الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131658 / تحميل: 8004
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحدّ الازمة باتّصالها بزمام واحد فيسير بذالك فرد من غير حقّ، ولا يتأخّر فرد من غير حقّ.

وبالجملة الغرض من الملك أن يدبّر صاحبه المجتمع تدبيراً يوصل كلّ فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، ويدفع كلّ ما يمانع ذلك، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران:

أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها،

وثانيهما: القدرة الجسميّة على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، وهما اللّذان يشير إليهما قوله تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم، وأمّا سعة المال فعدّه من مقومات الملك من الجهل.

ثمّ جمع الجميع تحت حجّة واحدة ذكرها بقوله تعالى: والله يؤت ملكه من يشاء، وهو أنّ الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلّا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، وإذا كان كذالك فله تعالى التصرّف في ملكه كيف شاء وأراد، ليس لأحد أن يقول: لماذا أو بماذا (أي أن يسأل عن علّة التصرّف لأنّ الله تعالى هو السبب المطلق، ولا عن متمّم العليّة واداة الفعل لأنّ الله تعالى تامّ لا يحتاج لامتمّم) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت إلى بيت، أو تقليده أحداً ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع والمال.

والايتاء والإفاضة الإلهيّة وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنّها مع ذلك لا تقع جزافاً خالية عن الحكم والمصالح، فإنّ المقصود من قولنا: إنّه تعالى يفعل ميشاء، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أنّ الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنّه يفعل فعلاً فإنّ اتّفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار جزافاً ولا محذور لأنّ الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإنّ هذا ممّا يبطله الظواهر الدينيّة والبراهين العقليّة.

بل المقصود بذلك: أنّ الله سبحانه حيث ينتهي إليه كلّ خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقه له تعالى، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهوراً لمصلحة من المصالح محكوماً بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا فعل سبحانه

٣٠١

فعلاً أو خلق خلقاً ولا يفعل إلّا الجميل، ولا يخلق إلّا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيّاً فيه صلاح العباد غير أنّه تعالى غير محكوم ولامقهور للمصلحة.

ومن هنا صحّ اجتماع هذا التعليل مع ما تقدّمه، أعني اجتماع قوله تعالى: والله يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، فإنّ الحجّة الاُولى مشتملة على التعليل بالمصالح والأسباب، والحجّة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، ولو لا أن إطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصحّ الجمع بين الكلامين فضلاً عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.

وقد أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذئيل الآية بقوله تعالى: والله واسع عليم فإنّ الواسع يدلّ على عدم ممنوعيّته تعالى عن فعل وإيتاء أصلاً والعليم يدلّ على أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كلّ ما يشاء ولا يفعل إلّا فعلا ذا مصلحة.

والوسعة والسعة في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكّن كسعة الاناء لما يصب فيه، والصندوق لما يوضع فيه، والدار لمن يحلّ فيها ثمّ استعير للغنى ولكن لا كلّ غنىّ ومن كلّ جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كأن المال يسع بذل ما اُريد بذله، وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غنيّ لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك.

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) ، التابوت هو الصندوق، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأنّ الإنسان يرجع إلى الصندوق رجوعاً بعد رجوع.

( كلام في معنى السكينة)

والسكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار الإنسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الإنسان الحكيم (من الحكمة بإصطلاح فنّ الأخلاق) صاحب العزيمة في أفعاله، والله سبحانه جعلها من

٣٠٢

خواص الإيمان في مرتبة كماله، وعدها من مواهبه السامية.

بيان ذلك: أنّ الإنسان بغريزته الفطريّة يصدر أفعاله عن التعقّل، وهو تنظيم مقدّمات عقليّة مشتملة على مصالح الأافعال، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه، ثمّ استنتاج ما ينبغي أن يفعله وما ينبغي أن يتركه.

وهذا العمل الفكريّ إذا جرى الانسان على اسلوب فطرته ولم يقصد إلّا ما ينفعه نفعاً حقيقيّاً في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب وتزلزل، وأمّا إذا أخلد الانسان في حياته إلى الأرض واتّبع الهوى اختلط عليه الأمر، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في أفكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة، وتردّده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الاُمور وهزاهزها أخرى.

والمؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرّك وركن لا ينهدم.

بانياً اُموره على معارف حقّة لاتقبّل الشكّ والريب، مقدّماً في أعماله عن تكليف إلهيّ لا يرتاب فيها، ليس إليه من الأمر شئ حتّى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شرّه.

