الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131638 / تحميل: 8003
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

و في ( عيون ابن قتيبة ) قالت عائشة : خطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله امرأة من كلب ، فبعثني أنظر إليها فقال لي : كيف رأيت ؟ فقلت : ما رأيت طائلا فقال : لقد رأيت خالا بخدّها أقشعر كلّ شعرة منك على حدها فقالت : ما دونك ستر(١) .

و روى ( سنن أبي داود ) عن أنس أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى امهات المؤمنين مع خادمها قصعة فيها طعام ، فضربت بيدها فكسرت القصعة ، فأخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الكسرتين فضمّ إحداهما إلى الاخرى فجعل يجمع فيها الطعام و يقول : غارت امّكم(٢) .

قلت : و المرسلة للطعام في قصعة كانت صفية بن حيّ بن أخطب و الكاسرة لها عائشة كما صرّح به في خبر رواه بعد و في ذاك الخبر : أخذ عائشة أفكل فكسرت الإناء .

و في ( اسد الغابة ) في عنوان خديجة ، قالت عائشة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوما فأدركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلاّ عجوزا فقد أبدلك اللَّه خيرا منها فغضب حتى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب ، ثم قال : لا و اللَّه ما أبدلني اللَّه خيرا منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، و صدّقتني إذ كذّبني الناس ، و واستني في مالها إذ حرمني الناس ، و رزقني اللَّه منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء(٣) .

قلت : و مغزى كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أباها كان كافرا فيمن كفر و مكذّبا فيمن كذب حين اسلام خديجة ، كما أنّها هي من نسائه اللاتي حرم الولد منهن ، فكيف يدّعون لأبيها تقدم اسلامه .

____________________

( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ١٩ كذا أخبار النساء لابن قيم الجوزية : ٩ .

( ٢ ) سنن أبي داود ٣ : ٢٩٧ ح ٣٥٦٧ .

( ٣ ) اسد الغابة لابن الأثير ٥ : ٤٣٨ .

٢٨١

و في ( تفسير القمّي ) في قوله تعالى :( و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) (١) كان سبب نزولها أنّ امرأة من الأنصار أتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و قد تهيّأت و تزيّنت ، فقالت : يا رسول اللَّه هل لك فيّ حاجة فقد وهبت نفسي لك فقالت لها عائشة : قبّحك اللَّه ما أنهمك للرجال فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : مه يا عائشة فإنّها رغبت في رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ زهدتنّ فيه ثم قال : رحمك اللَّه و رحمكم يا معشر الأنصار ، نصرني رجالكم و رغبت فيّ نساؤكم ، إرجعي رحمك اللَّه فإنّي أنتظر أمر اللَّه فأنزل اللَّه تعالى( و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبيّ أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) (٢) فلا تحلّ الهبة إلاّ لرسول اللَّه(٣) .

ثم من المضحك أنّ النووي في شرحه على صحيح مسلم قال بعد ذكر رواية مسلم عن عائشة قالت : قال لي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي لأعلم إذا كنت عنّي راضية و إذا كنت عليّ غضبى قلت : و من أين تعرف ذلك ؟ قال : أمّا إذ كنت عني راضية تقولين : « لا و ربّ محمّد » و إذ كنت غضبى تقولين : « لا و ربّ إبراهيم » .

قلت : أجل و اللَّه لا أهجر إلاّ اسمك .

مغاضبة عائشة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي ممّا سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام كما سبق لعدم انفكاكهن منها ، حتى قال مالك و غيره من علماء المدينة : يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة ، قال و احتج بما روي ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله و لو لا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه ، لأن الغضب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و هجره كبيرة عظيمة(٤) .

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٥٠ .

( ٢ ) الأحزاب : ٥٠ .

( ٣ ) تفسير القمي ٢ : ١٩٥ .

( ٤ ) صحيح مسلم بشرح النووي ١٥ : ٢٠٣ .

٢٨٢

فإنّ إخواننا إنّما عرفوا الحق بالأشخاص ، فاعتقدوا بحسب مذهبهم المتناقض أنّ عائشة صدّيقة ابنة صدّيق .

فاشتروا بذلك قول اللَّه جل و علا :( يا نساء النبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على اللَّه يسيرا ) (١) و قوله تعالى فيها و في صاحبتها :( و إن تظاهرا عليه فإنّ اللَّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين ) (٢) .

و قوله عزّ اسمه تعريضا بهما كما صرّح به ( الزمخشري )(٣) و رواه ( صحيح مسلم )(٤) :( ضرب اللَّه مثلا للّذين كفروا امرأت نوح و امرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من اللَّه شيئا و قيل ادخلا النّار مع الدّاخلين ) (٥) بثمن قليل ، فكان ضعف العذاب عليها لإتيانها بتلك الفواحش المبيّنة عليهم عسيرا ، و تظاهرها هي و صاحبتها على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نسيا منسيا ، و أنّها مع خيانتها تلك الخيانات التي أثبتها التاريخ في الجمل و غير الجمل كان كونها تحت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يغني عنها شيئا .

كما أغمضوا عمّا شاهدوا من أبيها و صاحبه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتخلّف عن جيش اسامة الذي لعن المتخلف عنه و منعه من الوصية و نسبة الهجر إليه ، مع قوله تعالى :( و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ) (٦) و مع أهل بيته بإحراقهم لو لم يبايعوا مع قوله تعالى فيهم( إنّما يريد اللَّه ليذهب

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٣٠ .

( ٢ ) التحريم : ٤ .

( ٣ ) الكاشف للزمخشري ٤ : ٥٧١ .

( ٤ ) صحيح مسلم ١٥ : ٢٠٣ .

( ٥ ) التحريم : ١٠ .

( ٦ ) النجم : ٣ ٤ .

٢٨٣

 عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ) (١) .

و لمّا قال بعضهم لأمير المؤمنينعليه‌السلام : إني أعتزلك لاعتزال سعد و ابن عمر لك قالعليه‌السلام له : إنّك تعرف الحقّ بالرجال و الواجب أن تعرف الرجال بالحقّ(٢) .

و كيف تكون غيرتهن عفوا و قد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام « غيرتهن كفر » و قال الباقرعليه‌السلام : غيرة النساء الحسد ، و الحسد أصل الكفر ، إنّ النساء إذا غرن غضبن ، و إذا غضبن كفرن إلاّ المسلمات منهنّ(٣) .

و قال الصادقعليه‌السلام : إن اللَّه تعالى لم يجعل الغيرة للنساء ، و إنّما تغار المنكرات منهن ، فأمّا المؤمنات فلا ، إنّما جعل اللَّه الغيرة للرجال(٤) .

فأمّا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « الغيراء لا تدري أعلى الوادي من أسفله » فبيان حالهن لا دليل جواز عملهن .

و ورد من طريقنا(٥) أيضا هكذا : بينا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قاعدا إذ جاءت امرأة عريانة حتى قامت بين يديه فقالت : إنّي قد فجرت فطهّرني ، و جاء رجل يعدو في أثرها و ألقى عليها ثوبا ، فقال : ما هي منك ؟ قال : صاحبتي خلوت بجاريتي فصنعت ما ترى فقال : ضمّها إليك ثم قال : ان الغيراء لا تبصر أعلى الوادي من أسفله(٦) .

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) ذكره المفيد في أماليه : ٣ بلفظ : « فإنّك امرؤ ملبوس عليك ، إنّ دين اللَّه لا يعرف بالرجال بل بآية الحق ، فأعرف الحق تعرف أهله .

( ٣ ) الفروع من الكافي للكليني ٥ : ٥٠٥ ، و ذكره الطبرسي في مكارم الأخلاق : ١٢٤ .

( ٤ ) الفروع من الكافي للكليني ٥ : ٥٠٥ ح ٢ .

( ٥ ) من حديث مطول أسنده الطبرسي إلى جابر . لم يأت المؤلف على ذكره بالتفصيل انظر مكارم الأخلاق : ١٢٤ .

( ٦ ) الكافي للكليني ٥ : ٥٠٥ ح ٣ ، و فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٩ : ٣٢٥ .

٢٨٤

و كيف يعفى عنهنّ مع ترتب مفاسد كثيرة على غيرتهن ، فقد روى الكافي أنّ عمر اتي بجارية قد شهدوا عليها أنّها بغت و كان من قصتها أنّها كانت يتيمة عند رجل و كان الرجل كثيرا ما يغيب عن أهله ، فشبّت اليتيمة فتخوّفت المرأة أن يتزوجها زوجها ، فدعت بنسوة حتى أمسكنها فأخذت عذرتها بأصبعها ، فلما قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة و أقامت البيّنة من جاراتها اللاّتي ساعدنها على ذلك ، فرفع ذلك إلى عمر فلم يدر كيف يقضي فيها ، ثم قال للرجل : إئت عليّ بن أبي طالب و إذهب بنا إليه .

