( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) يوسف- ٩٤ و ربّما استعمل بمعنى القطع و هو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى:( وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) الأنعام- ٥٧، فالكلمة ممّا يتعدّى و لا يتعدّى.

و الجند المجتمع الغليظ من كلّ شي‏ء و سمّي العسكر جنداً لتراكم الأشخاص فيه و غلظتهم، و في جمع الجند في الكلام دلالة على أنّهم كانوا من الكثرة على حدّ يعتنى به و خاصّة مع ما فيه المؤمنين من القلّة بعد جواز النهر و تفرّق الناس، و نظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى:( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِِ ) .

و في مجموع الكلام إشارة إلى حقّ الأمر في شأن بني إسرائيل و إيفائهم بميثاق الله، فإنّهم سألوا بعث الملك جميعاً و شدوا الميثاق، و قد كانوا من الكثرة بحيث لما تولّوا إلّا قليلاً منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنوداً و هذه الجنود، أيضاً لم تغن عنهم شيئاً بل تخلفوا بشرب النهر و لم يبق إلّا القليل من القليل مع شائبة فشل و نفاق بينهم من جهة المغترفين، و مع ذلك كان النصر للّذين آمنوا و صبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة.

و الابتلاء الامتحان، و النهر مجرى الماء الفائض، و الاغتراف و الغرف رفع الشي‏ء و تناوله، يقال: غرف الماء غرفة و اغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله و يشربه.

٣٠٥

و في استثناء قوله تعالى:( إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ) عن مطلق الشرب دلالة على أنّه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصّة، و قد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب منه فليس منّي إلّا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى:( وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) ، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم و معناه الذوق أوجب تحوّلاً في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أنّ جميع الجنود كانوا من طالوت، و الشرب يوجب انقطاع جمع منه و الاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتّصال و أمّا لو أضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى:( وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) إلى الجملة الأولى كان مفاد الكلام أنّ الأمر غير مستقرّ بحسب الحقيقة بعد إلّا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقّق بعد أنّ الّذين هم مع طالوت من هم، ثمّ النهر الّذي سيبتليهم الله به سيحقّق كلا الفريقين و يشخصّهما فيعيّن به من ليس منه و هو من شرب من النهر، و يتعيّن به من هو منه و هو من لم يطعمه، و إذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء إلّا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لأنّ ذلك إنّما كان مفاداً لو كان المذكور هناك الجملة الأولى فقط، و أمّا مع وجود الجملتين فيتعيّن الطائفتان: أعني الّذين ليسوا منه و هم الشاربون، و الّذين هم منه و هم غير الطاعمين، و من المعلوم أنّ الإخراج من الطائفة الأولى إنّما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية، و لازم ذلك أنّ الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الّذين ليسوا منه، و الّذين هم منه، و المغترفون، و على هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الّذين هم منه، و الّذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر و الجزع و الاعتماد بالله و القلق و الاضطراب.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) إلى آخر الآية، الفئة القطعة من الناس، و التدبّر في الآيات يعطي أن يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون، و المجيبون لهم هم الّذين لم يطعموه أصلاً، و الظنّ بلقاء الله إمّا بمعنى اليقين به و إمّا كناية عن الخشوع.

و لم يقولوا: يمكن أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا:( كَم مِّن فِئَةٍ )

٣٠٦

إلخ، أخذاً بالواقع في الاحتجاج بآرائه المصداق ليكون أقنع للخصم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِِ ) إلخ، البروز هو الظهور، و منه البراز و هو الظهور للحرب، و الإفراغ صب نحو المادّة السيالة في القالب و المراد إفاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيّتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، و كذا تثبيت الأقدام كناية عن الثبات و عدم الفرار.

قوله تعالى: ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ ) إلخ، الهزم الدفع.

قوله تعالى: ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ) إلى آخر الآية، من المعلوم أنّ المراد بفساد الأرض فساد من على الأرض أي فساد الاجتماع الإنسانيّ و لو استتبع فساد الاجتماع فساداً في أديم الأرض فإنّما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، و هذه حقيقة من الحقائق العلميّة ينبه لها القرآن.

بيان ذلك: أنّ سعادة هذه النوع لا تتمّ إلّا بالاجتماع و التعاون. و من المعلوم أنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتّحد أعضاء الاجتماع و أجزاؤه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل و ينفعل عن نفس واحدة و بدن واحد، و الوحدة الاجتماعيّة و مركّبها الّذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعيّة الّتي في الكون و مركّبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود، و من المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنّما هي نتيجة التأثير و التأثّر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الأسباب التكوينيّة و غلبة بعضها على بعض و اندفاع بعضها الآخر عنه و مغلوبيّتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض بل بقي كلّ على فعليّته الّتي هي له، و عند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.

كذلك نظام الاجتماع الإنسانيّ لو لم يقم على أساس التأثير و التأثّر، و الدفع و الغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، و لم يتحقّق حينئذ نظام و بطلت سعادة النوع، فإنّا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، و هو الغلبة و تحميل الإرادة من البين كان كلّ فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلاً ينافي منافع الآخر (سواء منافعه المشروعة أو غيرها) لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه و يلائمها و هكذا، و بذلك تنقطع

٣٠٧

الوحدة من بين الأجزاء و بطل الاجتماع، و هذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مرّ: أنّ الأصل الأوّل الفطريّ للإنسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، و أمّا التعاون و المدنيّة فمتفرّع عليه و أصل ثانويّ، و قد مرّ تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة- ٢١٣.

و في الحقيقة معنى الدفع و الغلبة معنى عامّ سار في جميع شئون الاجتماع الإنسانيّ و حقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الإنسان، و دفعه عمّا يزاحمه و يمانعه عليه، و هذا معنى عامّ موجود في الحرب و السلم معاً، و في الشدّة و الرخاء، و الراحة و العناء جميعاً، و بين جميع الأفراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنّما يتنبّه الإنسان له عند ظهور المخالفة و مزاحمة بعض الأفراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات و الميول و نحوها، فيشرع الإنسان في دفع الإنسان المزاحم الممانع عن حقّه أو عن مشتهاه و معلوم أنّ هذا على مراتب ضعيفة و شديدة، و القتال و الحرب إحدى مراتبه.

و أنت تعلم أنّ هذه الحقيقة أعني كون الدفع و الغلبة من الأصول الفطريّة عند الإنسان أصل فطريّ أعمّ من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حقّ مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الإنسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقّق منه، لا دفاع مشروع على الحقّ لا غيره، فإنّ أعمال الإنسان تستند إلى فطرته كما مرّ بيانه سابقاً فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن و الكافر لم يمكن أن يختصّ المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.

و هذا الأصل الفطريّ ينتفع به الإنسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مرّ من البيان، ثمّ ينتفع به في تحميل إرادته على غيره و تمالك ما بيده تغلّباً و بغياً، و ينتفع به في دفعه و استرداد ما تملّكه تغلّباً و بغياً، و ينتفع به في إحياء الحقّ بعد موته جهلاً بين الناس و تحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطريّ ينتفع به الإنسان أكثر ممّا يستضر به.

و هذا الذي ذكرناه( لَعَلَّهُمْ ) هو المراد بقوله تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) ، و يؤيّد ذلك تذييله بقوله تعالى:( وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى

٣٠٨

الْعَالَمِينَ ) .