و أمّا غير المؤمن فلا ولي له يتولّى أمره، بل خيره و شرّه يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الأفكار الّتي تهجم عليه من كلّ جانب من طريق الهوى و الخيال و الإحساسات المشؤمة، قال تعالى:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران- ٦٨ و قال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمد- ١١ و قال تعالى:( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) البقرة- ٢٥٧ و قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف- ٢٧، و قال تعالى:( ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ) آل عمران- ١٧٥ و قال تعالى:( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً ) البقرة- ٢٦٨ و قال تعالى:( وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا - إلى أن قال -وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ) النساء- ١٢٢، و قال تعالى:

٣٠٣

( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) يونس- ٦٢ و الآيات كما ترى تضع كلّ خوف و حزن و اضطراب و غرور في جانب الكفر، و ما يقابلها من الصفات في جانب الإيمان.

و قد بين الأمر أوضح من ذلك بقوله تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الأنعام- ١٢٢ فدلّ على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعاً في الظلمات لا يبصر شيئاً، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، و يدرك به خيره و شرّه، و ذلك لأنّ الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته الّتي يشاركه فيها الكافر، و تلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به، و في معناه قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد- ٢٨.

ثمّ قال تعالى:( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) المجادلة- ٢٢ فأفاد أنّ هذه الحياة إنّما هي بروح منه، و تلازم لزوم الإيمان و استقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيّدون بروح من الله تستتبع استقرار الإيمان في قلوبهم، و الحياة الجديدة في قوالبهم، و النور المضي‏ء قدامهم.

و هذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الفتح- ٤ فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة و ازدياد الإيمان على الإيمان في هذه على كتابة الإيمان في تلك، و يؤيّد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية:( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، فإنّ القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة و الروح.

و يقرب من هذه الآية سياقاً قوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ) ، الفتح- ٢٦ و كذا قوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) التوبة- ٤٠.

و قد ظهر ممّا مرّ أنّه يمكن أن يستفاد من كلامه تعالى أنّ السكينة روح إلهي أو

٣٠٤

تستلزم روحاً إلهيّاً من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب و استقرار النفس و ربط الجأش، و من المعلوم أنّ ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر و استعمال السكينة الّتي هي بمعنى سكون القلب و عدم اضطرابه في الروح الإلهيّ، و بهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات.

قوله تعالى: ( وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) إلخ، آل الرجل خاصّته من أهله و يدخل فيهم نفسه إذا أطلق، فآل موسى و آل هارون هم موسى و هارون و خاصّتهما من أهلهما، و قوله:( تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، حال عن التابوت، و في قوله تعالى:( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ، كسياق صدر الآية دلالة على أنّهم سألوا نبيّهم آية على صدق ما أخبر به:( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ٍ - إلى قوله -مِّنْهُمْ ) ، الفصل ههنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى:( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) يوسف- ٩٤ و ربّما استعمل بمعنى القطع و هو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى:( وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) الأنعام- ٥٧، فالكلمة ممّا يتعدّى و لا يتعدّى.

و الجند المجتمع الغليظ من كلّ شي‏ء و سمّي العسكر جنداً لتراكم الأشخاص فيه و غلظتهم، و في جمع الجند في الكلام دلالة على أنّهم كانوا من الكثرة على حدّ يعتنى به و خاصّة مع ما فيه المؤمنين من القلّة بعد جواز النهر و تفرّق الناس، و نظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى:( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِِ ) .

و في مجموع الكلام إشارة إلى حقّ الأمر في شأن بني إسرائيل و إيفائهم بميثاق الله، فإنّهم سألوا بعث الملك جميعاً و شدوا الميثاق، و قد كانوا من الكثرة بحيث لما تولّوا إلّا قليلاً منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنوداً و هذه الجنود، أيضاً لم تغن عنهم شيئاً بل تخلفوا بشرب النهر و لم يبق إلّا القليل من القليل مع شائبة فشل و نفاق بينهم من جهة المغترفين، و مع ذلك كان النصر للّذين آمنوا و صبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة.

و الابتلاء الامتحان، و النهر مجرى الماء الفائض، و الاغتراف و الغرف رفع الشي‏ء و تناوله، يقال: غرف الماء غرفة و اغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله و يشربه.