فأتوهعليه‌السلام و قصوا عليه القصة ، فقالعليه‌السلام لامرأة الرجل : ألك بيّنة أو برهان ؟

قالت : هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول ، و أحضرتهن فأخرج عليعليه‌السلام سيفه من غمده فطرحه بين يديه و أمر بكلّ واحدة منهن فأدخلت بيتا ، ثم دعا امرأة الرجل فأدارها بكل وجه فأبت أن تزول عن قولها ، فردّها إلى البيت الذي كانت فيه و دعا إحدى الشهود و جثا على ركبتيه ثم قال : تعرفيني أنا علي بن أبي طالب و هذا سيفي و قد قالت امرأة الرجل ما قالت و رجعت إلى الحق و أعطيتها الأمان و إن لم تصدقيني لأمكّننّ السيف منك فالتفتت المرأة إلى عمر و قالت : الأمان على الصدق فقال لها علي فاصدقي ، فقالت لا و اللَّه إلاّ أنّها رأت جمالا و هيئة فخافت فساد زوجها فسقتها المسكر و دعتنا فأمسكناها فافتضّتها بأصبعها فقال عليعليه‌السلام : اللَّه أكبر أنا أوّل من فرق بين الشهود إلاّ دانيال النبيعليه‌السلام ، و الزمهن حدّ القاذف و الزمهن جميعا العقر و جعل عقرها أربعمائة درهم ، و أمر بالمرأة أن تنفى من الرجل و يطلقها زوجها ، و زوّجهعليه‌السلام الجارية و ساق المهر عنه .(١) .

و روى أيضا أنّه كان على عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلان متؤاخيان

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٧ : ٤٢٥ ح ٩ .

٢٨٥

في اللَّه عز و جل ، فمات أحدهما و أوصى إلى الآخر في حفظ بنية كانت له ، فحفظها الرجل و أنزلها منزلة ولده في اللطف و الإكرام ، ثم حضره سفر فخرج و أوصى امرأته في الصبية ، فأطال السفر حتى إذا أدركت الصبيّة و كان لها جمال و كان الرجل يكتب في حفظها و التعاهد لها ، فلما رأت ذلك امرأته خافت أن يقدم فيراها قد بلغت مبلغ النساء فيعجبه جمالها فيتزوجها ، فعمدت إليها هي و نسوة معها قد كانت أعدّتهن ، فأمسكنّها لها ثم افترعتها بأصبعها ، فلما قدم الرجل من سفره دعا الجارية ، فأبت أن تجيبه استحياء ممّا صارت إليه ، فألحّ عليها في الدعاء ، كلّ ذلك و هي تأبى أن تجيبه ، فلما أكثر عليها قالت له امرأته : دعها فانّها تستحي أن تأتيك من ذنب أتته ، و رمتها بالفجور ، فاسترجع الرجل ثم قام إلى الجارية فوبّخها و قال لها : ويحك أما علمت ما كنت أصنع بك من الألطاف ، و اللَّه ما كنت أعدّك إلاّ كبعض ولدي أو إخوتي و إن كنت لابنتي ، فما دعاك إلى ما صنعت ؟ فقالت له الجارية : أمّا إذ قيل لك ما قيل فو اللَّه ما فعلت الذي رمتني به امرأتك و لقد كذبت عليّ ، فإنّ القصة لكذا و كذا و وصفت له ما صنعت امرأته بها فأخذ الرجل بيد امرأته و يد الجارية فمضى بهما حتى أجلسهما بين يدي أمير المؤمنينعليه‌السلام و أخبره بالقصة كلّها و أقرّت المرأة بذلك ، و كان الحسنعليه‌السلام بين يدي أبيه فقال له : إقض فيها فقال الحسنعليه‌السلام :

نعم على المرأة الحد لقذفها الجارية و عليها القيامة لافتراعها فقالعليه‌السلام له :

صدقت(١) .

و في ( مناقب السروي ) عن تميم بن خزام الأسدي قال : صبّت امرأة بياض البيض على فراش ضرّتها و قالت لزوجها : قد بات عندها رجل ، ففتّش ثيابها فأصاب ذلك البيض ، فقص ذلك على عمر فهمّ أن يعاقبها فقال أمير

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٧ : ٢٠٧ ح ١٢ .

٢٨٦

المؤمنينعليه‌السلام : إيتوني بماء حار قد اغلي غليانا شديدا ، فلما اتي به أمرهم فصبّوا على الموضع فاشتوى ذلك الموضع ، فرمى به إليها و قال :( إنّه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم ) (١) و قالعليه‌السلام لزوجها : أمسك عليك زوجك فإنّها حيلة تلك التي قذفتها ، فضربها الحدّ(٢) .

و في ( معجم أدباء الحموي ) نقلا عن كتاب شعراء ابن المعتزّ : كان الخليل منقطعا إلى الليث بن رافع بن نصر بن سيّار ، و كان الليث من أكتب أهل زمانه بارع الأدب بصيرا بالشعر و الغريب و النحو ، و كان كاتبا للبرامكة و كانوا معجبين به ، فارتحل إليه الخليل و عاشره فوجده بحرا فأغناه ، و أحبّ الخليل أن يهدي إليه هدية تشبهه ، فاجتهد في تصنيف كتاب العين فصنّفه له و خصّه به دون الناس و حبّره و أهداه إليه ، فوقع منه موقعا عظيما و سرّ به و عوّضه عنه مائة ألف درهم و اعتذر إليه ، و أقبل الليث ينظر فيه ليلا و نهارا لا يملّ النظر فيه حتى حفظ نصفه و كانت ابنة عمّه تحته فاشترى عليها جارية نفيسة بمال جليل ، فبلغها ذلك فغارت غيرة شديدة ، فقالت و اللَّه لأغيظنّه و لا ابقي غاية فقالت : إن غظته في المال فذاك ما لا يبالي و لكني أراه مكبّا ليله و نهاره على هذا الدفتر و اللَّه لأفجعنه به ، فأخذت الكتاب و أضرمت نارا و ألقته فيها ، و أقبل الليث إلى منزله و دخل إلى البيت الذي كان فيه الكتاب ، فصاح بخدمه و سألهم عن الكتاب فقالوا : أخذته الحرة ، فبادر إليها و قد علم من أين اتي ، فلما دخل عليها ضحك في وجهها و قال لها : ردّي الكتاب فقد وهبت لك الجارية و حرّمتها على نفسي ، و كانت غضبى فأخذت بيده و أرته رماده ، فسقط في يد الليث فكتب نصفه من حفظه و جمع على الباقي أدباء زمانه و قال

____________________

( ١ ) يوسف : ٢٨ .

( ٢ ) المناقب للسروي ٢ : ٣٦٧ .

٢٨٧

لهم : مثلوا عليه و اجتهدوا ، فعملوا هذا النصف الذي بأيدي الناس ، فهو ليس من تصنيف الخليل و لا يشقّ غباره(١) .

هذا ، و في السير : ضرب البعث على كوفي إلى آذربيجان ، فاقتاد جارية و فرسا و كان مملكا بابنة عمه ، فكتب إليها ليغيرها :

ألا بلغوا ام البنين بأننا

غنينا و أغنتنا الغطارفة المرد

بعيد مناط المنكبين إذا جرى

و بيضاء كالتمثال زيّنها العقد

فهذا لأيّام العدو و هذه

لحاجة نفسي حين ينصرف الجند

فكبت إليه امرأته :

ألا فاقره منّي السّلام و قل له

غنينا و أغنتنا غطارفة المرد

إذا شئت أغناني غلام مرجّل

و نازعته في ماء معتصر الورد

و ان شاء منهم ناشى‏ء مدّ كفّه

إلى عكن ملساء أو كفل نهد

فما كنتم تقضون حاجة أهلكم

شهودا قضيناها على النأي و البعد

فعجّل علينا بالسراح فإنّه

منانا و لا ندعو لك اللَّه بالرد

فلا قفل الجند الذي أنت فيهم

و زادك رب الناس بعدا على بعد

فلما ورد عليه الكتاب لم يزد ان ركب فرسه و أردف الجارية و لحق بها ، فكان أوّل شي‏ء قال لها : تاللَّه هل كنت فاعلة قالت : أنت أحقر من أن أعصي اللَّه فيك ، كيف ذقت طعم الغيرة ، فوهب لها الجارية و انصرف إلى بعثه(٢) .

و في المناقب عن غريب حديث أبي عبيد : جاءت امرأة إلى عليعليه‌السلام و قالت : ان زوجها يأتي جاريتها فقالعليه‌السلام : ان كنت صادقة رجمناه و ان كنت كاذبة جلدناك فقالت : ردوني إلى أهلي غيري نقزة قال أبو عبيد : تعني ان

____________________

( ١ ) معجم الأدباء لياقوت الحموي ١٧ : ٤٥ ، عقلا عن طبقات الشعراء لعبد اللَّه بن المعتز : ٩٧ .

( ٢ ) الابشيهي ، المستطرف في كل فن مستظرف ٢ : ٤٨٧ ٤٨٨ .

٢٨٨

جوفها يغلي من الغيظ و الغيرة(١) .

