الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131650 / تحميل: 8003
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يده مع يد الذّابح، ويسمّي الله تعالى، ويقول « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » إلى قوله « وأنا من المسلمين » ثمَّ يقول: « اللهم منك ولك. بسم الله، والله أكبر. اللهمّ تقبّل منّي » ثمَّ يمرّ السّكين. ولا ينخعه حتّى يموت. ومن أخطأ في الذّبيحة، فذكر غير صاحبها، كانت مجزئة عنه بالنّيّة. وينبغي أن يبدأ أيضا بالذّبح قبل الحلق، وفي العقيقة بالحلق قبل الذّبح. فإن قدّم الحلق على الذّبح ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن السّنّة أن يأكل الإنسان من هديه لمتعته، ومن الأضحيّة ويطعم القانع والمعترّ: يأكل ثلثه، ويطعم القانع والمعترّ ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثّلث الباقي. وقد بيّنّا أنه لا يجوز أن يأكل من الهدي المضمون إلّا إذا كان مضطرّا. فإن أكل منه من غير ضرورة، كان عليه قيمته. ولا بأس بأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وادّخارها. ولا يجوز أن يخرج من منى من لحم ما يضحّيه. ولا بأس بإخراج السّنام منه. ولا بأس أيضا بإخراج لحم قد ضحّاه غيره. ويستحبّ أن لا يأخذ شيئا من جلود الهدي والأضاحي، بل يتصدّق بها كلّها. ولا يجوز أيضا أن يعطيها الجزّار. وإذا أراد أن يخرج شيئا منها لحاجته إلى ذلك، تصدّق بثمنه.

ولا يجوز أن يحلق الرّجل رأسه، ولا أن يزور البيت، إلا بعد الذّبح، أو أن يبلغ الهدي محلّه. وهو أن يحصل في رحله

٢٦١

فإذا حصل في رحله بمنى، وأراد أن يحلق، جاز له ذلك. ومتى فعل ذلك ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومن وجبت عليه بدنة في نذر أو كفّارة، ولم يجدها، كان عليه سبع شياه. فإن لم يجد، صام ثمانية عشر يوما إمّا بمكّة أو إذا رجع إلى أهله.

والصّبيّ إذا حجّ به متمتّعا، وجب على وليّه أن يذبح عنه.

ومن لم يتمكّن من شراء هدي، إلّا يبيع بعض ثيابه التي يتجمّل بها، لم يلزمه ذلك، وكان الصوم مجزئا عنه.

ويجزي الهدي عن الأضحيّة. وإن جمع بينهما، كان أفضل. ومن لم يجد الأضحيّة، جاز له أن يتصدّق بثمنها. فإن اختلفت أثمانها، نظر إلى الثّمن الأوّل والثّاني والثّالث، وجمعها ثمَّ يتصدّق بثلثها، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر لله تعالى أن ينحر بدنة، فإن سمّى الموضع الذي ينحرها فيه، وجب عليه الوفاء به، وإن لم يسمّ الموضع، لم يجز له أن ينحرها إلّا بفناء الكعبة. ويكره للإنسان أن يضحّي بكبش قد تولّى تربيته، ويستحبّ أن يكون ذلك ممّا يشتريه.

باب الحلق والتقصير

يستحبّ أن يحلق الإنسان رأسه بعد الذّبح. وإن كان صرورة، لا يجزئه غير الحلق. وإن كان ممّن حجّ حجّة الإسلام، جاز له التّقصير، والحلق أفضل. اللهمّ إلّا أن يكون قد لبّد

٢٦٢

شعره. فإن كان كذلك، لم يجزئه غير الحلق في جميع الأحوال.

ومن ترك الحلق عامدا أو التّقصير إلى أن يزور البيت، كان عليه دم شاة. وإن فعله ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء، وكان عليه إعادة الطّواف. ومن رحل من منى قبل الحلق، فليرجع إليها، ولا يحلق رأسه إلّا بها مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من الرّجوع إليها، فليحلق رأسه في مكانه، ويردّ شعره إلى منى، ويدفنه هناك فإن لم يتمكّن من ردّ الشعر، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق، ويكفيها من التّقصير مقدار أنملة.

وإذا أراد أن يحلق، فليبدأ بناصيته من القرن الأيمن ويحلق إلى العظمين ويقول إذا حلق: « اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة ». ومن لم يكن على رأسه شعر، فليمرّ الموسى عليه. وقد أجزأه. وإذا حلق رأسه، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء والطّيب، إن كان متمتّعا. فإن كان حاجّا غير متمتّع، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف الزّيارة، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف النّساء، حلّت له أيضا النّساء.

ويستحبّ ألا يلبس الثّياب إلّا بعد الفراغ من طواف الزّيارة، وليس ذلك بمحظور. وكذلك يستحبّ ألّا يمسّ الطّيب إلّا بعد الفراغ من طواف النّساء، وإن لم يكن ذلك محظورا على ما قدّمناه.

٢٦٣

باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ من مناسكه بمنى، فليتوجّه إلى مكّة، وليزر البيت يوم النّحر، ولا يؤخره إلّا لعذر. فإن أخّره لعذر، زار من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك. هذا إذا كان متمتّعا. فإن كان مفردا أو قارنا، جاز له أن يؤخر الى أيّ وقت شاء، غير أنّه لا تحلّ له النّساء. وتعجيل الطّواف للقارن والمفرد أفضل من تأخيره.

ويستحبّ لمن أراد زيارة البيت أن يغتسل قبل دخول المسجد والطّواف بالبيت، ويقلّم أظفاره، ويأخذ من شاربه، ثمَّ ثمَّ يزور. ولا بأس أن يغتسل الإنسان بمنى، ثمَّ يجي‌ء إلى مكّة، فيطوف بذلك الغسل بالبيت. ولا بأس أن يغتسل بالنّهار ويطوف بالليل ما لم ينقض ذلك الغسل بحدث أو نوم. فإن نقضه بحدث أو نوم، فليعد الغسل استحبابا، حتّى يطوف وهو على غسل. ويستحبّ للمرأة أيضا أن تغتسل قبل الطّواف.

وإذا أراد أن يدخل المسجد، فليقف على بابه، ويقول: « اللهمّ أعنّي على نسكك » إلى آخر الدّعاء الذي ذكرناه في الكتاب المقدّم ذكره. ثمَّ يدخل المسجد، ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله. فإن لم يستطع، استلمه بيده وقبّل يده. فإن لم يتمكّن من ذلك أيضا، استقبله، وكبّر، وقال ما قال حين طاف بالبيت يوم قدم مكّة. ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعا كما قدّمنا وصفه

٢٦٤

ويصلّي عند المقام ركعتين. ثمَّ ليرجع الى الحجر الأسود فيقبّله، إن استطاع، ويستقبله ويكبّر. ثمَّ ليخرج إلى الصّفا، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكّة. ثمَّ يأتي المروة، ويطوف بينهما سبعة أشواط، يبدأ بالصّفا ويختم بالمروة.

فإذا فعل ذلك، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء. ثمَّ ليرجع الى البيت، فيطوف به طواف النّساء أسبوعا، يصلّي عند المقام ركعتين، وقد حلّ له النّساء.

وأعلم أنّ طواف النّساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة. وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها الى الحج. فإن مات من وجب عليه طواف النّساء. كان على وليّه القضاء عنه. وإن تركه وهو حيّ، كان عليه قضاؤه. فإن لم يتمكّن من الرّجوع الى مكّة، جاز له أن يأمر من يتوب عنه. فإذا طاف النّائب عنه، حلّت له النّساء. وطواف النّساء فريضة على النّساء والرّجال والشّيوخ والخصيان، لا يجوز لهم تركه على حال.