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أنّ المورد أيضاً كذلك و ربّما أيّده أيضا قوله تعالى:( لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ ) الحجّ- ٤٠.

و فيه أنّه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أنّ المراد بصلاح الأرض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاصّ الموجود في أحيان يسيرة كقصّة طالوت و قصص اُخرى يسيرة معدودة.

و ربّما ذكر آخرون: أنّ المراد بها دفع الله العذاب و الهلاك عن الفاجر بسبب البرّ، و قد وردت فيه من طرق العامّة و الخاصّة روايات كما في المجمع، و الدرّ المنثور، عن جابر، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده - و ولد ولده و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم‏، و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إنّ الله ليدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا - و لو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، و إنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكي - و لو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، و إنّ الله ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ - و لو اجتمعوا على ترك الحجّ لهلكوا الحديث، و مثلهما غيرهما.

و فيه: أنّ عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين ممّا لا يخفى إلّا أن تنطبق عليهما من جهة أنّ موردهما أيضاً من مصاديق دفع الناس.

و ربّما ذكر بعضهم: أنّ المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ) إلخ، كالخاتمة يختمّ بها الكلام و القصّة غير أنّ آخر الآية:( وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.

( بحث روائي)

في الدر المنثور أخرج عبدالرزّاق و ابن جرير عن زيد بن أسلم، قال: لمّا نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية، جاء أبو الدحداح إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٠٩

فقال: يا نبي الله، أ لا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا- و إن لي أرضين: إحداهما بالعالية و الأخرى بالسافلة، و إني قد جعلت خيرهما صدقة، و كان النبي ص يقول: كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة.

أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة.

و في المعاني، عن الصادقعليه‌السلام : لما نزلت هذه الآية: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها- قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ زدني فأنزل الله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ زدني فأنزل الله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً، فعلم رسول الله أنّ الكثير من الله لا يحصى و ليس له منتهى.

أقول: و روى الطبرسيّ في المجمع، و العيّاشيّ في تفسيره نظيره و روي قريب منه من طرق أهل السنّة أيضاً، قولهعليه‌السلام : فعلم رسول الله، يومئ إليه آخر الآية:( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ) ، إذ لا حدّ يحدّ عطاءه تعالى، و قد قال:( وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الإسراء- ٢٠.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الحسنعليه‌السلام : في الآية، قال: هي صلة الإمام.

أقول: و روي مثله في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام و هو من باب عد المصداق و في المجمع في قوله تعالى:( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ) الآية هو إشموئيل، و هو بالعربيّة إسماعيل.

أقول: و هو مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً و شموئيل هو الّذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل.

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبيّ عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام : أن بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي، و غيروا دين الله، و عتوا عن أمر ربّهم، و كان فيهم نبيّ يأمرهم

٣١٠

و ينهاهم فلم يطيعوه، و روي أنّه أرميا النبيّ على نبيّنا و آله و عليه السلام فسلط الله عليهم جالوت و هو من القبط، فأذلّهم و قتل رجالهم و أخرجهم من ديارهم و أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيّهم، و قالوا: سلّ الله أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله و كانت النبوّة في بني إسرائيل في بيت، و الملك و السلطان في بيت آخر، و لم يجمع الله النبوّة و الملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيّهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا من ديارنا و أبنائنا، فكان كما قال الله:( لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، فقال لهم نبيّهم: إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، فغضبوا من ذلك و قالوا: أنّى يكون له الملك علينا؟ و نحن أحق بالملك منه و لم يؤت سعة من المال، و كانت النبوّة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و كان طالوت من ولد إبنيامين أخي يوسف لاُمّه و أبيه، و لم يكن من بيت النبوّة و لا من بيت المملكة، فقال لهم نبيّهم: إنّ الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم، و كان أعظمهم جسماً و كان قويّاً و كان أعلمهم، إلّا أنّه كان فقيراً فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيّهم: إنّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم و بقيّة ممّا ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة، و كان التابوت الّذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه اُمّه و ألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوّة، و أودعه عند يوشع وصيه، و لم يزل التابوت بينهم حتّى استخفوا به، و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ و شرف مادام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلمّا سألوا النبيّ بعث الله عليهم طالوت ملكاً فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال:( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِِ

٣١١

سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، قال: البقيّة ذرّيّة الأنبياء.

أقول: قوله: و روي أنّه أرميا النبيّ، رواية معترضة في رواية، قولهعليه‌السلام : فكان كما قال الله إلخ، أي تولّى الكثيرون و لم يبق على تسليم حكم القتال إلّا قليل منهم، و في بعض الأخبار أنّ هذا القليل كانوا ستين ألفا، روى ذلك القمّيّ في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضاعليه‌السلام ، و رواه العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام .

و قوله: و كانت النبوّة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و قد قيل: إنّ الملك كان في بيت يهوذا و قد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت و داود و سليمان حتى يكون في بيت يهوذا، و هذا يؤيّد ما ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت أنّ الملك كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكاً ممّا لا ينكر.

و قوله: قال: و البقيّة ذرّيّة الأنبياء، وهم من الراوي، و إنّما فسّرعليه‌السلام بقوله: ذرّيّة الأنبياء قوله: آل موسى و آل عمران، و يؤيّد ما ذكرناه‏ ما في تفسير العياشي، عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سئل عن قول الله:( وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، فقال: ذرّيّة الأنبياء.

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن خالد، و الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث: و قال الله:( إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) فشربوا منه إلّا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلاً، منهم من اغترف، و منهم من لم يشرب،

٣١٢

فلمّا برزوا لجالوت قال الّذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وقال الّذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.

اقول: وأمّا كون الباقين مع طالوت ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بعدد أهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصّة والعامّة، وأمّا كون القائلين: لا طاقة لنا، هم المغترفين، وكون القائلين كم من فئة الخ، هم الّذين لم يشربوا أصلاً فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيّناه: من معنى الاستثناء.

وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيّوب عن يحيى الحلبيّ عن عبدالله بن سليمان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى: إنّ آية ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال: كانت تحمله في صورة البقرة.

واعلم أنّ الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنّه ليس من دأب الكتاب ذلك لأنّ إسقاط الأسانيد فيه إنّما هو لمكان موافقه القرآن ومعه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث، أمّا فيما لا يطّرد فيه الموافقة ولا يتأتّى التطبيق فلا بدّ من ذكر الإسناد، ونحن مع ذلك نختار للإيراد روايات صحيحة الإسناد أو مؤيّده بالقرائن.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام ، قال: كان داود وإخوة له أربعة، ومعهم أبوهم شيخٌ كبيرٌ، وتخلّف داود في غنم لأبيه، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود وهو أصغرهم، فقال: يا بنيّ اذهب إلى إخوتك بهذا الّذي صنعناه لهم يتّقوّوا به على عدوّهم وكان رجلاً قصيرا أرزق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج وقد، تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير، قال سمعته يقول: فمرّ داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني واقتل بي جالوت فإنّي إنّما خلقت لقتله، فأخذه فوضعه في مخلاته الّتي تكون فيها حجارته الّتي يرمي بها عن غنمه بمقذافه، فلمّا دخل العسكر سمعهم يتعظّمون أمر جالوت، فقال لهم داود ما تعظّمون من أمره فو الله لئن عاينته لأقتلنّه فحدّثوا بخبره حتّى اُدخل على طالوت، فقال يا فتى وما عندك من القوّة؟ وما جرّبت من نفسك؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فاُدركه فآخذ برأسه فأفكّ لحييه منها فآخذها من فيه قال: فقال: ادع لي بدرع سابغة فاُتي بدرع فقذفها في عنقه فتملّا منها حتّى راع

٣١٣

طالوت ومن حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: والله لعسى الله أن يقتله به، قال: فلمّا أن أصبحوا ورجعوا إلى طالوت والتقى الناس قال داود: أروني جالوت فلمّا رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصكّ به بين عينيه فدمّغه ونكس عن دابّته، وقال الناس: قتل داود جالوت، وملّكه الناس حتّى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، واجتمعت بنو إسرائيل على داود، وأنزل الله عليه الزبور، وعلّمه صنعة الحديد فليّنه له، وأمر الجبال والطير يسبّحن معه، قال: ولم يعط أحد مثل صوته، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفياً، واُعطى قوّة في عبادته.