و في ( المروج ) : ذكر مصعب الزبيري أنّ امّ سلمة بنت يعقوب المخزومي كانت بعد هشام بن عبد الملك عند السفاح ، و كان حلف لها أن لا يتزوّج عليها و لا يتسرّى ، و غلبت عليه غلبة شديدة حتى ما كان يقطع أمرا إلاّ بمشورتها ، حتى أفضت الخلافة إليه فوفى لها بما حلف لها ، فلما كان ذات يوم خلا به خالد ابن صفوان فقال له : إني فكّرت في أمرك و سعة ملكك ، و قد ملكت نفسك امرأة واحدة ، فإن مرضت مرضت و ان غابت غبت و حرمت نفسك التلذّذ باستطراف الجواري و معرفة أخبار حالاتهن و التمتّع بما تشتهي منهنّ ، فإنّ منهن الطويلة الغيداء و منهن الفضة البيضاء ، و منهن العتيقة الأدماء و الدقيقة السمراء و البربرية العجزاء ، من مولدات المدينة تفتن بمحادثتها و تلذّ بخلوتها ، و أين أنت من بنات الأحرار و النظر إلى ما عندهن و حسن الحديث منهن ، و لو رأيت الطويلة البيضاء و السمراء اللعساء و الصفراء العجزاء و المولّدات من البصريات و الكوفيات ، ذوات الألسن العذبة و القدود المهفهفة و الأوساط المخصّرة و الأصداغ المزرفنة ، و العيون المكحلة و الثدي المحقة ، و حسن زيّهن و زينتهن و شكلهن ، لرأيت شيئا حسنا و جعل يجيد في الوصف و يجدّ في الاطناب بحلاوة لفظه وجودة صفته .

فلما فرغ قال له السفاح : و يحك يا خالد ما صكّ مسامعي و اللَّه قطّ كلام أحسن من كلامك ، فأعده علي فقد وقع منّي موقعا ، فأعاد عليه خالد أحسن ممّا ابتدأ ، ثم انصرف و بقي السفاح مفكّرا فيما سمع من خالد ، فدخلت عليه ام سلمة فلما رأته متفكّرا قالت : إنّي لأنكرك ، هل حدث أمر أو أتاك خبر ؟ قال : لم يكن من ذلك شي‏ء قالت : فما قصّتك ؟ فجعل يزوي عنها فلم تزل به حتى

____________________

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ٢ : ٣٨١ .

٢٨٩

أخبرها بمقالة خالد ، فقالت : فما قلت لابن الفاعلة قال : سبحان اللَّه ينصحني و تشتمينه ، فخرجت من عنده مغضبة و أرسلت إلى خالد من البخارية و معهم من الكافر كوبات ، و أمرتهم أن لا يتركوا منه عضوا صحيحا .

قال خالد : فانصرفت إلى منزلي و أنا على السرور بما رأيت من السفاح و إعجابه بما ألقيته إليه ، و لم أشكّ أنّ صلته تأتيني ، فلم ألبث حتى صار إليّ اولئك البخارية و أنا قاعد على باب داري ، فلما رأيتهم أيقنت بالجائزة واصلة ، حتى وقفوا عليّ فسألوا عني فقلت : ها أنا ذا خالد ، فسبق اليّ أحدهم بهراوة كانت معه ، فلما أهوى بها اليّ و ثبت الى منزلي و أغلقت الباب و استترت ، و مكثت أيّاما على تلك الحال لا أخرج من منزلي ، و وقع في خلدي أنّي أوتيت من قبل امّ سلمة ، و طلبني السفاح طلبا شديدا فلم أشعر ذات يوم إلاّ بقوم هجموا عليّ و قالوا : أجب الخليفة فأيقنت بالموت ، فركبت و ليس عليّ لحم و لا دم ، فلما وصلت إلى الدار أومى اليّ بالجلوس و نظرت فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد ارخيت و حركة خلفها ، فقال السفاح : لم أرك يا خالد منذ ثلاث .

قلت : كنت عليلا قال : ويحك إنّك وصفت لي في آخر دخلة من أمر الناس و الجواري ما لم يخرق مسامعي قط كلام أحسن منه فأعده علي قلت : نعم .

أعلمتك أنّ العرب اشتقت اسم الضرّة من الضر ، و ان أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلاّ كان في جهد فقال : ويحك لم يكن هذا في الحديث .

قلت : بلى ، و أخبرتك أنّ الثلاث من النساء كأثافي القدر يغلي عليهن قال : برئت من قرابتي من النبي إن كنت سمعت هذا منك في حديثك قلت : و أخبرتك أنّ الأربعة من النساء شرّ صيح بصاحبه يشنه و يهرمنه و يسقمنه قال : ويلك ما سمعت هذا منك و لا من غيرك قبل هذا قال خالد : بلى قال : ويلك تكذّبني .

قلت : و تريد أن تقتلني قال : مر في حديثك قلت : و أخبرتك ان أبكار الجواري

٢٩٠

رجال و لكن لا خصي لهن .

قال خالد : و سمعت الضحك من وراء الستر قلت : و نعم و أخبرتك أيضا ان بني مخزوم ريحانة قريش و أنت عندك ريحانة من الرياحين و أنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء و غيرهن من الاماء .

قال خالد : فقيل لي من وراء الستر صدقت يا عمّاه و برّرت بهذا حديث الخليفة و لكنه بدل و غيّر و نطق عن لسانك بغيره فقال لي السفاح : قاتلك اللَّه و أخزاك و فعل بك و فعل ، فتركته و خرجت و قد أيقنت بالحياة قال : فما شعرت إلاّ برسل ام سلمة قد صاروا إليّ و معهم عشرة آلاف درهم و تخت و برذون و غلام(١) .

و غيرة الرجل التي هي إيمان ، غيرته على ميل امرأته إلى رجل أجنبي ، و أمّا ميلها إلى زوج لها قبل بمعنى مدحها له بصفات ليست في الأخير فيغيّر زوجها فليس بايمان بل من الكفر ، ففي السير كانت مع سعد بن أبي وقاص بالقادسية زوجة له كانت قبل تحت المثنى بن حارثة ، فلما لم تر من سعد إقداما مثل المثنى قالت : و امثنياه و لا مثنى للمسلمين اليوم فلطمها سعد فقالت المرأة : أ غيرة و جبنا فذهبت مثلا(٢) .

٢ الحكمة ( ٢٣٨ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْمَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وَ شَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا « المرأة شرّ كلّها » قالوا : كتب بعض الحكماء على باب داره « لا يدخل داري

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٢٦٠ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ .

٢٩١

شرّ » فقال بعض آخر منهم : من أين تدخل امرأتك(١) ؟

و قالوا : تزوّج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك فقال : اخترت من الشرّ أقلّه(٢) .

و قالوا : رأى بعض الحكماء امرأة غريقة قد احتملها السيل فقال : زادت الكدر كدرا ، و الشر بالشر يهلك(٣) .

و في ( الملل ) : رأى ديو جانس امرأة تحملها الماء فقال : على هذا المعنى جرى المثل « دع الشر يغسله الشر »(٤) .

و رأى نساء يتشاورن فقال : على هذا جرى المثل : « هو ذا الثعبان يستقرض من الأفاعي سمّا » .

و رأى امرأة متزينة في ملعب فقال : هذه لم تخرج لترى و لكن لترى و قالوا : رأى بعضهم جارية تحمل نارا فقال : نار على نار ، و الحامل شر من المحمول و قالوا : رأى حكيم جارية تتعلّم الكتابة ، فقال : يسقى هذا السهم سمّا ليرمي به يوما ما(٥) .

و قالوا : و نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة ، فقال : ليت كلّ شجرة تحمل مثل هذه الثمرة(٦) .

و قال بعضهم :

ان النساء شياطين خلقن لنا

نعوذ باللَّه من شرّ الشياطين(٧)

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٣٢٥ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ و ١٨ : ١٩٨ ١٩٩ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) الملل و النحل للشهرستاني ٢ : ١٥٢ ، و شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٨ .

( ٥ ) الملل و النحل للشهرستاني ٢ : ١٥٢ ، و شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ .

( ٦ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ و ١٨ : ١٩٨ .

( ٧ ) نسبوا هذا البيت إلى عمر بن الخطاب ، قاله عند ما سمع امرأة تقول : ان النساء رياحين خلقن لكم و كلكم يشتهي

٢٩٢

و قال بعضهم في قولهم « بعد الّتي و اللّتيّا » : إن رجلا تزوج امرأة قصيرة و امرأة طويلة ، فلقي منهما شدّة ، فطلّقهما و قال : بعد اللتيا يعني القصيرة و الّتي أي الطويلة لا أتزوج أبدا(١) .

و في ( شعراء ابن قتيبة ) : كان جران العود و الرحال خدنين ، فتزوج كلّ واحد منهما امرأتين ، فلقيا منهما مكروها فقال الأول :

ألا لا تغرنّ امرأ نوفلية

على الرأس بعدي أو ترائب وضّح

و لا فاحم يسقي الدهان كأنّه

أساود يزهاها لعينك أبطح

و أذناب خيل علقت في عقيصة

ترى قرطها من تحتها يتطوّح

جرت يوم جئنا بالركاب نزفّها

عقاب و تشحاج من الطير متيح

فأمّا العقاب فهي منّا عقوبة

و أمّا الغراب فالغريب المطوّح

هي الغول و السعلاة حلقي منهما

مكدّح ما بين التراقي مجرّح

خذا نصف مالي و اتركا لي نصفه

و بينا بذم فالتعزّب أروح

و سمّي جران العود بقوله لامرأتيه :

خذا حذرا يا جارتيّ فإنّني

رأيت جران العود قد كان يصلح

فخوفهما بسير قدّ من صدر جمل مسن ، قال و يتمثل من شعره بقوله :

و لا تأمنوا مكر النساء و أمسكوا

عرى المال عن أبنائهن الأصاغر

فإنّك لم ينذرك أمر تخافه

إذا كنت منه خائفا مثل خابر(٢)

و في القاموس هو عامر بن الحرث و قول الصحاح اسمه المستورد غلط .

