الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 126403
تحميل: 7209


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126403 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحدّ الازمة باتّصالها بزمام واحد فيسير بذالك فرد من غير حقّ، ولا يتأخّر فرد من غير حقّ.

وبالجملة الغرض من الملك أن يدبّر صاحبه المجتمع تدبيراً يوصل كلّ فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، ويدفع كلّ ما يمانع ذلك، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران:

أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها،

وثانيهما: القدرة الجسميّة على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، وهما اللّذان يشير إليهما قوله تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم، وأمّا سعة المال فعدّه من مقومات الملك من الجهل.

ثمّ جمع الجميع تحت حجّة واحدة ذكرها بقوله تعالى: والله يؤت ملكه من يشاء، وهو أنّ الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلّا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، وإذا كان كذالك فله تعالى التصرّف في ملكه كيف شاء وأراد، ليس لأحد أن يقول: لماذا أو بماذا (أي أن يسأل عن علّة التصرّف لأنّ الله تعالى هو السبب المطلق، ولا عن متمّم العليّة واداة الفعل لأنّ الله تعالى تامّ لا يحتاج لامتمّم) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت إلى بيت، أو تقليده أحداً ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع والمال.

والايتاء والإفاضة الإلهيّة وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنّها مع ذلك لا تقع جزافاً خالية عن الحكم والمصالح، فإنّ المقصود من قولنا: إنّه تعالى يفعل ميشاء، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أنّ الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنّه يفعل فعلاً فإنّ اتّفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار جزافاً ولا محذور لأنّ الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإنّ هذا ممّا يبطله الظواهر الدينيّة والبراهين العقليّة.

بل المقصود بذلك: أنّ الله سبحانه حيث ينتهي إليه كلّ خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقه له تعالى، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهوراً لمصلحة من المصالح محكوماً بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا فعل سبحانه

٣٠١

فعلاً أو خلق خلقاً ولا يفعل إلّا الجميل، ولا يخلق إلّا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيّاً فيه صلاح العباد غير أنّه تعالى غير محكوم ولامقهور للمصلحة.

ومن هنا صحّ اجتماع هذا التعليل مع ما تقدّمه، أعني اجتماع قوله تعالى: والله يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، فإنّ الحجّة الاُولى مشتملة على التعليل بالمصالح والأسباب، والحجّة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، ولو لا أن إطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصحّ الجمع بين الكلامين فضلاً عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.

وقد أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذئيل الآية بقوله تعالى: والله واسع عليم فإنّ الواسع يدلّ على عدم ممنوعيّته تعالى عن فعل وإيتاء أصلاً والعليم يدلّ على أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كلّ ما يشاء ولا يفعل إلّا فعلا ذا مصلحة.

والوسعة والسعة في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكّن كسعة الاناء لما يصب فيه، والصندوق لما يوضع فيه، والدار لمن يحلّ فيها ثمّ استعير للغنى ولكن لا كلّ غنىّ ومن كلّ جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كأن المال يسع بذل ما اُريد بذله، وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غنيّ لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك.

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) ، التابوت هو الصندوق، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأنّ الإنسان يرجع إلى الصندوق رجوعاً بعد رجوع.

( كلام في معنى السكينة)

والسكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار الإنسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الإنسان الحكيم (من الحكمة بإصطلاح فنّ الأخلاق) صاحب العزيمة في أفعاله، والله سبحانه جعلها من

٣٠٢

خواص الإيمان في مرتبة كماله، وعدها من مواهبه السامية.

بيان ذلك: أنّ الإنسان بغريزته الفطريّة يصدر أفعاله عن التعقّل، وهو تنظيم مقدّمات عقليّة مشتملة على مصالح الأافعال، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه، ثمّ استنتاج ما ينبغي أن يفعله وما ينبغي أن يتركه.

وهذا العمل الفكريّ إذا جرى الانسان على اسلوب فطرته ولم يقصد إلّا ما ينفعه نفعاً حقيقيّاً في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب وتزلزل، وأمّا إذا أخلد الانسان في حياته إلى الأرض واتّبع الهوى اختلط عليه الأمر، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في أفكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة، وتردّده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الاُمور وهزاهزها أخرى.

والمؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرّك وركن لا ينهدم.

بانياً اُموره على معارف حقّة لاتقبّل الشكّ والريب، مقدّماً في أعماله عن تكليف إلهيّ لا يرتاب فيها، ليس إليه من الأمر شئ حتّى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شرّه.