٣٠٥

و في استثناء قوله تعالى:( إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ) عن مطلق الشرب دلالة على أنّه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصّة، و قد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب منه فليس منّي إلّا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى:( وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) ، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم و معناه الذوق أوجب تحوّلاً في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أنّ جميع الجنود كانوا من طالوت، و الشرب يوجب انقطاع جمع منه و الاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتّصال و أمّا لو أضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى:( وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) إلى الجملة الأولى كان مفاد الكلام أنّ الأمر غير مستقرّ بحسب الحقيقة بعد إلّا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقّق بعد أنّ الّذين هم مع طالوت من هم، ثمّ النهر الّذي سيبتليهم الله به سيحقّق كلا الفريقين و يشخصّهما فيعيّن به من ليس منه و هو من شرب من النهر، و يتعيّن به من هو منه و هو من لم يطعمه، و إذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء إلّا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لأنّ ذلك إنّما كان مفاداً لو كان المذكور هناك الجملة الأولى فقط، و أمّا مع وجود الجملتين فيتعيّن الطائفتان: أعني الّذين ليسوا منه و هم الشاربون، و الّذين هم منه و هم غير الطاعمين، و من المعلوم أنّ الإخراج من الطائفة الأولى إنّما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية، و لازم ذلك أنّ الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الّذين ليسوا منه، و الّذين هم منه، و المغترفون، و على هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الّذين هم منه، و الّذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر و الجزع و الاعتماد بالله و القلق و الاضطراب.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) إلى آخر الآية، الفئة القطعة من الناس، و التدبّر في الآيات يعطي أن يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون، و المجيبون لهم هم الّذين لم يطعموه أصلاً، و الظنّ بلقاء الله إمّا بمعنى اليقين به و إمّا كناية عن الخشوع.

و لم يقولوا: يمكن أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا:( كَم مِّن فِئَةٍ )

٣٠٦

إلخ، أخذاً بالواقع في الاحتجاج بآرائه المصداق ليكون أقنع للخصم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِِ ) إلخ، البروز هو الظهور، و منه البراز و هو الظهور للحرب، و الإفراغ صب نحو المادّة السيالة في القالب و المراد إفاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيّتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، و كذا تثبيت الأقدام كناية عن الثبات و عدم الفرار.

قوله تعالى: ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ ) إلخ، الهزم الدفع.

قوله تعالى: ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ) إلى آخر الآية، من المعلوم أنّ المراد بفساد الأرض فساد من على الأرض أي فساد الاجتماع الإنسانيّ و لو استتبع فساد الاجتماع فساداً في أديم الأرض فإنّما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، و هذه حقيقة من الحقائق العلميّة ينبه لها القرآن.

بيان ذلك: أنّ سعادة هذه النوع لا تتمّ إلّا بالاجتماع و التعاون. و من المعلوم أنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتّحد أعضاء الاجتماع و أجزاؤه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل و ينفعل عن نفس واحدة و بدن واحد، و الوحدة الاجتماعيّة و مركّبها الّذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعيّة الّتي في الكون و مركّبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود، و من المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنّما هي نتيجة التأثير و التأثّر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الأسباب التكوينيّة و غلبة بعضها على بعض و اندفاع بعضها الآخر عنه و مغلوبيّتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض بل بقي كلّ على فعليّته الّتي هي له، و عند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.

كذلك نظام الاجتماع الإنسانيّ لو لم يقم على أساس التأثير و التأثّر، و الدفع و الغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، و لم يتحقّق حينئذ نظام و بطلت سعادة النوع، فإنّا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، و هو الغلبة و تحميل الإرادة من البين كان كلّ فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلاً ينافي منافع الآخر (سواء منافعه المشروعة أو غيرها) لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه و يلائمها و هكذا، و بذلك تنقطع

٣٠٧

الوحدة من بين الأجزاء و بطل الاجتماع، و هذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مرّ: أنّ الأصل الأوّل الفطريّ للإنسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، و أمّا التعاون و المدنيّة فمتفرّع عليه و أصل ثانويّ، و قد مرّ تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة- ٢١٣.

و في الحقيقة معنى الدفع و الغلبة معنى عامّ سار في جميع شئون الاجتماع الإنسانيّ و حقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الإنسان، و دفعه عمّا يزاحمه و يمانعه عليه، و هذا معنى عامّ موجود في الحرب و السلم معاً، و في الشدّة و الرخاء، و الراحة و العناء جميعاً، و بين جميع الأفراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنّما يتنبّه الإنسان له عند ظهور المخالفة و مزاحمة بعض الأفراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات و الميول و نحوها، فيشرع الإنسان في دفع الإنسان المزاحم الممانع عن حقّه أو عن مشتهاه و معلوم أنّ هذا على مراتب ضعيفة و شديدة، و القتال و الحرب إحدى مراتبه.

