الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138662 / تحميل: 8837
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بوجه محصّل يقبله لفظ الآية، فإنّ حاصل توجيهه: أنّ معنى: اُنزل فيه القرآن: كأنّما اُنزل فيه القرآن، ومعنى: إنّا أنزلناه في ليلة: كأنّا أنزلناه في ليلة، وهذا شئ لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق!.

ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إنّ معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مرّ بيانه سابقاً.

وفي كلامه جهات اُخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.

قوله تعالى: ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) الناس - وهم الطبقة الدانية من الإنسان الّذين سطح فهمهم المتوسّط أنزل السطوح - يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقّهم كما قال تعالى:( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، وقال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت - ٤٣، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الاُمور المعنويّة بالبيّنة والبرهان، ولا فرق الحقّ من الباطل بالحجّة إلّا بمبيّن يبيّن لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأمّا الخاصّة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدّون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهيّة والركون إلى فرقان الحقّ فالقرآن بيّنات وشواهد من الهدى والفرقان في حقّهم فهو يهديهم إليه ويميّز لهم الحقّ ويبيّن لهم كيف يميّز، قال تعالى:( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة - ١٦.

ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبيّنات من الهدى، وهو التقابل بين العامّ والخاصّ فالهدى لبعض والبيّنات من الهدى لبعض آخر.

قوله تعالى: ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) الشهادة هي الحضور مع تحمّل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنّما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكلّ. وأمّا كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا

٢١

دليل عليه إلّا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية.

قوله تعالى: ( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) إيراد هذه الجملة في الآية ثانياً ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أنّ الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأنّ الحكم هو الّذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.

قوله تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) كأنّه بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام عدّة من أيّام اُخر لمكان وجوب إكمال العدّة، واللّام في قوله: لتكملوا العدّة، للغاية، وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملاً على معنى الغاية، والتقدير وإنّما أمرناكم بالإفطار والقضاء لنخفّف عنكم ولتكملوا العدّة، ولعلّ إيراد قوله: ولتكملوا العدّة هو الموجب لإسقاط معنى قوله: وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهّم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية(١) أنّهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإنّ تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الّذي اُنزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلّيّة وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى أنّ التلبّس بالصوم لإظهار كبريائه تعالى بما نزّل عليهم القرآن وأعلن ربوبيّته وعبوديّتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحقّ، وفرق لهم بكتابه بين الحقّ والباطل. ولمّا كان الصوم إنّما يتّصف بكونه شكراً لنعمه إذا كان مشتملاً على حقيقة معنى الصوم وهو الإخلاص لله سبحانه في التنزّه عن ألواث الطبيعة والكفّ عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتّصافه بالتكبير لله فإنّ صورة الصوم والكفّ سواء اشتمل على إخلاص النيّة أو لم يشتمل يدلّ على تكبيره تعالى وتعظيمه فرّق بين التكبير والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجّي دون التكبير فقال: ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون كما قال: في أوّل الآيات: لعلّكم تتّقون.

_______________________________________

(١) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح

٢٢

( بحث روائي)

في الحديث القدسيّ، قال الله تعالى: الصوم لي وأنا اُجزي به.

أقول: وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنّه هو العبادة الوحيدة الّتي تألّفت من النفي، وغيره كالصلاة والحجّ وغيرهما متألّف من الإثبات أو لايخلو من الإثبات، والفعل الوجوديّ لا يتمحّض في إظهار عبوديّة العبد ولا ربوبيّة الربّ سبحانه، لأنّه لا يخلو عن شوب النّقص المادّيّ وآفة المحدوديّة وإثبات الإنّيّة ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه: كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الّذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإخلاد إلى الأرض والتنزّه بالكفّ عن شهوات النفس فإنّ النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمراً بين العبد والربّ لا يطّلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا اُجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالّا على أنّه لا يوسّط في إعطاء الأجر بينه وبين الصائم أحداً كما أنّ العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربّه في الاطّلاع عليه أحد نظير ما ورد: أنّ الصدقة إنّما يأخذها الله من غير توسيطه أحداً، قال تعالى:( وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) التوبة - ١٠٣، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أنّ أجر الصائم القرب منه تعالى.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : كان رسول الله أوّل ما بعث يصوم حتّى يقال: ما يفطر، ويفطر حتّى يقال، ما يصوم، ثمّ ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً وهو صوم داود، ثمّ ترك ذلك وصام الثلاثة الأيّام الغرّ، ثمّ ترك ذلك وفرقها في كلّ عشرة يوماً خميسين بينهما أربعاء فقبضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يعمل ذلك.

وعن عنبسة العابد، قال: قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة أيّام من كلّ شهر.

أقول: والأخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الّذي كان يصومه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا صوم رمضان.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ

٢٣

عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) قال: هي للمؤمنين خاصّة.

وعن جميل قال: سألت الصادقعليه‌السلام عن قول الله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القتال، يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام. قال: فقال: هذه كلّها يجمع الضلّال والمنافقين وكلّ من أقرّ بالدعوة الظاهرة.

وفي الفقيه عن حفص قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام ، يقول إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الاُمم قبلنا فقلت له: فقول الله عزّوجلّ: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم؟ قال: إنّما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الاُمم ففضّل الله هذه الاُمّة وجعل صيامه فرضاً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى اُمّته.

أقول: والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمّد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلاً عن العالمعليه‌السلام وكأنّ الروايتين واحدة، وعلى أيّ حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى: كما كتب على الّذين من قبلكم، الأنبياء خاصّة ولو كان كذلك - والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب - كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم.

وفي الكافي عمّن سأل الصادقعليه‌السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شئ واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به.

وفي الجوامع عنهعليه‌السلام : الفرقان كلّ آية محكمة في الكتاب.

وفي تفسيري العيّاشيّ والقمّىّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرقان هو كلّ أمر محكم في القرآن، والكتاب هو جملة القرآن الّذي يصدّق فيه من كان قبله من الأنبياء.

أقول: واللّفظ يساعد على ذلك، وفي بعض الأخبار أنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب بل شهر رمضان الحديث، وهو واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضاً من المفسّرين.

والأخبار الواردة في عدّ أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أنّ لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبيّ وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بحيث يستبعد جدّاً

٢٤

نسبة التجريد إلى الراوي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لأبي عبداللهعليه‌السلام إنّ ابن أبي يعفور، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال: وما هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اُسافر؟ قال: إنّ الله يقول: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلّا لحجّ أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.

أقول: وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابيّ بالأخذ بالإطلاق.

وفي الكافي عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: فأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال: آخرون: لا يصوم، وقال: قوم إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإنّ الله عزّوجلّ يقول: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قالعليه‌السلام : ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر.

أقول: والأخبار عن أئمّة أهل البيت في تعيّن الإفطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله، وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، قال: الشيخ الكبير الّذي لا يستطيع والمريض.

وفي تفسيره أيضاً عن الباقرعليه‌السلام في الآية، قال: الشيخ الكبير والّذي يأخذه العطاش.

وفي تفسيره أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير.

أقول: والروايات فيه كثيرة عنهمعليهم‌السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيّام السنة غير أيّام شهر رمضان ممّن لا يقدر على عدّة أيّام اُخر فإنّ

٢٥

المريض في قوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً، لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش مرض العطش.

وفي تفسيره أيضاً عن سعيد عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ في الفطر تكبيراً، قلت: ما التكبير إلّا في يوم النحر، قال: فيه تكبير ولكنّه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد.

وفي الكافي عن سعيد النقّاش قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنّه مسنون، قال: قلت: وأين هو؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد ثمّ يقطع، قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الله اكبر. الله اكبر. لا إله إلّا الله والله الكبر. الله اكبر على ما هدانا. وهو قول الله ولتكملوا العدّة يعني الصلاة ولتكبّروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول: الله اكبر. لا إله إلّا الله والله اكبر. ولله الحمد، قال: وفي رواية التكبير الآخر أربع مرّات.

أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، وقولهعليه‌السلام : يعني الصلاة لعلّه يريد: أنّ المعنى ولتكملوا العدّة أي عدّة أيّام الصوم بصلاة العيد ولتكبّروا الله مع الصلوات على ما هديكم، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، فإنّه استفادة حكم استحبابيّ من مورد الوجوب نظير ما مرّ في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاُولى منه هذا، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الأخيرة يؤيّد ما قيل: إنّ قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عديّ بعلي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن ابن أبي عمير عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له، جعلت فداك ما يتحدّث به عندنا أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صام تسعة وعشرين أكثر ممّا صام ثلاثين أحقّ هذا؟ قال ما خلق الله من هذا حرفاً فما صام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ثلاثين لأنّ الله يقول: ولتكملوا العدّة فكان رسول الله ينقصه؟.

أقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الإنكاريّ، والرواية تدلّ على

٢٦

ما قدّمناه: أنّ ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.

وفي محاسن البرقيّ عن بعض أصحابنا رفعه في قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم قال: التكبير التعظيم، والهداية الولاية.

أقول: وقوله: والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق: ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمّى تأويلاً كما ورد في بعض الروايات أنّ اليسر هو الولاية، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله.

وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبدالله، قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن، وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره فقال أبوعبدالله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة، ثمّ قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان واُنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان واُنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان واُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.

أقول: ما رواهعليه‌السلام عن النبيّ رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور بعدّة طرق عن وائلة بن الأسقع عن النبيّ.

وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلاً يسأل أباعبدالله عن ليلة القدر فقال أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ سنة؟ فقال أبوعبداللهعليه‌السلام لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس، قال: شهر رمضان واللّيلة المباركة وليلة القدر فإنّ ليلة القدر هي اللّيلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثمّ نزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلاً رسلاً.

أقول: وروي هذا المعنى عن غيره أيضاً كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنّه إنّما استفاد ذلك من الآيات القرآنيّة كقوله تعالى:( وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) آل عمران - ٥٨، وفي قوله تعالى:( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ )

٢٧

الطور - ٥، وقوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، وقوله تعالى:( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ) حم السجدة - ١٢، وجميع ذلك ظاهر إلّا ما ذكره في مواقع وأنّه السماء الاُولى وموطن القرآن فإنّ فيه خفاءً، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أنّ البيت المعمور في السماء، وسيجئ الكلام فيه في محلّه إنشاء الله تعالى، وممّا يجب أن يعلم أنّ الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الإشارة والرمز شائع فيه، ولا سيّما في أمثال هذه الحقائق: من اللّوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور، فممّا يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن.

٢٨

( سورة البقرة آية ١٨٦)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( ١٨٦ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرقّ اُسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلّم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية، بالأمر، ثمّ قوله: عبادي، ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثمّ حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإنّي قريب ولم يقل: فقل إنّه قريب، ثمّ التأكيد بإنّ ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل الدالّ على القرب ليدلّ على ثبوت القرب ودوامه، ثمّ الدلالة على تجدّد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدالّ عليهما، ثمّ تقييده الجواب أعني قوله: اُجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيّد به شيئاً بل هو عينه، وفيه دلالة على أنّ دعوة الداعي مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن - ٦٠، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرّر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلّم سبع مرّات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.

والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعوّ نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو درّ من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.

ثمّ إنّ العبوديّة كما مرّ سابقاً هي المملوكيّة ولا كلّ مملوكيّة بل مملوكيّة الإنسان فالعبد هو من الإنسان أو كلّ ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.

٢٩

وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجدّ مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنّه تعالى يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم لا يستقلّون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والأفعال وساير ما ينسب إليهم من الأزواج والأولاد والمال والجاه وغيرها، فكلّ ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، وأثره، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقّه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنّما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أيّاًما كان وتمليكه فالله عزّ اسمه، هو الّذي أضاف نفوسهم وأعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، وهو الّذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهو الّذي خلق كلّ شئ وقدّره تقديراً.

فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه، وهو الحائل بين الشئ وبين كلّ ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حقّ فهو أقرب إلى خلقه من كلّ شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ) الواقعة - ٨٥، وقال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق - ١٦، وقال تعالى:( أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الأنفال - ٢٤، والقلب هو النفس المدركة.

وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكاً حقيقيّاً وكونهم عباداً له هو الموجب لكونه تعالى قريباً منهم على الإطلاق وأقرب إليهم من كلّ شئ عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كلّ تصرّف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي أنّ لله سبحانه أن يجيب أيّ دعاء دعى به أحد من خلقه ويرفع بالإعطاء والتصرّف حاجته الّتي سأله فيها فإنّ الملك عام، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيّد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: إنّ الله لمّا خلق الأشياء وقدّر التقادير تمّ الأمر، وخرج زمام التصرّف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأنّ الأمر مفروغ عنه. ولا كما يقوله جماعة من هذه الاُمّة: أن لا صنع لله في أفعال عباده وهم القدريّة الّذين سمّاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجوس هذه الاُمّة فيما رواه الفريقان من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدريّة مجوس هذه الاُمّة.

٣٠

بل الملك لله سبحانه على الإطلاق ولا يملك شئ شيئاً إلّا بتمليك منه سبحانه وإذن فما شائه وملكه وأذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملّك ولم يأذن فيه لا يقع وإن بذل في طريق وقوعه كلّ جهد وعناية، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥.

فقد تبيّن: أن قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب اُجيب دعوة الدّاع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عباداً لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم، وإطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكلّ دعاء دعي به فإنّه مجيبه إلّا أنّ ههنا أمراً وهو أنّه تعالى قيّد قوله: اُجيب دعوة الدّاع بقوله إذا دعان، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيّد بشئ يدلّ على اشتراط الحقيقة دون التجوّز والشبه، فإنّ قولنا: أصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالماً يدلّ على لزوم اتّصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الّذي يجب الإصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقّق بعلمه وعمل بما علم كان هو الّذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان، يدلّ على أنّ وعد الإجابة المطلقة، إنّما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطريّ والغريزيّ مواطئاً لسانه قلبه، فإنّ حقيقة الدعاء والسؤال هو الّذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الّذي يدور كيفما اُدير صدقاً أو كذباً جدّاً أو هزلاً حقيقة أو مجازاً، ولذلك ترى أنّه تعالى عدّ ما لا عمل للّسان فيه سؤالاً، قال تعالى:( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم - ٣٤، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لساناً فطريّاً وجوديّاً، وقال تعالى:( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن - ٢٩، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.

فالسؤال الفطريّ من الله سبحانه لا يتخطّى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين وهما الّذان ذكرهما بقوله: دعوة الدّاع إذا دعان.

٣١

فإمّا أن يكون لم يتحقّق هناك دعاء، وإنّما التبس الأمر على الداعي التباساً كأن يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر مثل أن يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميّت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لاُعيدت حياته ولكنّه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.

وإمّا أنّ السؤال متحقّق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلّق بالأسباب العاديّة أو باُمور وهميّة توهّمها كافية في أمره أو مؤثّرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإنّ الله الّذي يجيب الدعوات هو الّذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.

فهذا ملخّص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات النازلة في هذا الباب كقوله تعالى:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) الفرقان - ٧٧، وقوله تعالى:( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٤١، وقوله تعالى:( قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٦٤، فالآيات دالّة على أنّ للإنسان دعاء غريزيّا وسؤالاً فطريّاً يسأل به ربّه، غير أنّه إذا كان في رخاءٍ ورفاه تعلّقت نفسه بالأسباب فأشركها لربّه، فالتبس عليه الأمر وزعم أنّه لا يدعو ربّه ولا يسأل عنه، مع أنّه لا يسأل غيره فإنّه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولمّا وقع الشدّة وطارت الأسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبيّن له أن لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلّا الله، فعاد إلى توحيده الفطريّ ونسي كلّ سبب من الأسباب، ووجّه وجهه نحو الربّ الكريم فكشف شدّته وقضى حاجته وأظلّه بالرخاء، ثمّ إذا تلبّس به ثانياً عاد إلى ما كان عليه أوّلاً من الشرك والنسيان.