و أمّا غير المؤمن فلا ولي له يتولّى أمره، بل خيره و شرّه يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الأفكار الّتي تهجم عليه من كلّ جانب من طريق الهوى و الخيال و الإحساسات المشؤمة، قال تعالى:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران- ٦٨ و قال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمد- ١١ و قال تعالى:( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) البقرة- ٢٥٧ و قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف- ٢٧، و قال تعالى:( ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ) آل عمران- ١٧٥ و قال تعالى:( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً ) البقرة- ٢٦٨ و قال تعالى:( وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا - إلى أن قال -وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ) النساء- ١٢٢، و قال تعالى:

٣٠٣

( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) يونس- ٦٢ و الآيات كما ترى تضع كلّ خوف و حزن و اضطراب و غرور في جانب الكفر، و ما يقابلها من الصفات في جانب الإيمان.

و قد بين الأمر أوضح من ذلك بقوله تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الأنعام- ١٢٢ فدلّ على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعاً في الظلمات لا يبصر شيئاً، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، و يدرك به خيره و شرّه، و ذلك لأنّ الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته الّتي يشاركه فيها الكافر، و تلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به، و في معناه قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد- ٢٨.

ثمّ قال تعالى:( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) المجادلة- ٢٢ فأفاد أنّ هذه الحياة إنّما هي بروح منه، و تلازم لزوم الإيمان و استقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيّدون بروح من الله تستتبع استقرار الإيمان في قلوبهم، و الحياة الجديدة في قوالبهم، و النور المضي‏ء قدامهم.

و هذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الفتح- ٤ فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة و ازدياد الإيمان على الإيمان في هذه على كتابة الإيمان في تلك، و يؤيّد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية:( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، فإنّ القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة و الروح.

و يقرب من هذه الآية سياقاً قوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ) ، الفتح- ٢٦ و كذا قوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) التوبة- ٤٠.

و قد ظهر ممّا مرّ أنّه يمكن أن يستفاد من كلامه تعالى أنّ السكينة روح إلهي أو

٣٠٤

تستلزم روحاً إلهيّاً من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب و استقرار النفس و ربط الجأش، و من المعلوم أنّ ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر و استعمال السكينة الّتي هي بمعنى سكون القلب و عدم اضطرابه في الروح الإلهيّ، و بهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات.

قوله تعالى: ( وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) إلخ، آل الرجل خاصّته من أهله و يدخل فيهم نفسه إذا أطلق، فآل موسى و آل هارون هم موسى و هارون و خاصّتهما من أهلهما، و قوله:( تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، حال عن التابوت، و في قوله تعالى:( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ، كسياق صدر الآية دلالة على أنّهم سألوا نبيّهم آية على صدق ما أخبر به:( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ٍ - إلى قوله -مِّنْهُمْ ) ، الفصل ههنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى:( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) يوسف- ٩٤ و ربّما استعمل بمعنى القطع و هو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى:( وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) الأنعام- ٥٧، فالكلمة ممّا يتعدّى و لا يتعدّى.

و الجند المجتمع الغليظ من كلّ شي‏ء و سمّي العسكر جنداً لتراكم الأشخاص فيه و غلظتهم، و في جمع الجند في الكلام دلالة على أنّهم كانوا من الكثرة على حدّ يعتنى به و خاصّة مع ما فيه المؤمنين من القلّة بعد جواز النهر و تفرّق الناس، و نظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى:( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِِ ) .

و في مجموع الكلام إشارة إلى حقّ الأمر في شأن بني إسرائيل و إيفائهم بميثاق الله، فإنّهم سألوا بعث الملك جميعاً و شدوا الميثاق، و قد كانوا من الكثرة بحيث لما تولّوا إلّا قليلاً منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنوداً و هذه الجنود، أيضاً لم تغن عنهم شيئاً بل تخلفوا بشرب النهر و لم يبق إلّا القليل من القليل مع شائبة فشل و نفاق بينهم من جهة المغترفين، و مع ذلك كان النصر للّذين آمنوا و صبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة.

و الابتلاء الامتحان، و النهر مجرى الماء الفائض، و الاغتراف و الغرف رفع الشي‏ء و تناوله، يقال: غرف الماء غرفة و اغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله و يشربه.