و أنت تعلم أنّ هذه الحقيقة أعني كون الدفع و الغلبة من الأصول الفطريّة عند الإنسان أصل فطريّ أعمّ من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حقّ مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الإنسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقّق منه، لا دفاع مشروع على الحقّ لا غيره، فإنّ أعمال الإنسان تستند إلى فطرته كما مرّ بيانه سابقاً فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن و الكافر لم يمكن أن يختصّ المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.

و هذا الأصل الفطريّ ينتفع به الإنسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مرّ من البيان، ثمّ ينتفع به في تحميل إرادته على غيره و تمالك ما بيده تغلّباً و بغياً، و ينتفع به في دفعه و استرداد ما تملّكه تغلّباً و بغياً، و ينتفع به في إحياء الحقّ بعد موته جهلاً بين الناس و تحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطريّ ينتفع به الإنسان أكثر ممّا يستضر به.

و هذا الذي ذكرناه( لَعَلَّهُمْ ) هو المراد بقوله تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) ، و يؤيّد ذلك تذييله بقوله تعالى:( وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى

٣٠٨

الْعَالَمِينَ ) .

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أنّ المورد أيضاً كذلك و ربّما أيّده أيضا قوله تعالى:( لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ ) الحجّ- ٤٠.

و فيه أنّه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أنّ المراد بصلاح الأرض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاصّ الموجود في أحيان يسيرة كقصّة طالوت و قصص اُخرى يسيرة معدودة.

و ربّما ذكر آخرون: أنّ المراد بها دفع الله العذاب و الهلاك عن الفاجر بسبب البرّ، و قد وردت فيه من طرق العامّة و الخاصّة روايات كما في المجمع، و الدرّ المنثور، عن جابر، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده - و ولد ولده و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم‏، و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إنّ الله ليدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا - و لو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، و إنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكي - و لو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، و إنّ الله ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ - و لو اجتمعوا على ترك الحجّ لهلكوا الحديث، و مثلهما غيرهما.

و فيه: أنّ عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين ممّا لا يخفى إلّا أن تنطبق عليهما من جهة أنّ موردهما أيضاً من مصاديق دفع الناس.

و ربّما ذكر بعضهم: أنّ المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ) إلخ، كالخاتمة يختمّ بها الكلام و القصّة غير أنّ آخر الآية:( وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.

( بحث روائي)

في الدر المنثور أخرج عبدالرزّاق و ابن جرير عن زيد بن أسلم، قال: لمّا نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية، جاء أبو الدحداح إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٠٩

فقال: يا نبي الله، أ لا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا- و إن لي أرضين: إحداهما بالعالية و الأخرى بالسافلة، و إني قد جعلت خيرهما صدقة، و كان النبي ص يقول: كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة.

أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة.

و في المعاني، عن الصادقعليه‌السلام : لما نزلت هذه الآية: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها- قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ زدني فأنزل الله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ زدني فأنزل الله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً، فعلم رسول الله أنّ الكثير من الله لا يحصى و ليس له منتهى.

أقول: و روى الطبرسيّ في المجمع، و العيّاشيّ في تفسيره نظيره و روي قريب منه من طرق أهل السنّة أيضاً، قولهعليه‌السلام : فعلم رسول الله، يومئ إليه آخر الآية:( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ) ، إذ لا حدّ يحدّ عطاءه تعالى، و قد قال:( وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الإسراء- ٢٠.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الحسنعليه‌السلام : في الآية، قال: هي صلة الإمام.

أقول: و روي مثله في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام و هو من باب عد المصداق و في المجمع في قوله تعالى:( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ) الآية هو إشموئيل، و هو بالعربيّة إسماعيل.

أقول: و هو مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً و شموئيل هو الّذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل.

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبيّ عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام : أن بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي، و غيروا دين الله، و عتوا عن أمر ربّهم، و كان فيهم نبيّ يأمرهم

٣١٠

و ينهاهم فلم يطيعوه، و روي أنّه أرميا النبيّ على نبيّنا و آله و عليه السلام فسلط الله عليهم جالوت و هو من القبط، فأذلّهم و قتل رجالهم و أخرجهم من ديارهم و أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيّهم، و قالوا: سلّ الله أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله و كانت النبوّة في بني إسرائيل في بيت، و الملك و السلطان في بيت آخر، و لم يجمع الله النبوّة و الملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيّهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا من ديارنا و أبنائنا، فكان كما قال الله:( لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، فقال لهم نبيّهم: إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، فغضبوا من ذلك و قالوا: أنّى يكون له الملك علينا؟ و نحن أحق بالملك منه و لم يؤت سعة من المال، و كانت النبوّة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و كان طالوت من ولد إبنيامين أخي يوسف لاُمّه و أبيه، و لم يكن من بيت النبوّة و لا من بيت المملكة، فقال لهم نبيّهم: إنّ الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم، و كان أعظمهم جسماً و كان قويّاً و كان أعلمهم، إلّا أنّه كان فقيراً فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيّهم: إنّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم و بقيّة ممّا ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة، و كان التابوت الّذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه اُمّه و ألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوّة، و أودعه عند يوشع وصيه، و لم يزل التابوت بينهم حتّى استخفوا به، و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ و شرف مادام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلمّا سألوا النبيّ بعث الله عليهم طالوت ملكاً فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال:( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِِ

٣١١

سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، قال: البقيّة ذرّيّة الأنبياء.