اقول: المقذاف المقلاع الّذي يكون للرعاة يرمون به الأحجار، وقد اتّفقت ألسنة الأخبار من طرق الفريقين أنّ داود قتل جالوت بالحجر.

في المجمع، قال: إنّ السكينة الّتي كانت فيه ريح هفّانة من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان عن عليّعليه‌السلام .

أقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن سفيان بن عيينة وابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن عليّعليه‌السلام وكذا عن عبد الرزّاق وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم، وصحّحه وابن عساكر والبيهقيّ في الدلائل من طريق أبي الأحوص عن عليّعليه‌السلام مثله.

وفي تفسير القمّيّ عن أبيه عن عليّ بن الحسين بن خالد عن الرضاعليه‌السلام : السكينة ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان.

أقول: وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق في المعاني والعيّاشيّ في تفسيره عن الرضاعليه‌السلام ، وهذه الأخبار الواردة في معنى السكينة وإن كانت آحاداً إلّا أنّها قابلة التوجيه والتقريب إلى معنى الآية، فإنّ المراد بها على تقدير صحّتها: أنّ السّكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس وطمأنينتها إلى أمر الله، وأمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الأئمّة، فينطبق حينئذ على روح الإيمان، وقد عرفت في البيان السابق أنّ السكينة منطبقة على روح الإيمان.

٣١٤

وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل ما في المعاني عن أبي الحسنعليه‌السلام في السكينة، قالعليه‌السلام : روح الله يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شئ كلّمهم وأخبرهم، الحديث فإنّما هو روح الإيمان يهدي المؤمن إلى الحقّ المختلف فيه.

( بحث علمي واجتماعي)

ذكر علماء الطبيعة أنّ التجارب العلميّ ينتج أن هذه الموجودات الطبيعيّة المجبولة على حفظ وجودها وبقائها، والفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الأفعال ينازع بعضها البعض في البقاء، وحيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير والتأثّر المتقابل من الغير وبالعكس كانت الغلبة للأقوى منهما والأكمل وجوداً، ويستنتج من ذلك أنّ الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الأفراد من نوع أو نوعين أكملها وأمثلها فيتوحّد للبقاء، ويفنى سائر الأفراد وينقرض تدريجاً، فهناك قاعدتان طبيعيّتان: إحداهما: تنازع البقاء، والثانية: الانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل.

وحيث كان الاجتماع متّكئاً في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضاً نظير القانونين: أعني: قانوني تنازع البقاء، والانتخاب وبقاء الأمثل.

فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبنيّ على اساس الاتّحاد الكامل المحكم المرعيّ فيه حقوق الأفراد: الفرديّة والإجتماعيّة أحقّ بالبقاء، وغيره أحقّ بالفناء والانقراض، والتجارب قاض ببقاء الاُمم الحيّة المراقبة لوظائفها الإجتماعيّة المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعيّ، وانقراض الاُمم بتفرّق القلوب، وفشّو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجدّ فيهم، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر. فالبحث في الآثار الأرضيّة يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الأوّليّة الأرضيّة هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الأنواع كالحيوان المسمّى برونتوساروس أو الّتي لم يبق من أنواعها إلّا أنموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إفنائها وانقراضها إلّا تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل، وكذلك الأنواع الموجودة اليوم لا تزال تتغيّر تحت عوامل التنازع والانتخاب، ولا يصلح منها للبقاء إلّا الأمثل

٣١٥

والأقوى وجوداً، ثمّ يجرّه حكم الوراثة إلى استمرار الوجود وبقاء النوع، وعلى هذه الوتيرة كانت الأنواع والتراكيب الموجودة في أصل تكوّنها فإنّما هي أجزاء المادّة المنبثّة في الجوّ حدثت بتراكمها وتجمّعها الكرات والأنواع الحادثة فيها، فما كان منها صالحاً للبقاء بقي ثمّ توارث الوجود، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع

وقد ناقضه المتأخّرون بكثير من الأنواع الضعيفة الوجود الباقية بين الأنواع حتّى اليوم، وبكثير من أصناف الأنواع النباتيّة والحيوانيّة فإنّ وقوع التربية بتأهيل كثير من أنواع النبات والحيوان وإخراجها من البرّيّة والوحشيّة، وسيرها بالتربية إلى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البرّيّ والوحشيّ منها على الردائة، وسيرهما إلى الضعف يوماً فيوماً، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة، كلّ ذلك يقضي بعدم اطّراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ.

ولذلك علّل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيّات بفرضيّة اُخرى، وهي تبعيّة المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعيّة تحت شرائط خاصّة زمانيّة ومكانيّة يستدعي تبعيّة الموجود في جهات وجوده له، وكذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيّات الموجودة في محيط حياته، ولذلك كانت لكلّ نوع من الأنواع الّتي تعيش في البرّ أو البحر أو في مختلف المناطق الأرضيّة القطبيّة أو الاستوائيّة وغير ذلك، من الأعضاء والأدوات والقوى ما يناسب منطقة حياته وعيشته، فمحيط الحياة هو الّذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته، فالقاعدتان ينبغي أن تنتزعا من هذا القانون أعنى: أنّ الأصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ هو تبعيّة المحيط، ففيما لا اطّراد للقاعدتين لا ميحط مؤثّر يوجب التأثير، ولكن لقاعدة تبعيّة المحيط من النقض في اطّرادها نظير ما للقاعدتين، وقد فصّلوها في مظانّها.

ولو كان تبعيّة المحيط تامّة في تأثيرها ومطّردة في حكمها كان من الواجب أن لا يوجد نوع أو فرد غير تابع، ولا أن يتغيّر محيط في نفسه كما أنّ القاعدتين لو كانتا

٣١٦

تامّتين مطّردتين في حكمهما وجب أن لا يبقى شئ من الموجودات الضعيفة الوجود مع القويّة منها ولا أن يجري حكم التوارث في الأصناف الرديّة من النبات والحيوان.

فالحقّ كما ربّما اعترفت به الأبحاث العلميّة أنّ هذه القواعد على ما فيها من الصحّة في الجملة غير مطّردة.