فإذا فرغ الإنسان من الطّواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التّشريق إلّا بها. فإن بات في غيرها، كان عليه دم شاة. فإن بات بمكّة ليالي التّشريق، ويكون مشتغلا بالطّواف والعبادة، لم يكن عليه شي‌ء. وإن لم يكن مشتغلا بهما، كان عليه ما ذكرناه، وان خرج من منى بعد نصف اللّيل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنّه لا يدخل مكّة إلّا بعد طلوع الفجر. وإن تمكّن ألّا يخرج

٢٦٥

منها إلّا بعد طلوع الفجر، كان أفضل. ومن بات الثّلاث ليال بغير منى متعمّدا، كان عليه ثلاثة من الغنم. والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيّام التّشريق من منى. فإن أراد أن يأتي مكّة للطّواف بالبيت تطوّعا، جاز له ذلك، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى لرمي الجمار، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيّام: الثّاني من النّحر والثّالث والرّابع، كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويكون ذلك عند الزّوال، فإنّه الأفضل. فإن رماها ما بين طلوع الشمس الى غروبها، لم يكن به بأس.

فإذا أراد أن يرمي، فليبدأ بالجمرة الأولى، فليرمها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفا. ويكبّر مع كلّ حصاة، ويدعوا بالدّعاء الذي قدّمناه. ثمَّ يقوم عن يسار الطّريق ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ وآله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ ليتقدم قليلا ويدعوا ويسأله أن يتقبّل منه. ثمَّ يتقدّم أيضا ويرمي الجمرة الثّانية، ويصنع عندها كما صنع عند الأولى، ويقف ويدعوا، ثمَّ يمضي إلى الثّالثة فيرميها كما رمى الأوليين، ولا يقف عندها.

وإذا غابت الشّمس، ولم يكن قد رمى بعد، فلا يجوز له أن يرمي إلّا في الغد. فإذا كان من الغد، رمى ليومه مرّة، ومرّة قضاء لما فاته، ويفصل بينهما بساعة. وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة، والذي ليومه عند الزّوال. فإن فاته رمي يومين،

٢٦٦

رماها كلّها يوم النّفر، وليس عليه شي‌ء. وقد بينا أنّه لا يجوز الرّمي باللّيل. وقد رخّص للعليل والخائف والرّعاة والعبيد الرّمي باللّيل. ومن نسي رمي الجمار الى أن أتى مكّة، عاد إلى منى، ورماها، وليس عليه شي‌ء. وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه حكم الرّجل سواء.

فإن لم يذكر الى أن يخرج من مكّة، لم يكن عليه شي‌ء. إلّا أنّه إن حجّ في العام المقبل، أعاد ما كان قد فاته من رمي الجمار. وإن لم يحجّ أمر وليّه أن يرمي عنه. فإن لم يكن له وليّ، استعان برجل من المسلمين في قضاء ذلك عنه.

والترتيب واجب في الرّمي. يجب أن يبدأ بالجمرة العظمى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة. فمن خالف شيئا منها، أو رماها منكوسة، كان عليه الإعادة. ومن بدأ بجمرة العقبة ثمَّ الوسطى ثمَّ الأولى، أعاد على الوسطى ثمَّ جمرة العقبة وقد أجزأه. فإن نسي فرمى الجمرة الأولى بثلاث حصيات، ورمى الجمرتين الأخريين على التّمام، كان عليه ان يعيد عليها كلّها. وإن كان قد رمى من الجمرة الأولى بأربع حصيات ثمَّ رمى الجمرتين على التّمام، كان عليه أن يعيد على الأولى بثلاث حصيات. وكذلك إن كان قد رمى على الوسطى أقل من أربعة، أعاد عليها وعلى ما بعدها. وإن رماها بأربعة، تمّمها، وليس عليه شي‌ء من الإعادة على الثّالثة. ومن رمى جمرة بست حصيات، وضاعت عنه واحدة،

٢٦٧

أعاد عليها بحصاة، وإن كان من الغد. ولا يجوز له أن يأخذ من حصى الجمار فيرمي بها. ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة، ولم يعلم من أي الجمار هي، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة. فإن رمى بحصاة، فوقعت في محمله، أعاد مكانها حصاة أخرى. فإن أصابت إنسانا أو دابّة، ثمَّ وقعت على الجمرة، فقد أجزأه.

ولا بأس أن يرمي الإنسان راكبا. وإن رمى ماشيا، كان أفضل ولا بأس أن يرمى عن العليل والمبطون والمغمى عليه والصّبيّ.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة. يبدأ بالتّكبير يوم النّحر من بعد الظّهر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات، يبدأ عقيب الظّهر من يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق، ويقول في التّكبير: « الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

لا بأس أن ينفر الإنسان من منى اليوم الثّاني من أيّام التّشريق وهو اليوم الثّالث من يوم النّحر. فإن أقام إلى النّفر الأخير، وهو اليوم الثّالث من أيّام التّشريق والرّابع من يوم النّحر، كان أفضل. فإن كان ممّن أصاب النّساء في إحرامه أو صيدا، لم يجز له أن

٢٦٨

ينفر في النّفر الأوّل. ويجب عليه المقام الى النّفر الأخير. وإذا أراد أن ينفر في النّفر الأوّل، فلا ينفر إلّا بعد الزّوال، إلّا أن تدعوه ضرورة إليه من خوف وغيره، فإنّه لا بأس أن ينفر قبل الزّوال، وله أن ينفر بعد الزّوال ما بينه وبين غروب الشّمس. فإذا غابت الشّمس، لم يجز له النّفر، وليبت بمنى الى الغد. وإذا نفر في النّفر الأخير، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشّمس أيّ وقت شاء. فإن لم ينفر وأراد المقام بمنى، جاز له ذلك، إلّا الإمام خاصّة، فإنّ عليه أن يصلّي الظّهر بمكّة.

ومن نفر من منى، وكان قد قضى مناسكه كلّها، جاز له أن لا يدخل مكّة. وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك، فلا بدّ له من الرّجوع إليها. والأفضل على كلّ حال الرّجوع إليها لتوديع البيت وطواف الوداع.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان بمسجد منى، وهو مسجد الخيف. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا، وعن يمينها وعن يسارها مثل ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه، فافعل. ويستحبّ أن يصلّي الإنسان ستّ ركعات في مسجد منى. فإذا بلغ مسجد الحصباء، وهو مسجد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليدخله وليسترح فيه قليلا وليستلق على قفاه.

٢٦٩

فإذا جاء إلى مكّة فليدخل الكعبة، إن تمكّن من ذلك سنّة واستحبابا. والصّرورة لا يترك دخولها على حال مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

فإذا أراد دخول الكعبة فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكّدة. فإذا دخلها، فلا يمتخط فيها، ولا يبصق. ولا يجوز دخولها بحذاء. ويقول إذا دخلها: « اللهمّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمنا، فآمنّى من عذابك عذاب النار ».

ثمَّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأولى منهما « حم السّجدة » وفي الثّانية عدد آياتها، ثمَّ ليصلّ في زوايا البيت كلّها، ثمَّ يقول: « اللهمّ من تهيّأ وتعبّأ » إلى آخر الدّعاء. فإذا صلّى عند الرّخامة على ما قدّمناه، وفي زوايا البيت، قام فاستقبل الحائط بين الرّكن اليمانيّ والغربيّ، ويرفع يديه، ويلتصق به، ويدعوا. ثمَّ يتحوّل الى الرّكن اليمانيّ، فيفعل به مثل ذلك. ثمَّ يأتي الرّكن الغربيّ، ويفعل به أيضا مثل ذلك، ثمَّ ليخرج. ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة مع الاختيار. فإن اضطرّ الى ذلك، لم يكن عليه بأس بالصّلاة فيها. فأمّا النّوافل فالصّلاة فيها مندوب اليه.