أقول: قوله: و روي أنّه أرميا النبيّ، رواية معترضة في رواية، قولهعليه‌السلام : فكان كما قال الله إلخ، أي تولّى الكثيرون و لم يبق على تسليم حكم القتال إلّا قليل منهم، و في بعض الأخبار أنّ هذا القليل كانوا ستين ألفا، روى ذلك القمّيّ في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضاعليه‌السلام ، و رواه العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام .

و قوله: و كانت النبوّة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و قد قيل: إنّ الملك كان في بيت يهوذا و قد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت و داود و سليمان حتى يكون في بيت يهوذا، و هذا يؤيّد ما ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت أنّ الملك كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكاً ممّا لا ينكر.

و قوله: قال: و البقيّة ذرّيّة الأنبياء، وهم من الراوي، و إنّما فسّرعليه‌السلام بقوله: ذرّيّة الأنبياء قوله: آل موسى و آل عمران، و يؤيّد ما ذكرناه‏ ما في تفسير العياشي، عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سئل عن قول الله:( وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ) ، فقال: ذرّيّة الأنبياء.

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن خالد، و الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث: و قال الله:( إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) فشربوا منه إلّا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلاً، منهم من اغترف، و منهم من لم يشرب،

٣١٢

فلمّا برزوا لجالوت قال الّذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وقال الّذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.

اقول: وأمّا كون الباقين مع طالوت ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بعدد أهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصّة والعامّة، وأمّا كون القائلين: لا طاقة لنا، هم المغترفين، وكون القائلين كم من فئة الخ، هم الّذين لم يشربوا أصلاً فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيّناه: من معنى الاستثناء.

وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيّوب عن يحيى الحلبيّ عن عبدالله بن سليمان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى: إنّ آية ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال: كانت تحمله في صورة البقرة.

واعلم أنّ الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنّه ليس من دأب الكتاب ذلك لأنّ إسقاط الأسانيد فيه إنّما هو لمكان موافقه القرآن ومعه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث، أمّا فيما لا يطّرد فيه الموافقة ولا يتأتّى التطبيق فلا بدّ من ذكر الإسناد، ونحن مع ذلك نختار للإيراد روايات صحيحة الإسناد أو مؤيّده بالقرائن.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام ، قال: كان داود وإخوة له أربعة، ومعهم أبوهم شيخٌ كبيرٌ، وتخلّف داود في غنم لأبيه، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود وهو أصغرهم، فقال: يا بنيّ اذهب إلى إخوتك بهذا الّذي صنعناه لهم يتّقوّوا به على عدوّهم وكان رجلاً قصيرا أرزق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج وقد، تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير، قال سمعته يقول: فمرّ داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني واقتل بي جالوت فإنّي إنّما خلقت لقتله، فأخذه فوضعه في مخلاته الّتي تكون فيها حجارته الّتي يرمي بها عن غنمه بمقذافه، فلمّا دخل العسكر سمعهم يتعظّمون أمر جالوت، فقال لهم داود ما تعظّمون من أمره فو الله لئن عاينته لأقتلنّه فحدّثوا بخبره حتّى اُدخل على طالوت، فقال يا فتى وما عندك من القوّة؟ وما جرّبت من نفسك؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فاُدركه فآخذ برأسه فأفكّ لحييه منها فآخذها من فيه قال: فقال: ادع لي بدرع سابغة فاُتي بدرع فقذفها في عنقه فتملّا منها حتّى راع

٣١٣

طالوت ومن حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: والله لعسى الله أن يقتله به، قال: فلمّا أن أصبحوا ورجعوا إلى طالوت والتقى الناس قال داود: أروني جالوت فلمّا رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصكّ به بين عينيه فدمّغه ونكس عن دابّته، وقال الناس: قتل داود جالوت، وملّكه الناس حتّى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، واجتمعت بنو إسرائيل على داود، وأنزل الله عليه الزبور، وعلّمه صنعة الحديد فليّنه له، وأمر الجبال والطير يسبّحن معه، قال: ولم يعط أحد مثل صوته، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفياً، واُعطى قوّة في عبادته.