والنظر الفلسفيّ الكلّيّ في هذا الباب: أنّ أمر حدوث الحوادث المادّيّة سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدّلات والتغيّرات الحادثة في أطراف وجودها يدور مدار قانون العلّيّة والمعلوليّة، فكلّ موجود من الموجودات المادّيّة بما لها من الصورة الفعّالة لنفع وجوده يوجّه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه، وهذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمّل في حال الموجودات بعضها مع بعض، ويستوجب ذلك أن ينقص كلّ من كلّ لنفع وجود نفسه فيضمّ ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو، ولازم ذلك أن يكون كلّ موجود فعّالاً لإبقاء وجوده وحياته، وعلى هذا صحّ أن يقال: إنّ بين الموجودات تنازعاً في البقاء، وكذلك لازم التأثير العلّيّ أن يتصرّف الأقوى في الأضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه، وبذلك يمكن أن يوجّه القانونان أعني: الانتخاب الطبيعيّ وتبعيّة المحيط، فإنّ النوع لمّا كان تحت تأثير العوامل المضادّة فإنّما يمكنه أن يقاومها إذا كان قوي الوجود قادراً على الدفاع عن نفسه، وكذلك الحال في أفراد نوع واحد، إنّما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات والأضداد الّتي تتوجّه إليه، وهذا هو الانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل، وكذا إذا اجتمعت عدّة كثيرة من العوامل ثمّ اتّحدت أكثرها أو تقرّبت من حيث العمل فلا بدّ أن يتأثّر منها الموجود الّذي توسّط بينها الأثر الّذي يناسب عملها، وهذا هو تبعيّة المحيط.

وممّا يجب أن يعلم: أنّ أمثال هذه النواميس أعني: تبعيّة المحيط وغيرها إنّما يؤثّر فيما صحّ أن يؤثّر، في عوأرض وجود الشئ ولواحقه، وأمّا نفس الذات بأن يصير نوعاً آخر فلا، لكنّ القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهريّ بل يبنون البحث على أنّ كلّ موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادّة،

٣١٧

وبذلك يمتاز نوع من نوع، وبالحقيقة لانوع جوهريّ يباين نوعاً جوهريّاً آخر، بل جميع الأنواع تتحلّل إلى المادّة الواحدة نوعاً المختلفة بحسب التراكيب المتنوّعة، ومن هنا تراهم يحكمون بتبدّل الأنواع وبتبعيّة المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعيّة ولا يبالون بتبدّل الذات فيها، وللبحث ذيل ممتدّ سيمرّ بك إنشاء الله تفصيل القول فيه.

ونرجع إلى أوّل الكلام فنقول: ذكر بعض المفسّرين: أن قوله تعالى، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين الآية إشارة إلى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ.

قال: ويقرّر ذلك قوله تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) الحجّ - ٤١، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحقّ، وأنّه ينتهى ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل.

وممّا يدلّ على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧، فهو يفيد أن سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضارّ في الاجتماع وتدفعه وتبقى إبليز(١) الحقّ النافع الّذي ينمو فيه العمران، وإبريز المصلحة الّتي يتحلّى به الإنسان، انتهى.

أقول: أمّا أنّ قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعيّ (بالمعنى الّذي مرّ بيانه) حقّ في الجملة، وأنّ القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين الّذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيئ من القاعدتين، فإنّ الصنف الأوّل

______________________________________________

(١) الابليز: الطين الّذي يأتي به النيل في أيّام الطغيان، والابريز الذهب الخالص المصفّى وهما كلمتان معربتان أصلهما آب أو ليز أو آب ليس، وآب ريز.

٣١٨

من الآيات مسوق لبيان أنّ الله سبحانه غير مغلوب في إرادته، وأنّ الحقّ وهو الّذي يرتضيه الله من المعارف الدينيّة غير مغلوب، وأنّ حامله إذا حمله على الحقّ والصدق لم يكن مغلوباً ألبتّة، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى أوّلاً: بأنّهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير، وقوله تعالى ثانياً: الّذين اُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّا أن يقولوا ربّنا الله، فإنّ الجملتين في مقام بيان أنّ المؤمنين سيغلبون أعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الأمثل الأقوى، فإنّ الأمثل والأقوى عند الطبيعة هو الفرد القويّ في تجهيزه الطبيعيّ دون القويّ من حيث الحقّ والأمثل بحسب المعنى، بل سيغلبون لأنّهم مظلومون ظلموا على قول الحقّ والله سبحانه حقّ وينصر الحقّ في نفسه، بمعنى أنّ الباطل لا يقدر على أن يدحض حجّة الحقّ إذا تقابلاً، وينصر حامل الحقّ إذا كان صادقاً في حمله كما ذكره الله بقوله: ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة الخ، أي هم صادقون في قولهم الحقّ وحملهم إيّاه ثمّ ختم الكلام بقوله تعالى: ولله عاقبه الاُمور، يشير به إلى عدّة آيات تفيد أنّ الكون يسير في طريق كماله إلى الحقّ والصدق والسعادة الحقيقيّة، ولاريب أيضاً في دلالة القرآن على أنّ الغلبة لله ولجنده ألبتّة كما يدلّ عليه قوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقوله تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧٣، وقوله تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) يوسف - ٢١.

وكذا الآية الثانية الّتي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء مائاً فسالت أودية بقدرها الخ، مسوقة لبيان بقاء الحقّ وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحقّ والباطل الّذين هما معاً من سنخ المادّيّات والبقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع، والمضادّة كما في الحقّ والباطل الّذين هما بين المادّيّات والمعنويّات فإنّ المعنى - ونعني به الموجود المجرّد عن المادّة - مقدّم على المادّة غير مغلوب في حال أصلاً، فالتقدّم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، وكما في الحقّ والباطل الّذين هما معاً من سنخ المعنويّات والمجرّدات، وقد قال تعالى:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ )

٣١٩

طه - ١١١، وقال تعالى:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة - ١١٦، وقال تعالى:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم - ٤٢، فهو تعالى، غالب على كلّ شئ، وهو الواحد القهّار.

وأمّا الآية الّتي نحن فيها أعني قوله تعالى: ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت أنّها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتّكى عليه الاجتماع الإنسانيّ الّذي به عمارة الأرض، وباختلاله يختلّ العمران وتفسد الأرض، وهي غريزة الاستخدام الّذي جبّل عليه الإنسان، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدّن والاجتماع التعاونيّ، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه واُصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعيّ، لكنّه مع ذلك هو السبب القريب الّذي يقوم عليه عمارة الأرض ومصونيّتها عن الفساد، فينبغي أن تحمل الآية الّتي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.

وبعبارة اُخرى واضحة: القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعيّ توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإنّ كلّاً من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضمّ ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد أن يكون الواحد الّذي هو الباقي منهما أقواهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدّلها إلى واحد أمثل، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الّذي يطلبه الإنسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الأرض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوماً، وأكل بعضهم بعضاً، والدفع الّذي تعمر به الأرض ويصان عن الفساد هو الدفع الّذي يدعو إلى الاجتماع والاتّحاد المستقرّ على الكثرة والجماعة دون الدفع الّذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الأرض وعدم فسادها من حيث أنّه يحيى به حقوق إجتماعيّة حيويّة لقوم مستهلكين مستذلّين لا من حيث يتشتّت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الأثر فافهم.

٣٢٠

( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه)

التاريخ النقليّ ونعني به ضبط الحوادث الكلّيّة والجزئيّة بالنقل والحديث ممّا لم يزل الإنسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الأرض مهتمّاً به، ففي كلّ عصر من الأعصار على ما نعلمه عدّة من حفظته أو كتّابه والمؤلّفين فيه، وآخرون يعتورون ما ضبطه اُولئك ويأخذون ما أتحفوهم به، والإنسان ينتفع به في جهات شتّى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقصّ والحديث والتفكّه واُمور اُخرى سياسيّة أو اقتصاديّة أو صناعيّة وغير ذلك.