فإذا خرج من البيت ونزل عن الدرجة، صلّى عن يمينه ركعتين. فإذا أراد الخروج من مكّة، جاء الى البيت، فطاف به أسبوعا طواف الوداع سنّة مؤكّدة. فإن استطاع أن يستلم الحجر

٢٧٠

والرّكن اليمانيّ في كل شوط، وفعل. وإن لم يتمكّن، افتتح به، وختم به، وقد أجزأه. فإن لم يتمكن من ذلك أيضا، لم يكن عليه شي‌ء. ثمَّ يأتي المستجار، فيصنع عنده كما صنع يوم قدم مكّة. ويتخيّر لنفسه من الدّعاء ما أراد. ثمَّ يستلم الحجر الأسود، ثمَّ يودّع البيت ويقول: « اللهمّ لا تجعله آخر العهد من بيتك » ثمَّ ليأت زمزم فيشرب منه، ثمَّ ليخرج، ويقول: « آئبون تائبون، عابدون، لربّنا حامدون، الى ربّنا راغبون، الى ربّنا راجعون ». فإذا خرج من باب المسجد، فليكن خروجه من باب الحنّاطين. فيخرّ ساجدا، ويقوم مستقبل الكعبة، فيقول: « اللهمّ إني أنقلب على لا إله إلا الله ».

ومن لم يتمكّن من طواف الوداع، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج، لم يكن عليه شي‌ء. فإذا أراد الخروج من مكّة، فليشتر بدرهم تمرا، وليتصدّق به، ليكون كفّارة لما دخل عليه في الإحرام، إن شاء الله.

باب فرائض الحج

فرائض الحجّ: الإحرام من الميقات، والتّلبيات الأربع، والطّواف بالبيت، إن كان متمتّعا، ثلاثة أطواف: طواف للعمرة، وطواف للزيارة، وطواف للنّساء، وإن كان قارنا أو مفردا، طوافان: طواف للحجّ، وطواف للنّساء، ويلزمه مع

٢٧١

كلّ طواف ركعتان عند المقام، وهما أيضا فرضان، والسّعي بين الصّفا والمروة، والوقوف بالموقفين: عرفات والمشعر الحرام وإن كان متمتّعا، كان الهدي أيضا واجبا عليه أو ما يقوم مقامه.

فمن ترك الإحرام متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا حتّى يجوز الميقات، كان عليه أن يرجع إليه، ويحرم منه، إذا تمكّن منه. فإن لم يتمكّن لضيق الوقت أو الخوف أو ما جرى مجراهما من أسباب الضّرورات، أحرم من موضعه وقد أجزأه. فإن كان قد دخل مكّة، وأمكنه الخروج الى خارج الحرم، فليخرج وليحرم منه. فإن لم يستطع ذلك، أحرم من موضعه.

ومن ترك التّلبية متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركها ناسيا، ثمَّ ذكر، فليجدّد التّلبية، وليس عليه شي‌ء.

ومن ترك طواف الزّيارة متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا، أعاد الطّواف أيّ وقت ذكره.

ومن ترك طواف النّساء متعمّدا، لم يبطل حجّة، إلّا أنّه لا تحلّ له النّساء، حتى يطوف عنه حسب ما قدّمناه. وركعتا الطّواف متى تركهما ناسيا، كان عليه قضاءهما حسب ما قدّمناه.

ومن ترك السّعي متعمّدا، فلا حجّ له. فإن تركه ناسيا،

٢٧٢

عليه قضاؤه حسب ما قدّمناه.

ومن ترك الوقوف بعرفات متعمّدا، أو بالمشعر الحرام، فلا حجّ له. فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا، كان عليه أن يعود، فيقف بها ما بينه وبين طلوع الفجر من يوم النّحر. فإن لم يذكر إلّا بعد طلوع الفجر، وكان قد وقف بالمشعر، فقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

وإذا ورد الحاجّ ليلا، وعلم: أنّه مضى الى عرفات، وقف بها وإن كان قليلا، ثمَّ عاد الى المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، وجب عليه المضيّ إليها والوقوف بها، ثمَّ يجي‌ء إلى المشعر الحرام. فإن غلب على ظنّه أنّه إن مضى الى عرفات، لم يلحق المشعر قبل طلوع الشّمس، اقتصر على الوقوف بالمشعر، وقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

ومن أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الحجّ. وإن أدركه بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ.

ومن وقف بعرفات، ثمَّ قصد المشعر، فعاقه في الطّريق عائق، فلم يلحق الى قرب الزّوال، فقد تمَّ حجّه، ويقف قليلا بالمشعر ويمضي إلى منى. ومن لم يكن قد وقف بعرفات، وأدرك المشعر بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

ومن فاته الحجّ، فليقم على إحرامه الى انقضاء أيّام

٢٧٣

التّشريق، ثمَّ يجي‌ء، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصّفا والمروة، ويجعل حجّته عمرة. وإن كان قد ساق معه هديا، فلينحره بمكّة وكان عليه الحجّ من قابل إن كانت حجته حجّة الإسلام. وإن كانت حجّة التّطوّع، كان بالخيار: إن شاء حجّ، وإن شاء لم يحجّ. ومن حضر المناسك كلّها ورتّبها في مواضعها. إلّا أنّه كان سكرانا، فلا حجّ له، وكان عليه الحجّ من قابل.

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

قد بيّنّا فيما تقدّم من أن الحجّ واجب على النّساء كوجوبه على الرّجال. فمتى كانت المرأة لها زوج، فلا تخرج إلّا معه. فإن منعها زوجها من الخروج في حجّة الإسلام، جاز لها خلافه. ولتخرج، وتحجّ حجّة الإسلام. وإن أرادت أن تحجّ تطوّعا، فمنعها زوجها، فليس لها مخالفته.

وينبغي أن لا تخرج إلّا مع ذي محرم لها من أب أو أخ أو عمّ أو خال. فإن لم يكن لها أحد ممّن ذكرناه. جاز لها أن تخرج مع من تثق بدينه من المؤمنين.

وإذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق، جاز لها أن تخرج في حجّة الإسلام، سواء كان للزّوج عليها رجعة أو لم تكن. وليس لها أن تخرج إذا كانت حجّتها تطوّعا، إلّا أن تكون العدّة

٢٧٤

لزوجها عليها فيها رجعة. فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها، فلا بأس بها أن تخرج فيها الى الحجّ فرضا كان أو نفلا.

وإذا خرجت المرأة، وبلغت ميقات أهلها، فعليها أن تحرم منه، ولا تؤخره. فإن كانت حائضا، توضّأت وضوء الصّلاة واحتشت واستثفرت وأحرمت، إلّا أنها لا تصلّي ركعتي الإحرام فإن تركت الإحرام ظنّا منها أنّه لا يجوز لها ذلك، وجازت الميقات، كان عليها أن ترجع الى الميقات، فتحرم منه، إذا أمكنها ذلك. فإن لم يمكنها، أحرمت من موضعها. إذا لم تكن قد دخلت مكّة. فإن كانت قد دخلت مكّة، فلتخرج الى خارج الحرم، وتحرم من هناك. فإن لم يمكنها ذلك، أحرمت من موضعها، وليس عليها شي‌ء.