اقول: المقذاف المقلاع الّذي يكون للرعاة يرمون به الأحجار، وقد اتّفقت ألسنة الأخبار من طرق الفريقين أنّ داود قتل جالوت بالحجر.

في المجمع، قال: إنّ السكينة الّتي كانت فيه ريح هفّانة من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان عن عليّعليه‌السلام .

أقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن سفيان بن عيينة وابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن عليّعليه‌السلام وكذا عن عبد الرزّاق وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم، وصحّحه وابن عساكر والبيهقيّ في الدلائل من طريق أبي الأحوص عن عليّعليه‌السلام مثله.

وفي تفسير القمّيّ عن أبيه عن عليّ بن الحسين بن خالد عن الرضاعليه‌السلام : السكينة ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان.

أقول: وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق في المعاني والعيّاشيّ في تفسيره عن الرضاعليه‌السلام ، وهذه الأخبار الواردة في معنى السكينة وإن كانت آحاداً إلّا أنّها قابلة التوجيه والتقريب إلى معنى الآية، فإنّ المراد بها على تقدير صحّتها: أنّ السّكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس وطمأنينتها إلى أمر الله، وأمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الأئمّة، فينطبق حينئذ على روح الإيمان، وقد عرفت في البيان السابق أنّ السكينة منطبقة على روح الإيمان.

٣١٤

وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل ما في المعاني عن أبي الحسنعليه‌السلام في السكينة، قالعليه‌السلام : روح الله يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شئ كلّمهم وأخبرهم، الحديث فإنّما هو روح الإيمان يهدي المؤمن إلى الحقّ المختلف فيه.

( بحث علمي واجتماعي)

ذكر علماء الطبيعة أنّ التجارب العلميّ ينتج أن هذه الموجودات الطبيعيّة المجبولة على حفظ وجودها وبقائها، والفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الأفعال ينازع بعضها البعض في البقاء، وحيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير والتأثّر المتقابل من الغير وبالعكس كانت الغلبة للأقوى منهما والأكمل وجوداً، ويستنتج من ذلك أنّ الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الأفراد من نوع أو نوعين أكملها وأمثلها فيتوحّد للبقاء، ويفنى سائر الأفراد وينقرض تدريجاً، فهناك قاعدتان طبيعيّتان: إحداهما: تنازع البقاء، والثانية: الانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل.

وحيث كان الاجتماع متّكئاً في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضاً نظير القانونين: أعني: قانوني تنازع البقاء، والانتخاب وبقاء الأمثل.

فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبنيّ على اساس الاتّحاد الكامل المحكم المرعيّ فيه حقوق الأفراد: الفرديّة والإجتماعيّة أحقّ بالبقاء، وغيره أحقّ بالفناء والانقراض، والتجارب قاض ببقاء الاُمم الحيّة المراقبة لوظائفها الإجتماعيّة المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعيّ، وانقراض الاُمم بتفرّق القلوب، وفشّو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجدّ فيهم، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر. فالبحث في الآثار الأرضيّة يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الأوّليّة الأرضيّة هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الأنواع كالحيوان المسمّى برونتوساروس أو الّتي لم يبق من أنواعها إلّا أنموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إفنائها وانقراضها إلّا تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل، وكذلك الأنواع الموجودة اليوم لا تزال تتغيّر تحت عوامل التنازع والانتخاب، ولا يصلح منها للبقاء إلّا الأمثل

٣١٥

والأقوى وجوداً، ثمّ يجرّه حكم الوراثة إلى استمرار الوجود وبقاء النوع، وعلى هذه الوتيرة كانت الأنواع والتراكيب الموجودة في أصل تكوّنها فإنّما هي أجزاء المادّة المنبثّة في الجوّ حدثت بتراكمها وتجمّعها الكرات والأنواع الحادثة فيها، فما كان منها صالحاً للبقاء بقي ثمّ توارث الوجود، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع

وقد ناقضه المتأخّرون بكثير من الأنواع الضعيفة الوجود الباقية بين الأنواع حتّى اليوم، وبكثير من أصناف الأنواع النباتيّة والحيوانيّة فإنّ وقوع التربية بتأهيل كثير من أنواع النبات والحيوان وإخراجها من البرّيّة والوحشيّة، وسيرها بالتربية إلى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البرّيّ والوحشيّ منها على الردائة، وسيرهما إلى الضعف يوماً فيوماً، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة، كلّ ذلك يقضي بعدم اطّراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ.