٣٢

وكقوله تعالى:( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) المؤمن - ٦٠، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة وتزيد على ذلك حيث تسمّي الدعآء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث أنّها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار إنّما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.

وبذلك يظهر معنى آيات اُخر من هذا الباب كقوله تعالى:( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن - ١٤، وقوله تعالى:( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف - ٥٦، وقوله تعالى:( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الأنبياء - ٩٠، وقوله تعالى:( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف - ٥٥، وقوله تعالى:( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا - إلى قوله -وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) مريم - ٤، وقوله تعالى:( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) الشورى - ٢٦، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على أركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطاة القلب اللسان والانقطاع عن كلّ سبب دون الله والتعلّق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرّع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك ممّا تشتمل عليه الروايات.

قوله تعالى: ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) تفريع على ما يدلّ عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: أنّ الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شئ، وهو ذو عناية بهم وبما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه - وصفته هذه الصفة - فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنّه قريب مجيب لعلّهم يرشدون في دعائه.

( بحث روائي)

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، وفي عدّة الداعي في الحديث القدسيّ: يا موسى سلني كلّ ما تحتاج إليه حتّى علف شاتك وملح عجينك.

٣٣

وفي المكارم عنهعليه‌السلام الدعاء أفضل من قرائة القرآن لأنّ الله عزّوجلّ قال:( قل ما يعبؤ بكم ربّي لو لا دعائكم) وروي ذلك عن الباقر والصادقعليهما‌السلام .

وفي عدّة الداعي في رواية محمّد بن عجلان عن محمّد بن عبيدالله بن عليّ بن الحسين عن ابن عمّه الصادق عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ آمل أمل غيري بالأياس ولأكسونّه ثوب المذلّة في الناس ولأبعدنّه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغنيّ الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلّقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ الحديث.

وفي عدّة الداعي أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم اُعطه وإن دعاني لم اُجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له.

أقول: وما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء وليس إبطالاً لسببيّة الأسباب الوجوديّة الّتي جعلها الله تعالى وسائل متوسّطة بين الأشياء وبين حوائجها الوجوديّة لا عللاً فيّاضة مستقلّة دون الله سبحانه، وللإنسان شعور باطنيّ بذلك فإنّه يشعر بفطرته أنّ لحاجته سبباً معطياً لا يتخلّف عنه فعله، ويشعر أيضاً أنّ كلّ ما يتوجّه إليه من الأسباب الظاهريّة يمكن أن يتخلّف عنه أثره فهو يشعر بأنّ المبدء الّذي يبتدئ عنه كلّ أمر، والركن الّذي يعتمد عليه ويركن إليه كلّ حاجة في تحقّقها ووجودها غير هذه الأسباب ولازم ذلك أن لا يركن الركون التامّ إلى شئ من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقيّ ويعتصم بذلك السبب الظاهريّ، والإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجّه والتفات فإذا سأل أو طلب شيئاً من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنّه سأل ربّه واتّصل حاجته - الّتي شعر بها بشعوره الباطنيّ من طريق الأسباب - إلى ربّه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطريّ باطنيّ وإنّما هو أمر صوّره له تخيّله لعلل اوجبت هذا التخيّل من غير

٣٤

شعور باطنيّ بالحاجة، وهذا من الموارد الّتي يخالف فيها الباطن الظاهر.

ونظير ذلك: أنّ الإنسان كثيراً ما يحبّ شيئاً ويهتمّ به حتّى إذا وقع وجده ضارّاً بما هو أنفع منه وأهمّ وأحبّ فترك الأوّل وأخذ بالثاني، وربّما هرب من شئ حتّى إذا صادفه وجده أنفع وخيراً ممّا كان يتحفّظ به فأخذ الأوّل وترك الثاني، فالصبيّ المريض إذا عرض عليه الدواء المرّ امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحّة، فهو بشعوره الباطنيّ الفطريّ يسأل الصحّة فيسأل الدواء وإن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطريّ والشعور الباطنيّ وله نظام آخر بحسب تخيّله والنظام الفطريّ لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط، وأمّا النظام التخيّليّ فكثيراً ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربّما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخياليّة شيئاً، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئاً آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرّر معنى الأحاديث، وهو اللّائح من قول عليّعليه‌السلام فيما سيأتي: أنّ العطيّة على قدر النيّة الحديث.

وفي عدّة الدّاعي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

وفي الحديث القدسيّ: أنا عند ظنّ عبدي بي، فلا يظنّ بي إلّا خيراً.

أقول: وذلك أنّ الدعاء مع اليأس أو التردّد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة كما مرّ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

وفي العدّة أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجئوا إليه في ملمّاتكم، وتضرّعوا إليه وادعوه، فإنّ الدعاء مخّ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب فإمّا أن يعجّله له في الدنيا أو يؤجّل له في الآخرة، وإمّا أن يكفّر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم.

وفي نهج البلاغة: في وصيّة لهعليه‌السلام لابنه الحسينعليه‌السلام : ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئآبيب رحمته، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النيّة، وربّما اُخرّت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت

٣٥

الشئ فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له.

اقول: قوله: فإنّ العطيّة على قدر النيّة يريدعليه‌السلام به: أنّ الاستجابة تطابق الدّعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الّذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنّ اللّفظ ربّما لا يطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة كما مرّ بيانه فهي أحسن جملة وأجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والإجابة.

وقد بيّنعليه‌السلام بها عدّة من الموارد الّتي يترآى فيها تخلّف الاستجابة عن الدعوة ظاهراً كالإبطاء في الإجابة، وتبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شئ آخر أصلح منه بحال السائل، فإنّ السّائل ربّما يسأل النعمة الهنيئة ولو اُوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لأنّ السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطؤ، وكذلك المؤمن المهتمّ بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم أنّ فيه سعادته وإنّما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.

وفي عدّة الداعي عن الباقرعليه‌السلام ما بسط عبد يده إلى الله عزّوجلّ إلّا استحيى الله أن يردّها صفراً حتّى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح بها على رأسه ووجهه، وفي خبر آخر على وجهه وصدره.

اقول: وقد روي في الدرّ المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدّة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبدالله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معلّلاً بأنّه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنّه تعالى فيها - تعالى عن ذلك وتقدّس.

٣٦

وهو قول فاسد، فإنّ حقيقة جميع العبادات البدنيّة هي تنزيل المعنى القلبيّ والتوجّه الباطنيّ إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادّة في قالب التجسّم، كما هو ظاهر في الصلاة والصوم والحجّ وغير ذلك وأجزائها وشرائطها، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنيّة، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجّه القلبيّ والمسألة الباطنيّة بمثل السؤال الّذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغنيّ المتعزّز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجتة بالذلّة والضراعة، وقد روى الشيخ في المجالس والأخبار مسنداً عن محمّد وزيد ابني عليّ بن الحسين عن أبيهما عن جدّهما الحسينعليه‌السلام عن النبيّ، وفي عدّة الداعي مرسلاً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.

وفي البحار عن عليّعليه‌السلام أنّه سمع رجلاً يقول: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، قالعليه‌السلام : أراك تتعوّذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى:( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ) ولكن قل: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن.

اقول: وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللّفظ وله نظائر في الروايات، وفيها: أنّ الحقّ في معنى كلّ لفظ هو الّذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك.

وفي عدّة الداعي عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه.

اقول: وفي العدة أيضاً عن عليّعليه‌السلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، والسرّ فيه عدم تحقّق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللّهو.