فإذا دخلت المرأة مكّة، وكانت متمتّعة، طافت بالبيت، وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت. وقد أحلّت من كلّ ما أحرمت منه مثل الرّجل سواء.

فإن حاضت قبل الطّواف، انتظرت ما بينها وبين الوقت الذي تخرج الى عرفات. فإن طهرت، طافت وسعت. وإن لم تطهر، فقد مضت متعتها، وتكون حجّة مفردة، تقضي المناسك كلّها ثمَّ تعتمر بعد ذلك عمرة مبتولة. فإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ثمَّ حاضت، كان حكمها حكم من لم يطف. وإذا طافت أربعة أشواط، ثمَّ حاضت، قطعت الطّواف،

٢٧٥

وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وقد تمّت متعتها.

فإذا فرغت من المناسك، وطهرت تمّمت الطّواف. وإن كانت قد طافت الطّواف كلّه، ولم تكن قد صلّت الرّكعتين عند المقام، فلتخرج من المسجد، ولتسع، وتعمل ما قدّمناه من الإحرام بالحجّ وقضاء المناسك، ثمَّ تقضي الرّكعتين إذا طهرت. وإذا طافت بالبيت بين الصّفا والمروة وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وخافت أن يلحقها الحيض فيما بعد، فلا تتمكّن من طواف الزّيارة وطواف النّساء، فجائز لها أن تقدّم الطّوافين معا، والسّعي بين الصّفا والمروة، ثمَّ تخرج فتقضي المناسك كلّها، ثمَّ ترجع الى منزلها.

فإن كانت قد طافت طواف الزّيارة، وبقي عليها طواف النّساء، فلا تخرج من مكّة إلّا بعد أن تقضيه. وإن كانت قد طافت منه أربعة أشواط وأرادت الخروج، جاز لها أن تخرج وإن لم تتمّ الطّواف.

والمستحاضة لا بأس بها أن تطوف بالبيت، وتصلّي عند المقام، وتشهد المناسك كلّها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة. والفرق بينها وبين الحائض، أنّ الحائض لا يحلّ لها دخول المسجد، فلا تتمكّن من الطّواف، ولا يجوز لها أيضا الصّلاة، والطّواف لا بدّ فيه من الصّلاة، وليس هذا حكم المستحاضة.

٢٧٦

وإذا أرادت الحائض وداع البيت، فلا تدخل المسجد، ولتودّع من أدنى باب من أبواب المسجد، وتنصرف، إن شاء الله.

وإذا كانت المرأة عليلة لا تقدر على الطّواف، طيف بها، وتستلم الأركان والحجر. فإن كان عليها زحمة، فتكفيها الإشارة. ولا تزاحم الرّجال. وإن كان بها علّة تمنع من حملها والطّواف بها، طاف عنها وليّها، وليس عليها شي‌ء. وكذلك إذا كانت عليلة لا تعقل عند الإحرام، أحرم عنها وليّها، وجنّبها ما يجتنب المحرم، وقد تمَّ إحرامها. وليس على النّساء حلق ولا دخول البيت. فإن أرادت دخول البيت، فلتدخله إذا لم يكن هناك زحام. ولا يجوز للمستحاضة دخول البيت على حال.

باب من حج عن غيره

من وجب عليه الحجّ، لا يجوز له أن يحجّ عن غيره إلّا بعد أن يقضي حجّته التي وجبت عليه. فإذا قضاها، جاز له بعد ذلك أن يحجّ عن غيره. ومن ليس له مال يجب عليه الحجّ، جاز له أن يحجّ عن غيره. فإن تمكّن بعد ذلك من المال، كان عليه أن يحجّ عن نفسه، وقد أجزأت الحجّة التي حجّها عمّن حجّ عنه.

وينبغي لمن يحجّ عن غيره أن يذكره في المواضع كلّها،

٢٧٧

فيقول عند الإحرام: اللهمّ ما أصابني من تعب أو نصب أو لغوب فأجر فلان بن فلان، وأجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التّلبية والطّواف والسّعي وعند الموقفين وعند الذّبح وعند قضاء جميع المناسك، فإن لم يذكره في هذه المواضع، وكانت نيته الحجّ عنه، كان جائزا.

ومن أمر غيره أن يحجّ عنه متمتّعا، فليس له أن يحجّ عنه مفردا ولا قارنا. فإن حجّ عنه كذلك، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. وإن أمره أن يحجّ عنه مفردا أو قارنا، جاز له أن يحجّ عنه متمتّعا، لأنه يعدل الى ما هو الأفضل. ومن أمر غيره أن يحجّ عنه على طريق بعينها، جاز له أن يعدل عن ذلك الطّريق الى طريق آخر. وإذا أمره أن يحجّ عنه بنفسه، فليس له أن يأمر غيره بالنّيابة عنه. فإن جعل الأمر في ذلك اليه، جاز له أن يستنيب غيره فيه. وإذا أخذ حجة عن غيره، لا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى، حتى يقضي التي أخذها.

وإذا حجّ عن غيره، فصدّ عن بعض الطّريق، كان عليه ممّا أخذه بمقدار ما بقي من الطّريق. اللهم إلّا أن يضمن الحجّ فيما يستأنف، ويتولّاه بنفسه.

فإن مات النّائب في الحجّ، وكان موته بعد الإحرام ودخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحجّ، وأجزأ عمّن حجّ عنه وإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم، كان على ورثته، إن

٢٧٨

خلّف في أيديهم شيئا، مقدار ما بقي عليه من نفقة الطّريق. وإذا أخذ حجة، فأنفق ما أخذه في الطّريق من غير إسراف، واحتاج الى زيادة، كان على صاحب الحجّة أن يتمّمه استحبابا. فإن فضل من النّفقة شي‌ء، كان له، وليس لصاحب الحجّة الرّجوع عليه بالفضل. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره وهو بمكّة، إلّا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطّواف بنفسه، ولا يمكن حمله والطّواف به. وإن كان غائبا، جاز أن يطوف عنه.

وإذا حجّ الإنسان عن غيره من أخ له أو أب أو ذي قرابة أو مؤمن، فإن ثواب ذلك يصل الى من حجّ عنه من غير أن ينقض من ثوابه شي‌ء. وإذا حجّ الإنسان عمّن يجب عليه الحجّ بعد موته تطوّعا منه بذلك، فإنّه يسقط عن الميّت بذلك فرض الحجّ.

ومن كان عنده وديعة، فمات صاحبها، وله ورثة، ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يحجّ عنه، ويردّ الباقي على ورثته، إذا غلب على ظنّه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجّة الإسلام. فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا إلّا بأمرهم.

ولا بأس أن تحجّ المرأة عن الرّجل إذا كانت قد حجّت

٢٧٩

حجّة الإسلام، وكانت عارفة. وإذا لم تكن حجّت حجّة الإسلام، وكانت صرورة، لم يجز لها أن تحجّ عن غيرها على حال.