ولذلك علّل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيّات بفرضيّة اُخرى، وهي تبعيّة المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعيّة تحت شرائط خاصّة زمانيّة ومكانيّة يستدعي تبعيّة الموجود في جهات وجوده له، وكذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيّات الموجودة في محيط حياته، ولذلك كانت لكلّ نوع من الأنواع الّتي تعيش في البرّ أو البحر أو في مختلف المناطق الأرضيّة القطبيّة أو الاستوائيّة وغير ذلك، من الأعضاء والأدوات والقوى ما يناسب منطقة حياته وعيشته، فمحيط الحياة هو الّذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته، فالقاعدتان ينبغي أن تنتزعا من هذا القانون أعنى: أنّ الأصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ هو تبعيّة المحيط، ففيما لا اطّراد للقاعدتين لا ميحط مؤثّر يوجب التأثير، ولكن لقاعدة تبعيّة المحيط من النقض في اطّرادها نظير ما للقاعدتين، وقد فصّلوها في مظانّها.

ولو كان تبعيّة المحيط تامّة في تأثيرها ومطّردة في حكمها كان من الواجب أن لا يوجد نوع أو فرد غير تابع، ولا أن يتغيّر محيط في نفسه كما أنّ القاعدتين لو كانتا

٣١٦

تامّتين مطّردتين في حكمهما وجب أن لا يبقى شئ من الموجودات الضعيفة الوجود مع القويّة منها ولا أن يجري حكم التوارث في الأصناف الرديّة من النبات والحيوان.

فالحقّ كما ربّما اعترفت به الأبحاث العلميّة أنّ هذه القواعد على ما فيها من الصحّة في الجملة غير مطّردة.

والنظر الفلسفيّ الكلّيّ في هذا الباب: أنّ أمر حدوث الحوادث المادّيّة سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدّلات والتغيّرات الحادثة في أطراف وجودها يدور مدار قانون العلّيّة والمعلوليّة، فكلّ موجود من الموجودات المادّيّة بما لها من الصورة الفعّالة لنفع وجوده يوجّه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه، وهذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمّل في حال الموجودات بعضها مع بعض، ويستوجب ذلك أن ينقص كلّ من كلّ لنفع وجود نفسه فيضمّ ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو، ولازم ذلك أن يكون كلّ موجود فعّالاً لإبقاء وجوده وحياته، وعلى هذا صحّ أن يقال: إنّ بين الموجودات تنازعاً في البقاء، وكذلك لازم التأثير العلّيّ أن يتصرّف الأقوى في الأضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه، وبذلك يمكن أن يوجّه القانونان أعني: الانتخاب الطبيعيّ وتبعيّة المحيط، فإنّ النوع لمّا كان تحت تأثير العوامل المضادّة فإنّما يمكنه أن يقاومها إذا كان قوي الوجود قادراً على الدفاع عن نفسه، وكذلك الحال في أفراد نوع واحد، إنّما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات والأضداد الّتي تتوجّه إليه، وهذا هو الانتخاب الطبيعيّ وبقاء الأمثل، وكذا إذا اجتمعت عدّة كثيرة من العوامل ثمّ اتّحدت أكثرها أو تقرّبت من حيث العمل فلا بدّ أن يتأثّر منها الموجود الّذي توسّط بينها الأثر الّذي يناسب عملها، وهذا هو تبعيّة المحيط.

وممّا يجب أن يعلم: أنّ أمثال هذه النواميس أعني: تبعيّة المحيط وغيرها إنّما يؤثّر فيما صحّ أن يؤثّر، في عوأرض وجود الشئ ولواحقه، وأمّا نفس الذات بأن يصير نوعاً آخر فلا، لكنّ القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهريّ بل يبنون البحث على أنّ كلّ موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادّة،

٣١٧

وبذلك يمتاز نوع من نوع، وبالحقيقة لانوع جوهريّ يباين نوعاً جوهريّاً آخر، بل جميع الأنواع تتحلّل إلى المادّة الواحدة نوعاً المختلفة بحسب التراكيب المتنوّعة، ومن هنا تراهم يحكمون بتبدّل الأنواع وبتبعيّة المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعيّة ولا يبالون بتبدّل الذات فيها، وللبحث ذيل ممتدّ سيمرّ بك إنشاء الله تفصيل القول فيه.

ونرجع إلى أوّل الكلام فنقول: ذكر بعض المفسّرين: أن قوله تعالى، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين الآية إشارة إلى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعيّ.

قال: ويقرّر ذلك قوله تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) الحجّ - ٤١، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحقّ، وأنّه ينتهى ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل.