وفي دعوات الراونديّ: في التوراة يقول الله عزّوجلّ للعبد: إنّك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنّه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنّك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخّرتكما إلى يوم القيامة.

اقول: وذلك أنّ من سأل شيئاً لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكلّ ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه

٣٧

فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالماً لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبداً عوقب بما يريده على غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقّق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى:( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ) الإسراء - ١١.

وفي عدّة الداعي: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذرّ: يا أباذرّ ألا اُعلّمك كلمات ينفعك الله عزّوجلّ بهنّ؟ قلت بلى يا رسول الله، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أنّ الخلق كلّهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.

اقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة: يعني: ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتّى يستجيب دعائك في الشدّة ولا ينساك، وذلك أنّ من نسي ربّه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثمّ إذا دعا ربّه في الشدّة كان معنى عمله أنّه يذعن بالربوبيّة في حال الشدّة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو ربّ في كلّ حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربّه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق عن الصادقعليه‌السلام قالعليه‌السلام : من تقدّم في الدعاء اُستجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصوت لا نعرفه الحديث، وهو المستفاد من إطلاق قوله تعالى:( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة - ٦٧، ولا ينافي هذا ما ورد أنّ الدعاء لا يردّ مع الانقطاع، فإنّ مطلق الشدّة غير الانقطاع التامّ.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، إرشاد إلى التعلّق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإنّ هذه الأسباب العاديّة الّتي بين أيدينا إنّما سببيّتها محدودة على ما قدّر الله لها من الحدّ لا على ما يترآى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلّا الطريقيّة والوساطة في الإيصال، والأمر بيد الله تعالى، فإذن

٣٨

الواجب على العبد أن يتوجّه في حوائجه إلى جناب العزّة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب، وإن كان أبي الله أن يجري الاُمور إلّا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلّا بالله الّذي أفاض عليها السببيّة لا أنّها هداية إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكلّ ذلك أسباب؟

واعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنيّة فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باُذنه فمن يسأل ربّه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئاً من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير اُذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلّق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو باُذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفّل، وليس ذلك تقييداً للقدرة الإلهيّة غير المتناهية ولا سلباً للاختيار الواجبيّ، كما أنّ الانحصار الّذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعاً بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروريّ أنّ الإنسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون إلّا باليد، والرؤية والسمع هما الّذان يكونان بالعين والاُذن لا مطلقاً، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أنّ خصوصيّة الفعل يتوقّف على توسّط الأسباب فزيد مثلاً وهو فعل لله هو الإنسان الّذي ولّده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلّف واحد من هذه العلل والشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقّف على تحقّق جميعها، والمتوقّف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: وإذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلّة فهو بيان علّة قوله: وإذا سألت وسببه، والمعنى أنّ الحوادث مكتوبة مقدّرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأمّا هو تعالى: فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيّته نافذة وكلّ يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة بقوله: و

٣٩

لو أنّ الخلق كلّهم جهدوا الخ.

ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضاً إنّ الدعاء من القدر.

اقول: وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: أنّ الحاجة المدعوّ لها إمّا أن تكون مقضيّة مقدّرة أولا، وهي على الأوّل واجبة وعلى الثاني ممتنعة، وعلى أيّ حال لا معني لتأثير الدعاء، والجواب: أنّ فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن أسباب وجوده، والدعاء من أسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقّق سبب من أسباب الوجود فيتحقّق المسبّب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: إنّ الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات اُخر.

ففي البحار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لايردّ القضاء إلّا الدعاء.

وعن الصادقعليه‌السلام : الدعاء يردّ القضاء بعد ما اُبرم إبراماً.

وعن أبي الحسن موسىعليه‌السلام : عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء والطلب إلى الله عزّوجلّ يردّ البلاء، وقد قدّر وقضى فلم يبق إلّا إمضاؤه فإذا دعي الله وسأل صرف البلاء صرفاً.

وعن الصادقعليه‌السلام إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم وقد اُبرم إبراماً - فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يُفتح لصاحبه.

اقول: وفيها إشارة إلى الإصرار وهو من محقّقات الدعاء، فإنّ كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفائه.

وعن إسماعيل بن همّام عن أبي الحسنعليه‌السلام : دعوة العبد سرّاً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.

اقول: وفيها إشارة إلى إخفاء الدعاء وإسراره فإنّه أحفظ لإخلاص الطلب.

وفي المكارم عن الصادقعليه‌السلام : لا يزال الدعاء محجوباً حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً، من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا أستجيب له.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً - وقد قال له رجل من أصحابه إنّي لأجد آيتين في كتاب

٤٠

الله اطلبهما فلا أجدهما - قال: فقال: وماهما؟ قلت: ادعوني أستجب لكم فندعوه فلا نرى إجابة، قال أفترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدري قال: لكنّي اُخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثمّ دعاه من جهه الدعاء أجابه، قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: تبدء فتحمد الله وتمجّده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثمّ تصلّي على محمّد وآله ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّ بها، ثمّ تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثمّ قال: وما الآية الاُخرى؟ قلت: وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وأرانى اُنفق ولا أرى خلفاً، قال: أفترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدرى، قال: لو أنّ أحدكم اكتسب المال من حلّه وأنفق في حقّه لم ينفق درهماً إلّا أخلف الله عليه.

اقول: والوجه في هذه الأحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنّها تقرّب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عمر، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله إذا أراد أن يستجيب لعبد أذن له في الدعاء.

وعن ابن عمر أيضاً عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وفي رواية من فتح له في الدعاء منكم فتحت له أبواب الجنّة.

اقول: وهذه المعنى مرويّ من طرق أئمّة أهل البيت أيضاً: من اُعطي الدّعاء اُعطي الإجابة، ومعناه واضح ممّا مرّ.

وفي الدرّ المنثور أيضاً عن معاذ بن جبل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو عرفتم الله حقّ معرفته لزالت لدعائكم الجبال.

اقول: وذلك أنّ الجهل بمقام الحقّ وسلطان الربوبيّة والركون إلى الأسباب يوجب الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة وأسبابها العاديّة حتّى أنّ الإنسان ربّما زال عن الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب لكن يبقى الإذعان بتعيّن الطرق ووساطة الأسباب المتوسّطة فإنّا نرى أنّ الحركة والسير يوجب الاقتراب من المقصد ثمّ إذا زال منّا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بأنّ السير واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثّر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعيّن الوساطة

٤١

وأنّه لو لا السير لم يكن قرب ولا اقتراب، وبالجملة أنّ المسبّبات لا تتخلّف عن أسبابها وإن لم يكن للأسباب إلّا الوساطة دون التأثير، وهذا هو الّذي لا يصدّقه العلم بمقام الله سبحانه فإنّه لا يلائم السلطنة التامّة الإلهيّة، وهذا التوهّم هو الّذي أوجب أن نعتقد استحالة تخلّف المسبّبات عن أسبابها العاديّة كالثقل والانجذاب عن الجسم، والقرب عن الحركة، والشبع عن الأكل، والرىّ عن الشرب، وهكذا، وقد مرّ في البحث عن الإعجاز أنّ ناموس العلّيّة والمعلوليّة، وبعبارة اُخرى توسّط الأسباب بين الله سبحانه وبين مسبّباتها حقّ لا مناص عنه لكنّه لا يوجب قصر الحوادث على أسبابها العاديّة بل البحث العقليّ النظريّ، والكتاب والسنّة تثبت أصل التوسّط وتبطل الانحصار، نعم المحالات العقليّة لا مطمع فيها.

إذا عرفت هذا علمت: أنّ العلم بالله يوجب الإذعان بأنّ ما ليس بمحال ذاتيّ من كلّ ما تحيله العادة فإنّ الدعاء مستجاب فيه كما أنّ العمدة من معجزات الأنبياء راجعة إلى استجابة الدعوة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي يعلمون أنّي أقدر أن اُعطيهم ما يسألوني.