٣٠٥

و في استثناء قوله تعالى:( إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ) عن مطلق الشرب دلالة على أنّه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصّة، و قد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب منه فليس منّي إلّا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى:( وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) ، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم و معناه الذوق أوجب تحوّلاً في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أنّ جميع الجنود كانوا من طالوت، و الشرب يوجب انقطاع جمع منه و الاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتّصال و أمّا لو أضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى:( وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) إلى الجملة الأولى كان مفاد الكلام أنّ الأمر غير مستقرّ بحسب الحقيقة بعد إلّا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقّق بعد أنّ الّذين هم مع طالوت من هم، ثمّ النهر الّذي سيبتليهم الله به سيحقّق كلا الفريقين و يشخصّهما فيعيّن به من ليس منه و هو من شرب من النهر، و يتعيّن به من هو منه و هو من لم يطعمه، و إذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء إلّا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لأنّ ذلك إنّما كان مفاداً لو كان المذكور هناك الجملة الأولى فقط، و أمّا مع وجود الجملتين فيتعيّن الطائفتان: أعني الّذين ليسوا منه و هم الشاربون، و الّذين هم منه و هم غير الطاعمين، و من المعلوم أنّ الإخراج من الطائفة الأولى إنّما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية، و لازم ذلك أنّ الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الّذين ليسوا منه، و الّذين هم منه، و المغترفون، و على هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الّذين هم منه، و الّذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر و الجزع و الاعتماد بالله و القلق و الاضطراب.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) إلى آخر الآية، الفئة القطعة من الناس، و التدبّر في الآيات يعطي أن يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون، و المجيبون لهم هم الّذين لم يطعموه أصلاً، و الظنّ بلقاء الله إمّا بمعنى اليقين به و إمّا كناية عن الخشوع.

و لم يقولوا: يمكن أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا:( كَم مِّن فِئَةٍ )

٣٠٦

إلخ، أخذاً بالواقع في الاحتجاج بآرائه المصداق ليكون أقنع للخصم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِِ ) إلخ، البروز هو الظهور، و منه البراز و هو الظهور للحرب، و الإفراغ صب نحو المادّة السيالة في القالب و المراد إفاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيّتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، و كذا تثبيت الأقدام كناية عن الثبات و عدم الفرار.

قوله تعالى: ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ ) إلخ، الهزم الدفع.

قوله تعالى: ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ) إلى آخر الآية، من المعلوم أنّ المراد بفساد الأرض فساد من على الأرض أي فساد الاجتماع الإنسانيّ و لو استتبع فساد الاجتماع فساداً في أديم الأرض فإنّما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، و هذه حقيقة من الحقائق العلميّة ينبه لها القرآن.

بيان ذلك: أنّ سعادة هذه النوع لا تتمّ إلّا بالاجتماع و التعاون. و من المعلوم أنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتّحد أعضاء الاجتماع و أجزاؤه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل و ينفعل عن نفس واحدة و بدن واحد، و الوحدة الاجتماعيّة و مركّبها الّذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعيّة الّتي في الكون و مركّبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود، و من المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنّما هي نتيجة التأثير و التأثّر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الأسباب التكوينيّة و غلبة بعضها على بعض و اندفاع بعضها الآخر عنه و مغلوبيّتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض بل بقي كلّ على فعليّته الّتي هي له، و عند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.

كذلك نظام الاجتماع الإنسانيّ لو لم يقم على أساس التأثير و التأثّر، و الدفع و الغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، و لم يتحقّق حينئذ نظام و بطلت سعادة النوع، فإنّا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، و هو الغلبة و تحميل الإرادة من البين كان كلّ فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلاً ينافي منافع الآخر (سواء منافعه المشروعة أو غيرها) لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه و يلائمها و هكذا، و بذلك تنقطع

٣٠٧

الوحدة من بين الأجزاء و بطل الاجتماع، و هذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مرّ: أنّ الأصل الأوّل الفطريّ للإنسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، و أمّا التعاون و المدنيّة فمتفرّع عليه و أصل ثانويّ، و قد مرّ تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة- ٢١٣.

و في الحقيقة معنى الدفع و الغلبة معنى عامّ سار في جميع شئون الاجتماع الإنسانيّ و حقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الإنسان، و دفعه عمّا يزاحمه و يمانعه عليه، و هذا معنى عامّ موجود في الحرب و السلم معاً، و في الشدّة و الرخاء، و الراحة و العناء جميعاً، و بين جميع الأفراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنّما يتنبّه الإنسان له عند ظهور المخالفة و مزاحمة بعض الأفراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات و الميول و نحوها، فيشرع الإنسان في دفع الإنسان المزاحم الممانع عن حقّه أو عن مشتهاه و معلوم أنّ هذا على مراتب ضعيفة و شديدة، و القتال و الحرب إحدى مراتبه.