وإنّه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحّة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب:

أحدهما: أنّه لا يزال في كلّ عصر محكوماً للحكومة الحاضرة الّتي بيدها القوّة والقدرة يميل إلى إظهار ما ينفعها ويغمض عمّا يضرّها ويفسد الأمر عليها، وليس ذلك إلّا ما لانشكّ فيه أنّ الحكومات المقتدرة في كلّ عصر تهتمّ بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضرّ به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحقّ والصدق، فإنّ الفرد من الإنسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأيّ نحو أمكن، وهذا أمر لا يشكّ فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع العامّة الحاضرة في زمان حياته ويتأمّل به في تاريخ الاُمم الماضيّة والبعيدة.

وثانيهما: أنّ المتحمّلين للأخبار والناقلين لها والمؤلّفين فيها جميعهم لا يخلون من إعمال الإحساسات الباطنيّة والعصبيّات القوميّة فيما يتحمّلون منها أو يقضون فيها، فإنّ حملة الأخبار في الماضين - والحكومة في أعصارهم حكومة الدين - كانوا منتحلين بنحلة ومتديّنين كلّ بدين، وكانت الإحساسات المذهبيّة فيهم قويّة والعصبيّات القوميّة شديدة فلا محالة كانت تداخل الأخبار التاريخيّة من حيث اشتمالها على أحكام وأقضية كما أنّ العصبيّة المادّيّة والإحساسات القويّة اليوم للحريّة على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، ومن هنا

٣٢١

إنّك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألّف أو جمع من الأخبار أودع شيئاً يخالف مذهبه فما ضبطه أهل كلّ مذهب موافق لاُصول مذهبه، وكذا الأمر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخيّة عملته أيديهم إلّا وفيه بعض التأييد للمذهب المادّيّ.

على أنّ هيهنا عوامل اُخرى تستدعي فساد التاريخ، وهو فقدان وسائل الضبط والأخذ والتحمّل والنقل والتأليف والحفظ عن التغيّر والفقدان سابقاً وهذه النقيصة وإن ارتفعت اليوم بتقرّب البلاد وتراكم وسائل الاتّصال وسهولة نقل الأخبار والانتقال والتحوّل لكن عمّت البليّة من جهة اُخرى وهي: أنّ السياسة داخلت جميع شئون الإنسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنّيّة، وبحسب تحوّلها تتحوّل الأخبار من حال إلى حال، وهذا ممّا يوجب سوء الظنّ بالتاريخ حتّى كاد أن يورده مورد السقوط، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقليّ هو السبب أو عمدة السبب في إعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخيّة على أساس الآثار الأرضيّة، وهذا وإن سلمت عن بعض الإشكالات المذكورة كالأوّل مثلاً، لكنّها غير خالية عن الباقي، وعمدته مداخلة المورّخ بما عنده من الإحساس والعصبيّة في الأقضيّة، وتصرّف السياسة فيها افشائاً وكتماناً وتغييراً وتبديلاً، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الّذي لا يقبل الإصلاح أبداً.

ومن هنا يظهر: أنّ القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنّه وحي إلهيّ منزّه عن الخطاء مبرّي عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمّن له يؤمّنه من الكذب والخطاء، فأغلب القصص القرآنيّة (كنفس هذه القصّة قصّة طالوت) يخالف ما يوجد في كتب العهدين، ولا ضير فيه فإنّ كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة الّتي قد علمت كيفيّة تلاعب الأيدي فيها وبها، على أنّ مؤلّف هذه القصّة وهي قصّة صموئيل وشارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلاً، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافياً له في التواريخ وخاصّة في كتب العهدين، فالقرآن هو الكلام الحقّ من الحقّ عزّ اسمه.

على أنّ القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنّه يريد في قصصه بيان التاريخ على حدّما

٣٢٢

يرومه كتاب، التاريخ وإنّما هو كلام إلهيّ مفرّغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام، ولذلك لا تراه يقصّ قصّة بتمام أطرافها وجهات وقوعها، وإنّما يأخذ من القصّة نكات متفرّقة يوجب الإمعان والتأمّل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها. كما هو مشهود في هذه القصّة قصّة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى: ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً الخ، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم: إنّ آية ملكه، ثمّ يقول: فلمّا فصل طالوت الخ، ثمّ يقول فلمّا برزوا لجالوت، ومن المعلوم أنّ اتّصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصّة طويلة، وقد نبّهناك بمثله فيما مرّ من قصّة البقرة وهو مطّرد في جميع القصص المقتصّة في القرآن، لا يختصّ بالذكر منها إلّا مواضع الحاجة فيها: من عبرة وموعظة وحكمة أو سنّة إلهيّة في الأيّام الخالية والاُمم الدارجة، قال تعالى:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) يوسف - ١١١، وقال تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) النساء - ٢٦، وقال تعالى:( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) آل عمران - ١٣٨، إلى غير ذلك من الآيات.

٣٢٣

( سورة البقرة آية ٢٥٣ - ٢٥٤)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( ٢٥٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٥٤ )

( بيان)

سياق هاتين الآيتين لا يبعد كلّ البعد من سياق الآيات السابقة الّتي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الإنفاق ثمّ تقصّ قصّة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصّة بقوله تعالى: وإنّك لمن المرسلين الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض، ثمّ ترجع إلى شأن قتال اُمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصّة السابقة أعني: قصّة طالوت: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى قيداً، ثمّ ترجع إلى الدعوة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كلّه يؤيّد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معاً.

وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربّما يتوهّم: أن الرسالة وخاصّة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البيّنات الدالّة على حقّيّة الرسالة ينبغي أن تختم بها بليّة القتال: إمّا من جهة أنّ الله سبحانه لمّا أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيويّة والاُخرويّة بأرسال الرسل وإيتاء الآيات البيّنات كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع

٣٢٤

كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في اُممهم وخاصّة بعد انتشار دعوة الإسلام الّذي يعدّ الاتّحاد والاتّفاق من أركان أحكامه واُصول قوانينه؟ وإمّا من جهة أنّ إرسال الرسل وإيتاء بيّنات الآيات للدعوة إلى الحقّ لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبيّة الّتي لا توجد في القلب عنوة وقهراً فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوّة؟ وهذا هو الإشكال الّذي تقدّم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.

والّذي يجيب تعالى به: أنّ القتال معلول الاختلاف الّذي بين الاُمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلّة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكنّ الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الاُمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتالُ فهذا إجمال ما تفيده الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلوّ مقامهم ولذلك جئ في الإشارة بكلمة تلك الدالّة على الإشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الإلهيّ الواقع بين الأنبياءعليهم‌السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضّل عليه، وللجميع فضل فإنّ الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضاً اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أنّ بين الّذين بعدهم اختلافاً على ما يدلّ عليه ذيل الآية إلّا أنّ بين الاختلافين فرقاً، فإنّ الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتّحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين اُمم الأنبياء بعدهم فإنّه اختلاف بالإيمان والكفر، والنفى والإثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرّق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمّى ما للأنبياء تفضيلاً ونسبه إلى نفسه، وسمّى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضّلنا، وفي مورد اُممهم اختلفوا.