وفي المجمع، قال: وروي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: وليؤمنوا بي أي وليتحقّقوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه لعلّهم يرشدون، أي لعلّهم يصيبون الحقّ، أي يهتدون إليه.

٤٢

( سورة البقرة آية ١٨٧)

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ١٨٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُم ) ، الإحلال بمعنى الإجازة، وأصله من الحلّ مقابل العقد، والرفث هوالتصريح بما يكنّى عنه ممّا يستقبح ذكره، من الألفاظ الّتي لا تخلو عنها مباشرة النساء، وقد كنّي به هيهنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمسّ واللّمس والإتيان والقرب كلّها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، وكذا لفظ الوطئ والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائيّة وإن أخرج كثرة الاستعمال بعضها من حدّ الكناية إلى التصريح، كما أنّ ألفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، وتعدية الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء على ما قيل.

قوله تعالى: ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) ، الظاهر من اللّباس معناه المعروف، وهو ما يستر به الإنسان بدنة، والجملتان من قبيل الاستعارة فإنّ كلّاً من الزوجين يمنع صاحبه عن اتّباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كلّ منهما لصاحبه لباساً

٤٣

يواري به سوأته ويستر به عورته.

وهذه استعارة لطيفة، وتزيد لطفاً بانضمامها إلى قوله: اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، فإنّ الإنسان يستر عورته عن غيره باللّباس، وأمّا نفس اللّباس فلا ستر عنه فكذا كلّ من الزوجين يتّقى به صاحبه عن الرفث إلى غيره، وأمّا الرفث إليه فلا لأنّه لباسه المتّصل بنفسه المباشر له.

قوله تعالى: ( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُم ) ، الاختيان والخيانة بمعنى، وفيه معنى النقص على ما قيل وفي قوله: أنّكم تختانون، دلالة على معنى الاستمرار، فتدلّ الآية على أنّ هذه الخيانة كانت دائرة مستمرّة بين المسلمين منذ شرّع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرّاً بالخيانة لأنفسهم، ولو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو، وهما وإن لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنّهما - وخاصّة إذا اجتمعا - ظاهران في ذلك.

وعلي هذا فالآية دالّة على أنّ حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، والآية بنزولها شرّعت الحليّة ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسّرين، ويشعر به أو يدلّ عليه قوله: اُحلّ لكم، وقوله: كنتم تختانون، وقوله: فتاب عليكم وعفا عنكم، وقوله: فالآن باشروهنّ، إذ لو لا حرمة سابقة كان حقّ الكلام أن يقال: فلا جناح عليكم أن تباشروهنّ أو ما يؤدّي هذا المعنى، وهو ظاهر.

وربّما يقال: أنّ الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريميّ في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الأكل والشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المرويّة من طرق أهل السنّة والجماعة، أنّ المسلمين لمّا نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم الآية، فهموا منه التساوي في الأحكام من جميع الجهات، وقد كانت النصارى كما قيل: إنّما ينكحون ويأكلون ويشربون في أوّل اللّيل ثمّ يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير أنّ ذلك صعب عليهم، فكان الشبّان منهم لا يكفّون عن النكاح سرّاً مع كونهم يرونه معصيه وخيانة لأنفسهم، والشيوخ ربّما أجهدهم الكفّ عن الأكل والشرب بعد النوم، وربّما

٤٤

أخذ بعضهم النوم فحرم عليه الأكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبيّنت أنّ النكاح والأكل والشرب غير محرّمة عليهم بالليل في شهر رمضان، وظهر بذلك: أنّ مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى: كما كتب على الّذين من قبلكم التشبيه في أصل فرض الصوم لا في خصوصيّاته، وأمّا قوله تعالى: اُحلّ لكم، فلا يدلّ على سبق حكم تحريميّ بل على مجرّد تحقّق الحلّيّة كما في قوله تعالى:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) المائدة - ٩٦، إذ من المعلوم أنّ صيد البحر لم يكن محرّماً على المحرمين قبل نزول الآية، وكذا قوله تعالى:( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ ) ، إنّما يعني به أنّهم كانوا يخونون بحسب زعمهم وحسبانهم ذلك خيانة ومعصية ولذا قال: تختانون أنفسكم ولم يقل: تختانون الله كما قال:( لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٧، مع احتمال أن يراد بالاختيان النقص، والمعنى علم الله أنّكم كنتم تنقصون أنفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح وغيره، وكذا قوله تعالى: فتاب عليكم وعفا عنكم، غير صريح في كون النكاح معصية محرّمة هذا.

وفيه ما عرفت: أنّ ذلك خلاف ظاهر الآية فإنّ قوله تعالى: اُحلّ لكم، وقوله: كنتم تختانون أنفسكم، وقوله: فتاب عليكم وعفا عنكم، وإن لم تكن صريحة في النسخ غيرأنّ لها كمال الظهور في ذلك، مضافاً إلى قوله تعالى: فالآن باشروهنّ الخ، إذ لو لم يكن هناك إلّا جواز مستمرّ قبل نزول الآية وبعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر، وأمّا عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فإنّها لم تبيّن سائر أحكام الصوم أيضاً مثل حرمة النكاح والأكل والشرب في نهار الصيام. ومن المعلوم أنّ رسول الله كان قد بيّنه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعلّه كان قد بيّن هذا الحكم فيما بيّنه من الأحكام، والآية تنسخ ما بيّنه الرسول وإن لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك.

فإنّ قلت: قوله تعالى: هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ، يدلّ على سبب تشريع جواز الرفث فلا بدّ أن لا يعمّ الناسخ والمنسوخ لبشاعة أن يعلّل النسخ بما يعمّ الناسخ والمنسوخ معاً وإن قلنا: إنّ هذه التعليلات الواقعة في موارد الأحكام حكم ومصالح

٤٥

لا علل، ولا يلزم في الحكمة أن تكون جامعة ومانعة كالعلل فلو كان الرفث محرّماً قبل نزول الآية ثمّ نسخ بالآية المحلّلة لم يصحّ تعليل نسخ التحريم بأنّ الرجال لباس للنساء وهنّ لباس لهم.

قلت: اولا إنّه منقوض بتقييد قوله: اُحلّ لكم بقوله: ليلة الصيام مع أنّ حكم اللّباس جار في النهار كاللّيل وهو محرّم في النهار،وثانياً: أنّ القيود المأخوذة في الآية من قوله: ليلة الصيام، وقوله: هنّ لباس لكم، وقوله: أنّكم كنتم تختانون أنفسكم، تدلّ على علل ثلاث مترتّبة يترتّب عليها الحكم المنسوخ والناسخ فكون أحد الزوجين لباساً للآخر يوجب أن يجوز الرفث بينهما مطلقاً، ثمّ حكم الصيام المشار إليه بقوله: ليلة الصيام، والصيام هو الكفّ والإمساك عن مشتهيات النفس من الأكل والشرب والنكاح يوجب تقييد جواز الرفث وصرفه إلى غير مورد الصيام، ثمّ صعوبة كفّ النفس عن النكاح شهراً كاملاً عليهم ووقوعهم في معصية مستمرّة وخيانة جارية يوجب تسهيلاً ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلاً، وبذلك يعود إطلاق حكم اللّباس المقيّد بالصيام إلى بعض إطلاقه وهو أن يعمل به ليلاً لا نهاراً، والمعنى - والله أعلم -: أنّ إطلاق حكم اللّباس الّذي قيّدناه بالصيام ليلاً ونهاراً وحرّمناه عليكم حلّلناه لكم لما علمنا أنّكم تختانون أنفسكم فيه وأردنا التخفيف عنكم رأفة ورحمة. وأعدنا إطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام وقصرنا حكم الصيام على النهار فأتمّوا الصيام إلى اللّيل.