وممّا يدلّ على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧، فهو يفيد أن سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضارّ في الاجتماع وتدفعه وتبقى إبليز(١) الحقّ النافع الّذي ينمو فيه العمران، وإبريز المصلحة الّتي يتحلّى به الإنسان، انتهى.

أقول: أمّا أنّ قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعيّ (بالمعنى الّذي مرّ بيانه) حقّ في الجملة، وأنّ القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين الّذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيئ من القاعدتين، فإنّ الصنف الأوّل

______________________________________________

(١) الابليز: الطين الّذي يأتي به النيل في أيّام الطغيان، والابريز الذهب الخالص المصفّى وهما كلمتان معربتان أصلهما آب أو ليز أو آب ليس، وآب ريز.

٣١٨

من الآيات مسوق لبيان أنّ الله سبحانه غير مغلوب في إرادته، وأنّ الحقّ وهو الّذي يرتضيه الله من المعارف الدينيّة غير مغلوب، وأنّ حامله إذا حمله على الحقّ والصدق لم يكن مغلوباً ألبتّة، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى أوّلاً: بأنّهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير، وقوله تعالى ثانياً: الّذين اُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّا أن يقولوا ربّنا الله، فإنّ الجملتين في مقام بيان أنّ المؤمنين سيغلبون أعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الأمثل الأقوى، فإنّ الأمثل والأقوى عند الطبيعة هو الفرد القويّ في تجهيزه الطبيعيّ دون القويّ من حيث الحقّ والأمثل بحسب المعنى، بل سيغلبون لأنّهم مظلومون ظلموا على قول الحقّ والله سبحانه حقّ وينصر الحقّ في نفسه، بمعنى أنّ الباطل لا يقدر على أن يدحض حجّة الحقّ إذا تقابلاً، وينصر حامل الحقّ إذا كان صادقاً في حمله كما ذكره الله بقوله: ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة الخ، أي هم صادقون في قولهم الحقّ وحملهم إيّاه ثمّ ختم الكلام بقوله تعالى: ولله عاقبه الاُمور، يشير به إلى عدّة آيات تفيد أنّ الكون يسير في طريق كماله إلى الحقّ والصدق والسعادة الحقيقيّة، ولاريب أيضاً في دلالة القرآن على أنّ الغلبة لله ولجنده ألبتّة كما يدلّ عليه قوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقوله تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧٣، وقوله تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) يوسف - ٢١.

وكذا الآية الثانية الّتي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء مائاً فسالت أودية بقدرها الخ، مسوقة لبيان بقاء الحقّ وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحقّ والباطل الّذين هما معاً من سنخ المادّيّات والبقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع، والمضادّة كما في الحقّ والباطل الّذين هما بين المادّيّات والمعنويّات فإنّ المعنى - ونعني به الموجود المجرّد عن المادّة - مقدّم على المادّة غير مغلوب في حال أصلاً، فالتقدّم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، وكما في الحقّ والباطل الّذين هما معاً من سنخ المعنويّات والمجرّدات، وقد قال تعالى:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ )

٣١٩

طه - ١١١، وقال تعالى:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة - ١١٦، وقال تعالى:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم - ٤٢، فهو تعالى، غالب على كلّ شئ، وهو الواحد القهّار.

وأمّا الآية الّتي نحن فيها أعني قوله تعالى: ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت أنّها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتّكى عليه الاجتماع الإنسانيّ الّذي به عمارة الأرض، وباختلاله يختلّ العمران وتفسد الأرض، وهي غريزة الاستخدام الّذي جبّل عليه الإنسان، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدّن والاجتماع التعاونيّ، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه واُصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعيّ، لكنّه مع ذلك هو السبب القريب الّذي يقوم عليه عمارة الأرض ومصونيّتها عن الفساد، فينبغي أن تحمل الآية الّتي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.

وبعبارة اُخرى واضحة: القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعيّ توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإنّ كلّاً من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضمّ ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد أن يكون الواحد الّذي هو الباقي منهما أقواهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدّلها إلى واحد أمثل، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الّذي يطلبه الإنسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الأرض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوماً، وأكل بعضهم بعضاً، والدفع الّذي تعمر به الأرض ويصان عن الفساد هو الدفع الّذي يدعو إلى الاجتماع والاتّحاد المستقرّ على الكثرة والجماعة دون الدفع الّذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الأرض وعدم فسادها من حيث أنّه يحيى به حقوق إجتماعيّة حيويّة لقوم مستهلكين مستذلّين لا من حيث يتشتّت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الأثر فافهم.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481