شم الرياحين ، راجع أدب الدنيا و الدين للماوردي : ١٥٦ .

____________________

( ١ ) مجمع الأمثال للميداني ١ : ١٢٥ .

( ٢ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ٢٧٥ ٢٧٧ .

٢٩٣

و قال الثاني :

فلا بارك الرحمن في عود أهلها

عشية زفّوها و لا فيك من بكر

و لا الزعفران حين مسّحنها به

و لا الحلي منها حين نيط من النحر

و لا فرش طوهرن من كلّ جانب

كأنّي أطوي فوقهن من الجمر

فيا ليت أنّ الذئب خلّل درعها

و إن كان ذا ناب حديد و ذا ظفر

و جاءوا بها قبل المحاق بليلة

و كان محاقا كلّه آخر الشهر

لقد أصبح الرحّال عنهن صادفا

إلى يوم يلقى اللَّه في آخر العمر(١)

و في ( الاستيعاب ) : كانت عند الأعشى المازني امرأة يقال لها معاذة ، فخرج يمير أهله من هجر ، فهربت امرأته بعده ناشزة عليه ، فعاذت برجل منهم يقال له مطرف ، فجعلها خلف ظهره ، فلما قدم الأعشى لم يجدها في بيته و اخبر أنّها نشزت و عاذت بمطرف ، فأتاه فقال له : يا ابن عم عندك امرأتي فادفعها اليّ فقال : ليست عندي و لو كانت عندي لم أدفعها إليك و كان مطرف أعزّ منه ، فخرج حتى أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و أنشأ يقول :

يا سسّد الناس و ديّان العرب

أشكو إليك ذربة من الذرب(٢)

خرجت أبغيها الطعام في رجب

فخلفتني بنزاع و هرب

اخلفت العهد و ألظت بالذنب

و هنّ شر غالب لمن غلب(٣)

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « و هنّ شر غالب لمن غلب » و كتب إلى مطرف : إدفع إليه امرأته ، فلما قرأ الكتاب قال لمعاذة : هذا كتاب النبي فيك و أنا دافعك إليه فقالت :

خذ لي العهد أن لا يعاقبني فيما صنعت ، فأنشأ يقول :

____________________

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ١٧٠ .

( ٢ ) الذرب : حدّة اللسان .

( ٣ ) حياة الحيوان للدميري ١ : ٥١٢ .

٢٩٤

لعمرك ما حبّي معاذة بالذي

يغيّره الواشي و لا قدم العهد

و لا سوء ما جاءت به إذ أزلّها

غواة رجال إذ ينادونها بعدي(١)

و في ( الملل ) : قيل للاسكندر : إنّ روشنك امرأتك بنت دارا الملك و هي من أجمل النساء فلو قربتها إلى نفسك قال : أكره أن يقال : غلب الاسكندر دارا ، و غلبت روشنك الاسكندر(٢) .

و قالوا : كان أحمد بن يوسف كاتب المأمون إذا دخل عليه حيّاه بتحية أبرويز الملك : « عشت الدهر ، و نلت المنى ، و حبيت طاعة النساء »(٣) .

و في ( الكافي ) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : إتّقوا من شرار النساء و كونوا من خيارهن على حذر ، و إن أمرنكم بالمعروف فخالفوهنّ كيلا يطمعن في المنكر(٤) .

و عنهعليه‌السلام : في خلاف النساء البركة(٥) .

____________________

( ١ ) ذكر الحكاية ( ابن الأثير ) في اسد الغابة ١ : ١٢٣ ، و لم يذكر ( ابن عبد البر ) في الإستيعاب ١ : ١٤٤ ( المصدر الّذي اعتمده المؤلف ) إلاّ جزءا من الحكاية ، فقد ذكر أبيات الأعشى المازني إمام النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و قول النبي له فقط ، مع تغيير عمّا ذكره المؤلف و الأبيات هي:

يا مالك الناس و ديان العرب

إنّي لقيتف دربة من الذّرب

ذهبت ابضيها الطعام في رجب

فخالفتني بنزاع و هرب

أخلفت العهد و الطّت بالذنب

و هن شر غالب لمن غلب

( ٢ ) الملل و النحل للشهرستاني ٢ : ١٤٧ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ١٩٥ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٥ : ٥١٧ ح ٥ .

( ٥ ) لفظ الحديث كما رود في بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٦٢ ، و جامع أحاديث الشيعة ١٦ : ٨٦ ، عن هارون بن موسى عن محمّد بن علي بن محمّد بن الحسين عن علي بن اسباط عن أبي فضال عن الصادق عن ايائه عن رسول اللَّه أنه قال : شاوروا النساء و خالفوهن فأن خلافهن بركة و قد أورد جمع من المتأخرين هذا الحديث و نسبوه إلى الإمام عليّعليه‌السلام أو إلى الرسول صلّى اللَّه عليه و آله بينما لم يرد في المصادر من نسب هذا القول إلى الإمام عليّعليه‌السلام أمّا نسبته إلى الرسول صلّى اللَّه عليه و آله فقد عجّت و صادر الحديث بذكره في الموضوعات ، من هذه الكتب : ١ السخاوي في المقاصد

٢٩٥

و كل أمر تدبرته امرأة فهو ملعون(١) .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ النساء لا يشاورن في النجوى و لا يطعن في ذوي القربى ، إنّ المرأة إذا أسنّت ذهب خير شطريها و بقي شرهما ، يعقم رحمها و يسوء خلقها و يحتدّ لسانها ، و إن الرّجل إذا أسنّ ذهب شرّ شطريه و بقي خيرهما يؤوب عقله و يستحكم رأيه و يحسن خلقه(٢) .

و عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان إذا أراد الحرب دعا نساءه فاستشارهن ثم خالفهن(٣) .

و قال طفيل الغنوي :

إنّ النّساء متى ينهين عن خلق

فإنّه واجب لا بدّ مفعول(٤)

و قالوا : قيل لسقراط أيّ السباع أجسر ؟ قال : المرأة(٥) .

قالوا : و مرّت به امرأة فقالت له : ما أقبحك فقال لها : لو لا أنّك من المرايا الحسنة ، و قال عنه : لم أره مرفوعا ، و لكن عن العسكري من احديث حفص بن عثمان بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر قال : قال عمر : خالفوا النساء فإنّ خلافهن لبركة ( راجع المقاصد الحسنة : ٢٤٨ ح ٥٨٥ ) ٢ أورده المنقي الهندي في كنز العمّال عن ( عمر ) أنه قال : خالفوا النساء فإن خلافهن بركة ( كنز العمّال ٣ : ٤٥١ ) ٣ الزبيري في إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين ٥ : ٣٥٦ ، يقول عنه هكذا اشتهر على الألسنه و ليس بحديث .

٤ ابن عراق الشافعي في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشيعة الموضوعة ٢ : ٢١٠ ، نسبه إلى عمر بن الخطاب ٥ ( ملا علي القالي في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، المعروف بالموضوعات الكبرى : ٢٢٢ ) ذكر قائلا : حديث شاورهن و خالفوهن لم يثبت بهذا المعنى و إن كان له وجه من حيث المعنى .

____________________

( ١ ) في بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٢٨ « كل امرى‏ء تدبره امرأة فهو ملعون » .

( ٢ ) من لا يحضره الفقيه للصدوق ٣ : ٤٦٨ ح ٤٦٢١ .

( ٣ ) ذكره المجلسي في مكانين ٩١ : ٢٥٥ و ١٠٣ : ٢٢٨ إلاّ ان أرباب السير ذكروا ان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله استشار ( امّ سلمة ) في صاح الحديبيه ، فقد قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٥ : ٢٦٥ ٢٦٦ : فلمّا لم يقم منهم ( الأصحاب ) أحد دخل على امّ سلمة فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت امّ سلمة : يا نبي اللَّه ، اتحب ذلك ؟ أخرج و لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بذلك و تدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنة ، و دعا حالقه فحلقه ، فلمّا رأوا قاموا فنحروا ، و جعل بعضهم بحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا .

( ٤ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٨ .

( ٥ ) المصدر نفسه .

٢٩٦

الصديّة لغمّني ما بان من قبح صورتي فيك(١) .

هذا ، و عن ( ملح النوادر ) كان ذئب ينتاب بعض القرى و يعبث فيها ، فترصّدوه حتى أخذوه ، ثم تشاوروا فيه فقال بعضهم : تقطع يداه و رجلاه و تدقّ أسنانه و يخلع لسانه ، و قال آخر بل يصلب و يرمى بالنبال ، و قال آخر :

توقد نار عظيمة و يلقى فيها ، و قال بعض الممتحنين بالنساء : بل يزوّج و كفى بالتزويج تعذيبا و في هذه القصة قال الشاعر :

رب ذئب أخذوه

و تماروا في عقاب

ثم قالوا زوّجوه

و ذروه في عذاب(٢)

« و شر ما فيها أنّه لا بدّ منها » في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : ان إبراهيمعليه‌السلام شكا إلى اللَّه ما يلقى من سوء خلق سارة ، فأوحى إليه : إنّما مثل المرأة مثل الضلع المعوجّ ، إن أقمته كسرته و إن تركته استمتعت فاصبر عليها(٣) و نظم مضمونه من قال :

هي الضلع العوجاء لست تقيمها

ألا إنّ تقويم الضلوع انكسارها(٤)

و في ( البيان ) : سمع أعرابي يقول « اللّهم اغفر لامّ أوفى » قيل له : من امّ أوفى ؟ قال : إمرأتي ، إنّها لحمقاء مرغامة(٥) أكول قامّة(٦) لا تبقي خامّة(٧) ، غير

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ٢٠٠ .