والحاصل: أنّ قوله تعالى: هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ، وإن كان علّة أو حكمة لإحلال أصل الرفث إلّا أنّ الغرض في الآية ليس متوجّهاً إليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام وهو مجموع قوله: هنّ لباس لكم إلى قوله: وعفا عنكم، وهذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ ولا يعمّ المنسوخ قطعاً.

قوله تعالى: ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) ، أمر واقع بعد الحضر فيدلّ على الجواز، وقد سبقه قوله تعالى: في أوّل الآية: اُحلّ لكم والمعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهنّ، والابتغاء هو الطلب، والمراد بابتغاء ماكتب الله هو طلب

٤٦

الولد الّذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الإنسانيّ من طريق المباشرة، وفطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوة النكاح والمباشرة، وسخّرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم وإن لم يقصدوا ظاهراً إلّا ركوب الشهوة ونيل اللّذة كما أنّه تعالى كتب لهم بقاء الحياة والنموّ بالأكل والشرب وهو المطلوب الفطريّ وإن لم يقصدوا بالأكل والشرب إلّا الحصول على لذّة الذوق والشبع والريّ، فإنّما هو تسخير إلهيّ.

وأمّا ما قيل: إنّ المراد بما كتب الله لهم الحلّ والرخصة فإنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه، فيبعّده: أنّ الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحليّة والرخصة.

قوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) ، الفجر فجران، فجر أوّل يسمّى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، وعمود شعاعيّ يظهر في آخر اللّيل في ناحية الأفق الشرقيّ إذا بلغت فاصلة الشمس من دائره الأفق إلى ثمانية عشر درجة تحت الأفق، ثمّ يبطل بالاعتراض فيكون معترضاً مستطيلاً على الأفق كالخيط الأبيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني ويسمّى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتّصاله بطلوع الشمس.

ومن هنا يعلم أنّ المراد بالخيط الأبيض هو الفجر الصادق، وأنّ كلمة من، بيانيّة وأنّ قوله تعالى: حتّى يتبيّن لكم الخيط الأسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الاُفق من الفجر، المجاور لما يمتدّ معترضاً معه من سواد اللّيل بخيط أبيض يتبيّن من الخيط الأسود.

ومن هنا يعلم أيضاً: أنّ المراد هو التحديد بأوّل حين من طلوع الفجر الصادق فإنّ ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط أبيض ولا خيط أسود.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) ، لمّا دلّ التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبيّنه استغنى عن ذكره إيثاراً للإيجاز بل تعرّض لتحديده بإتمامه إلى الليل، وفي قوله: أتمّوا دلالة على أنّه واحد بسيط وعبادة واحدة تامّة من غير

٤٧

أن تكون مركّبة من اُمور عديدة كلّ واحد منها عبادة واحدة، وهذا هو الفرق بين التمام والكمال حيث أنّ الأوّل انتهاء وجود ما لا يتألّف من أجزاء ذوات آثار والثاني انتهاء وجود ما لكلّ من أجزائه أثر مستقلّ وحده. قال تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة - ٣، فإنّ الدين مجموع الصلاة والصوم والحجّ وغيرها الّتي لكلّ منها أثر يستقلّ به، بخلاف النعمة على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في الكلام على الآية.

قوله تعالى: ( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) ، العكوف والاعتكاف هو اللّزوم والاعتكاف بالمكان الإقامة فيه ملازماً له.

والاعتكاف عبادة خاصّة من أحكامها لزوم المسجد وعدم الخروج منه إلّا لعذر والصيام معه، ولذلك صحّ أن يتوهّم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد.

قوله تعالى: ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ) ، أصل الحدّ هو المنع وإليه يرجع جميع استعمالاته واشتقاقاته كحدّ السيف وحدّ الفجور وحدّ الدار والحديد إلى غير ذلك، والنهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها والتعدّي إليها، أي لا تقترفوا هذه المعاصي الّتي هي الأكل والشرب والمباشرة أو لا تتعدّوا عن هذه الأحكام والحرمات الإلهيّة الّتي بيّنها لكم وهي أحكام الصوم بإضاعتها وترك التقوى فيها.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: كان الأكل والنكاح محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كلّ من صلّى العشاء ونام ولم يفطر ثمّ انتبه حرم عليه الإفطار، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوّات بن جبير الأنصاري أخو عبدالله بن جبير الّذي كان رسول الله وكلّه بفم الشعب يوم اُحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه وبقي في اثنى عشر رجلا

٤٨

فقتل على باب الشعب، وكان أخوه هذا خوّات بن جبير شيخاً كبيراً ضعيفاً، وكان صائماً مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتّى نصنع لك طعاماً فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلمّا انتبه قال لأهله: قد حرم علىّ الأكل في هذه الليلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فاُغمى عليه فرآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرقّ له وكان قوم من الشبّان ينكحون باللّيل سرّاً في شهر رمضان فأنزل الله: اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية، فأحلّ الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر لقوله: حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، قال: هو بياض النهار من سواد اللّيل.

اقول: وقوله: يعني إلى قوله: وكان رجل، من كلام الراوي، وهذا المعنى مرويّ بروايات اُخرى، رواها الكلينيّ والعيّاشيّ وغيرهما، وفي جميعها أنّ سبب نزول قوله: وكلوا واشربوا الخ إنّما هو قصّة خوّات بن جبير الأنصاري وأنّ سبب نزول قوله: اُحلّ لكم الخ، ماكان يفعله الشبّان من المسلمين.

وفي الدرّ المنثور عن عدّة من أصحاب التفسير والرواية عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتّى يمسي وإنّ قيس بن صرمة الأنصاريّ كان صائماً فكان يومه ذاك يعمل في أرضه فلمّا حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجائت امرأته فلمّا رأته نائماً قالت: خيبة لك، أنمت؟ فلمّا انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآية اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث، إلى قوله: من الفجر ففرحوا بها فرحاً شديداً.

اقول: وروي بطرق اُخر القصّة وفي بعضها أبو قبيس بن صرمة وفي بعضها صرمة بن مالك الأنصاريّ على اختلاف مّا في القصّة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً: وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عبّاس: أنّ لمسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة،

٤٩

ثم إنّ ناساً من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطّاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله اُحلّ لكم ليلة الصيام، إلى قوله: فالآن باشروهنّ يعني انكحوهنّ.

اقول: والروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وفي أكثرها اسم من عمر، وهي متّحدة في أنّ حكم النكاح باللّيل كحكم الأكل والشرب وأنّها جميعاً كانت محلّلة قبل النوم محرّمة بعده، وظاهر ما أوردناه من الرواية الاُولى أنّ النكاح كان محرّماً في شهر رمضان باللّيل والنهار جميعاً بخلاف الأكل والشرب فقد كانا محلّلين في أوّل الليل قبل النوم محرّمين بعده، وسياق الآية يساعده فإنّ النكاح لو كان مثل الأكل والشرب محللّا قبل النوم محرّماً بعده كان الواجب في اللّفظ أن يقيّد بالغاية كما صنع ذلك بقوله: كلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض الخ، وقد قال تعالى: اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث، ولم يأت بقيد يدلّ على الغاية، وكذا ما اشتمل عليه بعض الروايات: أنّ الخيانة ما كانت تختصّ بالنكاح بل كانوا يختانون في الأكل والشرب أيضاً لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: علم الله أنّكم كنتم تختانون أنفسكم (الخ)، قبل قوله: كلوا واشربوا.

وفي الدرّ المنثور أيضاً: أنّ رسول الله قال: الفجر فجران فأمّا الّذي كأنّه ذنب السرحان فإنّه لا يحلّ شيئاً ولا يحرّمه، وأمّا المستطيل الّذي يأخذ الاُفق فإنّه يحلّ الصلاة ويحرّم الطعام.

اقول: والروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامّة والخاصّة وكذا الروايات في الاعتكاف وحرمة الجماع فيه.