ولا يجوز لأحد أن يحجّ عن غيره إذا كان مخالفا له في الاعتقاد، اللهمّ إلّا أن يكون أباه، فإنّه يجوز له أن يحجّ عنه.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحجّ، لا يجوز تركها. ومن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، سقط عنه فرضها. وإن لم يتمتّع، كان عليه أن يعتمر بعد انقضاء الحجّ، إن أراد، بعد انقضاء أيّام التّشريق، وإن شاء أخّرها إلى استقبال المحرّم. ومن دخل مكّة بالعمرة المفردة في غير أشهر الحجّ، لم يجز له أن يتمتّع بها الى الحجّ. فإن أراد التّمتّع كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحجّ. وإن دخل مكّة بالعمرة المفردة في أشهر الحجّ، جاز له أن يقضيها، ويخرج الى بلده أو أيّ موضع شاء. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ، ويجعلها متعة. وإذا دخلها بنيّة التّمتّع، لم يجز له أن يجعلها مفردة، وأن يخرج من مكّة، لأنّه صار مرتبطا بالحجّ. وأفضل العمرة ما كانت في رجب، وهي تلي الحجّ في الفضل.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه)

التاريخ النقليّ ونعني به ضبط الحوادث الكلّيّة والجزئيّة بالنقل والحديث ممّا لم يزل الإنسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الأرض مهتمّاً به، ففي كلّ عصر من الأعصار على ما نعلمه عدّة من حفظته أو كتّابه والمؤلّفين فيه، وآخرون يعتورون ما ضبطه اُولئك ويأخذون ما أتحفوهم به، والإنسان ينتفع به في جهات شتّى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقصّ والحديث والتفكّه واُمور اُخرى سياسيّة أو اقتصاديّة أو صناعيّة وغير ذلك.

وإنّه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحّة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب:

أحدهما: أنّه لا يزال في كلّ عصر محكوماً للحكومة الحاضرة الّتي بيدها القوّة والقدرة يميل إلى إظهار ما ينفعها ويغمض عمّا يضرّها ويفسد الأمر عليها، وليس ذلك إلّا ما لانشكّ فيه أنّ الحكومات المقتدرة في كلّ عصر تهتمّ بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضرّ به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحقّ والصدق، فإنّ الفرد من الإنسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأيّ نحو أمكن، وهذا أمر لا يشكّ فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع العامّة الحاضرة في زمان حياته ويتأمّل به في تاريخ الاُمم الماضيّة والبعيدة.

وثانيهما: أنّ المتحمّلين للأخبار والناقلين لها والمؤلّفين فيها جميعهم لا يخلون من إعمال الإحساسات الباطنيّة والعصبيّات القوميّة فيما يتحمّلون منها أو يقضون فيها، فإنّ حملة الأخبار في الماضين - والحكومة في أعصارهم حكومة الدين - كانوا منتحلين بنحلة ومتديّنين كلّ بدين، وكانت الإحساسات المذهبيّة فيهم قويّة والعصبيّات القوميّة شديدة فلا محالة كانت تداخل الأخبار التاريخيّة من حيث اشتمالها على أحكام وأقضية كما أنّ العصبيّة المادّيّة والإحساسات القويّة اليوم للحريّة على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، ومن هنا

٣٢١

إنّك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألّف أو جمع من الأخبار أودع شيئاً يخالف مذهبه فما ضبطه أهل كلّ مذهب موافق لاُصول مذهبه، وكذا الأمر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخيّة عملته أيديهم إلّا وفيه بعض التأييد للمذهب المادّيّ.

على أنّ هيهنا عوامل اُخرى تستدعي فساد التاريخ، وهو فقدان وسائل الضبط والأخذ والتحمّل والنقل والتأليف والحفظ عن التغيّر والفقدان سابقاً وهذه النقيصة وإن ارتفعت اليوم بتقرّب البلاد وتراكم وسائل الاتّصال وسهولة نقل الأخبار والانتقال والتحوّل لكن عمّت البليّة من جهة اُخرى وهي: أنّ السياسة داخلت جميع شئون الإنسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنّيّة، وبحسب تحوّلها تتحوّل الأخبار من حال إلى حال، وهذا ممّا يوجب سوء الظنّ بالتاريخ حتّى كاد أن يورده مورد السقوط، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقليّ هو السبب أو عمدة السبب في إعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخيّة على أساس الآثار الأرضيّة، وهذا وإن سلمت عن بعض الإشكالات المذكورة كالأوّل مثلاً، لكنّها غير خالية عن الباقي، وعمدته مداخلة المورّخ بما عنده من الإحساس والعصبيّة في الأقضيّة، وتصرّف السياسة فيها افشائاً وكتماناً وتغييراً وتبديلاً، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الّذي لا يقبل الإصلاح أبداً.

ومن هنا يظهر: أنّ القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنّه وحي إلهيّ منزّه عن الخطاء مبرّي عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمّن له يؤمّنه من الكذب والخطاء، فأغلب القصص القرآنيّة (كنفس هذه القصّة قصّة طالوت) يخالف ما يوجد في كتب العهدين، ولا ضير فيه فإنّ كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة الّتي قد علمت كيفيّة تلاعب الأيدي فيها وبها، على أنّ مؤلّف هذه القصّة وهي قصّة صموئيل وشارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلاً، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافياً له في التواريخ وخاصّة في كتب العهدين، فالقرآن هو الكلام الحقّ من الحقّ عزّ اسمه.

على أنّ القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنّه يريد في قصصه بيان التاريخ على حدّما

٣٢٢

يرومه كتاب، التاريخ وإنّما هو كلام إلهيّ مفرّغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام، ولذلك لا تراه يقصّ قصّة بتمام أطرافها وجهات وقوعها، وإنّما يأخذ من القصّة نكات متفرّقة يوجب الإمعان والتأمّل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها. كما هو مشهود في هذه القصّة قصّة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى: ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً الخ، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم: إنّ آية ملكه، ثمّ يقول: فلمّا فصل طالوت الخ، ثمّ يقول فلمّا برزوا لجالوت، ومن المعلوم أنّ اتّصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصّة طويلة، وقد نبّهناك بمثله فيما مرّ من قصّة البقرة وهو مطّرد في جميع القصص المقتصّة في القرآن، لا يختصّ بالذكر منها إلّا مواضع الحاجة فيها: من عبرة وموعظة وحكمة أو سنّة إلهيّة في الأيّام الخالية والاُمم الدارجة، قال تعالى:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) يوسف - ١١١، وقال تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) النساء - ٢٦، وقال تعالى:( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) آل عمران - ١٣٨، إلى غير ذلك من الآيات.

٣٢٣

( سورة البقرة آية ٢٥٣ - ٢٥٤)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( ٢٥٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٥٤ )

( بيان)

سياق هاتين الآيتين لا يبعد كلّ البعد من سياق الآيات السابقة الّتي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الإنفاق ثمّ تقصّ قصّة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصّة بقوله تعالى: وإنّك لمن المرسلين الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض، ثمّ ترجع إلى شأن قتال اُمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصّة السابقة أعني: قصّة طالوت: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى قيداً، ثمّ ترجع إلى الدعوة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كلّه يؤيّد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معاً.

وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربّما يتوهّم: أن الرسالة وخاصّة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البيّنات الدالّة على حقّيّة الرسالة ينبغي أن تختم بها بليّة القتال: إمّا من جهة أنّ الله سبحانه لمّا أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيويّة والاُخرويّة بأرسال الرسل وإيتاء الآيات البيّنات كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع

٣٢٤

كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في اُممهم وخاصّة بعد انتشار دعوة الإسلام الّذي يعدّ الاتّحاد والاتّفاق من أركان أحكامه واُصول قوانينه؟ وإمّا من جهة أنّ إرسال الرسل وإيتاء بيّنات الآيات للدعوة إلى الحقّ لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبيّة الّتي لا توجد في القلب عنوة وقهراً فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوّة؟ وهذا هو الإشكال الّذي تقدّم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.