( ٢ ) لم نعثر على الكتاب لا في المطبوعات و لا في المخطوطات ، و يبدو ان المؤلف لم ير الكتاب حيث ذكر ( و عن ) ، و قد ذكر حاجي خليفة الكتاب في كشف الظنون ٢ : ١٨١٧ ، و نسبه إلى الشيخ أبي عبد اللَّه الكاتب .

( ٣ ) الكافي للكليني ٥ : ٥١٣ ح ٢ .

( ٤ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٩ .

( ٥ ) المرغامة : المبغضة ليعلها .

( ٦ ) قمّ : أكولة .

( ٧ ) الخامّ : ما تغيّر ريحه من لحم أو لبن .

٢٩٧

أنّها حسناء فلا تفرك و امّ غلمان فلا تترك(١) .

و نظير المرأة في مطلوبيتها مع شدائدها لعدم بدّ منها ، الشيب فرارا من الموت قال الشاعر :

الشيب كره و كره أن يفارقني

فأعجب لشي‏ء على البغضاء مودود(٢)

٣ الحكمة ( ٦١ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْمَرْأَةُ عَقْرَبٌ حُلْوَةُ اَللَّبْسِةِ « المرأة عقرب » في ( اللّسان ) العقرب يكون للذّكر و الانثى ، و الغالب عليه التأنيث ، و يقال للانثى : عقربة و عقرباء ، و العقربان : الذكر منها ، قال إياس بن الأرتّ :

كأنّ مرعى امكم إذ غدت

عقربة يكومها عقربان(٣)

و عقرب بن أبي عقرب كان من تجّار المدينة مشهورا بالمطل ، قال الزبير ابن بكار : عامله الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب فلزم الفضل بيته زمانا فلم يعطه شيئا ، فقال الفضل :

قد تجرت في سوقنا عقرب

لا مرحبا بالعقرب التاجره

كلّ عدو يتّقى مقبلا

و عقرب تخشى من الدابره

إن عادت العقرب عدنا لها

و كانت النعل لها حاضره

____________________

( ١ ) البيان و التبيان للجاحظ ٢ : ٩٥ .

( ٢ ) هو مسلم بن الوليد ذكره النويري ، في نهاية الارب ٢ : ٣٧ .

( ٣ ) لسان العرب لابن منظور ٩ : ٣١٨ .

٢٩٨

كلّ عدوّ كيده في استه

فغير مخشي و لا ضائره(١)

« حلوة اللبسة » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٢) ، و الصواب : ( اللسبة ) كما نقله ( ابن أبي الحديد(٣) و اللسبة من لسب بالفتح ، قال ابن السكيت يقال لسبته العقرب إذا لسعته ، و اما لسب بالكسر فبمعنى لعق ، يقال لسبت العسل أي لعقته(٤) .

و لكون المرأة عقربا حلوة اللسبة قال كثيّر في صاحبته عزّة :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت(٥)

و عن مجنون في صاحبته ليلى :

حلال لليلى شتمنا و انتقاصنا

هنيئا و مغفور لليلى ذنوبها(٦)

و في ( الأغاني ) : قدم الوليد بن عبد الملك مكة فأراد أن يأتي الطائف فقال :

هل من رجل عالم يخبرني عنها قالوا : عمر بن أبي ربيعة قال : لا حاجة لي به ، ثم عاد فسأل فذكروه فقال : هاتوه فأتى و ركب معه ، فجعل يحدّثه ثم حوّل رداءه ليصلحه على نفسه ، فرأى الوليد على ظهره أثرا فقال : ما هذا ؟ قال : كنت عند جارية لي إذ جاءتني جارية برسالة من عند جارية اخرى و جعلت تسارّني بها ، فغارت التي كنت عندها فعضّت منكبي ، فما وجدت ألم عضتها من لذة ما كانت تلك تنفث في اذني حتى بلغت ما ترى و الوليد يضحك(٧) .

____________________

( ١ ) حياة الحيوان للدميري ٢ : ٦١ .

( ٢ ) راجع النسخة المصرية : ٦٧١ رقم ٦٢ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٨ رقم ٥٩ .

( ٤ ) ترتيب اصلاح المنطق لابن السكّيت : ٣٣٤ .

( ٥ ) ديوان كثير عزة : ٥٦ .

( ٦ ) ديوان مجنون ليلى : ٣٤ .

( ٧ ) الأغاني للأصفهاني ١ : ١١٢ .

٢٩٩

و قال حجر آكل المرار في هند امرأته :

حلوة العين و الحديث و مرّ

كل شي‏ء أجنّ منها الضمير(١)

و قال أبو العتاهية :

رأيت الهوى جمر الغضا غير أنّه

على جمره في صدر صاحبه حلو(٢)

و في ( الجمهرة ) ( زينب ) اشتقاقه من زنابة العقرب و هي ابرته التي تلذع بها ، فأما زبانيا العقرب فهما قرناها(٣) .

٤ الحكمة ( ٢٣٤ ) و قالعليه‌السلام :

خِيَارُ خِصَالِ اَلنِّسَاءِ شَرُّ خِصَالِ اَلرِّجَالِ اَلزَّهْوُ وَ اَلْجُبْنُ وَ اَلْبُخْلُ فَإِذَا كَانَتِ اَلْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا وَ إِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَ مَالَ بَعْلِهَا وَ إِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يَعْرِضُ لَهَا « خيار خصال النساء شرّ خصال الرجال » و ممّا قيل في اختلافهن مع الرجال في غير ما قالعليه‌السلام قول ابن شبرمة : ما رأيت لباسا على رجل أزين من فصاحته ، و لا رأيت لباسا على امرأة أزين من شحم(٤) و لشاعر :

الخال يقبح بالفتى في خدّه

و الخال في خد الفتاة مليح

و الشيب يحسن بالفتى في رأسه

و الشيب في رأس الفتاة قبيح(٥)

الزهو : أي : الكبر و الفخر و كونه من شرار خصال الرجال واضح .

____________________

( ١ ) الأغاني للأصفهاني ١٦ : ٣٥٨ ، كذا ابن قيم الجوزية : ١٤٤ و نسب البيت إلى عمرو الملك .

( ٢ ) الأغاني للأصفهاني ٤ : ٤١ و في نسخة التحقيق ورد العجز بلفظ « على كل حال عند صاحبه حلو » .

( ٣ ) جمهرة اللغة لابن دريد ٣ : ٣٦٥ .

( ٤ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ٣٠ .

( ٥ ) المصدر نفسة ٤ : ٢٢ .

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه)

التاريخ النقليّ ونعني به ضبط الحوادث الكلّيّة والجزئيّة بالنقل والحديث ممّا لم يزل الإنسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الأرض مهتمّاً به، ففي كلّ عصر من الأعصار على ما نعلمه عدّة من حفظته أو كتّابه والمؤلّفين فيه، وآخرون يعتورون ما ضبطه اُولئك ويأخذون ما أتحفوهم به، والإنسان ينتفع به في جهات شتّى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقصّ والحديث والتفكّه واُمور اُخرى سياسيّة أو اقتصاديّة أو صناعيّة وغير ذلك.

وإنّه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحّة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب:

أحدهما: أنّه لا يزال في كلّ عصر محكوماً للحكومة الحاضرة الّتي بيدها القوّة والقدرة يميل إلى إظهار ما ينفعها ويغمض عمّا يضرّها ويفسد الأمر عليها، وليس ذلك إلّا ما لانشكّ فيه أنّ الحكومات المقتدرة في كلّ عصر تهتمّ بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضرّ به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحقّ والصدق، فإنّ الفرد من الإنسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأيّ نحو أمكن، وهذا أمر لا يشكّ فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع العامّة الحاضرة في زمان حياته ويتأمّل به في تاريخ الاُمم الماضيّة والبعيدة.

وثانيهما: أنّ المتحمّلين للأخبار والناقلين لها والمؤلّفين فيها جميعهم لا يخلون من إعمال الإحساسات الباطنيّة والعصبيّات القوميّة فيما يتحمّلون منها أو يقضون فيها، فإنّ حملة الأخبار في الماضين - والحكومة في أعصارهم حكومة الدين - كانوا منتحلين بنحلة ومتديّنين كلّ بدين، وكانت الإحساسات المذهبيّة فيهم قويّة والعصبيّات القوميّة شديدة فلا محالة كانت تداخل الأخبار التاريخيّة من حيث اشتمالها على أحكام وأقضية كما أنّ العصبيّة المادّيّة والإحساسات القويّة اليوم للحريّة على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، ومن هنا

٣٢١

إنّك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألّف أو جمع من الأخبار أودع شيئاً يخالف مذهبه فما ضبطه أهل كلّ مذهب موافق لاُصول مذهبه، وكذا الأمر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخيّة عملته أيديهم إلّا وفيه بعض التأييد للمذهب المادّيّ.