٥٠

( سورة البقرة آية ١٨٨)

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ١٨٨)

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) ، المراد بالأكل الأخذ أو مطلق التصرّف مجازاً، والمصحّح لهذا الإطلاق المجازيّ كون الأكل أقرب الأفعال الطبيعيّة الّتي يحتاج الإنسان إلى فعلها وأقدمها فالإنسان أوّل ما ينشاء وجوده يدرك حاجته إلى التغذّي ثمّ ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعيّة كاللّباس والمسكن والنكاح ونحو ذلك، فهو أوّل تصرّف يستشعر به من نفسه، ولذلك كان تسمية التصرّف والأخذ - وخاصّة في مورد الأموال - أكلاً لا يختصّ باللغة العربيّة بل يعمّ سائر اللغات.

والمال ما يتعلّق به الرغبات من الملك، كأنّه مأخوذ من الميل لكونه ممّا يميل إليه القلب، والبين هو الفصل الّذي يضاف إلى شيئين فأزيد، والباطل يقابل الحقّ الّذي هو الأمر الثابت بنحو من الثبوت.

وفي تقييد الحكم، أعني قوله: ولا تأكلوا أموالكم، بقوله: بينكم، دلالة على أنّ جميع الأموال لجميع الناس وإنّما قسّمه الله تعالى بينهم تقسيماً حقّاً بوضع قوانين عادلة تعدّل الملك تعديلاً حقّاً يقطع منابت الفساد لا يتعدّاه تصرّف من متصرّف إلّا كان باطلاً، فالآية كالشارحة لإطلاق قوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعاً وفي إضافته الأموال إلى الناس إمضاء منه لما استقرّ عليه بناء المجتمع الإنسانيّ من اعتبار أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الأرض على ما يذكره النقل والتاريخ، وقد ذكر هذا الأصل في القرآن بلفظ الملك والمال و

٥١

لام الملك والاستخلاف وغيرها في أزيد من مائة مورد ولا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع، وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدلّ على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى:( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) البقره - ٢٧٥، وقوله تعالى:( لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ) النساء - ٢٨، وقوله تعالى:( وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ) التوبة - ٢٤، وغيرها، والسنّة المتواترة تؤيّده.

قوله تعالى: ( وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا ) ، الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء كنّي به عن مطلق تقريب المال إلى الحكّام ليحكموا كما يريده الراشي، وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثّل لحال الماء الّذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، والفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشئ، والجملة معطوفة على قوله: تأكلوا، فالفعل مجزوم بالنهي، ويمكن أن يكون الواو بمعنى مع والفعل منصوباً بان المقدّرة، التقدير مع أن تأكلوا فتكون الآيه بجملتها كلاماً واحداً مسوقاً لغرض واحد، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما اُدلى به منها إليه وأخذ الراشي فريقاً آخر منها بالإثم وهما يعلمان أنّ ذلك باطل غير حقّ.

( بحث روائي)

في الكافي عن الصادقعليه‌السلام في الآية: كانت تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عن ذلك.

وفي الكافي أيضاً عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : قول الله عزّوجلّ في كتابه: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام، قال يا أبا بصير إنّ الله عزّوجلّ قد علم أنّ في الاُمّة حكّاماً يجورون، أمّا إنّه لم يعن حكّام أهل العدل ولكنّه عنى حكّام أهل الجور، يا أبا محمّد لو كان لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له لكان ممّن يحاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عزّوجلّ: ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا

٥٢

بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.

وفي المجمع قال: روي عن أبي جعفرعليه‌السلام : يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الأموال.

اقول: وهذه مصاديق والآية مطلقة.

( بحث علمي اجتماعي)

كلّ ما بين أيدينا من الموجودات المكوّنة - ومنها النبات والحيوان والإنسان - فإنّه يتصرّف في الخارج عن دائرة وجوده ممّا يمكن أن ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده وبقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعّال، ولا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه أنواع النبات تفعّل ما تفعّل لتنتفع به لبقائها ونشؤها وتوليد مثلها، وكذلك أقسام الحيوان والإنسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو انتفاعاً خياليّاً أو عقليّاً، فهذا ممّا لا شبهة فيه.

وهذه الفواعل التكوينيّة تدرك بالغريزة الطبيعيّة، والحيوان والإنسان بالشعور الغريزيّ أنّ التصرّف في المادّة لرفع الحاجة الطبيعيّة والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء لا يتمّ للواحد منها إلّا مع الاختصاص بمعنى أنّ الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين (فهذا حاصل الأمر وملاكه) ولذلك فالفاعل من الإنسان أوما ندرك ملاك أفعاله فإنّه يمنع عن المداخلة في أمره والتصرّف فيما يريد هو التصرّف فيه، وهذا أصل الاختصاص الّذي لا يتوقّف في اعتباره إنسان وهو معنى اللّام الّذي في قولنا لي هذا ولك ذلك، ولي أن أفعل كذا ولك أن تفعل كذا.

ويشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عشّ أو كنّ أو وكر أو ما أصطاده أو وجده، ممّا يتغذّى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك، وما نشاهده من تشاجر الأطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتّى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثمّ إنّ ورود الإنسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إلّا ما أدركه بأصل الفطرة إجمالاً، ولا يوجب إلّا إصلاح ما كان وضعه أوّلاً وترتيبه

٥٣

وتعظيمه في صورة النواميس الإجتماعيّة الدائرة، وعند ذلك يتنوّع الاختصاص الإجماليّ المذكور أنواعاً متفرّقه ذوات أسام مختلفه فيسمّى الاختصاص الماليّ بالملك وغيره بالحقّ وغير ذلك.

وهم وإن أمكن أن يختلفوا في تحقّق الملك من جهة أسبابه كالوراثة والبيع والشراء والغصب بقوّة السلطان وغير ذلك، أو من جهة الموضوع الّذي هو المالك كالإنسان الّذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، وينقصوا من بعض، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض، لكنّ أصل الملك في الجملة ممّا لا مناص لهم عن اعتباره، ولذلك نرى أنّ المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد وينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من أصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطريّ، وفي بطلان الفطرة فناء الإنسان.

وسنبحث في ما يتعلّق بهذا الأصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح والإرث والغنيمة والحيازة ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد يناسب ذلك إنشاء الله العزيز.

٥٤

( سورة البقرة آية ١٨٩)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٨٩ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ - إلى قوله -وَالْحَجِّ ) ، الأهلّة جمع هلال ويسمّى القمر هلالاً أوّل الشهر القمريّ إذا خرج من تحت شعاع الشمس اللّيلة الاُولى والثانية كما قيل، وقال بعضهم اللّيالي الثلاث الاُول، وقال بعضهم حتّى يتحّجر، والتحجّر أن يستدير بخطّة دقيقة، وقال بعضهم: حتّى يبهر نوره ظلمة اللّيل وذلك في اللّيلة السابعة ثمّ يسمّى قمراً ويسمّى في الرابعة عشر بدراً، واسمه العامّ عند العرب الزبرقان.

والهلال مأخوذ من استهلّ الصبيّ إذا بكى عند الولادة أو صاح، ومن قولهم: أهلّ القوم بالحجّ إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمّي به لأنّ الناس يهلّون بذكره إذا رأوه. والمواقيت جمع ميقات وهو الوقت المضروب للفعل، ويطلق أيضاً: على المكان المعيّن للفعل كميقات أهل الشام وميقات أهل اليمن، والمراد ههنا الأوّل.

وفي قوله تعالى: يسئلونك عن الأهلّة، وإن لم يشرح أنّ السؤال في أمرها عمّاذا؟ أعني حقيقة القمر وسبب تشكّلاتها المختلفة في صورالهلال والقمر والبدر كما قيل، أو عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في أوّل الشهر القمريّ كما ذكره بعضهم أو عن غير ذلك.