والّذي يجيب تعالى به: أنّ القتال معلول الاختلاف الّذي بين الاُمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلّة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكنّ الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الاُمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتالُ فهذا إجمال ما تفيده الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلوّ مقامهم ولذلك جئ في الإشارة بكلمة تلك الدالّة على الإشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الإلهيّ الواقع بين الأنبياءعليهم‌السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضّل عليه، وللجميع فضل فإنّ الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضاً اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أنّ بين الّذين بعدهم اختلافاً على ما يدلّ عليه ذيل الآية إلّا أنّ بين الاختلافين فرقاً، فإنّ الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتّحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين اُمم الأنبياء بعدهم فإنّه اختلاف بالإيمان والكفر، والنفى والإثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرّق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمّى ما للأنبياء تفضيلاً ونسبه إلى نفسه، وسمّى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضّلنا، وفي مورد اُممهم اختلفوا.

ولمّا كان ذيل الآية متعرّضاً لمسألة القتال مرتبطاً بها والآيات المتقدّمة على

٣٢٥

الآية أيضاً راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا - إلى قوله - بروح القدس مقدّمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: ولو شاء الله ما اقتتل الّذين من بعدهم إلى قوله تعالى: ولكنّ الله يفعل ما يريد.

وعلى هذا فصدر الآية لبيان أنّ مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسلعليهم‌السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإلهيّ وإيتاء البيّنات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.

وبعبارة اُخرى محصّل معنى الآية أنّ الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلّما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلاً جديداً، وكلّما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضّاً طريّاً، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والإتيان بالآيات البيّنات لايتمّ به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإيمان، فإنّ هذا الاختلاف إنّما يستند إلى أنفسهم، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر:( نَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) آل عمران - ١٩، وقد مرّ بيانه في قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة - ٢١٣. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعاً تكوينيّاً، لكنّهم اختلفوا فيما بينهم بغياً وقد أجرى الله في سنّة الإيجاد سببيّة ومسبّبيّة بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعاً تشريعيّاً أو لم يأمر به ولكنّه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيّب وليعلمنّ الله الّذين آمنوا وليعلمنّ الكاذبين.

وبالجملة القتال بين اُمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيّناتها إنّما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأمّا البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلّا القتال، فإنّ التجارب يعطي أنّ الحجّة لم تنجح وحدها قطّ إلّا إذا شفّع بالسيف، ولذلك كان كلّما

٣٢٦

اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحقّ والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مرّ بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقاً.

قوله تعالى: ( مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله أعلم - أنّ الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدلّ على الفضيلة كالآيات البيّنات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسىعليه‌السلام فإنّ هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس كذلك، وإنّما يدلّ على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنّه لا يعدّ في نفسه منقبة وفضيلة إلّا أن يضاف إلى شئ فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عزّ اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلّا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلاً فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أنّ هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البيّنات، فحوّل وجه الكلام من التكلّم إلى الغيبة في الجملتين الاُوليين حتّى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأوّل وهو التكلّم فقال تعالى: وآتينا عيسى بن مريم.

وقد اختلف المفسّرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلّم الله: موسىعليه‌السلام لقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٤، وغيره من الآيات، وقيل المراد به رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كلّمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قرّبه إليه تقريباً سقطت به الوسائط جملة فكلّمة بالوحي من غير واسطة، قال تعالى:( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) النجم - ١٠، وقيل المراد به الوحي مطلقاً لأنّ الوحي تكليم خفيّ، وقد سمّاه الله تعالى تكليماً حيث قال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الآية الشورى - ٥١، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضيّة الّتي في قوله تعالى: منهم من كلّم الله.

والأوفق بالمقام كون المراد به موسىعليه‌السلام لأنّ تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى

٣٢٧

النازل قبل هذه السورة المدنيّة، قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ - إلى أن قال -قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ) الأعراف - ١٤٣، وهي آية مكّيّة فقد كان كون موسى مكلّماً معهوداً عند نزول هذه الآية.

وكذا في قوله: ورفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافّة الخلق كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) السباء - ٢٨، وبجعله رحمةً للعالمين كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ١٠٧، وبجعله خاتماً للنبوّة كما قال تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وبإيتائه قرآناً مهيمناً على جميع الكتب وتبياناً لكلّ شئ ومحفوظاً من تحريف المبطلين، ومعجزاً باقياً ببقاء الدنيا كما قال تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة - ٤٨، وقال تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقال تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩، وقال تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء - ٨٨، وباختصاصه بدين قيّم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) الروم - ٤٣، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدلّ عليه قوله تعالى في نوح:( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافّات - ٧٩، وقوله تعالى في إبراهيمعليه‌السلام :( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) البقرة - ١٢٤، وقوله تعالى فيه( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء - ٨٤، وقوله تعالى في إدريسعليه‌السلام ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) مريم - ٥٧، وقوله تعالى في يوسف:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ) يوسف - ٧٦، وقوله في داودعليه‌السلام :( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣ إلى غير ذلك من مختصّات الأنبياء.

وكذا قيل: إنّ المراد بالرسل في الآية هم الّذين اختصّوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى الباقين،

٣٢٨

وقيل: لمّا كان المراد بالرسل في الآية هم الّذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصّة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمّد، وقد ذكر ما اختصّ به موسى من التكليم ثمّ ذكر رفع الدرجات وليس له إلّا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمكن أن يوجّه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: أنّ الوجه فيه عدم سبق ذكرهعليه‌السلام فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.

والّذي ينبغى أن يقال: أنّه لا شكّ أنّ ما رفع الله به درجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصود في الآية غير أنّه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإنّ كلّ ذلك تحكّم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسلعليهم‌السلام وشمول البعض في قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات: لكلّ من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة.

وما قيل: أنّ الاُسلوب يقتضي كون المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ السياق في بيان العبرة للاُمم الّتي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم ديناً واحداً، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية، فتعيّن أن يكون البعض الباقي محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فيه: أنّ القرآن يقضي بكون جميع الرّسل رسلاً إلى جميع الناس، قال تعالى:( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ) البقرة - ١٣٦، فإتيان الرسل جميعاً بالآيات البيّنات كان ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الّذين بعدهم لكن اختلفوا بغياً بينهم فكان ذلك أصلاً يتفرّع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.

( كلام في الكلام)

ثمّ إنّ قوله تعالى: منهم من كلّم الله، يدلّ على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنّه يدلّ على وقوع أمر حقيقيّ من غير مجاز وتمثيل وقد سمّاه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقاً حقيقيّاً أو إطلاقاً مجازيّاً، فالبحث في المقام من جهتين:

٣٢٩

الجهة الاولى: أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ ما خصّ الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم الّتي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الإلهيّة الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفيّة على حواسّ الناس، كلّ ذلك أمور حقيقيّة واقعيّة من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسمّوا القوى العقليّة الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي الّتي تترشّح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإنسانيّ بروح القدس والروح الأمين، والقوى الشهويّة والغضبيّة النفسانيّة الداعية إلى الشرّ والفساد بالشياطين والجنّ، والأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيّئ العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا.

فإنّ الآيات القرآنيّة وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشكّ فيه إلّا مكابر متعسّف ولا كلام لنا معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوّزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهيّة من غير استثناء إلى المادّيّة المحضة النافية لكلّ ما وراء المادّة، وقد مرّ بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز. ففي مورد التكليم الإلهيّ لا محالة أمر حقيقيّ متحقّق يترتّب عليه من الآثار ما يترتّب على التكلّمات الموجودة فيما بيننا.

توضيح ذلك: أنّه سبحانه عبّر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٣، وقوله تعالى:( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ) الآية، وقد فسّر تعالى هذا الإطلاق المبهم الّذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) الشورى - ٥١، فإنّ الاستثناء في قوله تعالى: إلّا وحياً الخ، لايتمّ إلّا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: أن يكلّمه الله، تكليماً حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاصّ، فحدّ أصل التكليم حقيقة غير منفيّ عنه.