ولمّا كان ذيل الآية متعرّضاً لمسألة القتال مرتبطاً بها والآيات المتقدّمة على

٣٢٥

الآية أيضاً راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا - إلى قوله - بروح القدس مقدّمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: ولو شاء الله ما اقتتل الّذين من بعدهم إلى قوله تعالى: ولكنّ الله يفعل ما يريد.

وعلى هذا فصدر الآية لبيان أنّ مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسلعليهم‌السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإلهيّ وإيتاء البيّنات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.

وبعبارة اُخرى محصّل معنى الآية أنّ الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلّما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلاً جديداً، وكلّما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضّاً طريّاً، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والإتيان بالآيات البيّنات لايتمّ به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإيمان، فإنّ هذا الاختلاف إنّما يستند إلى أنفسهم، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر:( نَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) آل عمران - ١٩، وقد مرّ بيانه في قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة - ٢١٣. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعاً تكوينيّاً، لكنّهم اختلفوا فيما بينهم بغياً وقد أجرى الله في سنّة الإيجاد سببيّة ومسبّبيّة بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعاً تشريعيّاً أو لم يأمر به ولكنّه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيّب وليعلمنّ الله الّذين آمنوا وليعلمنّ الكاذبين.

وبالجملة القتال بين اُمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيّناتها إنّما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأمّا البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلّا القتال، فإنّ التجارب يعطي أنّ الحجّة لم تنجح وحدها قطّ إلّا إذا شفّع بالسيف، ولذلك كان كلّما

٣٢٦

اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحقّ والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مرّ بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقاً.

قوله تعالى: ( مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله أعلم - أنّ الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدلّ على الفضيلة كالآيات البيّنات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسىعليه‌السلام فإنّ هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس كذلك، وإنّما يدلّ على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنّه لا يعدّ في نفسه منقبة وفضيلة إلّا أن يضاف إلى شئ فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عزّ اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلّا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلاً فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أنّ هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البيّنات، فحوّل وجه الكلام من التكلّم إلى الغيبة في الجملتين الاُوليين حتّى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأوّل وهو التكلّم فقال تعالى: وآتينا عيسى بن مريم.

وقد اختلف المفسّرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلّم الله: موسىعليه‌السلام لقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٤، وغيره من الآيات، وقيل المراد به رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كلّمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قرّبه إليه تقريباً سقطت به الوسائط جملة فكلّمة بالوحي من غير واسطة، قال تعالى:( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) النجم - ١٠، وقيل المراد به الوحي مطلقاً لأنّ الوحي تكليم خفيّ، وقد سمّاه الله تعالى تكليماً حيث قال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الآية الشورى - ٥١، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضيّة الّتي في قوله تعالى: منهم من كلّم الله.

والأوفق بالمقام كون المراد به موسىعليه‌السلام لأنّ تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى

٣٢٧

النازل قبل هذه السورة المدنيّة، قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ - إلى أن قال -قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ) الأعراف - ١٤٣، وهي آية مكّيّة فقد كان كون موسى مكلّماً معهوداً عند نزول هذه الآية.

وكذا في قوله: ورفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافّة الخلق كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) السباء - ٢٨، وبجعله رحمةً للعالمين كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ١٠٧، وبجعله خاتماً للنبوّة كما قال تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وبإيتائه قرآناً مهيمناً على جميع الكتب وتبياناً لكلّ شئ ومحفوظاً من تحريف المبطلين، ومعجزاً باقياً ببقاء الدنيا كما قال تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة - ٤٨، وقال تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقال تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩، وقال تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء - ٨٨، وباختصاصه بدين قيّم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) الروم - ٤٣، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدلّ عليه قوله تعالى في نوح:( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافّات - ٧٩، وقوله تعالى في إبراهيمعليه‌السلام :( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) البقرة - ١٢٤، وقوله تعالى فيه( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء - ٨٤، وقوله تعالى في إدريسعليه‌السلام ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) مريم - ٥٧، وقوله تعالى في يوسف:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ) يوسف - ٧٦، وقوله في داودعليه‌السلام :( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣ إلى غير ذلك من مختصّات الأنبياء.

وكذا قيل: إنّ المراد بالرسل في الآية هم الّذين اختصّوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى الباقين،

٣٢٨

وقيل: لمّا كان المراد بالرسل في الآية هم الّذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصّة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمّد، وقد ذكر ما اختصّ به موسى من التكليم ثمّ ذكر رفع الدرجات وليس له إلّا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمكن أن يوجّه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: أنّ الوجه فيه عدم سبق ذكرهعليه‌السلام فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.

والّذي ينبغى أن يقال: أنّه لا شكّ أنّ ما رفع الله به درجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصود في الآية غير أنّه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإنّ كلّ ذلك تحكّم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسلعليهم‌السلام وشمول البعض في قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات: لكلّ من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة.

وما قيل: أنّ الاُسلوب يقتضي كون المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ السياق في بيان العبرة للاُمم الّتي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم ديناً واحداً، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية، فتعيّن أن يكون البعض الباقي محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فيه: أنّ القرآن يقضي بكون جميع الرّسل رسلاً إلى جميع الناس، قال تعالى:( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ) البقرة - ١٣٦، فإتيان الرسل جميعاً بالآيات البيّنات كان ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الّذين بعدهم لكن اختلفوا بغياً بينهم فكان ذلك أصلاً يتفرّع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.

( كلام في الكلام)

ثمّ إنّ قوله تعالى: منهم من كلّم الله، يدلّ على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنّه يدلّ على وقوع أمر حقيقيّ من غير مجاز وتمثيل وقد سمّاه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقاً حقيقيّاً أو إطلاقاً مجازيّاً، فالبحث في المقام من جهتين:

٣٢٩

الجهة الاولى: أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ ما خصّ الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم الّتي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الإلهيّة الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفيّة على حواسّ الناس، كلّ ذلك أمور حقيقيّة واقعيّة من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسمّوا القوى العقليّة الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي الّتي تترشّح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإنسانيّ بروح القدس والروح الأمين، والقوى الشهويّة والغضبيّة النفسانيّة الداعية إلى الشرّ والفساد بالشياطين والجنّ، والأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيّئ العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا.

فإنّ الآيات القرآنيّة وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشكّ فيه إلّا مكابر متعسّف ولا كلام لنا معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوّزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهيّة من غير استثناء إلى المادّيّة المحضة النافية لكلّ ما وراء المادّة، وقد مرّ بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز. ففي مورد التكليم الإلهيّ لا محالة أمر حقيقيّ متحقّق يترتّب عليه من الآثار ما يترتّب على التكلّمات الموجودة فيما بيننا.

توضيح ذلك: أنّه سبحانه عبّر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٣، وقوله تعالى:( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ) الآية، وقد فسّر تعالى هذا الإطلاق المبهم الّذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) الشورى - ٥١، فإنّ الاستثناء في قوله تعالى: إلّا وحياً الخ، لايتمّ إلّا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: أن يكلّمه الله، تكليماً حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاصّ، فحدّ أصل التكليم حقيقة غير منفيّ عنه.