و أنت تعلم أنّ هذه الحقيقة أعني كون الدفع و الغلبة من الأصول الفطريّة عند الإنسان أصل فطريّ أعمّ من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حقّ مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الإنسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقّق منه، لا دفاع مشروع على الحقّ لا غيره، فإنّ أعمال الإنسان تستند إلى فطرته كما مرّ بيانه سابقاً فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن و الكافر لم يمكن أن يختصّ المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.

و هذا الأصل الفطريّ ينتفع به الإنسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مرّ من البيان، ثمّ ينتفع به في تحميل إرادته على غيره و تمالك ما بيده تغلّباً و بغياً، و ينتفع به في دفعه و استرداد ما تملّكه تغلّباً و بغياً، و ينتفع به في إحياء الحقّ بعد موته جهلاً بين الناس و تحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطريّ ينتفع به الإنسان أكثر ممّا يستضر به.

و هذا الذي ذكرناه( لَعَلَّهُمْ ) هو المراد بقوله تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) ، و يؤيّد ذلك تذييله بقوله تعالى:( وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى

٣٠٨

الْعَالَمِينَ ) .

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أنّ المورد أيضاً كذلك و ربّما أيّده أيضا قوله تعالى:( لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ ) الحجّ- ٤٠.

و فيه أنّه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أنّ المراد بصلاح الأرض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاصّ الموجود في أحيان يسيرة كقصّة طالوت و قصص اُخرى يسيرة معدودة.

و ربّما ذكر آخرون: أنّ المراد بها دفع الله العذاب و الهلاك عن الفاجر بسبب البرّ، و قد وردت فيه من طرق العامّة و الخاصّة روايات كما في المجمع، و الدرّ المنثور، عن جابر، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده - و ولد ولده و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم‏، و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إنّ الله ليدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا - و لو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، و إنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكي - و لو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، و إنّ الله ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ - و لو اجتمعوا على ترك الحجّ لهلكوا الحديث، و مثلهما غيرهما.

و فيه: أنّ عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين ممّا لا يخفى إلّا أن تنطبق عليهما من جهة أنّ موردهما أيضاً من مصاديق دفع الناس.

و ربّما ذكر بعضهم: أنّ المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ) إلخ، كالخاتمة يختمّ بها الكلام و القصّة غير أنّ آخر الآية:( وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.

( بحث روائي)

في الدر المنثور أخرج عبدالرزّاق و ابن جرير عن زيد بن أسلم، قال: لمّا نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية، جاء أبو الدحداح إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٠٩

فقال: يا نبي الله، أ لا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا- و إن لي أرضين: إحداهما بالعالية و الأخرى بالسافلة، و إني قد جعلت خيرهما صدقة، و كان النبي ص يقول: كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة.

أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة.

و في المعاني، عن الصادقعليه‌السلام : لما نزلت هذه الآية: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها- قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ زدني فأنزل الله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ زدني فأنزل الله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً، فعلم رسول الله أنّ الكثير من الله لا يحصى و ليس له منتهى.

أقول: و روى الطبرسيّ في المجمع، و العيّاشيّ في تفسيره نظيره و روي قريب منه من طرق أهل السنّة أيضاً، قولهعليه‌السلام : فعلم رسول الله، يومئ إليه آخر الآية:( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ) ، إذ لا حدّ يحدّ عطاءه تعالى، و قد قال:( وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الإسراء- ٢٠.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الحسنعليه‌السلام : في الآية، قال: هي صلة الإمام.

أقول: و روي مثله في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام و هو من باب عد المصداق و في المجمع في قوله تعالى:( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ) الآية هو إشموئيل، و هو بالعربيّة إسماعيل.

أقول: و هو مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً و شموئيل هو الّذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل.

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبيّ عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام : أن بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي، و غيروا دين الله، و عتوا عن أمر ربّهم، و كان فيهم نبيّ يأمرهم

٣١٠

و ينهاهم فلم يطيعوه، و روي أنّه أرميا النبيّ على نبيّنا و آله و عليه السلام فسلط الله عليهم جالوت و هو من القبط، فأذلّهم و قتل رجالهم و أخرجهم من ديارهم و أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيّهم، و قالوا: سلّ الله أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله و كانت النبوّة في بني إسرائيل في بيت، و الملك و السلطان في بيت آخر، و لم يجمع الله النبوّة و الملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيّهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا من ديارنا و أبنائنا، فكان كما قال الله:( لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، فقال لهم نبيّهم: إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، فغضبوا من ذلك و قالوا: أنّى يكون له الملك علينا؟ و نحن أحق بالملك منه و لم يؤت سعة من المال، و كانت النبوّة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و كان طالوت من ولد إبنيامين أخي يوسف لاُمّه و أبيه، و لم يكن من بيت النبوّة و لا من بيت المملكة، فقال لهم نبيّهم: إنّ الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم، و كان أعظمهم جسماً و كان قويّاً و كان أعلمهم، إلّا أنّه كان فقيراً فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيّهم: إنّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم و بقيّة ممّا ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة، و كان التابوت الّذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه اُمّه و ألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوّة، و أودعه عند يوشع وصيه، و لم يزل التابوت بينهم حتّى استخفوا به، و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ و شرف مادام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلمّا سألوا النبيّ بعث الله عليهم طالوت ملكاً فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال:( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِِ

٣١١

سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، قال: البقيّة ذرّيّة الأنبياء.

أقول: قوله: و روي أنّه أرميا النبيّ، رواية معترضة في رواية، قولهعليه‌السلام : فكان كما قال الله إلخ، أي تولّى الكثيرون و لم يبق على تسليم حكم القتال إلّا قليل منهم، و في بعض الأخبار أنّ هذا القليل كانوا ستين ألفا، روى ذلك القمّيّ في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضاعليه‌السلام ، و رواه العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام .

و قوله: و كانت النبوّة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و قد قيل: إنّ الملك كان في بيت يهوذا و قد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت و داود و سليمان حتى يكون في بيت يهوذا، و هذا يؤيّد ما ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت أنّ الملك كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكاً ممّا لا ينكر.

و قوله: قال: و البقيّة ذرّيّة الأنبياء، وهم من الراوي، و إنّما فسّرعليه‌السلام بقوله: ذرّيّة الأنبياء قوله: آل موسى و آل عمران، و يؤيّد ما ذكرناه‏ ما في تفسير العياشي، عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سئل عن قول الله:( وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، فقال: ذرّيّة الأنبياء.

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن خالد، و الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث: و قال الله:( إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) فشربوا منه إلّا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلاً، منهم من اغترف، و منهم من لم يشرب،

٣١٢

فلمّا برزوا لجالوت قال الّذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وقال الّذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.

اقول: وأمّا كون الباقين مع طالوت ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بعدد أهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصّة والعامّة، وأمّا كون القائلين: لا طاقة لنا، هم المغترفين، وكون القائلين كم من فئة الخ، هم الّذين لم يشربوا أصلاً فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيّناه: من معنى الاستثناء.

وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيّوب عن يحيى الحلبيّ عن عبدالله بن سليمان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى: إنّ آية ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال: كانت تحمله في صورة البقرة.

واعلم أنّ الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنّه ليس من دأب الكتاب ذلك لأنّ إسقاط الأسانيد فيه إنّما هو لمكان موافقه القرآن ومعه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث، أمّا فيما لا يطّرد فيه الموافقة ولا يتأتّى التطبيق فلا بدّ من ذكر الإسناد، ونحن مع ذلك نختار للإيراد روايات صحيحة الإسناد أو مؤيّده بالقرائن.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام ، قال: كان داود وإخوة له أربعة، ومعهم أبوهم شيخٌ كبيرٌ، وتخلّف داود في غنم لأبيه، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود وهو أصغرهم، فقال: يا بنيّ اذهب إلى إخوتك بهذا الّذي صنعناه لهم يتّقوّوا به على عدوّهم وكان رجلاً قصيرا أرزق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج وقد، تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير، قال سمعته يقول: فمرّ داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني واقتل بي جالوت فإنّي إنّما خلقت لقتله، فأخذه فوضعه في مخلاته الّتي تكون فيها حجارته الّتي يرمي بها عن غنمه بمقذافه، فلمّا دخل العسكر سمعهم يتعظّمون أمر جالوت، فقال لهم داود ما تعظّمون من أمره فو الله لئن عاينته لأقتلنّه فحدّثوا بخبره حتّى اُدخل على طالوت، فقال يا فتى وما عندك من القوّة؟ وما جرّبت من نفسك؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فاُدركه فآخذ برأسه فأفكّ لحييه منها فآخذها من فيه قال: فقال: ادع لي بدرع سابغة فاُتي بدرع فقذفها في عنقه فتملّا منها حتّى راع

٣١٣

طالوت ومن حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: والله لعسى الله أن يقتله به، قال: فلمّا أن أصبحوا ورجعوا إلى طالوت والتقى الناس قال داود: أروني جالوت فلمّا رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصكّ به بين عينيه فدمّغه ونكس عن دابّته، وقال الناس: قتل داود جالوت، وملّكه الناس حتّى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، واجتمعت بنو إسرائيل على داود، وأنزل الله عليه الزبور، وعلّمه صنعة الحديد فليّنه له، وأمر الجبال والطير يسبّحن معه، قال: ولم يعط أحد مثل صوته، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفياً، واُعطى قوّة في عبادته.