٣٣٠

والّذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أنّ الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنيّة يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاونيّ، ومنها التكلّم، وقد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلّفة والمختلطة إمارات دالّة على المعاني المكنونة في الضمير الّتي لا طريق إليها إلّا من جهة العلائم الاعتباريّة الوضعيّة، فالإنسان محتاج إلى التكلّم من جهة أنّه لا طريق له إلى التفهيم والتفهّم إلّا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعليّة وأمارات وضعيّة، ولذلك كانت اللّغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات الّتي تنبّه لها الإنسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضاً كانت اللّغات لا تزال تزيد وتتّسع بحسب تقدّم الاجتماع في صراطه، وتكثّر الحوائج الإنسانيّة في حياته الإجتماعيّة.

ومن هنا يظهر: أنّ الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالّة عليه بالوضع والاعتبار إنّما يتمّ في الإنسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربّما لحق به بعض أنواع الحيوان ممّا لنوعه نحو اجتماع وله شئ من جنس الصوت، (على ما نحسب) وأمّا الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاونيّ فلا تحقّق للكلام معه، فلو كان ثمّ إنسان واحد من غير أيّ اجتماع فرض لم تمسّ الحاجة إلى التكلّم قطعاً لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهّم، وكذلك غير الإنسان ممّا لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعيّ والحياة المدنيّة كالملك والشيطان مثلاً.

فالكلام لا يصدر منه تعالى على حدّ ما يصدر الكلام منّا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمّة إليه، الدلالة الاعتباريّة الوضعيّة فإنّه تعالى أجلّ شأناً وأنزه ساحةً أن يتجهّز بالتجهيزات الجسمانيّة، أو يستكمل بالدعاوي الوهميّة الاعتباريّة وقد قال تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى - ١١.

لكنّه سبحانه فيما مرّ من قوله:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الشورى - ٥١، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإن نفى

٣٣١

عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحدّه الاعتباريّ المعهود مسلوب عن الكلام الإلهيّ لكنّه بخواصّه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في الاُمور الاعتباريّة الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدّم بيانه.

فقد: ظهر أنّ ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبيّ كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بيّن لنا إجمالاً أنّه كلام حقيقة على غير الصفة الّتي نعدّها من الكلام الّذي نستعمله، لكنّه تعالى لم يبيّن لنا ولا نحن تنبّهنا من كلامه أنّ هذا الّذي يسمّيه كلاماً يكلّم به أنبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقّق؟ غير أنّه على أيّ حال لا يسلب عنه خواصّ الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة وإلقاؤها في ذهن السامع.

وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء والإماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحقّقه إلى تماميّة الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة ممّا لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات الّتي هي عين الذات، كيف ولافرق بينه وبين سائر أفعاله الّتي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات؟ وربّما قبل الانطباق على الزمان. قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) الأعراف - ١٤٣، وقال تعالى( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) البقرة - ٢٤٣، وقال تعالى:( نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) الأنعام - ١٥١، وقال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة - ١١٨، فالآيات كما ترى تفيد زمانيّة الكلام كما تفيد زمانيّة غيره من الأفعال كالخلق والإماتة والإحياء والرزق والهداية والتوبة على حدّ سواء.

فهذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، والبحث التفسيريّ المقصور على الآيات القرآنيّة في معنى الكلام، أمّا ما يقتضيه البحث الكلاميّ على ما اشتغل به السلف من المتكلّمين أو البحث الفلسفيّ فسيأتيك نبأه.

٣٣٢

واعلم: أنّ الكلام أو التكليم ممّا لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى:( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) النساء - ١٧١، اُريد به نفس الإنسان، وقال تعالى:( وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة - ٤١، وقال تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ) الانعام - ١٥٥، وقال تعالى:( مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) لقمان - ٢٧، وقد اُريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجئ الإشارة إليه.

وأمّا لفظ القول فقد عمّ في كلامه تعالى الإنسان وغيره فقال تعالى في مورد الإنسان:( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) طه - ١١٧، وقال تعالى في مورد الملائكة:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة - ٣٠، وقال أيضاً:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ) ص - ٧١، وقال في مورد ابليس( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص - ٧٥، وقال تعالى في غير مورد اُولي العقل:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١١، وقال تعالى:( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) الأنبياء - ٦٩، وقال تعالى:( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) هود - ٤٤، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتّتها قوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقوله تعالى:( إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) مريم - ٣٥.

والّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة ممّا له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلاً، وممّا سبيله التكوين وليس له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إنّ الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدّمهما من الآيات) أنّ القول منه تعالى إيجاد أمر يدلّ على المعنى المقصود.

فأمّا في التكوينيّات فنفس الشئ الّذي أوجده تعالى وخلقه هو شئ مخلوق موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإنّ من

٣٣٣

المعلوم أنّه إذا أراد شيئاً فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسّط بينه تعالى وبين الشئ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيّات نفس الفعل وهو الإيجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ.

وأمّا في غير التكوينيّات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمراً يوجب علماً باطنيّاً في الإنسان بأنّ كذا كذا، وذلك إمّا بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفيّة تأثيره في نفس النبيّ بحيث يوجد معه علم في نفسه بأنّ كذا كذا على حدّ ما مرّ في الكلام.

وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختصّ هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصيّة، وهي أنّ الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنّما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعيّ الّذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانيّة الإجتماعيّة، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) أنّ الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيوانيّ الاجتماعيّ وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجيّ العلميّ الّذي يستدعي وضع الاُمور الاعتباريّة.

ويظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهّم الذهنيّ المستخدم فيه الاعتبار اللغويّ والأصوات المؤلّفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقّق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحقّقه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلّف تأليفاً لفظيّاً وضعيّاً من فم مشقوق ينضمّ إليه أعضاء فعّالة للصوت من واحد، والتأثّر من ذلك بإحساس اُذن مشقوق ينضمّ إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتّب عليه أثر القول وخاصّته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللّفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.

وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى:( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) النمل - ١٨،

٣٣٤

وقال تعالى:( فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) النمل - ٢٢، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى و وحيه إليهم كقوله تعالى:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل - ٦٨.

وهناك ألفاظ اُخر ربّما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣، والإلهام، قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، والنبأ، قال تعالى:( قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) التحريم - ٣، والقصّ، قال تعالى:( يَقُصُّ الْحَقَّ ) الأنعام - ٥٧، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الّذي قلناه في أوّل الكلام من لزوم تحقّق أمر حقيقيّ معه يترتّب عليه أثر القول وخاصّته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقيّ المتحقّق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلاً، وفي الوحي خاصّة كلام سيأتي التعرّض له في سورة الشورى إنشاء الله.

وأمّا اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجوداً في الجميع كتسمية بعضها كلاماً وبعضها قولاً وبعضها وحياً مثلاً لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللّفظيّة على المورد، فالقول يسمّى كلاماً نظراً إلى السبب الّذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمّي هذا الفعل الإلهيّ في مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاماً لأنّ العناية هناك إنّما هو بالمخاطبة والتكليم، ويسمّى قولاً بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمّي هذا الأمر الإلهيّ في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولاً كقوله تعالى:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ ) ص - ٨٥، ويسمّى وحياً بعناية كونه خفيّاً عن غير الأنبياء ولذلك عبّر في موردهمعليهم‌السلام بالوحي كقوله:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣.

الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفيّة الاستعمال فقد عرفت أنّ مفردات اللّغة إنّما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الاُمور الجسمانيّة ابتدائاً ثمّ انتقل تدريجاً إلى المعنويّات، وهذا

٣٣٥

وإن أوجب كون استعمال اللّفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالاً مجازيّاً ابتدائاً لكنّه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقّي الاجتماع وتقدّم الإنسان في المدنيّة والحضارة، يوجب التغيّر في الوسائل الّتي ترفع حاجته الحيويّة، والتبدّل فيها دائماً مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدّل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتّبة وذلك كما أنّ السراج في أوّل ما تنبّه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلاً شيئاً من الدهن أو الدهنيّات مع فتيلة متّصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل، فركّبته الصناعة على هذه الهيئة أوّلاً وسمّاه الإنسان بالسراج، ثمّ لم يزل يتحوّل طوراً بعد طور، ويركب طبقاً عن طبق، حتّى انتهت إلى هذه السرج الكهربائيّة الّتي لا يوجد فيها ومعها شئ من أجزاء السراج المصنوع أوّلاً، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفيّة أو فلزّيّة، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حدّ سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلّا أنّ الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتّب على المصنوع أوّلاً يترتّب بعينه على المصنوع أخيراً من غير تفاوت، وهو الاستضائة، ونحن لا نقصد شيئاً من وسائل الحياة ولا نعرفها إلّا بغايتها في الحياة وأثرها المترتّب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصّة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغيّر وتبدّل، وإن تغيّر الشكل أحياناً أو الكيفيّة أو الكمّيّة أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقيّ وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغيّر، وقلّما يوجد اليوم في الاُمور المصنوعة ووسائل الحياة - وهي اُلوف واُلوف - شئ لم يتغيّر ذاته عمّا حدث عليه أوّلاً، غير أنّ بقاء الأثر والخاصّة أبقى لكلّ واحد منها اسمه الأوّل الّذي وضع له. وفي اللّغات شئ كثير من القسم الأوّل وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتّبع البصير.

فقد تحصّل أن استعمال الكلام والقول فيما مرّ مع فرض بقاء الأثر والخاصّة

٣٣٦

استعمال حقيقيّ لا مجازيّ.

فظهر من جميع ما بيّناه: أنّ إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقيّ واقعيّ، وأنّه من مراتب المعنى الحقيقيّ لهاتين اللّفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أنّ سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإرادة والإعطاء كذلك.

واعلم: أنّ القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات، من حيث اشتماله على أمر حقيقيّ واقعيّ غير اعتباريّ كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهّم أكثر الباحثين في المعارف الدينيّة: أنّ ما اشتملت عليه هذه البيانات اُمور اعتباريّة ومعاني وهميّة نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدّم والتصدّر ونحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنّة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتّبة نظير ترتّب الآثار الخارجيّة على هذه المقامات الإجتماعيّة الاعتباريّة، أي إنّ الرابطة بين المقامات المعنويّة المذكورة وبين النتائج المترتّبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم - اضطراراً - كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدّس، محكوماً بالآراء الاعتباريّة ومبعوثاً عن الشعور الوهميّ كالإنسان الواقع في عالم المادّة، والنازل في منزل الحركة والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقرّبين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقيّة المعنويّة الّتي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنّة إلّا أن تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريّات.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلّم دون الغيبة كما مرّ.

والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أنّ ما ذكره لهعليه‌السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البيّنات، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعاً ليس ممّا يختصّ ببعضهم دون بعض، قال تعالى:( قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) الحديد - ٢٥، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ

٣٣٧

مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا ) النمل - ٢، لكنّهما في عيسى بنحو خاصّ فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات كانت اُموراً متّكئة على الحياة مترشّحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسىعليه‌السلام وصرّح باسمه إذ لولا التصريح لم يدلّ على كونه فضيلة خاصّة كما لو قيل: وآتينا بعضهم البيّنات وأيّدناه بروح القدس، إذ البيّنات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصّة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلّا مع التصريح باسمه ليعلم أنّها فيه بنحو خاصّ غير مشترك تقريباً، على أنّ في اسم عيسىعليه‌السلام خاصّة اُخرى وآية بيّنة وهي: أنّه ابن مريم لا أب له، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ٩١، فمجموع الابن والاُمّ آية بيّنة إلهيّة وفضيلة اختصاصيّة اُخرى.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، العدول إلى الغيبة ثانياً لأنّ لمقام مقام إظهار أنّ لمشيّة والإرادة الربّانيّة غير مغلوبة، والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهيّة، وبالجملة وصف الاُلوهيّة هي الّتي تنافي تقيّد القدرة وتوجب إطلاق تعلّقها بطرفي الإيجاب والسلب فمسّت حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهيّة للذكر فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه أيضاً في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا، وقوله: ولكنّ الله يفعل ما يريد وهو الوجه أيضاً في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.

قوله تعالى: ( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ) ، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنّه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أنّ الاختلاف بالإيمان والكفر وسائرالمعارف الأصليّة المبيّنة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنّما حدث بين الناس بالبغى، وحاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) ، أي ولو شاء الله لم يؤثّر الاختلاف في استدعاء القتال ولكنّ الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثّر

٣٣٨

هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جرياً على سنّة الأسباب.

ومحصّل معنى الآية والله العالم: أنّ الرسل الّتي ارسلوا إلى الناس عباد لله مقرّبون عند ربّهم، مرتفع عن الناس اُفقهم وهم مفضّل بعضهم على بعض على مالهم من الاصل الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد أتوا للناس بآيات بيّنات أظهروا بها الحقّ كلّ الاظهار وبيّنوا طريق الهداية أتمّ البيان، وكان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلّا إلى الوحدة والاُلفة والمحبّة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر، ثمّ التفرّق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ واُجرى هذا السبب كسائر الأسباب والعلل على سنّة الأسباب الّتي أرادها الله في عالم الصنع والإيجاد، والله يفعل ما يريد.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا ) الخ، معناه واضحٌ وفي ذيل الآية دلالة على أنّ الاستنكاف عن الإنفاق كفر وظلم.

( بحث روائي)

في الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا الخ، في هذا ما يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن إصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفاً مع أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالبعليه‌السلام يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبّر القوم وكبّرنا، وهلّل القوم وهلّلنا، وصلّى القوم وصلّينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقالعليه‌السلام : على هذه الآية( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم - فنحن الّذين من بعدهم -وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) فنحن الّذين

٣٣٩

آمنّا وهُم الّذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم وربّ الكعبة ثمّ حمل فقاتل حتّى قتل (رحمه الله).

أقول: وروي هذه القصّة المفيد والشيخ في أماليهما والقميّ في تفسيره، والرواية تدلّ على أنّهعليه‌السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعمّ من الكفر الخاصّ المصطلح الّذي له أحكام خاصّة في الدين، فإنّ النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان أنّهعليه‌السلام ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل وأصحاب صفّين والخوارج معاملة الكفّار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردّة من الدين، فليس إلّا أنّه عدّهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كانعليه‌السلام يقول: اُقاتلهم على التأويل دون التنزيل.

وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنّه يدلّ على أنّ البيّنات الّتي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الّذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف ممّا لا تنفع فيه البيّنات من الرسل بل هو ممّا يؤدّي إليه الاجتماع الإنسانيّ الّذي لا يخلو عن البغى والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس - ١٩، وقوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً - إلى أن قال -وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢١٣، وقوله تعالى:( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ) هود - ١١٩، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الاختلاف في الكتاب - وهو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم ممّا لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الاُمة:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) البقرة - ٢١٤، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة:( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان - ٣٠، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.

وأمّا أنّ ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481