على أنّ هيهنا عوامل اُخرى تستدعي فساد التاريخ، وهو فقدان وسائل الضبط والأخذ والتحمّل والنقل والتأليف والحفظ عن التغيّر والفقدان سابقاً وهذه النقيصة وإن ارتفعت اليوم بتقرّب البلاد وتراكم وسائل الاتّصال وسهولة نقل الأخبار والانتقال والتحوّل لكن عمّت البليّة من جهة اُخرى وهي: أنّ السياسة داخلت جميع شئون الإنسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنّيّة، وبحسب تحوّلها تتحوّل الأخبار من حال إلى حال، وهذا ممّا يوجب سوء الظنّ بالتاريخ حتّى كاد أن يورده مورد السقوط، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقليّ هو السبب أو عمدة السبب في إعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخيّة على أساس الآثار الأرضيّة، وهذا وإن سلمت عن بعض الإشكالات المذكورة كالأوّل مثلاً، لكنّها غير خالية عن الباقي، وعمدته مداخلة المورّخ بما عنده من الإحساس والعصبيّة في الأقضيّة، وتصرّف السياسة فيها افشائاً وكتماناً وتغييراً وتبديلاً، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الّذي لا يقبل الإصلاح أبداً.

ومن هنا يظهر: أنّ القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنّه وحي إلهيّ منزّه عن الخطاء مبرّي عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمّن له يؤمّنه من الكذب والخطاء، فأغلب القصص القرآنيّة (كنفس هذه القصّة قصّة طالوت) يخالف ما يوجد في كتب العهدين، ولا ضير فيه فإنّ كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة الّتي قد علمت كيفيّة تلاعب الأيدي فيها وبها، على أنّ مؤلّف هذه القصّة وهي قصّة صموئيل وشارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلاً، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافياً له في التواريخ وخاصّة في كتب العهدين، فالقرآن هو الكلام الحقّ من الحقّ عزّ اسمه.

على أنّ القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنّه يريد في قصصه بيان التاريخ على حدّما

٣٢٢

يرومه كتاب، التاريخ وإنّما هو كلام إلهيّ مفرّغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام، ولذلك لا تراه يقصّ قصّة بتمام أطرافها وجهات وقوعها، وإنّما يأخذ من القصّة نكات متفرّقة يوجب الإمعان والتأمّل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها. كما هو مشهود في هذه القصّة قصّة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى: ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً الخ، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم: إنّ آية ملكه، ثمّ يقول: فلمّا فصل طالوت الخ، ثمّ يقول فلمّا برزوا لجالوت، ومن المعلوم أنّ اتّصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصّة طويلة، وقد نبّهناك بمثله فيما مرّ من قصّة البقرة وهو مطّرد في جميع القصص المقتصّة في القرآن، لا يختصّ بالذكر منها إلّا مواضع الحاجة فيها: من عبرة وموعظة وحكمة أو سنّة إلهيّة في الأيّام الخالية والاُمم الدارجة، قال تعالى:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) يوسف - ١١١، وقال تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) النساء - ٢٦، وقال تعالى:( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) آل عمران - ١٣٨، إلى غير ذلك من الآيات.

٣٢٣

( سورة البقرة آية ٢٥٣ - ٢٥٤)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( ٢٥٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٥٤ )

( بيان)

سياق هاتين الآيتين لا يبعد كلّ البعد من سياق الآيات السابقة الّتي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الإنفاق ثمّ تقصّ قصّة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصّة بقوله تعالى: وإنّك لمن المرسلين الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض، ثمّ ترجع إلى شأن قتال اُمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصّة السابقة أعني: قصّة طالوت: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى قيداً، ثمّ ترجع إلى الدعوة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كلّه يؤيّد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معاً.

وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربّما يتوهّم: أن الرسالة وخاصّة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البيّنات الدالّة على حقّيّة الرسالة ينبغي أن تختم بها بليّة القتال: إمّا من جهة أنّ الله سبحانه لمّا أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيويّة والاُخرويّة بأرسال الرسل وإيتاء الآيات البيّنات كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع

٣٢٤

كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في اُممهم وخاصّة بعد انتشار دعوة الإسلام الّذي يعدّ الاتّحاد والاتّفاق من أركان أحكامه واُصول قوانينه؟ وإمّا من جهة أنّ إرسال الرسل وإيتاء بيّنات الآيات للدعوة إلى الحقّ لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبيّة الّتي لا توجد في القلب عنوة وقهراً فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوّة؟ وهذا هو الإشكال الّذي تقدّم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.

والّذي يجيب تعالى به: أنّ القتال معلول الاختلاف الّذي بين الاُمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلّة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكنّ الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الاُمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتالُ فهذا إجمال ما تفيده الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلوّ مقامهم ولذلك جئ في الإشارة بكلمة تلك الدالّة على الإشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الإلهيّ الواقع بين الأنبياءعليهم‌السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضّل عليه، وللجميع فضل فإنّ الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضاً اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أنّ بين الّذين بعدهم اختلافاً على ما يدلّ عليه ذيل الآية إلّا أنّ بين الاختلافين فرقاً، فإنّ الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتّحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين اُمم الأنبياء بعدهم فإنّه اختلاف بالإيمان والكفر، والنفى والإثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرّق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمّى ما للأنبياء تفضيلاً ونسبه إلى نفسه، وسمّى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضّلنا، وفي مورد اُممهم اختلفوا.

ولمّا كان ذيل الآية متعرّضاً لمسألة القتال مرتبطاً بها والآيات المتقدّمة على

٣٢٥

الآية أيضاً راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا - إلى قوله - بروح القدس مقدّمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: ولو شاء الله ما اقتتل الّذين من بعدهم إلى قوله تعالى: ولكنّ الله يفعل ما يريد.

وعلى هذا فصدر الآية لبيان أنّ مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسلعليهم‌السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإلهيّ وإيتاء البيّنات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.

وبعبارة اُخرى محصّل معنى الآية أنّ الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلّما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلاً جديداً، وكلّما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضّاً طريّاً، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والإتيان بالآيات البيّنات لايتمّ به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإيمان، فإنّ هذا الاختلاف إنّما يستند إلى أنفسهم، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر:( نَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) آل عمران - ١٩، وقد مرّ بيانه في قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة - ٢١٣. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعاً تكوينيّاً، لكنّهم اختلفوا فيما بينهم بغياً وقد أجرى الله في سنّة الإيجاد سببيّة ومسبّبيّة بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعاً تشريعيّاً أو لم يأمر به ولكنّه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيّب وليعلمنّ الله الّذين آمنوا وليعلمنّ الكاذبين.

وبالجملة القتال بين اُمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيّناتها إنّما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأمّا البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلّا القتال، فإنّ التجارب يعطي أنّ الحجّة لم تنجح وحدها قطّ إلّا إذا شفّع بالسيف، ولذلك كان كلّما

٣٢٦

اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحقّ والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مرّ بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقاً.

قوله تعالى: ( مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله أعلم - أنّ الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدلّ على الفضيلة كالآيات البيّنات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسىعليه‌السلام فإنّ هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس كذلك، وإنّما يدلّ على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنّه لا يعدّ في نفسه منقبة وفضيلة إلّا أن يضاف إلى شئ فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عزّ اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلّا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلاً فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أنّ هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البيّنات، فحوّل وجه الكلام من التكلّم إلى الغيبة في الجملتين الاُوليين حتّى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأوّل وهو التكلّم فقال تعالى: وآتينا عيسى بن مريم.

وقد اختلف المفسّرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلّم الله: موسىعليه‌السلام لقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٤، وغيره من الآيات، وقيل المراد به رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كلّمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قرّبه إليه تقريباً سقطت به الوسائط جملة فكلّمة بالوحي من غير واسطة، قال تعالى:( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) النجم - ١٠، وقيل المراد به الوحي مطلقاً لأنّ الوحي تكليم خفيّ، وقد سمّاه الله تعالى تكليماً حيث قال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الآية الشورى - ٥١، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضيّة الّتي في قوله تعالى: منهم من كلّم الله.

والأوفق بالمقام كون المراد به موسىعليه‌السلام لأنّ تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى

٣٢٧

النازل قبل هذه السورة المدنيّة، قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ - إلى أن قال -قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ) الأعراف - ١٤٣، وهي آية مكّيّة فقد كان كون موسى مكلّماً معهوداً عند نزول هذه الآية.

وكذا في قوله: ورفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافّة الخلق كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) السباء - ٢٨، وبجعله رحمةً للعالمين كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ١٠٧، وبجعله خاتماً للنبوّة كما قال تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وبإيتائه قرآناً مهيمناً على جميع الكتب وتبياناً لكلّ شئ ومحفوظاً من تحريف المبطلين، ومعجزاً باقياً ببقاء الدنيا كما قال تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة - ٤٨، وقال تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقال تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩، وقال تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء - ٨٨، وباختصاصه بدين قيّم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) الروم - ٤٣، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدلّ عليه قوله تعالى في نوح:( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافّات - ٧٩، وقوله تعالى في إبراهيمعليه‌السلام :( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) البقرة - ١٢٤، وقوله تعالى فيه( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء - ٨٤، وقوله تعالى في إدريسعليه‌السلام ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) مريم - ٥٧، وقوله تعالى في يوسف:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ) يوسف - ٧٦، وقوله في داودعليه‌السلام :( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣ إلى غير ذلك من مختصّات الأنبياء.