اقول: المقذاف المقلاع الّذي يكون للرعاة يرمون به الأحجار، وقد اتّفقت ألسنة الأخبار من طرق الفريقين أنّ داود قتل جالوت بالحجر.

في المجمع، قال: إنّ السكينة الّتي كانت فيه ريح هفّانة من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان عن عليّعليه‌السلام .

أقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن سفيان بن عيينة وابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن عليّعليه‌السلام وكذا عن عبد الرزّاق وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم، وصحّحه وابن عساكر والبيهقيّ في الدلائل من طريق أبي الأحوص عن عليّعليه‌السلام مثله.

وفي تفسير القمّيّ عن أبيه عن عليّ بن الحسين بن خالد عن الرضاعليه‌السلام : السكينة ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان.

أقول: وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق في المعاني والعيّاشيّ في تفسيره عن الرضاعليه‌السلام ، وهذه الأخبار الواردة في معنى السكينة وإن كانت آحاداً إلّا أنّها قابلة التوجيه والتقريب إلى معنى الآية، فإنّ المراد بها على تقدير صحّتها: أنّ السّكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس وطمأنينتها إلى أمر الله، وأمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الأئمّة، فينطبق حينئذ على روح الإيمان، وقد عرفت في البيان السابق أنّ السكينة منطبقة على روح الإيمان.

٣١٤

وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل ما في المعاني عن أبي الحسنعليه‌السلام في السكينة، قالعليه‌السلام : روح الله يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شئ كلّمهم وأخبرهم، الحديث فإنّما هو روح الإيمان يهدي المؤمن إلى الحقّ المختلف فيه.

( بحث علمي واجتماعي)

ذكر علماء الطبيعة أنّ التجارب العلميّ ينتج أن هذه الموجودات الطبيعيّة المجبولة على حفظ وجودها وبقائها، والفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الأفعال ينازع بعضها البعض في البقاء، وحيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير والتأثّر المتقابل من الغير وبالعكس كانت الغلبة للأقوى منهما والأكمل وجوداً، ويستنتج من ذلك أنّ الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الأفراد من نوع أو نوعين أكملها وأمثلها فيتوحّد للبقاء، ويفنى سائر الأفراد وينقرض تدريجاً، فهناك قاعدتان طبيعيّتان: إحداهما: تنازع البقاء، والثانية: الانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل.

وحيث كان الاجتماع متّكئاً في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضاً نظير القانونين: أعني: قانوني تنازع البقاء، والانتخاب وبقاء الأمثل.

فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبنيّ على اساس الاتّحاد الكامل المحكم المرعيّ فيه حقوق الأفراد: الفرديّة والإجتماعيّة أحقّ بالبقاء، وغيره أحقّ بالفناء والانقراض، والتجارب قاض ببقاء الاُمم الحيّة المراقبة لوظائفها الإجتماعيّة المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعيّ، وانقراض الاُمم بتفرّق القلوب، وفشّو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجدّ فيهم، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر. فالبحث في الآثار الأرضيّة يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الأوّليّة الأرضيّة هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الأنواع كالحيوان المسمّى برونتوساروس أو الّتي لم يبق من أنواعها إلّا أنموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إفنائها وانقراضها إلّا تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل، وكذلك الأنواع الموجودة اليوم لا تزال تتغيّر تحت عوامل التنازع والانتخاب، ولا يصلح منها للبقاء إلّا الأمثل

٣١٥

والأقوى وجوداً، ثمّ يجرّه حكم الوراثة إلى استمرار الوجود وبقاء النوع، وعلى هذه الوتيرة كانت الأنواع والتراكيب الموجودة في أصل تكوّنها فإنّما هي أجزاء المادّة المنبثّة في الجوّ حدثت بتراكمها وتجمّعها الكرات والأنواع الحادثة فيها، فما كان منها صالحاً للبقاء بقي ثمّ توارث الوجود، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع

وقد ناقضه المتأخّرون بكثير من الأنواع الضعيفة الوجود الباقية بين الأنواع حتّى اليوم، وبكثير من أصناف الأنواع النباتيّة والحيوانيّة فإنّ وقوع التربية بتأهيل كثير من أنواع النبات والحيوان وإخراجها من البرّيّة والوحشيّة، وسيرها بالتربية إلى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البرّيّ والوحشيّ منها على الردائة، وسيرهما إلى الضعف يوماً فيوماً، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة، كلّ ذلك يقضي بعدم اطّراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ.