٣٣٠

والّذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أنّ الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنيّة يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاونيّ، ومنها التكلّم، وقد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلّفة والمختلطة إمارات دالّة على المعاني المكنونة في الضمير الّتي لا طريق إليها إلّا من جهة العلائم الاعتباريّة الوضعيّة، فالإنسان محتاج إلى التكلّم من جهة أنّه لا طريق له إلى التفهيم والتفهّم إلّا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعليّة وأمارات وضعيّة، ولذلك كانت اللّغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات الّتي تنبّه لها الإنسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضاً كانت اللّغات لا تزال تزيد وتتّسع بحسب تقدّم الاجتماع في صراطه، وتكثّر الحوائج الإنسانيّة في حياته الإجتماعيّة.

ومن هنا يظهر: أنّ الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالّة عليه بالوضع والاعتبار إنّما يتمّ في الإنسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربّما لحق به بعض أنواع الحيوان ممّا لنوعه نحو اجتماع وله شئ من جنس الصوت، (على ما نحسب) وأمّا الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاونيّ فلا تحقّق للكلام معه، فلو كان ثمّ إنسان واحد من غير أيّ اجتماع فرض لم تمسّ الحاجة إلى التكلّم قطعاً لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهّم، وكذلك غير الإنسان ممّا لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعيّ والحياة المدنيّة كالملك والشيطان مثلاً.

فالكلام لا يصدر منه تعالى على حدّ ما يصدر الكلام منّا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمّة إليه، الدلالة الاعتباريّة الوضعيّة فإنّه تعالى أجلّ شأناً وأنزه ساحةً أن يتجهّز بالتجهيزات الجسمانيّة، أو يستكمل بالدعاوي الوهميّة الاعتباريّة وقد قال تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى - ١١.

لكنّه سبحانه فيما مرّ من قوله:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الشورى - ٥١، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإن نفى

٣٣١

عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحدّه الاعتباريّ المعهود مسلوب عن الكلام الإلهيّ لكنّه بخواصّه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في الاُمور الاعتباريّة الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدّم بيانه.

فقد: ظهر أنّ ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبيّ كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بيّن لنا إجمالاً أنّه كلام حقيقة على غير الصفة الّتي نعدّها من الكلام الّذي نستعمله، لكنّه تعالى لم يبيّن لنا ولا نحن تنبّهنا من كلامه أنّ هذا الّذي يسمّيه كلاماً يكلّم به أنبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقّق؟ غير أنّه على أيّ حال لا يسلب عنه خواصّ الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة وإلقاؤها في ذهن السامع.

وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء والإماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحقّقه إلى تماميّة الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة ممّا لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات الّتي هي عين الذات، كيف ولافرق بينه وبين سائر أفعاله الّتي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات؟ وربّما قبل الانطباق على الزمان. قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) الأعراف - ١٤٣، وقال تعالى( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) البقرة - ٢٤٣، وقال تعالى:( نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) الأنعام - ١٥١، وقال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة - ١١٨، فالآيات كما ترى تفيد زمانيّة الكلام كما تفيد زمانيّة غيره من الأفعال كالخلق والإماتة والإحياء والرزق والهداية والتوبة على حدّ سواء.

فهذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، والبحث التفسيريّ المقصور على الآيات القرآنيّة في معنى الكلام، أمّا ما يقتضيه البحث الكلاميّ على ما اشتغل به السلف من المتكلّمين أو البحث الفلسفيّ فسيأتيك نبأه.

٣٣٢

واعلم: أنّ الكلام أو التكليم ممّا لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى:( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) النساء - ١٧١، اُريد به نفس الإنسان، وقال تعالى:( وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة - ٤١، وقال تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ) الانعام - ١٥٥، وقال تعالى:( مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) لقمان - ٢٧، وقد اُريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجئ الإشارة إليه.

وأمّا لفظ القول فقد عمّ في كلامه تعالى الإنسان وغيره فقال تعالى في مورد الإنسان:( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) طه - ١١٧، وقال تعالى في مورد الملائكة:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة - ٣٠، وقال أيضاً:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ) ص - ٧١، وقال في مورد ابليس( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص - ٧٥، وقال تعالى في غير مورد اُولي العقل:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١١، وقال تعالى:( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) الأنبياء - ٦٩، وقال تعالى:( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) هود - ٤٤، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتّتها قوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقوله تعالى:( إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) مريم - ٣٥.

والّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة ممّا له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلاً، وممّا سبيله التكوين وليس له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إنّ الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدّمهما من الآيات) أنّ القول منه تعالى إيجاد أمر يدلّ على المعنى المقصود.

فأمّا في التكوينيّات فنفس الشئ الّذي أوجده تعالى وخلقه هو شئ مخلوق موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإنّ من

٣٣٣

المعلوم أنّه إذا أراد شيئاً فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسّط بينه تعالى وبين الشئ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيّات نفس الفعل وهو الإيجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ.

وأمّا في غير التكوينيّات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمراً يوجب علماً باطنيّاً في الإنسان بأنّ كذا كذا، وذلك إمّا بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفيّة تأثيره في نفس النبيّ بحيث يوجد معه علم في نفسه بأنّ كذا كذا على حدّ ما مرّ في الكلام.

وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختصّ هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصيّة، وهي أنّ الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنّما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعيّ الّذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانيّة الإجتماعيّة، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) أنّ الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيوانيّ الاجتماعيّ وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجيّ العلميّ الّذي يستدعي وضع الاُمور الاعتباريّة.

ويظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهّم الذهنيّ المستخدم فيه الاعتبار اللغويّ والأصوات المؤلّفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقّق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحقّقه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلّف تأليفاً لفظيّاً وضعيّاً من فم مشقوق ينضمّ إليه أعضاء فعّالة للصوت من واحد، والتأثّر من ذلك بإحساس اُذن مشقوق ينضمّ إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتّب عليه أثر القول وخاصّته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللّفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.

وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى:( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) النمل - ١٨،

٣٣٤

وقال تعالى:( فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) النمل - ٢٢، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى و وحيه إليهم كقوله تعالى:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل - ٦٨.

وهناك ألفاظ اُخر ربّما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣، والإلهام، قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، والنبأ، قال تعالى:( قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) التحريم - ٣، والقصّ، قال تعالى:( يَقُصُّ الْحَقَّ ) الأنعام - ٥٧، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الّذي قلناه في أوّل الكلام من لزوم تحقّق أمر حقيقيّ معه يترتّب عليه أثر القول وخاصّته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقيّ المتحقّق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلاً، وفي الوحي خاصّة كلام سيأتي التعرّض له في سورة الشورى إنشاء الله.

وأمّا اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجوداً في الجميع كتسمية بعضها كلاماً وبعضها قولاً وبعضها وحياً مثلاً لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللّفظيّة على المورد، فالقول يسمّى كلاماً نظراً إلى السبب الّذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمّي هذا الفعل الإلهيّ في مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاماً لأنّ العناية هناك إنّما هو بالمخاطبة والتكليم، ويسمّى قولاً بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمّي هذا الأمر الإلهيّ في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولاً كقوله تعالى:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ ) ص - ٨٥، ويسمّى وحياً بعناية كونه خفيّاً عن غير الأنبياء ولذلك عبّر في موردهمعليهم‌السلام بالوحي كقوله:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣.

الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفيّة الاستعمال فقد عرفت أنّ مفردات اللّغة إنّما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الاُمور الجسمانيّة ابتدائاً ثمّ انتقل تدريجاً إلى المعنويّات، وهذا

٣٣٥

وإن أوجب كون استعمال اللّفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالاً مجازيّاً ابتدائاً لكنّه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقّي الاجتماع وتقدّم الإنسان في المدنيّة والحضارة، يوجب التغيّر في الوسائل الّتي ترفع حاجته الحيويّة، والتبدّل فيها دائماً مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدّل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتّبة وذلك كما أنّ السراج في أوّل ما تنبّه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلاً شيئاً من الدهن أو الدهنيّات مع فتيلة متّصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل، فركّبته الصناعة على هذه الهيئة أوّلاً وسمّاه الإنسان بالسراج، ثمّ لم يزل يتحوّل طوراً بعد طور، ويركب طبقاً عن طبق، حتّى انتهت إلى هذه السرج الكهربائيّة الّتي لا يوجد فيها ومعها شئ من أجزاء السراج المصنوع أوّلاً، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفيّة أو فلزّيّة، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حدّ سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلّا أنّ الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتّب على المصنوع أوّلاً يترتّب بعينه على المصنوع أخيراً من غير تفاوت، وهو الاستضائة، ونحن لا نقصد شيئاً من وسائل الحياة ولا نعرفها إلّا بغايتها في الحياة وأثرها المترتّب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصّة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغيّر وتبدّل، وإن تغيّر الشكل أحياناً أو الكيفيّة أو الكمّيّة أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقيّ وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغيّر، وقلّما يوجد اليوم في الاُمور المصنوعة ووسائل الحياة - وهي اُلوف واُلوف - شئ لم يتغيّر ذاته عمّا حدث عليه أوّلاً، غير أنّ بقاء الأثر والخاصّة أبقى لكلّ واحد منها اسمه الأوّل الّذي وضع له. وفي اللّغات شئ كثير من القسم الأوّل وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتّبع البصير.

فقد تحصّل أن استعمال الكلام والقول فيما مرّ مع فرض بقاء الأثر والخاصّة

٣٣٦

استعمال حقيقيّ لا مجازيّ.

فظهر من جميع ما بيّناه: أنّ إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقيّ واقعيّ، وأنّه من مراتب المعنى الحقيقيّ لهاتين اللّفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أنّ سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإرادة والإعطاء كذلك.

واعلم: أنّ القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات، من حيث اشتماله على أمر حقيقيّ واقعيّ غير اعتباريّ كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهّم أكثر الباحثين في المعارف الدينيّة: أنّ ما اشتملت عليه هذه البيانات اُمور اعتباريّة ومعاني وهميّة نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدّم والتصدّر ونحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنّة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتّبة نظير ترتّب الآثار الخارجيّة على هذه المقامات الإجتماعيّة الاعتباريّة، أي إنّ الرابطة بين المقامات المعنويّة المذكورة وبين النتائج المترتّبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم - اضطراراً - كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدّس، محكوماً بالآراء الاعتباريّة ومبعوثاً عن الشعور الوهميّ كالإنسان الواقع في عالم المادّة، والنازل في منزل الحركة والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقرّبين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقيّة المعنويّة الّتي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنّة إلّا أن تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريّات.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلّم دون الغيبة كما مرّ.

والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أنّ ما ذكره لهعليه‌السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البيّنات، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعاً ليس ممّا يختصّ ببعضهم دون بعض، قال تعالى:( قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) الحديد - ٢٥، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ

٣٣٧

مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا ) النمل - ٢، لكنّهما في عيسى بنحو خاصّ فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات كانت اُموراً متّكئة على الحياة مترشّحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسىعليه‌السلام وصرّح باسمه إذ لولا التصريح لم يدلّ على كونه فضيلة خاصّة كما لو قيل: وآتينا بعضهم البيّنات وأيّدناه بروح القدس، إذ البيّنات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصّة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلّا مع التصريح باسمه ليعلم أنّها فيه بنحو خاصّ غير مشترك تقريباً، على أنّ في اسم عيسىعليه‌السلام خاصّة اُخرى وآية بيّنة وهي: أنّه ابن مريم لا أب له، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ٩١، فمجموع الابن والاُمّ آية بيّنة إلهيّة وفضيلة اختصاصيّة اُخرى.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، العدول إلى الغيبة ثانياً لأنّ لمقام مقام إظهار أنّ لمشيّة والإرادة الربّانيّة غير مغلوبة، والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهيّة، وبالجملة وصف الاُلوهيّة هي الّتي تنافي تقيّد القدرة وتوجب إطلاق تعلّقها بطرفي الإيجاب والسلب فمسّت حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهيّة للذكر فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه أيضاً في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا، وقوله: ولكنّ الله يفعل ما يريد وهو الوجه أيضاً في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.

قوله تعالى: ( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ) ، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنّه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أنّ الاختلاف بالإيمان والكفر وسائرالمعارف الأصليّة المبيّنة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنّما حدث بين الناس بالبغى، وحاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) ، أي ولو شاء الله لم يؤثّر الاختلاف في استدعاء القتال ولكنّ الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثّر

٣٣٨

هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جرياً على سنّة الأسباب.

ومحصّل معنى الآية والله العالم: أنّ الرسل الّتي ارسلوا إلى الناس عباد لله مقرّبون عند ربّهم، مرتفع عن الناس اُفقهم وهم مفضّل بعضهم على بعض على مالهم من الاصل الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد أتوا للناس بآيات بيّنات أظهروا بها الحقّ كلّ الاظهار وبيّنوا طريق الهداية أتمّ البيان، وكان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلّا إلى الوحدة والاُلفة والمحبّة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر، ثمّ التفرّق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ واُجرى هذا السبب كسائر الأسباب والعلل على سنّة الأسباب الّتي أرادها الله في عالم الصنع والإيجاد، والله يفعل ما يريد.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا ) الخ، معناه واضحٌ وفي ذيل الآية دلالة على أنّ الاستنكاف عن الإنفاق كفر وظلم.

( بحث روائي)

في الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا الخ، في هذا ما يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن إصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفاً مع أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالبعليه‌السلام يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبّر القوم وكبّرنا، وهلّل القوم وهلّلنا، وصلّى القوم وصلّينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقالعليه‌السلام : على هذه الآية( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم - فنحن الّذين من بعدهم -وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) فنحن الّذين

٣٣٩

آمنّا وهُم الّذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم وربّ الكعبة ثمّ حمل فقاتل حتّى قتل (رحمه الله).

أقول: وروي هذه القصّة المفيد والشيخ في أماليهما والقميّ في تفسيره، والرواية تدلّ على أنّهعليه‌السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعمّ من الكفر الخاصّ المصطلح الّذي له أحكام خاصّة في الدين، فإنّ النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان أنّهعليه‌السلام ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل وأصحاب صفّين والخوارج معاملة الكفّار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردّة من الدين، فليس إلّا أنّه عدّهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كانعليه‌السلام يقول: اُقاتلهم على التأويل دون التنزيل.

وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنّه يدلّ على أنّ البيّنات الّتي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الّذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف ممّا لا تنفع فيه البيّنات من الرسل بل هو ممّا يؤدّي إليه الاجتماع الإنسانيّ الّذي لا يخلو عن البغى والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس - ١٩، وقوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً - إلى أن قال -وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢١٣، وقوله تعالى:( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ) هود - ١١٩، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الاختلاف في الكتاب - وهو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم ممّا لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الاُمة:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) البقرة - ٢١٤، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة:( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان - ٣٠، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.

وأمّا أنّ ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481