وكذا قيل: إنّ المراد بالرسل في الآية هم الّذين اختصّوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى الباقين،

٣٢٨

وقيل: لمّا كان المراد بالرسل في الآية هم الّذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصّة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمّد، وقد ذكر ما اختصّ به موسى من التكليم ثمّ ذكر رفع الدرجات وليس له إلّا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمكن أن يوجّه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: أنّ الوجه فيه عدم سبق ذكرهعليه‌السلام فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.

والّذي ينبغى أن يقال: أنّه لا شكّ أنّ ما رفع الله به درجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصود في الآية غير أنّه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإنّ كلّ ذلك تحكّم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسلعليهم‌السلام وشمول البعض في قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات: لكلّ من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة.

وما قيل: أنّ الاُسلوب يقتضي كون المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ السياق في بيان العبرة للاُمم الّتي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم ديناً واحداً، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية، فتعيّن أن يكون البعض الباقي محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فيه: أنّ القرآن يقضي بكون جميع الرّسل رسلاً إلى جميع الناس، قال تعالى:( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ) البقرة - ١٣٦، فإتيان الرسل جميعاً بالآيات البيّنات كان ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الّذين بعدهم لكن اختلفوا بغياً بينهم فكان ذلك أصلاً يتفرّع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.

( كلام في الكلام)

ثمّ إنّ قوله تعالى: منهم من كلّم الله، يدلّ على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنّه يدلّ على وقوع أمر حقيقيّ من غير مجاز وتمثيل وقد سمّاه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقاً حقيقيّاً أو إطلاقاً مجازيّاً، فالبحث في المقام من جهتين:

٣٢٩

الجهة الاولى: أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ ما خصّ الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم الّتي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الإلهيّة الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفيّة على حواسّ الناس، كلّ ذلك أمور حقيقيّة واقعيّة من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسمّوا القوى العقليّة الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي الّتي تترشّح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإنسانيّ بروح القدس والروح الأمين، والقوى الشهويّة والغضبيّة النفسانيّة الداعية إلى الشرّ والفساد بالشياطين والجنّ، والأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيّئ العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا.

فإنّ الآيات القرآنيّة وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشكّ فيه إلّا مكابر متعسّف ولا كلام لنا معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوّزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهيّة من غير استثناء إلى المادّيّة المحضة النافية لكلّ ما وراء المادّة، وقد مرّ بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز. ففي مورد التكليم الإلهيّ لا محالة أمر حقيقيّ متحقّق يترتّب عليه من الآثار ما يترتّب على التكلّمات الموجودة فيما بيننا.

توضيح ذلك: أنّه سبحانه عبّر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٣، وقوله تعالى:( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ) الآية، وقد فسّر تعالى هذا الإطلاق المبهم الّذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) الشورى - ٥١، فإنّ الاستثناء في قوله تعالى: إلّا وحياً الخ، لايتمّ إلّا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: أن يكلّمه الله، تكليماً حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاصّ، فحدّ أصل التكليم حقيقة غير منفيّ عنه.

٣٣٠

والّذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أنّ الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنيّة يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاونيّ، ومنها التكلّم، وقد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلّفة والمختلطة إمارات دالّة على المعاني المكنونة في الضمير الّتي لا طريق إليها إلّا من جهة العلائم الاعتباريّة الوضعيّة، فالإنسان محتاج إلى التكلّم من جهة أنّه لا طريق له إلى التفهيم والتفهّم إلّا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعليّة وأمارات وضعيّة، ولذلك كانت اللّغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات الّتي تنبّه لها الإنسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضاً كانت اللّغات لا تزال تزيد وتتّسع بحسب تقدّم الاجتماع في صراطه، وتكثّر الحوائج الإنسانيّة في حياته الإجتماعيّة.

ومن هنا يظهر: أنّ الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالّة عليه بالوضع والاعتبار إنّما يتمّ في الإنسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربّما لحق به بعض أنواع الحيوان ممّا لنوعه نحو اجتماع وله شئ من جنس الصوت، (على ما نحسب) وأمّا الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاونيّ فلا تحقّق للكلام معه، فلو كان ثمّ إنسان واحد من غير أيّ اجتماع فرض لم تمسّ الحاجة إلى التكلّم قطعاً لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهّم، وكذلك غير الإنسان ممّا لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعيّ والحياة المدنيّة كالملك والشيطان مثلاً.

فالكلام لا يصدر منه تعالى على حدّ ما يصدر الكلام منّا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمّة إليه، الدلالة الاعتباريّة الوضعيّة فإنّه تعالى أجلّ شأناً وأنزه ساحةً أن يتجهّز بالتجهيزات الجسمانيّة، أو يستكمل بالدعاوي الوهميّة الاعتباريّة وقد قال تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى - ١١.

لكنّه سبحانه فيما مرّ من قوله:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الشورى - ٥١، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإن نفى

٣٣١

عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحدّه الاعتباريّ المعهود مسلوب عن الكلام الإلهيّ لكنّه بخواصّه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في الاُمور الاعتباريّة الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدّم بيانه.

فقد: ظهر أنّ ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبيّ كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بيّن لنا إجمالاً أنّه كلام حقيقة على غير الصفة الّتي نعدّها من الكلام الّذي نستعمله، لكنّه تعالى لم يبيّن لنا ولا نحن تنبّهنا من كلامه أنّ هذا الّذي يسمّيه كلاماً يكلّم به أنبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقّق؟ غير أنّه على أيّ حال لا يسلب عنه خواصّ الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة وإلقاؤها في ذهن السامع.

وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء والإماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحقّقه إلى تماميّة الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة ممّا لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات الّتي هي عين الذات، كيف ولافرق بينه وبين سائر أفعاله الّتي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات؟ وربّما قبل الانطباق على الزمان. قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) الأعراف - ١٤٣، وقال تعالى( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) البقرة - ٢٤٣، وقال تعالى:( نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) الأنعام - ١٥١، وقال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة - ١١٨، فالآيات كما ترى تفيد زمانيّة الكلام كما تفيد زمانيّة غيره من الأفعال كالخلق والإماتة والإحياء والرزق والهداية والتوبة على حدّ سواء.

فهذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، والبحث التفسيريّ المقصور على الآيات القرآنيّة في معنى الكلام، أمّا ما يقتضيه البحث الكلاميّ على ما اشتغل به السلف من المتكلّمين أو البحث الفلسفيّ فسيأتيك نبأه.

٣٣٢

واعلم: أنّ الكلام أو التكليم ممّا لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى:( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) النساء - ١٧١، اُريد به نفس الإنسان، وقال تعالى:( وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة - ٤١، وقال تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ) الانعام - ١٥٥، وقال تعالى:( مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) لقمان - ٢٧، وقد اُريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجئ الإشارة إليه.

وأمّا لفظ القول فقد عمّ في كلامه تعالى الإنسان وغيره فقال تعالى في مورد الإنسان:( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) طه - ١١٧، وقال تعالى في مورد الملائكة:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة - ٣٠، وقال أيضاً:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ) ص - ٧١، وقال في مورد ابليس( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص - ٧٥، وقال تعالى في غير مورد اُولي العقل:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١١، وقال تعالى:( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) الأنبياء - ٦٩، وقال تعالى:( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) هود - ٤٤، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتّتها قوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقوله تعالى:( إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) مريم - ٣٥.

والّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة ممّا له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلاً، وممّا سبيله التكوين وليس له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إنّ الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدّمهما من الآيات) أنّ القول منه تعالى إيجاد أمر يدلّ على المعنى المقصود.

فأمّا في التكوينيّات فنفس الشئ الّذي أوجده تعالى وخلقه هو شئ مخلوق موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإنّ من

٣٣٣

المعلوم أنّه إذا أراد شيئاً فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسّط بينه تعالى وبين الشئ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيّات نفس الفعل وهو الإيجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ.

وأمّا في غير التكوينيّات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمراً يوجب علماً باطنيّاً في الإنسان بأنّ كذا كذا، وذلك إمّا بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفيّة تأثيره في نفس النبيّ بحيث يوجد معه علم في نفسه بأنّ كذا كذا على حدّ ما مرّ في الكلام.

وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختصّ هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصيّة، وهي أنّ الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنّما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعيّ الّذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانيّة الإجتماعيّة، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) أنّ الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيوانيّ الاجتماعيّ وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجيّ العلميّ الّذي يستدعي وضع الاُمور الاعتباريّة.

ويظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهّم الذهنيّ المستخدم فيه الاعتبار اللغويّ والأصوات المؤلّفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقّق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحقّقه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلّف تأليفاً لفظيّاً وضعيّاً من فم مشقوق ينضمّ إليه أعضاء فعّالة للصوت من واحد، والتأثّر من ذلك بإحساس اُذن مشقوق ينضمّ إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتّب عليه أثر القول وخاصّته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللّفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.

وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى:( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) النمل - ١٨،

٣٣٤

وقال تعالى:( فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) النمل - ٢٢، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى و وحيه إليهم كقوله تعالى:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل - ٦٨.

وهناك ألفاظ اُخر ربّما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣، والإلهام، قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، والنبأ، قال تعالى:( قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) التحريم - ٣، والقصّ، قال تعالى:( يَقُصُّ الْحَقَّ ) الأنعام - ٥٧، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الّذي قلناه في أوّل الكلام من لزوم تحقّق أمر حقيقيّ معه يترتّب عليه أثر القول وخاصّته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقيّ المتحقّق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلاً، وفي الوحي خاصّة كلام سيأتي التعرّض له في سورة الشورى إنشاء الله.

وأمّا اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجوداً في الجميع كتسمية بعضها كلاماً وبعضها قولاً وبعضها وحياً مثلاً لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللّفظيّة على المورد، فالقول يسمّى كلاماً نظراً إلى السبب الّذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمّي هذا الفعل الإلهيّ في مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاماً لأنّ العناية هناك إنّما هو بالمخاطبة والتكليم، ويسمّى قولاً بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمّي هذا الأمر الإلهيّ في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولاً كقوله تعالى:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ ) ص - ٨٥، ويسمّى وحياً بعناية كونه خفيّاً عن غير الأنبياء ولذلك عبّر في موردهمعليهم‌السلام بالوحي كقوله:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣.

الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفيّة الاستعمال فقد عرفت أنّ مفردات اللّغة إنّما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الاُمور الجسمانيّة ابتدائاً ثمّ انتقل تدريجاً إلى المعنويّات، وهذا

٣٣٥

وإن أوجب كون استعمال اللّفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالاً مجازيّاً ابتدائاً لكنّه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقّي الاجتماع وتقدّم الإنسان في المدنيّة والحضارة، يوجب التغيّر في الوسائل الّتي ترفع حاجته الحيويّة، والتبدّل فيها دائماً مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدّل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتّبة وذلك كما أنّ السراج في أوّل ما تنبّه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلاً شيئاً من الدهن أو الدهنيّات مع فتيلة متّصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل، فركّبته الصناعة على هذه الهيئة أوّلاً وسمّاه الإنسان بالسراج، ثمّ لم يزل يتحوّل طوراً بعد طور، ويركب طبقاً عن طبق، حتّى انتهت إلى هذه السرج الكهربائيّة الّتي لا يوجد فيها ومعها شئ من أجزاء السراج المصنوع أوّلاً، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفيّة أو فلزّيّة، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حدّ سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلّا أنّ الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتّب على المصنوع أوّلاً يترتّب بعينه على المصنوع أخيراً من غير تفاوت، وهو الاستضائة، ونحن لا نقصد شيئاً من وسائل الحياة ولا نعرفها إلّا بغايتها في الحياة وأثرها المترتّب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصّة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغيّر وتبدّل، وإن تغيّر الشكل أحياناً أو الكيفيّة أو الكمّيّة أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقيّ وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغيّر، وقلّما يوجد اليوم في الاُمور المصنوعة ووسائل الحياة - وهي اُلوف واُلوف - شئ لم يتغيّر ذاته عمّا حدث عليه أوّلاً، غير أنّ بقاء الأثر والخاصّة أبقى لكلّ واحد منها اسمه الأوّل الّذي وضع له. وفي اللّغات شئ كثير من القسم الأوّل وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتّبع البصير.

فقد تحصّل أن استعمال الكلام والقول فيما مرّ مع فرض بقاء الأثر والخاصّة

٣٣٦

استعمال حقيقيّ لا مجازيّ.

فظهر من جميع ما بيّناه: أنّ إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقيّ واقعيّ، وأنّه من مراتب المعنى الحقيقيّ لهاتين اللّفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أنّ سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإرادة والإعطاء كذلك.

واعلم: أنّ القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات، من حيث اشتماله على أمر حقيقيّ واقعيّ غير اعتباريّ كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهّم أكثر الباحثين في المعارف الدينيّة: أنّ ما اشتملت عليه هذه البيانات اُمور اعتباريّة ومعاني وهميّة نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدّم والتصدّر ونحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنّة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتّبة نظير ترتّب الآثار الخارجيّة على هذه المقامات الإجتماعيّة الاعتباريّة، أي إنّ الرابطة بين المقامات المعنويّة المذكورة وبين النتائج المترتّبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم - اضطراراً - كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدّس، محكوماً بالآراء الاعتباريّة ومبعوثاً عن الشعور الوهميّ كالإنسان الواقع في عالم المادّة، والنازل في منزل الحركة والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقرّبين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقيّة المعنويّة الّتي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنّة إلّا أن تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريّات.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلّم دون الغيبة كما مرّ.

والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أنّ ما ذكره لهعليه‌السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البيّنات، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعاً ليس ممّا يختصّ ببعضهم دون بعض، قال تعالى:( قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) الحديد - ٢٥، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ

٣٣٧

مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا ) النمل - ٢، لكنّهما في عيسى بنحو خاصّ فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات كانت اُموراً متّكئة على الحياة مترشّحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسىعليه‌السلام وصرّح باسمه إذ لولا التصريح لم يدلّ على كونه فضيلة خاصّة كما لو قيل: وآتينا بعضهم البيّنات وأيّدناه بروح القدس، إذ البيّنات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصّة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلّا مع التصريح باسمه ليعلم أنّها فيه بنحو خاصّ غير مشترك تقريباً، على أنّ في اسم عيسىعليه‌السلام خاصّة اُخرى وآية بيّنة وهي: أنّه ابن مريم لا أب له، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ٩١، فمجموع الابن والاُمّ آية بيّنة إلهيّة وفضيلة اختصاصيّة اُخرى.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، العدول إلى الغيبة ثانياً لأنّ لمقام مقام إظهار أنّ لمشيّة والإرادة الربّانيّة غير مغلوبة، والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهيّة، وبالجملة وصف الاُلوهيّة هي الّتي تنافي تقيّد القدرة وتوجب إطلاق تعلّقها بطرفي الإيجاب والسلب فمسّت حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهيّة للذكر فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه أيضاً في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا، وقوله: ولكنّ الله يفعل ما يريد وهو الوجه أيضاً في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.

قوله تعالى: ( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ) ، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنّه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أنّ الاختلاف بالإيمان والكفر وسائرالمعارف الأصليّة المبيّنة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنّما حدث بين الناس بالبغى، وحاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) ، أي ولو شاء الله لم يؤثّر الاختلاف في استدعاء القتال ولكنّ الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثّر

٣٣٨

هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جرياً على سنّة الأسباب.

ومحصّل معنى الآية والله العالم: أنّ الرسل الّتي ارسلوا إلى الناس عباد لله مقرّبون عند ربّهم، مرتفع عن الناس اُفقهم وهم مفضّل بعضهم على بعض على مالهم من الاصل الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد أتوا للناس بآيات بيّنات أظهروا بها الحقّ كلّ الاظهار وبيّنوا طريق الهداية أتمّ البيان، وكان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلّا إلى الوحدة والاُلفة والمحبّة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر، ثمّ التفرّق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ واُجرى هذا السبب كسائر الأسباب والعلل على سنّة الأسباب الّتي أرادها الله في عالم الصنع والإيجاد، والله يفعل ما يريد.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا ) الخ، معناه واضحٌ وفي ذيل الآية دلالة على أنّ الاستنكاف عن الإنفاق كفر وظلم.

( بحث روائي)

في الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا الخ، في هذا ما يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن إصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفاً مع أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالبعليه‌السلام يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبّر القوم وكبّرنا، وهلّل القوم وهلّلنا، وصلّى القوم وصلّينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقالعليه‌السلام : على هذه الآية( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم - فنحن الّذين من بعدهم -وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) فنحن الّذين

٣٣٩

آمنّا وهُم الّذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم وربّ الكعبة ثمّ حمل فقاتل حتّى قتل (رحمه الله).

أقول: وروي هذه القصّة المفيد والشيخ في أماليهما والقميّ في تفسيره، والرواية تدلّ على أنّهعليه‌السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعمّ من الكفر الخاصّ المصطلح الّذي له أحكام خاصّة في الدين، فإنّ النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان أنّهعليه‌السلام ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل وأصحاب صفّين والخوارج معاملة الكفّار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردّة من الدين، فليس إلّا أنّه عدّهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كانعليه‌السلام يقول: اُقاتلهم على التأويل دون التنزيل.

وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنّه يدلّ على أنّ البيّنات الّتي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الّذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف ممّا لا تنفع فيه البيّنات من الرسل بل هو ممّا يؤدّي إليه الاجتماع الإنسانيّ الّذي لا يخلو عن البغى والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس - ١٩، وقوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً - إلى أن قال -وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢١٣، وقوله تعالى:( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ) هود - ١١٩، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الاختلاف في الكتاب - وهو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم ممّا لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الاُمة:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) البقرة - ٢١٤، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة:( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان - ٣٠، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.

وأمّا أنّ ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481