ولذلك علّل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيّات بفرضيّة اُخرى، وهي تبعيّة المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعيّة تحت شرائط خاصّة زمانيّة ومكانيّة يستدعي تبعيّة الموجود في جهات وجوده له، وكذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيّات الموجودة في محيط حياته، ولذلك كانت لكلّ نوع من الأنواع الّتي تعيش في البرّ أو البحر أو في مختلف المناطق الأرضيّة القطبيّة أو الاستوائيّة وغير ذلك، من الأعضاء والأدوات والقوى ما يناسب منطقة حياته وعيشته، فمحيط الحياة هو الّذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته، فالقاعدتان ينبغي أن تنتزعا من هذا القانون أعنى: أنّ الأصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ هو تبعيّة المحيط، ففيما لا اطّراد للقاعدتين لا ميحط مؤثّر يوجب التأثير، ولكن لقاعدة تبعيّة المحيط من النقض في اطّرادها نظير ما للقاعدتين، وقد فصّلوها في مظانّها.

ولو كان تبعيّة المحيط تامّة في تأثيرها ومطّردة في حكمها كان من الواجب أن لا يوجد نوع أو فرد غير تابع، ولا أن يتغيّر محيط في نفسه كما أنّ القاعدتين لو كانتا

٣١٦

تامّتين مطّردتين في حكمهما وجب أن لا يبقى شئ من الموجودات الضعيفة الوجود مع القويّة منها ولا أن يجري حكم التوارث في الأصناف الرديّة من النبات والحيوان.

فالحقّ كما ربّما اعترفت به الأبحاث العلميّة أنّ هذه القواعد على ما فيها من الصحّة في الجملة غير مطّردة.

والنظر الفلسفيّ الكلّيّ في هذا الباب: أنّ أمر حدوث الحوادث المادّيّة سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدّلات والتغيّرات الحادثة في أطراف وجودها يدور مدار قانون العلّيّة والمعلوليّة، فكلّ موجود من الموجودات المادّيّة بما لها من الصورة الفعّالة لنفع وجوده يوجّه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه، وهذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمّل في حال الموجودات بعضها مع بعض، ويستوجب ذلك أن ينقص كلّ من كلّ لنفع وجود نفسه فيضمّ ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو، ولازم ذلك أن يكون كلّ موجود فعّالاً لإبقاء وجوده وحياته، وعلى هذا صحّ أن يقال: إنّ بين الموجودات تنازعاً في البقاء، وكذلك لازم التأثير العلّيّ أن يتصرّف الأقوى في الأضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه، وبذلك يمكن أن يوجّه القانونان أعني: الانتخاب الطبيعيّ وتبعيّة المحيط، فإنّ النوع لمّا كان تحت تأثير العوامل المضادّة فإنّما يمكنه أن يقاومها إذا كان قوي الوجود قادراً على الدفاع عن نفسه، وكذلك الحال في أفراد نوع واحد، إنّما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات والأضداد الّتي تتوجّه إليه، وهذا هو الانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل، وكذا إذا اجتمعت عدّة كثيرة من العوامل ثمّ اتّحدت أكثرها أو تقرّبت من حيث العمل فلا بدّ أن يتأثّر منها الموجود الّذي توسّط بينها الأثر الّذي يناسب عملها، وهذا هو تبعيّة المحيط.

وممّا يجب أن يعلم: أنّ أمثال هذه النواميس أعني: تبعيّة المحيط وغيرها إنّما يؤثّر فيما صحّ أن يؤثّر، في عوأرض وجود الشئ ولواحقه، وأمّا نفس الذات بأن يصير نوعاً آخر فلا، لكنّ القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهريّ بل يبنون البحث على أنّ كلّ موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادّة،

٣١٧

وبذلك يمتاز نوع من نوع، وبالحقيقة لانوع جوهريّ يباين نوعاً جوهريّاً آخر، بل جميع الأنواع تتحلّل إلى المادّة الواحدة نوعاً المختلفة بحسب التراكيب المتنوّعة، ومن هنا تراهم يحكمون بتبدّل الأنواع وبتبعيّة المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعيّة ولا يبالون بتبدّل الذات فيها، وللبحث ذيل ممتدّ سيمرّ بك إنشاء الله تفصيل القول فيه.

ونرجع إلى أوّل الكلام فنقول: ذكر بعض المفسّرين: أن قوله تعالى، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين الآية إشارة إلى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ.

قال: ويقرّر ذلك قوله تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) الحجّ - ٤١، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحقّ، وأنّه ينتهى ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل.