ولكن إتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: يسئلونك عن الأهلّة

٥٥

دليل على أنّ السؤال لم يكن عن ماهيّة القمر واختلاف تشكّلاته إذ لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: يسئلونك عن القمر لا عن الأهلّة وأيضاً لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكّله الخاصّ كان الأنسب أن يقال: يسئلونك عن الهلال إذ لا غرض حينئذ يتعلّق بالجمع، ففي إتيان الأهلّة بصيغة الجمع دلالة على أنّ السؤال إنّما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالاً بعد هلال ورسمه الشهور القمريّة وعبّر عن ذلك بالأهلّة لأنّها هي المحقّقة لذلك فاُجيب بالفائدة.

ويستفاد ذلك من خصوص الجواب: قل هي مواقيت للناس والحجّ، فإنّ المواقيت وهي الأزمان المضروبة للأفعال، والأعمال إنّما هي الشهور دون الأهلّة الّتي ليست بأزمنة وإنّما هي أشكال وصور في القمر.

وبالجملة قد تحصّل أنّ الغرض في السؤال إنّما كان متعلّقاً بشأن الشهور القمريّة من حيث السبب أو الفائدة فاُجيب ببيان الفائدة وأنّها أزمان وأوقات مضروبة للناس في اُمور معاشهم ومعادهم فإنّ الإنسان لا بدّ له من حيث الخلقة من أن يقدّر أفعاله وأعماله الّتي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، ولازم ذلك أن يتقطّع الزمان الممتدّ الّذي ينطبق عليه اُمورهم قطعاً صغاراً وكباراً مثل الليل والنهار واليوم والشهر والفصول والسنين بالعناية الإلهيّة الّتي تدبّر اُمور خلقه وتهديهم إلى صلاح حياتهم، والتقطيع الظاهر الّذي يستفيد منه العالم والجاهل والبدويّ والحضريّ ويسهل حفظه على الجميع إنّما هو تقطيع الأيّام بالشهور القمريّة الّتي يدركه كلّ صحيح الإدراك مستقيم الحواسّ من الناس دون الشهور الشمسيّة الّتي ما تنبّه لشأنها ولم ينل دقيق حسابها الإنسان إلّا بعد قرون وأحقاب من بدء حياته في الأرض وهو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائماً.

فالشهور القمريّة أوقات مضروبة معيّنة للناس في اُمور دينهم ودنياهم وللحجّ خاصّة فإنّه أشهر معلومات، وكأنّ اختصاص الحجّ بالذكر ثانياً تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور.

قوله تعالى: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا - إلى قوله -مِنْ أَبْوَابِهَا ) ،

٥٦

ثبت بالنقل أنّ جماعة من العرب الجاهليّ كانوا إذا أحرموا للحجّ لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتّخذوا نقباً من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك الإسلام وأمرهم بدخول البيوت من أبوابها، ونزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن، وبذلك يصحّ الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله.

ولولا ذلك لأمكن أن يقال: إنّ قوله: وليس البرّ إلى آخره، كناية عن النهي عن امتثال الأوامر الإلهيّة والعمل بالأحكام المشرّعة في الدين إلّا على الوجه الّذي شرّعت عليه، فلا يجوز الحجّ في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا وكانت الجملة على هذا متمّماً لأوّل الآية، وكان المعنى: أنّ هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرّعت فيها ولايجوز التعدّي بها عنها إلى غيرها كالحجّ في غير أشهره، والصوم في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد.

وعلى التقدير الأوّل الّذي يؤيّده النقل فنفى البرّ عن إتيان البيوت من ظهورها يدلّ على أنّ العمل المذكور لم يكن ممّا أمضاه الدين وإلّا لم يكن معنى لنفى كونه برّاً فإنّما كان ذلك عادة سيّئة جاهليّة فنفى الله تعالى كونه من البرّ، وأثبت أنّ البرّ هو التقوي، وكان الظاهر أن يقال: ولكنّ البرّ هو التقوي، وإنّما عدل إلى قوله: ولكنّ البرّ من اتّقى، إشعاراً بأنّ الكمال إنّما هو في الاتّصاف بالتقوى وهو المقصود دون المفهوم الخالي كما مرّ نظيره في قوله تعالى: ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن الآية.

والأمر في قوله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها، ليس أمراً مولويّاً وإنّما هو إرشاد إلى حسن إتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجرى على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائيّ في بناء البيوت ووضع الباب مدخلاً ومخرجاً فيها، فإنّ الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيّئة لا وجه لها إلّا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائيّ، فلا يدلّ على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنّه من الدين بدعة محرّمة.

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، قد عرفت في أوّل السورة أنّ التقوى

٥٧

من الصفات الّتي يجامع جميع مراتب الإيمان ومقامات الكمال، ومن المعلوم أنّ جميع المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الأخيرة الّتي تنفي عن صاحبها الشرك والضلال وإنّما تهدي إلى الفلاح وتبشّر بالسعادة، ولذلك قال تعالى: واتّقوا الله لعلّكم تفلحون، فأتى بكلمة الترجّي، ويمكن أن يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الأمر الخاصّ الموجود في الآية وترك ما ذمّه من إتيان البيوت من ظهورها.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: سأل الناس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأهلّة فنزلت هذه الآية يسئلونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس يعلمون بها أجل دينهم وعدّة نسائهم ووقت حجّهم.

أقول: وروى هذا المعنى فيه بطرق اُخر عن أبي العالية وقتادة وغيرهما، وروي أيضاً أنّ بعضهم سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حالات القمرالمختلفة فنزلت الآية. وهذا هو الّذي ذكرنا آنفاً أنّه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به.

وفي الدرّ المنثور أيضاً: أخرج وكيع، والبخاريّ، وابن جرير عن البراء: كانوا إذا أحرموا في الجاهليّة دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله: وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاريّ فقالوا: يا رسول الله إنّ قطبة بن عامر رجل فاجر و إنّه خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال: إنّي رجل أحمس قال: فإنّ ديني دينك فأنزل الله ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها.

اقول: وقد روي قريباً من هذا المعنى بطرق اُخرى، والحمس جمع أحمس

٥٨

كحمر وأحمر من الحماسة وهي الشدّة سمّيت به قريش لشدّتهم في أمر دينهم أو لصلابتهم وشدّة باسهم.

وظاهر الرواية أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش ولذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت الخ، وعلى هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، وهي تنسخ حكماً مشرّعاً من غير آية هذا، ولكنّك قد عرفت أنّ الآية تنافيه حيث تقول: ليس البرّ بأن تأتوا، وحاشا الله سبحانه أن يشرّع هو أو رسوله بأمره حكماً من الأحكام ثمّ يذمّه أو يقبحّه وينسخه بعد ذلك وهو ظاهر.

وفي محاسن البرقيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها قال: يعني أن يأتي الأمر من وجهه أيّ الاُمور كان.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : الأوصياء هم أبواب الله الّتي منها يؤتي ولولاهم ما عرف الله عزّوجلّ وبهم احتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه.

أقول: الرواية من الجرى وبيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الّذي فسّرت به في الرواية الاُولى، ولا شكّ أنّ الآية بحسب المعنى عامّة وإن كانت بحسب مورد النزول خاصّة، وقولهعليه‌السلام ولولاهم ما عرف الله، يعني البيان الحقّ والدعوة التامّة الّذين معهم، وله معنى آخر أدقّ لعلّنا نشير إليه فيما سيأتي إنشاء الله والروايات في معنى الروايتين كثيرة.

٥٩

( سورة البقرة آية ١٩٠ - ١٩٥)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ١٩٠ ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ( ١٩١ ) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٩٢ ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ( ١٩٣ ) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ١٩٤ ) وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( ١٩٥ )

( بيان)

سياق الآيات الشريفة يدلّ على أنّها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأوّل مرّة مع مشركي مكّة، فإنّ فيها تعرّضاً لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوا عنده، وكلّ ذلك اُمور مربوطة بمشركي مكّة، على أنّه تعالى قيّد القتال بالقتال في قوله: وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم، وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم وهو ظاهر، ولا قيداً احترازيّاً، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الّذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتّى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل إنّما الصحيح النهى عن قتله دون قتاله.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481