وممّا يدلّ على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧، فهو يفيد أن سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضارّ في الاجتماع وتدفعه وتبقى إبليز(١) الحقّ النافع الّذي ينمو فيه العمران، وإبريز المصلحة الّتي يتحلّى به الإنسان، انتهى.

أقول: أمّا أنّ قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعيّ (بالمعنى الّذي مرّ بيانه) حقّ في الجملة، وأنّ القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين الّذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيئ من القاعدتين، فإنّ الصنف الأوّل

______________________________________________

(١) الابليز: الطين الّذي يأتي به النيل في أيّام الطغيان، والابريز الذهب الخالص المصفّى وهما كلمتان معربتان أصلهما آب أو ليز أو آب ليس، وآب ريز.

٣١٨

من الآيات مسوق لبيان أنّ الله سبحانه غير مغلوب في إرادته، وأنّ الحقّ وهو الّذي يرتضيه الله من المعارف الدينيّة غير مغلوب، وأنّ حامله إذا حمله على الحقّ والصدق لم يكن مغلوباً ألبتّة، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى أوّلاً: بأنّهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير، وقوله تعالى ثانياً: الّذين اُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّا أن يقولوا ربّنا الله، فإنّ الجملتين في مقام بيان أنّ المؤمنين سيغلبون أعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الأمثل الأقوى، فإنّ الأمثل والأقوى عند الطبيعة هو الفرد القويّ في تجهيزه الطبيعيّ دون القويّ من حيث الحقّ والأمثل بحسب المعنى، بل سيغلبون لأنّهم مظلومون ظلموا على قول الحقّ والله سبحانه حقّ وينصر الحقّ في نفسه، بمعنى أنّ الباطل لا يقدر على أن يدحض حجّة الحقّ إذا تقابلاً، وينصر حامل الحقّ إذا كان صادقاً في حمله كما ذكره الله بقوله: ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة الخ، أي هم صادقون في قولهم الحقّ وحملهم إيّاه ثمّ ختم الكلام بقوله تعالى: ولله عاقبه الاُمور، يشير به إلى عدّة آيات تفيد أنّ الكون يسير في طريق كماله إلى الحقّ والصدق والسعادة الحقيقيّة، ولاريب أيضاً في دلالة القرآن على أنّ الغلبة لله ولجنده ألبتّة كما يدلّ عليه قوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقوله تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧٣، وقوله تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) يوسف - ٢١.

وكذا الآية الثانية الّتي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء مائاً فسالت أودية بقدرها الخ، مسوقة لبيان بقاء الحقّ وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحقّ والباطل الّذين هما معاً من سنخ المادّيّات والبقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع، والمضادّة كما في الحقّ والباطل الّذين هما بين المادّيّات والمعنويّات فإنّ المعنى - ونعني به الموجود المجرّد عن المادّة - مقدّم على المادّة غير مغلوب في حال أصلاً، فالتقدّم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، وكما في الحقّ والباطل الّذين هما معاً من سنخ المعنويّات والمجرّدات، وقد قال تعالى:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ )

٣١٩

طه - ١١١، وقال تعالى:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة - ١١٦، وقال تعالى:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم - ٤٢، فهو تعالى، غالب على كلّ شئ، وهو الواحد القهّار.

وأمّا الآية الّتي نحن فيها أعني قوله تعالى: ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت أنّها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتّكى عليه الاجتماع الإنسانيّ الّذي به عمارة الأرض، وباختلاله يختلّ العمران وتفسد الأرض، وهي غريزة الاستخدام الّذي جبّل عليه الإنسان، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدّن والاجتماع التعاونيّ، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه واُصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعيّ، لكنّه مع ذلك هو السبب القريب الّذي يقوم عليه عمارة الأرض ومصونيّتها عن الفساد، فينبغي أن تحمل الآية الّتي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.

وبعبارة اُخرى واضحة: القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعيّ توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإنّ كلّاً من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضمّ ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد أن يكون الواحد الّذي هو الباقي منهما أقواهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدّلها إلى واحد أمثل، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الّذي يطلبه الإنسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الأرض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوماً، وأكل بعضهم بعضاً، والدفع الّذي تعمر به الأرض ويصان عن الفساد هو الدفع الّذي يدعو إلى الاجتماع والاتّحاد المستقرّ على الكثرة والجماعة دون الدفع الّذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الأرض وعدم فسادها من حيث أنّه يحيى به حقوق إجتماعيّة حيويّة لقوم مستهلكين مستذلّين لا من حيث يتشتّت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الأثر فافهم.

٣٢٠